مصطفى أمين “ذلك المستحيل”، “فكرةٌ لا تموت”.

إن كلمة مستحيل تكررت كثيرًا في حياة مصطفى أمين ، فكانت بمثابة فواصل في كتاب حياته، نهاية لكل مشهد في عمره، ستار لكل فصل سياسي عاشه، وكان عليه أن يشدّ المستحيل ليصبح واقعًا، ويشد الواقع ليصبح مستحيلًا، وقد كان! إنه مصطفى أمين، ذلك المستحيل. هكذا تحدث عنه محمود فوزي في كتاب أعدّه خصيصًا له، ومن هنا نبدأ في تقليب صفحات هذا المستحيل.

ولد مصطفى أمين في شهر فبراير عام 1914، نشأ وترعرع في بيت سعد زغلول، وقد عشق الصحافة منذ نعومة أظافره، أما بداية مرحلته الجادة في الصحافة فقد بدأت حينما أصدر مع شقيقه مجلة التلميذ عام 1928، وكانا يهاجمان فيها الحكومة فأُغلقت، وأعقبها مجلة الأقلام إلا أنها لنفس السبب أُغلقت أيضًا، ومع بدايات عام 1930، التحق مصطفى بمجلة روزا اليوسف التي واجهت نفس المصير، وعاودت الصدور مرة أخرى وأصبح مصطفى نائبًا لرئيس التحرير. تولى الكثير من المواقع القيادية والمؤثرة في الصحف فقد تولى رئاسة تحرير مجلة آخر ساعة، ثم رئيسًا لقسم الأخبار بالأهرام، كما عُيّن رئيسًا لتحرير مجلة الاثنين، وقام بالتدريس في قسم الصحافة بالجامعة الأمريكية، وأخيرًا أصدر مع توأمه جريدة أخبار اليوم عام 1944.

أثر نشأته في بيت الأمة

الدنيا لا تفتح أبوابها للذين يعتمدون على آبائهم، وإنما تفتحها للذين يحفرون في الصخر بأظافرهم”.

كان هذا هو الدرس الأول الذي تعلمه مصطفى أمين من سعد زغلول، فقد نشأ في بيته؛ لأنه خال والدته في البيت المعروف ببيت الأمة. لم يكن يلعب ويلهو مثل باقي الأطفال هو وأخيه، بل كانا يلعبان لعبة العسكر والثوار، فكانت حياة سعد زغلول المثيرة أهم لهم ألف مرة من الحكايات التي يسمعها الأطفال، وحينما كانت الأم تحاول انتزاعهما من أمامه، كانا يتمسكا بمكانهما ليُكملا السمع.

حينما أراد مصطفى وتوأمه ذات يوم الذهاب للمدرسة بعربة سعد زغلول، بسبب سقوط الأمطار الغزير، ورفضت والدتهم، أسرعا يستنجدان بجدهما سعد زغلول، ولكنه فاجئهما بقوله: “لابد أن تتعلما المشي وسط الأمطار، حتى تستطيعا بعد ذلك أن تسيرا في الحياة حتى لو كانت مليئة بالعواصف”.

كما تعلّم التوأمين منه، أن يفخروا بانتمائهم للفلاحين ويعتزوا بمصريتهم، فحينما سخر منهما زملائهم؛ لأنهم يرتدون جلاليب زرقاء مثل الفلاحين، أخبرهم سعد زغلول أن الجلاليب تعبير عن الأمة، وإذا كانوا يسخرون منها فهم يسخرون من علم مصر الجديد، الذي سيجعل الفلاحين أسيادًا، وكان سعد زغلول يحرص أن يأخذ رأى التوأمين في خطبه، ومن هنا أتيحت لهم فرصة تدريب مجانية للاشتغال بالصحافة والسياسة، وكان يخبرهم دائما أن حرمان الشعب من الصحافة هو تحويله إلى شعب من الحيوانات.

إعلان

علاقة أمين بوالديه

أحببت أمي ومن أجلها أحببت كل الأمهات”.

أحب مصطفى أمين أمه كثيرًا، واعترف أنه يحبها أكثر من والده؛ لأنها لم تتركه منذ وعيه على الدنيا حتى رحيلها، بينما والده كان كثير الأسفار، وتعلّم منها الاحترام والأدب الجمّ، وورث عنها الصمود والإصرار والعناد، ولم يتوجه إليها يومًا بكلمة “أنتِ” بل حضرتك، وحينما كانت تدخل مكانًا يجلس هو فيه يقف لها احترامًا حتى لو دخلت وخرجت آلاف المرات، ولم يُدخن أمامها قط حتى بعد أن أصبح عضوًا في مجلس النواب، ومن كثرة حنانها ورقتها يقول مصطفى:

إن الله خلق الملائكة في صورة أمهات، فلم تستطع البشرية حتى الآن اختراع شيئا يستطيع أن يفعل ما يفعله حنان الأم مع أولادها”.

لقد ضحت أمه بحياتها من أجل توأميها، فعندما بدأوا في إصدار أخبار اليوم، علمت بأنها مصابة بمرض السرطان، ولكنها أخفت مرضها عنهما طوال عامين حتى انتشر المرض في جسمها، وقد توفيت سنة 1947.

قمة التشابه وقمة الاختلاف

 “لم أكن أفرق بين الأخوين، حتى أصيب على أمين في عنقه، فعرفت أيهما علي، وأيهما مصطفى”.

هكذا تحدث أنيس منصور عن الأخوين حينما عمل في أخبار اليوم، فكان علي ومصطفى من كثرة تشابهما لا تستطيع حتى والدتهما التمييز بينهما، فلجأت لحيلة أن تضع في  يد مصطفى شريطًا أزرق، وفى يد علي شريطًا أحمر؛ لتميّزهما.

كان أقرب إنسان لمصطفى أمين على وجه الأرض هو توأمه، فكان يقول: بدأت علاقتنا في بطن أمنا قبل أن نرى نور الدنيا ونواجه معًا مصاعبها ومتاعبها”. وكان صوتهما واحد، فكان على حينما تحدّثه زوجته هاتفيًّا وهو مشغول في العمل، يعطى السماعة لأخيه ليستكمل حديثه من دون أن تدرك زوجته الفرق في الصوت.

وبالرغم من التشابه الشكلي الفظيع بينه وبين أخوه إلا أنهما كانا مختلفين في الطبع، فكان مصطفى هادئًا، يصافحك ويعانقك حتى ولو لم يعرفك من قبل، بينما على كان بركانًا ثائرًا وكان لا يصافحك حتى وإن عرفك، ولكنهما رغم اختلافهما لم يختلفا كثيرا وإن حدث فغضبهما لا يدوم أكثر من خمس دقائق، وفي زفاف مصطفى لم يكن يريد أن يجلس في الكوشة (مكان جلوس العروسين)، وحينما أصرت زوجته أجلس أخيه مكانه حتى نهاية الزفاف.

دمياط .. أول حب .. أول ثورة

مرّ مصطفى أمين في دمياط بتجربة مثيرة قلبت حياته رأسًا على عقب، فقد عرف لأول مرة معنى الحب، وقد حركت هذه التجربة قلبه، وشعر بالرغبة في التفوق لكي يكون محل إعجابها.

وفى دمياط عاش مصطفى جانبًا من ثورة 1919، وأقام مع أخيه ومع جلال الدين الحمامصي مسرحًا في أحد الشوارع ليقدموا من خلاله الأناشيد والأغاني، وأثار الحفل إعجاب كل المشاهدين عدا والدهما الذي أعطاهما مكافأة على ذلك علقة ساخنة.

وكان مصطفى واحدًا من الذين صاغوا المنشورات، وقد أيقن والده من وجود خلية ثورية تقوم بذلك في دمياط غير أنه لم يشك لحظة أن تكون تلك الخلية مؤلفة من ولديه.

الحب في السجن

أنتِ المرأة التي أشعر معها بالأمان وأجد معها نفسي، وقد حَوَّلْتِ كل النساء التي عرفتها بحياتي إلى أشباح”.

هكذا تحدث مصطفى عن ابنة عمته وزوجته إيزيس طنطاوي، التي ارتبط بها بعد أن جاءت لزيارته في السجن، فجعلته يتحول من رجل يستعد لختام حياته، إلى رجل يستعد ليبدأها، وقد أحبته وهو في منتصف الخمسينيات.

وكانت تقوم إيزيس بدور مهم  في تهريب رسائل مصطفى من السجن، وتتولى بنفسها توزيعها على الذين سيطيرون بها وراء الحدود، وكانت لديها مقدرة عجيبة على الهرب من الذين يراقبونها، وكانت تعلم أنها تخاطر بشبابها وحريتها من أجل رجل لن يخرج إلا بعد 25 عامًا ولكنها بحرية اختارت أن تقامر بحياتها لأجله.

وبعد رحلة حياتهما الزوجية استأمنها مصطفى على أهم عمل إنساني قام به في حياته، وهى أن تعمل مثله ليظل مشروع ليلة القدر قائمًا لمساعدة الفقراء والمحتاجين والأيتام وسجل ذلك في وصيته.

مصطفى أمين وعلاقته بالسلطة في مصر

“إذا غضب منك عبد الناصر قصف عمرك، وإذا غضب منك السادات قصف قلمك، وإذا غضب مبارك اكتفى باللوم”.

عبد الناصر…

كان أول لقاء بين الكاتب مصطفى أمين وبين عبد الناصر في منزل أم كلثوم في حفلة شاي أقامتها، وتصافحا وكان عبد الناصر يعرف مصطفى جيدًا من خلال أخبار اليوم التي يحرص على شرائها، ومن المفارقات الغريبة أن مصطفى أمين كتب عام 1950 مصر تبحث عن قائد، وأخذ عبد الناصر يعلم بالقلم الرصاص تحت فقرات معينة في المقال، وقرأها على الضباط المقربين منه، وفسرها لهم بأن هذا يعنى أن مصر مستعدة الآن للقيام بثورة، ولكن حينما جاء عبد الناصر قائدًا لمصر، أمر مصطفى بالكتابة للدعوة للحزب الواحد لكنه رفض، إلا أنه وافق أن ينشر غيره عن ذلك في جريدته على أن يبقى له حق الرد وسرعان ما كتب يهاجم الحزب الواحد حتى استشاط عبد الناصر غضبًا.

وما إن كتب مصطفى مقاله بعنوان “لا للديكتاتورية” حتى اتصل به عبد الناصر قائلًا : “قرأت مقالك عن الديكتاتورية، واطمئن سوف أعيش خمسين سنة أخرى”. وحينما سأله مصطفى عن العلاقة بين ما يقوله وبين ما كتبه أجابه: “ألم تقل في مقالك أن الديكتاتورية مقبرة الغزاة، وأن الديكتاتور سيموت وينهار كل شئ بعده، اطمئن أنا صحتي جيدة، وسأعيش خمسين سنة أخرى”.

وحينما كتب مصطفى إحدى مقالاته وشطبها الرقيب، أبلغ عبد الناصر بذلك فقال له وماذا تريد من هذا المقال؟ رد عليه: “أريد أنا أكتب ليصل رأيي للمسئولين، فأجابه عبد الناصر: “أنا المسئولين، وقد عرفت رأيك وهذا يكفي”.

السادات…

إنني أضع رأسي على كفي؛ لإيماني ببلدي وليس لخدمة الحاكم“.

لقد أمر السادات بالإفراج عن مصطفى في شتاء 1974، ولكن الجليد بينهما لم يذب أبدًا، فقد اعتقد السادات أنه بذلك يشترى قلمه للتسبيح بحكمه، ولكن مصطفى تمرد ورفض أن يهاجم الوفد كما أراد منه السادات.

وقد فوجئ القراء في يوم 15 أغسطس 1978، باختفاء عمود فكرة لمصطفى أمين؛ وكان ذلك بسبب أنه كتب عن هرولة أعضاء مجلس الشعب إلى الانضمام إلى حزب الرئيس السادات، فختم فكرته بـ (صباح الخير أيتها الديمقراطية) وعليها فقد أصدر السادات قرارًا بمنعه من كتابة عموده ونشر سنة أولى حب له للتخفيف من صدمة القراء، ولكنه سرعان ما أوقفها هي الأخرى بحجة أنها تشير إلى تزوير الانتخابات الحاضرة، كما أمر أن يحذف من صحف أخبار اليوم جملة (أسسها مصطفى أمين وعلي أمين) ولكنها لم تكن المرة الأولى التي يحذف فيها اسميهما، فقد سبق وفعلها الرئيس عبد الناصر حينما كان مصطفى مسجونًا، ولكنه تلقى الخبر بقوله: “هرم الجيزة ليس مكتوبًا عليه أسسه خوفو”.

وكان مصطفى في الفترة التي منعه السادات فيها من الكتابة، يجلس يوميًّا يكتب (فكرة) صحيح أنها لا تنشر، ولكن يحتفظ بها في أرشيفه الخاص، ويجعل بعض أصدقائه يتطلع عليها، واجتمع السادات حينها بالصحفيين قائلًا: “لقد تعلمنا الديمقراطية، ولا نريد دروسًا من مصطفى أمين، فهو يعارض ليصبح زعيمًا”.

كما قال عنه في إحدى خطبه أنه كان يستمتع بالتكييف في أكتوبر 1973، في الوقت الذي كان فيه الجنود يحترقون في الصحراء، وينامون على الرمال، والطريف أنه حينها لم يكن تحت التكييف بل في السجن. ولكن قد حدثته جيهان السادات عام 1978، لكي تطلب منه ألا يغضب من السادات لأنه منعه من الكتابة، فأعصابه مرهقة بسبب الأعباء الملقاة عليه للاستعداد لمؤتمر كامب ديفيد، وما أن يهدأ سوف يعدل عن قراراه.

وأثناء زيارة السادات لواشنطن اجتمع ببعض الصحفيين، وأخبرهم أن الصحافة في مصر حرة ولكنهم عقبوا على ذلك بسؤال: إذن لماذا أوقفت (فكرة) لمصطفى أمين؟ ولكنه لم يجب. وأثناء عودته إلى مصر وهو على متن الطائرة أرسل تليكس لدعوة مصطفى لفرح جمال السادات، ولكن مصطفى لم يقبل الدعوة رغم الضغط عليه من زملائه الذين رأوا في ذلك إيذانًا بعودة فكرة.

وحينما لم يجده السادات في الحفل، على الفور قد أرسل السادات موسى صبري وأحمد رجب إلى بيته لإحضاره هو وزوجته وإبلاغه بأنه أمر بأن يكتب فكرة، وبالفعل عادت فكرة بنفس معتقدات مصطفى عن الحرية والديمقراطية والعدالة، وبعد ذلك فقد أوقفت على يد السادات للمرة الثانية.

مبارك.

أما مبارك فحينما غضب من مقال مصطفى الذي قال فيه أن من سيتولى الوزارة سيجلس على مصيبة، فرفض العديد من الشخصيات قبول هذا المنصب، مما جعل الرئيس مبارك يلومه في أحد خطبه قائلًا: “مش هقول له غير مايصحش وحرام عليك، ولولا إنه راجل كبير كنت هقوله كلام قاسي”.

فقال مصطفى: “إذا غضب منك عبد الناصر قصف عمرك، وإذا غضب منك السادات قصف قلمك، وإذا غضب مبارك اكتفى باللوم”.

وقد توفي مصطفى أمين بعد رحلة مليئة بالكفاح والصراع في 13 أبريل 1997.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: نرمين علي

تدقيق لغوي: رنا داود

تدقيق علمي: دينا سعد

اترك تعليقا