مصانعُ القهرِ البوليسيّة

مقدمة:

إجتماعياً، إذا لم يقم التشارك أو التحالف على أرضية موحدّة وندّية لكلا الطرفين المتحالفين والمتشاركَين، أصبح نذير استغلال وهيمنة الطرف الأعلى على الطرف الأدنى، وسياسياً أصبح استعماراً أو تسلطاً أو شكلاً مُبَطّناً من أشكالهما، فما السياسة سوى غربلة غرائز السطوة والهيمنة وتهذيبها، الانتفاع من الآخر ولكن بقبوله ورضاه، اقتناصه بلا دويّ، وامتصاص دمه دون جَلَبة. والتعامي عن فسدية الفعل والتغاضي عنه مرهون بقبول الآخر طواعيةً أن يُمتَصَّ دمه، فهنا دور السياسة، وهنا مكمن خبائثها: افتراس الآخر بعد جعله يطلُب أن يُفتَرَسَ.

إن الاستعمار هو البوليسي الأكبر، وما فعله فيمن استعمر بعد أن اكتفى منه ورحلَ، كان تأسيس مصانع بوليسية على مساحة المجتمع كله، أنتجت نسخاً سلطوية مهجّنة ومحدثة من نفس أسلوبه ومفاعيله الأجنبية، ولكنها أكثر محلية، أكثر تأقلماً وفهماً وتشابهاً مع نفسية المستهلك والسوق المحلي وذوقه، فعرفتْ كيف تطرح منتجات تناسب أدنى حاجات الزبون وأبخس متطلباته، وتفي بمخاوفه وفصامه وعقد نقصه الخاصة وتُستّرها باختلاف المواسم، وباختلاف معايير “الموضة” الظرفية، وباختلاف المقاسات أيضاً!

وحين كانت تشعر بفتور في الطلب على أنماطها، لم تتوانَ عن قراءة الظروف المحيطة مرة أخرى، ومواكبتها، ومن ثم اختلاق حاجة رهنية للفرد والمجتمع واستثمارها، ثم إدخال التحسينات عليها بالتقادم، حتى تَولّد مع الزمن الزبون المحسّن مثالي التهجين: لا يريد إلا متابعة آخر صَرَخات الموضة السلطوية وصيحاتها، عوائها عند اكتمال القمر، وعويلها المستتر برهاب الناس والحياة وكل ما يتعدى ذاتية الزبون.

وإذا احتجنا مسرحاً يعرض لنا نماذجاً عن أساليب الخوف والارتياع والرهاب ومفاعلها، وجدنا مسرح الذُعر أو الفَزَع le panique خير العارضين وأوضحهم، وإذا احتجنا كاتباً يصوّر لنا مخاوفه ويستحضرها من ذاكرته دون أن يواريها بمكياج الكبرياء ودون اعتبار لتعابير كالمهانة والخزي، وجدنا الكاتب الإسباني فرناندو أرابال، ووجدنا ضالتنا في مسرحيته (غرنيكا، أو الشجرة المقدسة) متجسدةً في شخصية بطلها (فانشو) الذي سنلقي عليه ضوء مؤلَّف (التخلف الإجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور) للدكتور مصطفى حجازي لنتبيّن أبعاد شخصيته ومحركات سلوكه ونستجلي منطلقات نظرته الرضوخية نحو عالمه وعللها، مستخدمين خُلاصات د. حجازي الاجتماعية-النفسية منظاراً يقترب من دواخل البطل حيناً، ويبتعد صوب محيطه حيناً، آملين أن ينتج عن هذه الجدلية صورة واضحة وشكلاً محدداً للإنسان المقهور كنموذج لمنتجات المصانع البوليسية.

إعلان

ومن الضروري الإشارة إلى تعامُلنا مع (فانشو) باعتباره محور المسرحية التي تدور أحداثها من حوله وتماشياً معه، لذا قد نغيّب بعض شخوص المسرحية وبعض مجرياتها من أجل تحديد الوجهة الصابّة نحوه كنموذج لعرضنا، وبالمقابل قد نستعين في بعض المواقع بشخصية أرَبالية أخرى هو (فاندو) [لاحظ التشابه بين الاسمين] من مسرحية (فاندو وليز) حين تقتضي الحاجة لتوضيح معالم (فانشو) أو تاريخه كشخصية، وكذلك الأمر مع (ليرا) كامتداد نفسي-اجتماعي لشخصية (ليز)، وبالنتيجة، لا يمكننا التعامل مع المقال بصفته تحليلاً أو دراسة مسرحية منهجية بقدر ما هو قراءة شخصية وجمع تأويلات لها غاية مسبقة وهدف تصبو إليه.

                                  *** *** ***

قبل عامين على افتتاح مشاهد الحرب العالمية الثانية 1939-1945 وخلف كواليسها المتمثّلة بالحرب الأهلية الإسبانية 1936-1939 كانت الطائرات الألمانية المشهورة بـأبواقِ أريحا، شتوكا، تقصف غرنيكا على سبيل التجرُبة، بروفا ما قبل العرض، ولكنها لم تحلّق إلا نادراً وبمهمات مخصصة، فلو تكفّلت الشتوكا بغرنيكا، لأبادتها بالكامل، دون أن تترك فيها ما نذكره عنها. ويقال إن معظم سكان قرية غرنيكا كانوا من النساء والأطفال، لأن الرجال كانوا يقاتلون ليعوضوا أمكنة الجمهوريين حلفاء الإتحاد السوفييتي في حربهم ضد الملكيين حلفاء ألمانيا النازية، “وأشارت بعض التقارير في ذلك الوقت” إلى أن معظم الأهالي كانوا مُجتمعين وسط القرية، وعندما بدأ القصف لم يتمكنوا من الهرب؛ لأن الطرق كانت مليئة بالحطام، والجسور المؤدية إلى القرية كانت مُدمّرة بالكامل.

ورد في بداية مسرحية (غرنيكا) بالنسخة الانكليزية التي ترجمتها عن الفرنسية الكاتبة بربارا رايت:”نجتْ شجرة الحرية في غرنيكا من مذبحة القرية ومازالت واقفة”.

وفي كتاب (رسالة الى الجنرال فرانكو) يختم أرابال رسالتهُ: “عندما قام الطيران النازي بقصف غرنيكا لمساعدة فرانكو؛ صمدتْ شجرة محاطة بالرماد واقفة كالأمل”.

الشجرة المقدسة عنوان مسرحية فرناندو أرابال في نسختها العربية، هي شجرة بلوط تنتصب وسط قرية غرنيكا في إقليم الباسك شمال إسبانيا، ولطالما عدَّ الباسكيين الشجرة رمزاً لصمودهم وحرياتهم وآمالهم..

في كتابه (سيكولوجية الإنسان المقهور) يشير الدكتور مصطفى حجازي إلى أن “رؤيةُ العنف فرصةٌ كاشفة لما يعتمل في بنية المجتمع المتخلف وما يصطرع فيه من مآزق وتناقضات، وهي تُبَيّن لنا ما يتعرّض له الإنسان في ذلك العالم من قهرٍ واعتباط وما يحل بقيمته الإنسانية من هدر”.

                                      *** *** ***

بدخولنا إلى نص مسرحية (الشجرة المقدسة) نلاحظ أول ما نلاحظ: الدمار، أشلاء منزل، حطام وغبار خلّفه القصف للتو. يرافقه أزيز الطائرات وهدير العسكر.

ليرا، زوجة فانشو، غائبة، غير ظاهرة، وعالقة في تصدعات الجدران التي انهمرت عليها وهي في الحمّام، لا يجئُ إلينا منها طوال المسرحية إلا أصواتَ مكابدتها الوضع التي ترزحُ تحته وتأوهاتها المستمرة.

زوجها الظاهر أمامنا، فانشو، عجوز عاجز عن إنقاذ زوجته، إنه نموذجُ مسرح الذُعر، رجلٌ مسحوقٌ، كل ما يستطيع إلى فعله أن يلقي إليها بعض النكات، يسأل زوجته المردومة تحت الأنقاض: “هل تريدين أن أحكي لك نكتة حتى يضيع الألم؟”. وأولى هذه النكات كان موضوعها المأزق الذي وقعت فيه زوجته-الموقف التي راحت ضحيته، تقول له ليرا: “لا أستطيع أن أعتمد عليك” لِيَرُدَّ فانشو: “بلى، إنك تستطيعين، سوف أفاجئك بشيء، هدية! (يخرج من جيبه حبلاً وبالونة. ينفخ البالونة. فيبدو أنها زرقاء اللون. يربطها بالحبل ويثبت بنهاية الحبل قطعة من الحجر)، أو أن يقوم بتقليد حركات المهرج، أو تقديم النصائح اليائسة والمشلولة:

فانشو: “ضعي فوق الخدش القليل من اللعاب ثم ضمديه بمنديلك”. ليرا: “آه آه. سأموت”. فانشو: “أتريدينني أن أستدعي الموظف المختص حتى تكتبي وصيتك؟”.

منذ بداية المسرحية، تجعلك أحاديث فانشو تتساءل: هل يدرك الرجل حقيقة ما يحدث مع زوجته؟ أم أن الجانبَ “السادي” من شخصيّته، المغيّبة أساساً والتي يعتصرها الهلع في الأعماق، هو ما يبرز على خطابه؟

السادومازوشية:

يُبرز الكاتب مصطفى حجازي أهمية الإبحار في البُعد اللاواعٍ للإنسان المقهور، لكونه السبيل لتفسير ما يعتلي النفس وتصرفاتها مع ذاتها والآخر، ويقول: “إن أكبر حليف للمرض الاجتماعي، هو المرض النفسي في بُعده اللاواعٍ”، فتبرز الظاهرة السادومازوشية في الجو العام للمجتمعات المتخلِّفة التي يسودها القهر على كافة المستويات والعَلاقات.

ويمكننا أن نتبين الانحراف السادومازوشي لعلاقات الحب في مسرح أرابال بجلاء أكبر عند شخصية فاندو، “ولعل فكرة الكاتب عن الحب تبدو واضحة في شخصيتي (فاندو وليز) وهما اللذان يطلق البعض عليهما روميو وجولييت هذا العصر، وهناك شيء بودليري في تصور أرابال للحب، وينبغي ألا ننسى تلك الطريقة التي عبّر بها بودلير عن حبه لفتاة قابلها في حانة: (إنني يا آنستي [..] أود أن أعضك، أود أن أقيّد معصميك، وأن أعلّقك في سقف حجرة نومي، وعندئذ سأجثو على ركبتي وأقبّل قدميك الحافيتين)” (1)

ولكن فاندو يتجاوز تلك البودليرية، إذ لا يُخرج الكلبشات من جيبه ويقيد معصمي حبيبته بعد أن عانقها وأكّد لها لتوّه أنه سيعاملها بلطف فحسب، ولكنه يخبرها أيضاً: “لقد قيدتك بها لكي أعرف إذا كان في مقدورك أن تزحفي وهي حول معصميك. هيا حاولي ازحفي”، وعندما تعجز ليز عن الزحف، وهي مشلولة القدمين أيضاً، ثم عندما تخدش له طَبلَته أثناء نجاحها العجيب في أن تزحف، يخرج فاندو حزاماً ويبدأ بجلدها فتسيل منها الدماء حتى تموت، لكي تنتهي المسرحية وهو يبكي على بطن حبيبته.

لو تخيلنا السُلطة وقد عَشِقَت الإذعان، أو أُغرِمَ المتسلّط بالمُذعِن الراضخ إليه فصار موضوع غرامه والمعشوق، كيف ستعبّر السلطة عن حُبها وهيَ القوة المحتكرة القوى، والعنيف المحتكر العُنف، والقاتل المحتكر القتل، والعارف المكوّن المعرفة؟

ولو أضفنا إليها العتاد البوليسي لتصبح مصنع تفريخ القهر ومدجنة الرضوخ التاريخية البعيدة كل البُعد عن سماء الحب، والغارقة في سفولِ المقت وقيعانِ البغض لذاتها ولفراخها وللآخر، كيف لها أن تُحب وهي جهاز خوارزمي مبرمج ألا يحب إلا ما يفعله من هتك وانتهاك، وأن يملأ بالذُلِّ كل شاغر يصدفه داخل المفعول فيه، وأن يتمدد في خيالاتِ منتجاتِه المقهورة بهيئةِ كلبشاتٍ وفَلَقة وسياط، وأعقاب سجائر تُطفئ بين الإليتين، وخوازيق لامعة وصعقاتِ كهرباء؟

إن علاقة الحب بين المُتسلّط والمُذعِن، الفاعل والمفعول فيه، داخل الأجواء البوليسية، هي ببداهة، علاقة سادومازوشية عريقة، تباركها اللغة القهرية، وتزيد من جمعهما في جمل تُفيد سطوتها وهيمنة مفرداتها وتعزز من انحراف تصريفات الأفعال وشذوذ المعاني، لتُشكّل أخيراً صورة شعرية تتعربدُ فيها الحروف على سلالم الأبجدية، وتنتهك باصطفافها منطق الجمال الأصيل بإعياء القُبح المُفزِع، وبالهَلَع.

ولكن د. حجازي يعدّل الانزياح الجنسي للمصطلح ليؤكد أن “السادية في الأصل عدوان قبل أن تكون جنساً. والمازوشية معاناة مادية وجسدية ومعنوية قبل أن تكون تلذذاً جنسياً بالألم، والأهم من المازوشية المادية، المازوشية المعنوية، أي وضعية الرضوخ والاستسلام للمهانة والتسليم بالضعف الذاتي وسيطرة السادي. العنف والعدوانية يتوجهان إلى الخارج منزلتين الأذى بالضحية عند السادي، بينما يرتدان إلى الذات التي ترضخ للأذى، إذا لم تستنزله، عند المازوشي. وكل من هاتين الوضعيتين دفاع ضد الأخرى، فالسادي يعنّف ويقسو هرباً من مازوشيته الداخلية، من مشاعر الذنب التي تقضّ أعماق وجوده. وكلما زادت قسوته دل ذلك على شدة ذعره من أن ترتد عدوانيته إلى ذاته فتدمرها. السادي يتنكّر لمازوشيته عن طريق إلحاق الأذى بضحيته التي تُجَسّد ما يخشاه من نفسه. أما المازوشي فيرضخ ويستنزل الأذى بنفسه دفاعاً ضد قلق ساديته التي يخشى توجهها إلى الخارج وإفلاتها من سيطرته بشكل يدمّر الآخر وبالتالي يدمر الذات معه. المازوشي إنسان يعجز عن تحمل نتائج ساديته، ومن هنا تبدو إليه الأخطار الخارجية مضخمة، وتبدو سطوة التسلط دون حدود، ويتناسب عجزه ومهانته بمقدار تضخم هذه الأخطار”، وتستحضرنا هنا صورة ليرا التي خشيت رحيل فانشو وتركها تصارع مأزقها وحيدةً، فجادت عليه بالمديح والإطراء الكاذب والمهادن، وكذلك صورة ليز التي امتثلتْ لأوامر فاندو وطلباته الاعتباطية وابتزازه العاطفي لها لكيلا يتخلى عنها أو يهجرها، وكان قد تسبب فاندو في شلّها لكثرة ما جَلَدها وقساها حباً وعنفاً.

هكذا يأخذ نظام القهر على المستوى اللاواعِ شكل العلاقة السادومازوشية: هناك من ناحية طرف قاس وظالم، مستبد، ينزل العذاب والأذى بضحيته، ولا يحس بالوجود إلا من خلال تبخيسها، وتسبب الآلام لها، ولا يحس بالقوة إلا بالتحقق من ضعف الضحية الذي كان هو سببه، ولا يستقر لهذا الطرف توازن إلا حين يدفع المقهور إلى موقع الرضوخ المازوشي المستسلم. فجوهر السادية ولبّها إذن هما علاقة السطوة، ولا تستطيع السادية أن تقوم إلا بتعزيز السطوة، وإضعاف الطرف الآخر في العلاقة وتحطيمه والاستحواذ الكلي عليه، وتصل غايتها عندما يعترف الطرف المازوشي بهيمنة السادي وسطوته، ويقرّ بعجزه إزاءه، ويرضخ طواعيةً: هذا ما قصدناه في السطور الأولى من المقال حينما أسقطنا على السياسة الدور التهذيبي لنزعات السطوة والهيمنة المنحرفة وتسوية شكل عرضها بما يلائم دوام التغافل عنها.

أما تهريجات فانشو ونُكَتِهِ فتبدو كأنها وسيلة تفريغ للحقد والغبن الذي يكنه لنفسه في الدرجة الأولى، وثم لمن حوله، وبقدر ما تدل النكتة هنا على عجز ووهن، أو عن أقصى ما يمكن أن يبذله نحو زوجته، تتطور النكتة في مسرح أرابال لتصبح تفريغاً للرعب المكنون في ذاتية الفرد أيضاً، وتصبح ذراع الخوف إذ تذرّع. “العلاقة بين الإنسان المقهور والسيد المتسلط ليست جامدة، فالإنسان المقهور وهو تحت نير الخضوع والرضوخ يحاول من خلال أساليب خفية (الكسل، التخريب) أو رمزية (النكات والتشنيعات) أن ينال من المتسلط، وهذا يعكس ازدواجية في العلاقة: رضوخ ظاهري، وعدوانية خفية”.

يمرر فانشو خطاب السلطة إلى زوجته، سلسلة القهر تعبر من خلاله نحو أضعف حلقاتها: تعاطي فانشو مع مصيبة زوجته انعكاس لتعامُل السلطة مع مصيبة الناس، والنبرة المجنونة وغير المعقولة التي يُكالِمُ بها ليرا، هي ذات النبرة المغلفة خطاب السلطة أثناء الحرب، يقول فانشو مثلاً حينما تخبره ليرا أن قوالب الطوب غطت جسدها حتى الخصر: “يقع الذنب عليكِ بتعودك على القراءة في دورة المياه.. لا يدهشني ما حدث لك”.

إن “أبرزَ مظاهر مرحلة القهر هو انتقال تبخيس إنسانية الإنسان المقهور من المتسلط إلى الإنسان المقهور نفسه في شكل مشاعر دونية وتأثيم، يرى من خلالها أنه أهل لما نزل به من قسوة الطبيعة واستبداد المتسلط، وهنا يصبح حليفاً له على نفسه. لكن الإنسان المقهور الذي اقتنع بالدربة أنه يستحق تلك الدونية وذلك التسلط الممارس عليه، ما يلبث أن تنشأ بينه وبين أمثاله من المقهورين علاقة ازدراء ضمني، ثم يتحول عنده ذلك القهر إلى رغبة داخلية يسعى لممارستها على كل من تطالهم يده (أسرته، زوجته، أبناؤه)”.

تقول ليرا: “لا أستطيع أن أتحرك. (شاكيةً) متى ستنتهي الحرب؟”. فيردُ فانشو: “هكذا السيدة! تريد أن تنتهي الحرب عندما يروق لها ذلك”.

يعاتبها فانشو (وهنا إحالة مهمة لمسرحية فاندو وليز) ويقول: “لم تعاونيني أبداً عندما كنت أريد أن أجردك من ثيابك لكي يلمس الأصدقاء جسدك العاري” لترد عليه ليرا ببراءة طفلة: “لأنني قد أصاب بالبرد”، فيقول فانشو: “لديك حجة لكل شيء دائماً”. وتجدر الإشارة هنا أن فاندو في المسرحية الأخرى كان قد عرّا حبيبته ليز وطلب من رفاق طريقه أن يتحسسا جسدها ويداعباها، لافتراضه أن ذلك يزيد من حماسة الرجال العابرين ومن سعادتهم، ويختم حديثه بأن هذا التصرف جاء لمصلحة ليز!

إن التبخيس الذي يلحق بالمرأة في نظام التسلّط والقهر الذي يحكم المجتمع المتخلف، يتلاقى ويتكامل مع التبخيس اللاواعي الموجَّه إلى الأنوثة عند من يعاني من عقدة الخصاء complex de castrations ويتنكّر لها.

وكلما زاد الاضطهاد على الرجل بالخارج زاد بَطْشه تجاه المرأة في حياته، فيتنكَّر لعارهِ بإسقاطه عليها، ويتخذ الرجل من هذه الوضعية مبرراً كي يستغلَّها كأي مستغلٍ: هو دائماً أسلوب المُتسلِّط لتبرير استغلاله، يطمس إمكانات الإنسان المقهور ويبخسها، كي يتخذ منه سلاحاً لزيادة استغلاله.

فانشو: “يقول الجنرال أن الحرب لن تنتهي إلا عندما يحتل الأرض كلها (..) الجنرالات لا يبحثون عن الجزئيات. كل شيء أو لا شيء”. يرد عليه صوت ليرا: “والناس؟”. فانشو: “الناس لا تعرف كيف تحارب. علاوةً على أن لدى الجنرال حلفاء أقوياء”. الغريب في نفسية الإنسان المقهور تحوّلُها من كره المتسلط إلى حبه وتقديره، “إن الإنسان المقهور كلما احتقر نفسه ازداد إعجابه وتقديره للمتسلّط، حيث يرى فيه إنسانا ذا خصائص إلهية تخوّله حق السيادة والتمتع بكل الامتيازات”.

إذن: أضعف حلقات سلسلة القهر هي المرأة، ترضخ للرجل، الذي يتشفّى فيها من القهر الذي تفرضه عليه أدوات السلطة المحلية، التي تزيح عن نفسها _بقهرها له_ القهر المفروض عليها من المتسلّط الجنرال، والذي يفرّغ بتسلّطه على أدواته قهراً يفرضه عليه الحليف الأجنبي غير الندّي، الذي كان قد وجد نفسه أمام قوة القهر الأكبر المتمثّلة بالطبيعة وقوانينها: ولكنه رفض الامتثال لها، وطوّعها لصالحه وأزاحها عنه وأسقطها على غيره.

ومن هذه النقطة ننتقل إلى فكرة الوضعية القهرية التي تسعى الشخصيات (بالدرجة الأولى فانشو وفاندو) إلى الهروب منها نحو التماهي مع القاهر، وتمثّل عدوانيته وطغيانه وقيمه.

التماهي:

تعرض آنا فرويد (ابنة سيجموند فرويد) أوالية Mecanisme التماهي بالمعتديIdentification a l’agresseur  في مؤلفها المشهور (عن الأنا وأواليات الدفاع، 1936) حيث يشكل التماهي بالمعتدي إحدى أقوى وسائل النضال ضد الموضوعات الخارجية المولّدة للقلق، فالشخص الذي يواجه بخطر خارجي (متمثلاً بنقدٍ أو تهديد صادر عن سلطة) يتماهى بالمعتدي، بمن يمثّل هذه السلطة مصدر الخطر، إما بالمحاكاة المادية أو المعنوية، وإما بتبني بعض رموز القوة التي تدل عليه. فمن خلال التماهي ولعب دور القاهر، أو تمثيل عدوانه أو استعارة صفاته يتحول المرء من كائن مُهَدَّد إلى كائن مخيف ومُهَدِّد، وفي ذلك مرورٌ من الدور الفاتر العاجز إلى الدور الفعّال بغية الوصول إلى استيعاب أحداث مؤلمة أو صدميّة.

وفي كل حالات التماهي بالمعتدي يحدث قلبٌ في الأدوار، فتتحول الضحية إلى معتدٍ من خلال نقل دور الضحية أو وضعيتها إلى شخص آخر يُفرض عليه هذا الدور، فيصبح موضوعاً للتشفّي من ناحية، وللتنكّر من المخاوف الذاتية من ناحية أخرى: أنا لا أخاف، أنا أُخيف، هو يخاف، أنا أُخيفه. هذه الوضعية تؤدي إلى التخلّص من المخاوف ومشاعر الضعف والذنب الداخلية والذاتية.

ويتّخذ التماهي بالمعتدي تبعاً لآنا فرويد ثلاثة أشكال: التماهي بحركات المعتدي، التماهي بعدوان المعتدي (أي الإفراط في تبني القسوة والإرهاب لحسابه، وفرضهما بكثير من الشطط على العناصر الأضعف)، والتماهي بأدوات المعتدي (سكين، سلاح ناري، كلبشات..).

وفيما تقوم كل من ليرا وليز باستكمال سلسلة القهر واستنزالها عليهما من خلال التماهي مع أحكام فانشو وفاندو، فتجتافان العدوانية الصادرة من الرَجُلين لتوجهاها إلى الذات على شكل مشاعر ذنب ودونية وتبخيس، تنخرطان في عملية الحط من قيمتهما، في مقابل الإعلاء من شأن الرَجُلين والمبالغة في اعتبارهما وفي تثمين ما يمت إليهما بِصِلة.

يشيعُ التماهي في أجواء الرضوخ إذن، ويجعل التسلّط ممكناً أكثر، بل يكاد يبدو “ضرورةً”، ويعاني الإنسان في هذه الحالة من مأزم وجودي حاد يتخذ شكل رفض الذات وعدم الاعتراف بها وإدانتها على فشلها، وينطلق من مجموعة أحكام سلبية تجعله لا يرى خيراً في ذاته: إنها مصدر التقصير ومجمع العيب وموضع الهوان. بكلمات د. حجازي.

تبلغ العلاقة مع المتسلط في هذه الحالة أشد درجات السادومازوشية: قبول التسلط والرضوخ له في جو من الإفراط في رهبة المتسلط والإعجاب به في آنٍ معاً. وينتج الإفراط هذا عن ظاهرة انشطار القيمة الإنسانية: تُوَجّهُ القيمُ الإيجابية كلها (القوة والمنعة والتفوق) إلى المتسلّط، والقيم السلبية إلى الإنسان المقهور، ويبدو أن لا أمل في الخلاص من هذا المأزق الوجودي إلا بالاقتراب من المتسلّط، والتنكّر الشامل للذات، وحتى هذا الأمل يبدو صعب المنال في البداية، مما يولد حالة من الرضوخ السوداوي لقدرٍ مكتوب، وحظٍ مقسوم، ومصيرٍ محتوم.

وعندما تترسخ هذه العملية وتتسع الهوّة بين القاهر والمقهور، يتحول هذا الأخير إلى حليف غير مباشر للأول في حرب التبخيس التي يخضع لها، وعند هذا الحد ينقاد المقهور إلى عملية استلابه: يتنكر لذاته ويحارب مصالحه، وبقدر تزايد وتيرة تلك الحرب، يربط نفسه بقيودٍ تأسُره في فلك القاهر.

وأخيراً فإن التماهي مع عدوان المتسلط يحملُ في ثناياه وهم الخلاص الذاتي، ويدفن الصورة المحقرة عن الذات من خلال دفن الماضي وسحب الاعتراف بارتباطاتها الإنسانية، ومن خصائص هذه العملية الميل إلى التطرف والشطط، وفي كل الأحوال ينخرط المقهور في حرب ضد خطر الإحساس بضعفه الذاتي والموقعي، وفي محاولات دائبة لطمس هذا الضعف.

الداخل والخارج:

تقوم المسرحية على فضاءين، مستويين من العالم، داخلي: خاص وشخصي، وخارجي: عام وشمولي. حلقة الوصل بينهما هي النافذة. من نظرة أولى محددة يمكن تلمّس “عُزلة” تطوّق فانشو وليرا، ويصح إن مددنا المعنى لنقول “عزل أو تنحية” فضاءهم عن الفضاء العام أو “تخلّي” العام عن الخاص، فقد تتبدى العزلة في حالة الفقد التي خلّفها موت ابنهما بفعل الحرب ما تركهما وحيدين في وحشتهما ومخاوفهما، هذا وارد، وهنا تصبح تساؤلات ليرا المتكررة واطمئنانها المستمر عن الشجرة يوحي بما يمكن أن تقدمه الشجرة كتعويض عما فقدته وزوجها: ابنهما، أملهما، وحريتهما. بالإضافة إلى أن وجود النافذة يمثل صلة الوصل الأساسية ما بين الفضاءين: الداخل والخارج، المنزل والحرب، وهي مغلقة، وكلما قام فانشو بفتحها يظهر الضابط الذي يمنعه من رؤية الشجرة: أي يمنعه من التواصل مع العالم الخارجي، وهذا يكرّس حالة العزلة أكثر.

ولأن الشجرة رمز الأمل والحرية والثبات والديمومة وقوة الطبيعة التي تفوق قوة الانسان وآلات القتل الذكية التي دأب على تحسينها، فعليه نسأل: هل يصح أن محاولات الزوجين في تقصي وجود الشجرة ومراقبتها مرده افتراض أن زوال الشجرة أو تدميرها هو تدمير لآخر الآمال المعقودة عليها وعلى ما ترمز إليه؟ هل كانا سيموتان رأساً حال موت الشجرة/ زوالها؟

وبنظرة ثانية أشمل، هل يمكننا القول إن الشرطي، يشكل عائقاً وعقبة لربط العالمين ببعضهما، وأن محاولات فانشو في تحقيق شرط انفتاح العالمين على بعضهما، أو قل إن سعيه إلى التحرر _إذا أخذنا بكلمات أرابال الأخيرة: انهيار الجدران يبيّن سموق الشجرة/الحرية_ توقفه كلبشات السلطة، تمنعه، وتهدده طبعاً، وباستخفاف بارد، استخفاف المتسلط المتيقن من خنوع الخاضع لسلطته؟ ولنا النظر في الوضع الذي استحال إليه فانشو بعد أن رأى الضابط: لقد أخبر زوجته أنه لم يستطع أن يرى الشجرة. لقد قُصِفَتْ ركبتاه من منظر الضابط، يكذب على نفسه وعليها ويرى في العالم الخارجي ما تريد السلطة له أن يراه: اللاشيء. تقول له: “إنك لا تريد أن تراها” يجيبها: “لم أستطع”.

في وضع فانشو، ليس له إلا هذا العالم الداخلي المتهالك الذي أصبح سجناً بتكرر ظهور السجان/الشرطي عند كل محاولة لفتح النافذة.

الكذب والزيف:

الكذب مسند الحوارات ومفاصلها والمُخرَجات، وهو لن يكون بذلك القدر من اللامعقولية أو الغرائبية في واقع تتحكم فيه وتحكمه لغة الشمول والقطبية الواحدة، لغة القمع والعقاب والولاء الأعمى، فما بالك بظرف (استثنائي؟) كالحرب؟ الحرب مفرزةُ الأكاذيب.

يقول د. حجازي: “يمكن اعتبار الكذب والتضليل الذي تخضع له الجماهير المقهورة نوعاً من استخدام أساليب السيد المتسلط في الخداع، إنه كذب متبادل بين الطرفين، السيد يكذب في وعوده الجماهير بالإصلاح والخطط الإنمائية والأخلاق والرقي والتقدم والمستقبل الأفضل، والجماهير من جهتها تكذب على السيد المتسلط وهي تخلع عليه كل أوصاف السيادة والمروءة والصلاح والبطولة. ثم يقوم الإنسان المقهور بتعميم ذلك الكذب على كل جوانب حياته، فينشأ وجود متخلف قائم على الكذب والخداع؛ كذب في الحب والزواج، كذب في الصداقة، كذب في المعرفة، كذب الحرفيْ على الزبون، وحتى كذب في الإيمان”.

أثناء الحرب الأهلية الإسبانية والتي كان وصول الفكر المحافظ والفاشي المتحالف مع الكنيسة إلى الحكم أبرز نتائجها، كان الإيمان مفقود، لأنه كان جبراً وقهراً، وعليه صار رفضه رد فعل وتمرد ينذر بالهلاك، فاستشرى النفاق وطافت النزعات الأنانية على سطح المسالك والأقوال. يقول أرابال في رسالته إلى فرانكو: “لقد حلفنا الولاء والكاثوليكية مراراً دون إيمان، لأن هذا اليمين كان حاجزاً لا بد من تجاوزه لكي نحصل على عمل أو نلتحق بمدرسة”.

في جميع الأحوال يتكسّى الكذب في أجواء القهر كساء الضرورة ويصبح نوع من المهادنة لاكتساب وقت أكثر أو تحقيق هدف مسكوت عنه، ولا يكون الكذب كذباً ما دامه يجري وفق الحدود المتفق عليها ضمنياً بين طرفي التكاذب، ولكن قد يصل التبجّح بالمتسلط حداً يتجاوز فيه المتفق عليه، وعندها يدين فيه الطرف الآخر لعدم تصديقه أكاذيبه: ليس ذنب المتسلط أنه يكذب، بل ذنبك أنك لا تُصدّق. يمكن وصف هذا النوع من ضروب المتسلطين بالكذاب المهاجم، لا ينأى بنفسه عن الكذبة ولا يبررها، وإنما يشهر سلاحه في وجه المشكك حتى يذعن إلى الكذبة، يصدّقها.

بالنسبة إلى المتسلط ومعه المذعن، لا يمكن لحبل الكذب بينهما إلا أن يكون طويلاً؛ لأن اكتشاف جنوح الكذبة أو شططها عن حدّها مرةً واحدة يكفي لإجهاضها من “صدقها المتفق عليه” مستقبلاً، ولذلك يحافظ المتسلّط على رتم الكذب منذ تبّناه في سرديّاته، دون أن يستطيع التوقف، فينشأ عن ذلك صيرورة كذب دينامية، تحيط بوجود الإنسان المقهور وتشّكل أُسس التواصل والعلاقات من حوله.

أزمة الكذب أنه يتغذى على أكاذيبه، يعتاش على تلفيقاته واختلاقاته والأوهام، ومن دونها يتوه.

أما عن الزيف، فالمقهور، مُنتَج المصانع البوليسية، كائنٌ مزيف فقد هويته وأضاع أصالته ووجد نفسه عارياً أمام غربته عن نفسه، وهو يحاول بشتى الأساليب وبمختلف الأقنعة أن يجد هوية بديلة، والأمثلة على ذلك لا حصر لها: نمط حياة المتسلط، ثقافته، موسيقاه، وسائل لهوه وترفه، أدواته، ملابسه، يحاول المقهور أن يصل إليها ويتقرّب منها، وهو في ذلك يدّعي ويبالغ ويزيّن المظاهر التي يمسك بها ويضلل الآخرين عن حقيقته بحثاً عن الاستعراض والوجاهة: جزيرة وجاهة في محيط بؤس. يحضرنا هنا فانشو فوراً، وهو يتخيل نفسه وليرا وقد صارا في عداد المثقفين المهندمين الذين يذهبون إلى الندوات ويدخنون الغليون وتتدافع الناس من حولهما ليلقوا عليهما التحية قائلين “انظروا إلى المثقفين!”.

الذاكرة:

في الدخول الأول للشرطي يدفع فانشو حينما كان يحاول أن يمد يده ليساعد زوجته فيوقعه أرضاً، تتساءل ليرا عن صوت الارتطام، فيخبرها أن قدمه زلّت.

إن الشرطي يمنع فانشو من مساعدة ليرا، وهنا نسأل: هل هذه دعوة لكي يواجه فانشو مصيره وحيداً؟ فالغياب تيمة زوجته، ذلك أن ليرا، على كل حال، ليست إلا صوتاً يقيم فانشو معه مكاشفات للماضي ومحاكمات له، وقد تكون أبرز عوائد وجود ليرا هو تبيان ذلك الماضي واستحضاره، ولكن استحضار ليرا _فعلياً والآن_ جرم، ويبدو أن المساندة في الحاضر ممنوعة، وعلى فانشو مقارعة أسره وحاضره وحيداً.

حيز الحياة هو حيز الذاكرة، والحياة هي الذاكرة، والانسان هو الصدفة، هكذا يخلص أرابال في محاضرة ألقاها في سيدني عام 1962، فقد تحمل المسرحية بالإضافة لأي ما قد تحمله من دلالات وتأويلات، عرضاً لعملية الاستحضار في الذاكرة، فهل الطوب التي تنهار على زوجته تباعاً هي تجلي عن الهجمات التي تضرب ذاكرة فانشو في الحاضر لكي تمنع ماضيات الذاكرة من الاستحضار؟ ذلك أن ما يميز عمل الذاكرة هو آليتها، إنها تعيش الحاضر وفق شروط الماضي، أو قل أن الماضي هو ما يؤسس للحاضر، ويؤثث فراغه، وعليه، وباعتبار أن السلطة البوليسية متمكنة من الحاضر، وباعتبار أن الحرب قائمة في الحاضر، يصبح من المقبول القول أن الحرب، والسلطة التي تدير هذه الحرب وتوجهها، تهاجم ذاكرة الإنسان: حيّزه، وتصل فيها القدرة على النفاذ إلى داخلية الفرد نحو مرحلة العمق الخالص: العمق القابعة فيه تصوراته وأفكاره وذكرياته والوجدان.

ومن ثم فهل المكان المتهالك والمنهار هو ذاكرة فانشو؟ هل الصدع المُحدث في الجدار والذي يتقادم منه صوت زوجته وتأوهاتها هو صدع في ذاكرته؟ هل زوجته هي صدفة (الانسان هو صدفة، كما يقول أرابال) أي أن لو لم تكن زوجته لكانت شخصاً آخر أو (شيئاً) آخر؟ وهل ما يمنعه من إنقاذها، وبتجاوزِ فكرةِ العجزِ والجبن، هو فعلاً عدم قدرته تماماً على ذلك؟ (من غير الوارد تخيّل شخصٍ يهاب شرطياً يلعب بأصبعه بالكلبشات أن يستطيع مقاومة الهجوم الكاسح للظرف الاستثنائي: الحرب، على ذاكرته. سـيَفرُش. ولكن سيظل يبرر لـ (صدى زوجته وصوتها) أنه يحاول، ويحاول بقدر ما يستطيع أن يساعدها، وإنه يحبها، وإن إرادته منصبة على أن يستعيدها.

ولكن تستوقفنا هنا احتمالية نعلم أنها تخرج عن فرضية المسرحية:

كان يمكن لفانشو أن يساعد ليرا ويزيل الطوب والركام عنها تدريجياً من دون أن يحتاج لأن ينبس بكلمة أو يضيّع مزيداً من دقائق هو في أمسِّ الحاجة إليها لينقذ زوجته، ولكنه عوضاً عن ذلك استغلَّ مصيبتها وراح يصفّي حساباته القديمة معها، انتهزَ البلوى التي ألمّتْ بها ليعيد معها قراءة الماضي على ضوء الحاضر وغُباره وحشور ليرا بين الطوب، فكأنه بذلك يُبعد عن نفسه تهديد انعدام القيمة في الحاضر (وهو العجوز) بالاحتماء بقيمةٍ كان يتمتع بها ماضياً “ألا تذكرين ليلة السبت؟”، ويستبدل الصورة البائسة من الوجود الراهن، بصورة أكثر إشراقاً في الماضي. ورغم أن هذا الهروب الخيالي لا يغير من حقيقة بؤس الواقع-العام شيئاً؛ ولكن يغير الدلالة الذاتية على الأقل: يغير الواقع النفسي-الشخصي له، وفي هذا النكوص يُزيّن الماضي بطمس عثراته من جهة، وتضخيم محاسنه من جهة ثانية.

تسايرُ ليرا ابتزازات فانشو مفترضةً ان ذلك سيضع حداً لمهاتراته وسينقذها في النهاية، ولكن فانشو لا يفعل (لا يستطيع؟). فانشو يهددها بالرحيل عنها لأنها لم تتفق مع رأيه في عدة أمور، ولأنها أخبرته عدة مرات أنه يتفوه بحماقات. فانشو يشتُمُ زوجته ويصِفَها بالخليعة وفاقدة الثقافة، ويقول لها ببرود أنه عندما تموت سيسرق جثتها ويضمها ثلاث مرات. وفي المرة الأخيرة التي شعرنا أنه جادٌّ في أن ينقذها، انهمرتْ عليه الأحجار والطوب: هَتَكَت قذائف الشتوكا بالمنزل، فمات فانشو، وماتت ليرا.

الصراع:

عرّج أرابال في محاضرته إلى ثنائية الحقيقي والمزيف، أو الحقيقي والمصطنع، وقد نخلص بتطبيق هاته الثنائية إلى ما يفيد بأنه إذا كان هناك من صراع في المسرحية فهو الصراع بين المستوى الخارجي/الحقيقي/اللاإنساني: الشجرة، في مقابل المستوى الداخلي/المصطنع/الإنساني: المنزل-الطوب-الأنقاض.

وعليه، يمكننا التعامل مع الشخوص في المسرحية على أنها أذرع أو تجسيدات إنسانية، أو تجليات للأطراف العليا المتنافرة في هذا الصراع، فلطالما أشار أرابال إلى براءة شخوصه، وغُبنِهِم، وعدم تحملهم مسؤولية ما هم عليه (من الذي يتحمل المسؤولية إذن؟)، إن شخوص أرابال هوامش هذا العالم، يكسبون براءتهم كلما زاد جهلهم وتناقصت معرفتهم بنفسهم وبما حولهم، هم أشبه بأدوات في أيدي قوى أكبر، فالتسلّط “المحلي” ليس إلا انعكاساً عن التسلّط الأجنبي للمجتمع المحلي، وقد تكون هذه القوى الأكبر ليست مجرد قوى أجنبية أوسع جغرافياً أو أقوى اقتصادياً، بل على درجة أعلى (إذا سمحنا لأنفسنا التمادي في التأويل)، فتُمسي شخوص المسرحية أدوات لقوى فوق-بشرية، (ونستعين هنا بغاية البطل الأرابالي للتوحد مع الكون)، فبراءة الشخوص إذن ليست حكراً عليها بصفتها شخوصاً مقهورة في مجتمع متخلف فحسب، بقدر ما هي براءة الإنسانية التي تجد نفسها فجأة أمام أغلال الطبيعة التي تحاصرها بين خيارين لا ثالث لهما: إما الاستسلام والرضوخ وبالتالي: الزوال، وإما المقاومة والمجابهة وبالتالي: الاستمرار.

عند هذه النقطة بالضبط تتحدد بداية سلسلة القهر.

 وتماشياً مع ما ذُكر نفهم أن المسرحية بشخوصها وأحداثها لا تسير في حلقة مفرغة من الرعب الخالص أو العبث-السُدى أو الشلل وعدم القدرة على الفعل المنتهية، فالوضعية-المأزق الذي يعيش فيه الإنسان المقهور أو مُنتَج المصانع البوليسية تُحتّم عليه التمرد كرد فعل لا مناص منه في مواجهة أغلال الطبيعة واعتباطيتها الفالتة من سيطرته من جهة، والمتسلّطُ فارضُ القهر من جهة أخرى، لأن القهر ضرورة، وهو جزء من نواميس الحياة، وليس غريباً أن نجد من يتمثّله ويتبنّاه ويسقطه على طرف أضعف، إنما الغريب (والذي يصبح مرفوضاً أيضاً) هو الامتثال لهذا القهر والاستسلام له. إن الإنسان المقهور لا يمتلك رفاهية الاختيار ما بين الرضوخ والتمرد: التمرد ضرورة تُجاري القهر المفروض كضرورة.

وتأسيساً على ما سبق، يتحول الصراع إلى صراع ما بين المفاهيم والمقولات والمجردات، بين الثنائيات المتضاربة: الحقيقي والمصطنع، الخالد والفانِ، الوضوح والالتباس، البريء والمُذنِب، البسيط والمعقد، وميدان الصراع هو الحياة في مستوييها الداخلي والخارجي. ثم تأتي النهاية النسبية: نهاية سعيدة بالنسبة إلى المستوى الخارجي ورمزه الشجرة، ودوامها، ومأساوية بالنسبة إلى المستوى الداخلي وانهياراً للجدران وزوالاً للذاكرة.

وهنا سؤال: هل تموت الذاكرة مع موت صاحبها؟ وهل تحيا الذاكرة من جديد عند بعثِ صاحبها؟

تنتهي المسرحية بتحول فانشو وليرا إلى بالونتين زرقاوتين تهيمان في السماء ضاحكتين، يطلق الضابط عليهما النار من رشاشه فلا يستطيع إصابتهما. يرتبط اللون الأزرق بالمساحات الكبيرة والمفتوحة، وهو لون بارد ولكنه مفتوح وواسع، كالسماء والمحيط، ونزعم أن “التمرد” في مسرح الرعب جاء على هيئة بالون طائر ليس أكثر: عند الموت تصبح حراً وسعيداً وعصياً على رصاص فرانكو.

وفي مسرحية (فاندو وليز) تصبح الرحلة غير المنتهية ولا المكتملة إلى (تار) والتمسك السيزيفي ببذل الجهد وإعادة المحاولة في كل مرة يرجعان فيها إلى نقطة البدء والانطلاق شكلاً من أشكال السيطرة الخرافية على المصير، أو كما يقول د. حجازي: “إن عدم استطاعة الإنسان تحمّل وضعية القهر والعجز أو تقبلها بواقعيتها المادية الخام، تجبره على الامتثال لحلٍّ ما يستوعب فيه مأساته ويُقيّض له شيئاً من السيطرة عليها، وإلا أصبحت الحياة مستحيلة، وإذا لم تتيسر له الحلول الناجعة التي تمكنه من التحكم الفعلي بالواقع على مستوى ما، لجأ إلى حلول خرافية وتوسّل الأوهام ليجمّل بها الواقع ويستعين بتصوراتها على تحمل أعبائه، وبذلك يصل إلى شيء من التوازن الوجودي الضروري لاستمراره قبل أن ينهار ويستكين، فاللا جدوى تتناسب مع شدة القهر والحرمان وتضخم الإحساس بالعجز وقلة الحيلة وانعدام الوسيلة.. ما يؤدي به أخيراً إلى النكوص كرد فعل على مآزقه التي تبدو عصية عن الحل. ينكُصُ إنسان الذُعر إلى أساليب أكثر بدائية في مجابهة الواقع، فيتصرف انطلاقاً من وضعية طفولية، ويتقهقر من العقلانية التي يجب أن تميّز حياة الراشدين، إلى مرحلة التفكير الطفلي الذي يخلط الواقع بالخيال، والحقائق بالرغبات، والصعاب المادية بالمخاوف الذاتية، ويقيم إنسان الذُعر مع عوامل التسلط ورموزها نفس علاقة الاتكال والاحتماء الطفلي التي كانت له مع والديه، كونها تشكّل الضمان الوحيد نظراً لعجزه وقلة حيلته، مما يعطّل الاعتماد على القوة الذاتية وينفي المسؤولية الشخصية في تحمّل أعباء المصير، وبمقدار هذا الانتفاء وذاك التعطيل، لا بد لاتكاليته من التفاقم مما يدفع به إلى مزيد من توسل الممارسات اللا مجدية.

خاتمة:

المصانع البوليسية هي تكتّل قوى بهيئة مجتمع إنساني. خطُّ الإنتاج الرئيس فيها هو الهَلَع، والقهر سلعتها الأكثر رواجاً، وبضاعتها المحببة، المكدّسة في مستودعات اللاشعور النفسي-الاجتماعي.

يديرُ الجنرالات الفروع المحلية لهذه المصانع بالوكالة من المصنع الأم: المستعمر الأصيل، الذي هذّب ممارساته الاستعمارية بمرور الزمن وجمّل مصطلحات عنفه (وشَلبَنَها)، ثم تحوّل إلى شركة عابرة للحدود لم تعد في حاجة إلى أن تقيم في شرور السوق المحلية وتعايش ظروفها وتعاينها بالمباشر، بل ارتأى أن ينأى تكاليف إدارة المعاينة والمعايشة عن اقتصاده ليركن إلى مكانه البعيد مفوّضاً جنرالات محليين يهندسون البؤس والقهر بما تقتضيه مصلحته، بصفته القاهر الإنساني الأصلب، ويشيّدوا له مفرخة إذلال نموذجية تلمع ماكيناتها من شدة حداثتها ونظافتها، وتلبي غاياته في دوام السطوة والتسيّد.

استفدنا من أضواء رُكنٍ صغير في مسرح الذُعر الأربالي لنرى إلى نماذج من نتائج القهر ومنتجات العنف، تجلّت في شخصيات مهزومة مهذارة تستنزل على نفسها ما يريد القاهر أن تستنزله، وتُعطي بعضها ما تأخذه عنه، فتكون عوناً له على نفسها، ومسنداً لابتزازاته ومحطّاً لأهوائه، وتشيّد صروح أوهامه فتحققها دون أن تعي ذلك أو تشعر به. وإن ما يصدح في مسارح الذُعر يعبر صداه الجغرافيا الإسبانية والتاريخ الدموي للحرب الأهلية ويتعدّى خصوصية نظام فرانكو، ليجول في أرجاء المعمورة كلها: يتحول كل مجتمع قهره ساكن إلى مصنع بوليسي إنتاجه نشط، وحينما تحل فضيحة ما مهددةً كشف القهر الساكن والعنف المستور، تقوم الحرب لتعيد خلط أوراق اللعبة وأدوار العنف وممثليه: تمسي الحرب، بلغة المصانع، “قنبلة الموسم” التي تباغت الجميع، وتسحرهم، وتفتنهم بأسعارها ومقاساتها والعائدات، فيتدافع الناس صوبها على أمل أن يرتَدوا حظوتها ورفعة تقدمهم في تراتب احتكار العنف، ويديموا حياة سلسلة القهر ويزيدوا من حلقاتها وهم صاغرون.

*** *** *** *** *** *** *** ***

(1) اليكس برولانسكي، المقدمة العامة لثلاث مسرحيات طليعية، تر: أحمد يونس، سلسلة من المسرح العالمي، وزارة الإعلام، الكويت،1972.

المصادر:

_مسرحية الشجرة المقدسة من: ثلاث مسرحيات طليعية، تر: أحمد يونس، سلسلة من المسرح العالمي، وزارة الإعلام، الكويت،1972.

_مسرحية فاندو وليز من: ثلاث مسرحيات طليعية، تر: أحمد يونس، سلسلة من المسرح العالمي، وزارة الإعلام، الكويت،1972.

_التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور، د. مصطفى حجازي، ط9، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2005.

المراجع:

_أغنية القطار الشبح أو الحبل المتهدل، فرناندو أرابال، تر: محمد السرغيني، سلسلة من المسرح العالمي، وزارة الإعلام، الكويت، 1986.

_رسالة إلى الجنرال فرانكو، فرناندو أرابال، تر: عمار الأتاسي، دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع، دمشق، 2014.

_الأدب الإسباني في القرن العشرين، نيبيس باراندا ليتوريو ولوثيا مونيخو غوروتشاغا، تر: جعفر محمد العلّوني، الهيئة العامة السورية للكتاب-وزارة الثقافة، دمشق، 2014.

_Guernica and other plays, Fernando Arrabal, Translator: Barbara Wright, Grove Press, New York, 1986.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: جادالله قرموشة

اترك تعليقا