مفهوم (الصورة – Eidos) في فلسفة الخلق اليونانية وارتباطها بمعتقد الأورفية

فلسفيًـا تستعمـل كلمة (الصورة أو الشكـل . Form) لتصـوير فعل عالم العمـاء Chaos ماقبـل الخلق وَمُظـهر هذه الصور بـما يسمى باللوغـوس Logos أول ما خلق العمـاء.

يقـول غاستون باشلار: “المـوت أولاً -وقبل كل شيء- صورة وَسيظـل صـورة”.

فـي الإغريقية المُصطلـح المُستعمـل لكلمة صورة هُـو (Eidos) وَالتي تحـولت للأنجليزيـة (Idea- فكـرة)، وَيرتبـط بعالَم الأفكـار الأفلاطونـي المُجرد، عالَم المُثـل الذي منهُ هبطت الأرواح وَهُو يتعالى على المادة. وَيدعى أيضًا عالم (الصور . Forms)، فالصُـور وَالأفكار لديه روحيـة مُجردة سقطـت لعالم السجـن: الجسـد (باليونانية Soma ) وَالذي من نفس جـذر ( سجن Sema ). وَبالأصل (Soma) تعنـي شاهـد قبر حيث العالم المادي المُشاهَد هو مميـتٌ للروح وَلا وجود للحياة فيه، حيـث ترجع معتقدات أفلاطـون لأصـول فيثاغـورية والتي بدورها ترجع لأصـول أورفيـة (نسبـةً لاورفيـوس Orpheus). وَيْذكر كليمنـت الاسكندري أن الفيثاغـوري فيلـولاس (Philolaos) أقـدم من ذكـر مقولة: (الجسـد مقبرة الرُّوح)، واستعمل فيثاغـورس قبـل أفلاطـون الصـورة (Eidos) ليعبـر عن الشكـل الهندسـي مُظهِـرًا العـدد الذي يُعـدُّ أصل كل الوُجود.

أصـل كلمة “الصورة”:

رجوعًا إلى أصـل كلمة الصورة (Eidos) فهي مشتقـة من Eidôlon التي تعنـي خيـال الموتـى وَطيفهُـم وَصارت تسمى لاحقًا بـ الصورة وَأيضًـا اشتقت منها كلمـة (صنـم . Idole) وَ (أيقونـة . Eikon)، فجـذر الكلمة من أصل ينتمـي لعالَم ما وراء الوجود المـادي لعالم الأرواح لذلك أخذ ابن عربي -لاحقًا- معنى الصور وَربطها بعالم الخيال والمُثل المرتبط بحيـاة ما بعد الموت أو البـرزخ، أيضًـا كلمة صـورة (Image) التي ترتبط بالصُـور وَالتخيّل من اليونانيـة (Imago) أي القناع الشمعي الذي يوضـع على وجوه الموتى لتطبـع ملامحُهم وَتقدس، أيضًـا مصطلح صـور (Figure) من اليونانيـة (Figura) أي الشبـح. (1)

وَيرى (ريجـيس دوبري أن كلمة (سحـر . Magie) حـروف متعاكسة عن Imago حيـث السحر بالفعل ارتبط بتفاعـلٍ مع الصورة التي هي ألطف من المادة ومرتبطة بعالَم المُثل أو مايسمـى أيضًا (الخيال) والعالم الـذي سعى إليـه الخيميائـي لاحقاً…

نعُـود لأفلاطـون، يرى فيلسـوفنا اليونـاني أن الجسـد الذي شبههُ بالسجـن هُو كرمزية الكهـف الشهيرة فـي محاوراتهُ حيـث الكهف سرداب مُظلـم لا تـرى منـهُ إلا الظلال أي صـورة هشّـة من عالَم المُثل المُجـرّد؛ أي نحن في عالمنا هذا كل ما نـراهُ مجرد ظلال؛ لذلك مهمـة الفيلسـوف لديه هُـو ما أسماه (التـذكر . Anamnesis) حيـث تذكّر النفس أصلها (عالم المِثال) الذي أعلى مقـام فيـه هوُ العقـل الخالِص الذي هُو نموذج أو مثال الخيـر. Form of Good شمـس العالَم العقلـي؛ وهذه هي رحلـة النفس التي تتلقـى علمها بالتذكّـر من العالـم المُجـرد لتتخلـص من وهم المادة.

إعلان

أرسطو ومفهُـوم الصورة:

لاحقـًا جاء تلميـذهُ الفيلسـوف (أرسطو) وألغى تراتبيّة عالـم المُثـل الأفلاطونـي حيث أصبح مفهُـوم (الصورة  Form) من عالـَمٍ مجـرد إلى عالـم مرتبـط بـ (المادة . Matiere) حيـث هُو من يعيد الشكـل للمادة ليتفـرّد بها، فبـدون الصورة لا وُجـود للمادة، فالصـورة لديـه مبـدأ للحيـاة تتخلخـل الأشياء الحيّـة فهـي (نفـس . Pneuma) للوجـود وهي تقابـل العنصـر الخامـس: الطيـف الساطـع غيـر القابل للمعرفـة، أي ما أسمـاه (الأثيـر) والذي بحرارتـه يوهِبُ للحياة الوجود.

مفهُـوم الحرارة الواهبـة الحياةَ للوجـود، تقابـل فلسفـة فيلسـوف ما قبل سقراط (هيراقليطـس . Heraclitus) حيـث (اللوغـوس . Logos) لديـه هُـو النار الكونيـة التي تذوب وتتبدل حالتها بكـل الكون و (النفـس . Psych) التي تفردد فينا جزءًا من هذا اللوغـوس الناري الأبدي للوجـود.

بعد ذلك، جاءت الفلسفة الزاهـدة (الرواقيـة . Stoicism) وَتبنّـت اللوغـوس الهيراقليطـي ليتخـذ مصطلـح (Spermatkos Logos) بمعنى؛ البـذور التصوريـة، أو التصوير المنوي أو بذور النار الآلهية؛ وَهو من يشكـّل الصـور بالكـون وَأساس التنوّع فيـه وَنمـوّه وَتطوّره، وَالرواقيـّون اعتقـدوا أن (النفـس الكوني . Pneuma) خليـط من (نار وهواء) وَنفس الإنسان (Psyche) بالمقابل تتكـوّن من نفس الخليـط حيـث اللوغـوس الآلهي ليس وجودًا منفصـلًا عن الكون بل تتخللهُ بذورهُ الآلهية (Spermatkos Logos) حيـث الكون كائن حي عضـوي أي ما اصطلح عليـه لاحقًا -بفلسفة إخوان الصّفا- (إنسان كبيـر)، وَكان الرواقيـون زُهّادًا متأثّريـن بزهدِ فلاسفـة (الكلبيـة Cynicism) لذلك وجهُوا اهتمامهُم للتحـرر من الانفعالات الغضبيـة وَالشهوانيـة وَذلك عبـر رياضـات ما أسمـوهُ بـ: (الفتور . apathes)، هذا بالإضافة إلى أنهُـم آمنـوا بالعـود الأبدي حيث نهايـة العالم بحريـق كوني ثم إعادة تولـُّده مجددًا، أي يمـوت ثم يتولـد ثم ينمـو وَهكـذا…(2)

الجـذور الغنوصيـة للفلسفـة اليونانيـة:

يقـول فيلسـوف الأفلاطونـيـة المُحدثة (برقلـس . Proclus): أن اللاهوتيـن الأغريق أطفال للأورفيـة و (فيثاغـورس) كان أول معلم لـ ( الفيضيّـة. Orgies) من جذر orga أي فيـض؛ حيث تلقّاها من المعلم Aglaophemus بعد فيثاغـور انتقلت التعاليـم لأفلاطون.

يقول الفيلسـوف الأفلاطونـي (يامبليخـوس . Iamblichus): أن أسرار أورفيـوس لم تُحمـل إلا من قلـة وفيثاغـورس تعلّمها عند احتفال العربـدة المدعـوّ (Libethra) حيث تلقـاها من (Aglaophemus)، وهي حكمـة باطنيـة استمدها آورفيوس من أمِّه ربّة الشعـر (كاليوبي . Calliope) في جبـل (Pangaeus).
يقـول (هيروت . Herodotus): أن عقائد الفيثاغـوريـة مصدرها الأقدم هو عقيـدة مقاربـة للآورفيـة.
ويقـول القصصيـن كـ (هلانيكـوس . Hellanicus) و (فرسيـد الليروسي . Pherecydes) أن (هزيود) أو (هوميروس) كُتّاب أشهر الملاحم الأغريقيـة أخذوا إرثهُم من آورفيـوس.

فمـا هي الأورفية؟

الأورفية نسبـة لـ (أورفيـوس . Orpheus) التراقـي . Thracian وهم شعـب: “هندو . آري” استوطـنوا أوروبا الشرقيـة، لكن أمّهُ هي من الموسيـات التّسعـة وَربة الشعر (كاليوبـي . Calliope)، اشتهـر أورفيـوس بعزفـه الذي يحـرك حتى الجماد منصتـًا إليـه. قصـة أورفيـوس تتمثل في زيارتـه لهاديـس العالم السفلـي لدى اليونان لإرجاع روح زوجتـه الميتـة (إيورودس . Eurydice) إلا أن مهمتـهُ فشلـت بعد ما قطـع العهد بعدم النظـر إليها حتى يَصلـوا لفتحـة الكهـف، إلا أنهُ نظر إليها فغاصـت عنهُ راجعة لأعماق هاديـس، بعدها عُرف بأنه عازف وصاحب مرثيات حزنهُ بعدما فقـد حبيبتـهُ، وتنتهـي حياتهُ بتقطيـع جسـده وقطـع رأسـه من قبـل عابـدات باخـوس وإلقاء أجزاء جسـده ورأسه الذي ظل يغنـي في نهـر (هبروس . Hebrus) حتى وصـل الرأس لجزيرة (ليزبـوس) ودُفِـن هناك.

يقـول أورفيـوس في نص (أنساب الآلهة . Theogony) المنسـوب إليـه: “سـوف أغني لهؤلاء الذيـن يفهمُـون أغلق الأبواب أيها المدنس”.
كـان أورفيـوس كما يقـول (برقلـس): فهُـو أي  (أورفيـوس) كحال الشعراء القدمـاء يحجبـون تعاليمهُـم السريـة خلـف الأعمال الشعريـة المُرمّزة أسطوريًـا.

 تعاليـم أورفيـوس:

فتعاليـم أورفيـوس كونها تعاليـمًا روحيـةً كانت سريـة وتعتمـد طقوسهـا على (العفاف باليونانيـة Hagnos ) و(الزهـد . Hosios) حيـث كانوا يرتدون الكتان الأبيـض ويحرمون أكل اللحم والاتصال الجنسي وكان إيمانهمُ ينصـب في تحقيـر العالم المادي لصـالح الروحي ففي نقـوش مكتوبـة في عظام اكتشفـت في منطقة (أوليبـا . Oliba) في أوكرانيا مكتوب عليهـا: (حياة، موت، حياة، حقيقـة) (ديونيسـوس . Dionysos) (أورفيـوس . Orphiko).

العبـارة تشيـر إلى الحياة ما بعـد الموت وأنها الحقيقـة وارتباط الأورفيـة بديونيسـية و (Orphic gold tablets) مكتـوب في أحد شذراتهـا (عليّ أن أدفـع الجزاء “Painan” لأفعالي غيـر الصالحـة).

أصـل الخطيئـة في التعاليـم الأورفيـة هُـي أسطورة (ديونسيـوس) وَالذي دعي في الأورفيـه وترانيـم أورفيـوس بـ (Zagreus) ابـن زيـوس الذي قتلـهُ (الجبابـرة . Titans) حيـث تحكـي الأسطورة عندمـا وصى الإله خالـق العالم زيـوس ابنهُ بالسلطـة، عَلِـمَ الجبابـرة بخطّتـهُ فقرروا الذهاب خلسـه إلى الكهـف الذي يسكـن فيـه الطفـل (ديونسيـوس . Zagreus) فدخلـوا وَبأيديهم ألعاب مهداة للطفـل من ضمنها مرآة التهى الطفـل بها فهمُـوا بقتلـه إلا إنهُ هرب متشكـلاً بعدة صُـور، حيـث ظهر كـ (زيـوس الرجـل، كورنـوس العجـوز، طفـل، شاب، أسد، حصـان، ثور) وبصورة الثـور تم قتلـهُ وتقطيعه سبـع قطـع طُبِخ وأكله الجبابرة، إلا أن الآلهة (آثينـا . Athena) حمـت قلبـهُ وأرسلتـهُ لأبيـه زيوس، إثر الحادثـة انتقم زيوس بصعـق الجبابـرة وتحويلهُم رمادًا ومن رمادهم المخلـوط بدمـاء (ديـوينسيـوس) وُلِـد الإنسـان.

لذلك الأورفيـة تحقـر من الجسـد وتريـد تخليـص الجزء الإلهي منهـا الذي هُـو دماء الآله ( Zagreus) وَهذه الأسطورة محوريتهـا في العقائد الأورفيـة أيضًا أنها قالت بقدرة تشكـل (الصورة . Form) لعدة أشكـال وَهُـو لـب عقيـدة التناسـخ التي سيقـول بها لاحقًا فيثاغـورس وأفلاطـون وارتباطها أيضًا بعقيدة تشكـل الأعمال في عالم البرزخ لصُـور كما لدى الباطنيـن الإسلاميـن والتي ستنسـب ليفيثاغـورس.

أيضـًا فـي أنسـاب الآلهة. Theogony مـايقارب النظـام الفلسفـي اليونانـي أكثـر مما طرحـه هزيـود؛ حيـث من العمـاء توُلـّد (الشعـاع . redius) وهُـو كالنقطـة في مركـز الدائـرة وهـو في الأورفيـة (البيضـة) التـي تحمـل بداخلهـا ثنائـي الجنـس Phanes والتـي تشتـق الكلمـة من الإغريقيـه (Phainesthai) أي (المُشرق) و(Phaineih) أي (جالب النـور) وهذه النقطـة أو البيضـة خليـط بيـن المُقيـدة وغير المُقيـدة الذي منـهُ تجلّـى الكـون لاحقـًا بعد سلسلة آلهة يـولد (زيـوس) الذي سيبتلـع (Phanes) ويخلـق العالـم الكثيـف وزيـوس بذلك يتخـد دور الخالـق الصانـع (Demiurge) كمـا لدى الأفلاطونيـة المحدثـة والنبؤات الكلدانيـة والغنوصيـة ويتسمى زيوس بعـد ابتلاعـه (Phanes) بـ (الرب الأول والأوسط والأخر). (3)

الفلسفة الكونيـة وتلميذهـا فيثاغـورس:

الفلسفة الكونيـة الأورفيـة اتبعهـا تلميذهـا الفيلسـوف (فيثاغـورس) حيـث أصل الكـون هُـو (موناد . Monad) اللامطلـق الأبدي والذي يقـول: (أرسطـو) أنهُـم كانـوا يعتقـدون أنهُ هواء مُظلـم لا نهـائي القعـر منهُ خُلقـت (النقطـة) التي قابلـها بالعدد (١) ومن النقطـة فاضـت (٢) خط، ومنها (٣) مثـلث ومنها (٤) جسماني شبهها بالهـرم المُجسم وبجمع (١ + ٢ + ٣ + ٤) تـولد الرقـم (١٠) الذي مُثل بصـورة مثلـث مُقدس لديهُم دُعـي (Tetractys) حيـث هُـو صورة الكـون وكان لعظمتـهُ يقسمـون ويحلفـون به!
وأيضًا رأى الفيثاغـوريـن أن النفس (pneuma) تنشـر الحرارة بالأجسام.

قد يعجبك أيضًا

كـانت الفيثاغـوريـة تتبـع نظام السريـة الأخويـة والزهد والتعفف لتخليـص النفس. ويقولون بالتناسـخ ويرتدون الكتان الأبيض حيـث كان المستجـد في الأخويـة لا يقابـل المعلـم فيثاغـورس إلا بعد خمس سنـوات من التطهر بعدها يتلقـى التعاليـم السريـة ولغموضهـا كان الفيثاغـوريـن يجدون أقوال معلمهم فيثاغـور مطلقـة الصحة بحيث يستـدل بها فكـثرت بدايـة أقوال الفيثاغـورين بـ: (قال المعلـم باليونانيـة autos epha) طبعًا لأن الفيثاغـورين إرثهُم شفهـيّ سريّ الأصل لذلك صار قول المعلم هُو الحجـة. (4)

الفلسفة اليونانية بأفكارها وعقيدة (اللوغـوس . Logos) و(الصورة . Form) ستؤثّـر لاحقًـا وبقـوة في الفلسفـات الغنوصيـة اليهوديـة والمسيحيـة والتي ستتغلغل فـي الباطنيـة الإسلاميـة.


المصادر:

1-  مرجع المصطلحـات ( حياة الصـور و موتها . ريجيـس دوبري )

2-  عن الفلسفـه الأفلاطونيـه المرجـع ( محاورات أفلاطـون )
وأيضًا:

– أجمل قصة في تاريـخ الفلسفة . لوك فيري
– مدخـل إلى الفلسفـة القديمة . آرثر آرمسترونـغ A.H Armstrong)

3 – مراجع عن الأورفيـة:
( Orphism and Phythogran and The Rise of The Immortal . Jan Bremmer )

( The Mystical Hymns of Orpheus . Thomas Taylor )

( The Orphic Mysteries . Rosicruian Digest )

4 – عن فلسفـة فيثاغـورس ( Numbers . W. Wynn Westcott ) وَ ( فيثـاغورس فيلسـوف الرياضيـات . فاروق عبـد المعطي )

إعلان

اترك تعليقا