ماذا بعد الإنسانية؟

في هذا المقال يجادل روبرت جريفث حول المشاكل التي تحد من فاعلية المذهب الإنساني في الأخلاق.

نجد في عصرنا الحالي الكثير ممن لا يؤمنون بوجود إله على الإطلاق، وهؤلاء ينقسمون لنوعين: فمنهم ملحدون متحمسون لإعلان ونشر فكرهم، والنوع الآخر هم ملحدون لا يأبهون للأديان وأيضًا غير مبالين بتلك الحملات التي يديرها الملحدون والإنسانيون الجدد، والانغماس في مناقشات ومناظرات حول الدين ووجود الله، هم ببساطة قد تجاوزوا تلك الخطابات ولا يريدون الحديث عن وجود الله، نسبة هؤلاء “اللامباليون” تتزايد خاصةً بين أوساط الشباب فاهتمامهم بالمناقشات الفلسفية حول وجود الله لا تتعدى اهتمامهم بالجدل حول ما إذا كان الملك آرثر قد سحب السيف من غمده!

وعلى الرغم من أن تلك الفئة من الملحدين قد تخطت ذلك الجدل والنقاشات، إلا أن “الإنسانيون” على النقيض منهم لم يحسموا الأمر، ولا زالوا جالسين حول طاولة النقاش.

يظهر جليًا الرفض التام للدين بشكل عام أو خاص في الإعلانات والمؤتمرات التي تتحدث عن الإنسانية. فعلى سبيل المثال: إعلان أمستردام الذي صدّق عليه المؤتمر الإنساني العالمي في عام 1952 الذي جاء فيه أن الإنسانية “عقلانية” حيث نستنتج منها أنها ترفض إمكانية التدخل الإلهي. وتعبر منظمة Humanists UK (الجمعية الإنسانية البريطانية سابقًا) عن نفسها أنها “تجمع الأشخاص غير المتدينين معًا”. وأيضًا الكتّاب الذين يتبنون الإنسانية مثل ريتشارد نورمان، أو ستيفن بينكر، أو ستيفن لو، أو إيه سي جرايلينج لا يملوا مناقشة الحجج الفلسفية ضد الإيمان بالله.

لذا فإن الإنسانية تعرف نفسها بأنها حركة معادية للدين. ومن الطريف أن الله لا زال موجودًا بشكل ما، بمعنى أنهم لا يزالون بحاجة إلى الله؛ ليتمكنوا من المجادلة ضده!

يظن الإنسانيون أن حججهم المفترضة تلك “جديدة” لكنها في الحقيقة قديمة بنحو مائتي عام، ففي أوائل القرن الماضي تسبب الملحدون الجدد في صخب خادع، إلا أنهم قد استعانوا بحجج قد طرحها أسبقون في القرن الثامن عشر أمثال بارون دي هولباخ، أو ديفيد هيوم الأكثر منه شهرة. وظنوا أن النظريات العلمية الحديثة مثل نظرية التطور والانفجار العظيم تحطم المعتقدات الدينية، مع ذلك فنظرة إلى الفلسفة والعلم حتى عام 1770 نجد أن الحجج ضد الإله والآلهة قد انتهت بالفعل أمام كتّاب ومفكري هذا العصر.

إعلان

على أية حال فـإن التاريخ يعيد نفسه فيما يتعلق بهذا الجدل، فالهجوم الحالي على الدين والذي يستند إلى النظريات العلمية الحديثة يشبه كثيرًا ما حدث في القرن الثامن العشر، فاليوم قد طوّر الطرفان الجدل والمناقشة بما يتناسب مع مستجدات العصر مما جعل طاولة الجدل قائمة إلى اليوم وهو ما يتجنبه الملحون اللامباليون ويرون ألا نهاية له، لذا قرروا ترك كل شيء وراءهم، ونسيان كل من الله وأولئك الذين يبدو أن جل همهم هو المجادلة بأنه لا يوجد إله، وهذا يشمل الإنسانيين.

الإنسانيون والأخلاق

لا يقف الإنسانيون عند الإلحاد فحسب بل يستمرون إلى ما بعده، فهم بعد الانتهاء من الجدال حول وجود الله يفكرون ويفسرون كيفية حياة البشر بعد التخلص من الإيمان، أي أنهم ليسوا كمن يكفر ليعيش حياته كما شاء كشخصية “ميرزولت Meursault” في رواية أبرت كامو “الغريب L’étranger” (1942). فميرزولت يعد مثالًا جيدًا للامبالاة وفلسفة العبث فهو ملحد، وحتى لا يهتم بالحجج التي تدّعي عدم وجود الله، وهو شخصية مخيفة إن تجسد كإنسانيّ فهو يعتبر الوجود أمرًا سخيفًا ويتصرف على هذا الأساس.

لا تتبنى الإنسانية فكرة أن الوجود سخيف بل هي كما وضّحنا سالفًا بعد التخلص من الدين بما يرضيها، فإن المهمة الإنسانية التالية هي إقناعنا بأنه لا يزال بإمكاننا أن نعيش حياةً ما “ذات معنى”.

تريدنا الإنسانية بالتأكيد أن نأخذ الحياة على محمل الجد، وأن نهتم خاصةً بالإنسان الآخر. ومن أجل حملنا على القيام بذلك تقترح أخلاقيات، فجاء في إعلان أمستردام أن الإنسانية “أخلاقية”.

جزء من أن تكون إنسانيًا هو أنك بعد أن رفضت وجود الله، ما زلت تسترشد وتعيش بقانون أخلاقي. لكن أليست واحدة من الصعوبات الرئيسية التي يعاني منها العديد من الناس مع الدين هي بالضبط فكرة أن يطبّق عليهم الحكم الأخلاقي؟ لذلك يشير الإنسانيون إلى أن القوانين الأخلاقية للديانات هي عقوبات “خارجية” على البشر من قبل الإله، وأن المطلوب هو قانون أخلاقي صادر من البشر وإليهم. ففي إعلان أمستردام أن “الأخلاق جزء لا يتجزأ من الطبيعة البشرية”، لكن مفهوم أن الأخلاق هي جانب فطري من الطبيعة البشرية وشيء يولد به الجميع هو ادّعاء غير مثبت، فهنالك أدلة من مراكز بحثية مثل Yale Baby Lab أظهرت تفضيلات بين الأطفال في الدمى وتجارب لما يُسمى بالدمى “الجيدة”، فمن الواضح إلى حد ما أن المفاهيم الأخلاقية يتم تعلمها في الغالب، وبما أنه يتم تعلمها في الغالب فنخلص إلى أن الأخلاق تتطور إلى حد كبير بما يتماشى مع العوامل والظروف الاجتماعية، والتي تتمثل في العائلة والأصدقاء والمدارس وتطبيق القانون والنظام ووسائل الإعلام، مما يؤدي إلى أنظمة أخلاقية متباينة على نطاق واسع في جميع أنحاء العالم.

يرى الإنسانيون بأن هناك جوهرًا للأخلاق في كل إنسان، ويختلفون بشدة حول نوع الأخلاق التي يرغبون في الترويج لها باعتبارها جوهرًا؛ وأدى هذا الاختلاف إلى وجود وجهات النظر الأخلاقية، وتستند هذه الفكرة على أن بعض الأشياء صحيحة أو خاطئة في حد ذاتها، ومن واجبنا الاستجابة لذلك؛ على سبيل المثال، يؤكد إعلان أمستردام على “قيمة وكرامة واستقلالية” الفرد، ويتبنى وجهة نظر أخلاقية قالها إيمانويل كانط (1724-1804) أنه لا يجوز استخدام الناس كوسيلة لتحقيق الغايات فهم أنفسهم “الغايات”. وهذا يتعارض مع فكر آخر مثل النفعية، حيث يكون الهدف الأخلاقي الأهم هو تعظيم السعادة أو الرفاهية. هنا البشر ليسوا “غايات في حد ذاتهم” من وجهة نظر النفعية، وبالمثال الآتي يتضح مفهوم النفعية: هناك أوقات يكون علينا فيها التضحية بإنسان بريء من أجل هدف نزعم أنه أسمى، حيث يقبل النفعي أن يقتل طفلًا إرهابيًا كوسيلة لقتل إرهابي، إن أدى ذلك إلى خير أكبر بكثير، بالتأكيد لن يكونوا سعداء بذلك؛ ولكن يمكنهم تقبل الأمر.

في كتاب “التنوير الآن- Enlightenment No” (2019)، يسعد ستيفن بينكر بفكرة النفعية في صلب الإنسانية، بل ويرى أنها الأخلاق التي تعظم ما أسماه “ازدهار الإنسان”. وعلى النقيض في “عن الإنسانية “On Humanism (2012) نرى ريتشارد نورمان غير مرتاح لأخلاق النفعية، ويميل أكثر لأخلاق الفضيلة حيث تؤكد أخلاق الفضيلة على دور الإنسان لتبني الفضائل الأخلاقية مثل اللطف والصبر، والشخص الفاضل لديه إحساس أكثر دقة بما هو صواب وخطأ تبعًا للظروف. كما ترفض أخلاق الفضيلة النفعية لتعارض أهدافهما.

نستنتج أنه لا يوجد موقف واحد متفق عليه من “الإنسانية” لمفهوم الأخلاق. لذا فمن الخطأ أن يقول بينكر إن الإنسانية هي “التزام أخلاقي مميز” (ص 412). لذلك فأفعال من يتبنى الإنسانية تعكس فقط رؤيته واعتماده على فلسفة أخلاقية معينة خاصة به ولا تعكس كونه إنسانيًا أم لا؛ لأن مفهوم الأخلاق في الإنسانية متضارب وغير موحد.

ولتجنب هذا الخلاف حول الأخلاق غالبًا ما يدّعي الإنسانيون أن الأخلاقيات الإنسانية هي نظام ليبرالي إلى حد ما ويسمح بمجموعة من الخيارات المتنوعة لتبني مواقف وفلسفات مختلفة. فنورمان مثلًا لا يعتقد أن الإنسانية هي عقيدة وبالتالي لا تلزِم وجود عقيدة أخلاقية، بحجة أن الإنسانية تتفاوت وتتعدد بين من يتبناها. ففي رؤيته للفضيلة، حيث يجاهد المرء ليصبح النسخة الأكثر فضيلة من نفسه، ويناقش نورمان (كما ناقش أرسطو ذات مرة) بأنه يمكننا أن نصبح فضلاء من خلال نمذجة حياتنا على نماذج فاضلة موجودة. يقترح نورمان نفسه نموذجًا للعالم والكاتب “بريمو ليفي” الذي أدرج تجاربه في النجاة من المحرقة في روايته ومذكراته “إن كان هذا رجلاً If This Is A Man” (1947).

ليس يوجد ما يمنع إن أردت اتباع فلسفة نورمان بل ربما يكون هذا أفضل ما يمكن القيام به، رغم ذلك فإنها لا ترقى أن تكون قانون أخلاقي إنساني. فهل تدعو الإنسانية لمجرد تقليد حياة بريمو ليفي؟ لا، بل إن الإنسانية تهتم لأمرين فقط: ألا يؤمن الإنسان بالله، وأن يكون عقلانيًا وأخلاقيًا.

في “حجة الله – The God Argument  2014″ نرى جرايلينج أيضًا مرتاحًا إلى حد ما بشأن المفهوم الأخلاقي الذي تقدمه الإنسانية، لكنه يحاذر الوقوع في فخ الترويج لقواعد أخلاقية مقيِّدة بشكل مفرط، فنجد أنه يختار الأخلاق الإنسانية اعتمادًا على “القيم والأهداف” للمرء بينما يراعي في ذات الوقت “واجبه تجاه الآخرين”، ويقترح اللطف والكرم والخير والعدالة كفضائل، وتلك الحدود الفضفاضة تترك أمام الإنسانية حرية ومساحة كبيرة لمناقشة الأخلاق والأفعال.

الإنسانيون وغير الإنسان

إحدى العقبات أمام الإنسانية كموقف أخلاقي -بعيدًا عن كيفية تعريفها بشكل عام- هي تركيزها المطلق على البشر، ونحن الآن أمام نشاط بشري يهدد النظام البيئي والحيوي، لكن موقف الإنسانية سلبي وربما يُنظر لها أنها فكر قديم لا يواكب تحديات الحاضر.

فالإنسانية التقليدية -من النوع الذي قدمه مفكرو عصر النهضة مثل بيكو ديلا ميراندولا في كتابه الشهير عن كرامة الإنسان (1486) تسرد بغلو وبلاغة ليست مبررة الآن “معجزة الإنسان”. لكن هذا العصر يظهر فيه جليًا ما تسبب فيه هذا الإنسان للكائنات الحية الأخرى والتوازن الطبيعي، نحن المعاصرون بتنا ندرك بشكل متزايد الضرر الكبير الذي يلحقه البشر بالكائنات الحية الأخرى. وقد نشر بيتر سينجر (وهو نفسه إنسانيًا) أعمالًا مؤثرة مثل “تحرير الحيوانAnimal Liberation، ونحن ندرك الآن أننا بحاجة إلى تغيير نظرتنا وتفكيرنا في هذه المخلوقات والتعامل معها، وهذا ما أهملته الإنسانية.

يدرك الإنسانيون صعوبة تطوير موقف أخلاقي يستوعب كل ما غير البشر، حيث يعترف إعلان أمستردام “باعتمادنا على الطبيعة ومسؤوليتنا تجاهها”، مما يعني الاهتمام بكل النظام البيئي والحيوي. لذلك يتم حث البشر على تبني سلوك أخلاقي يحمي الطبيعة والكائنات الحية.

لكن الصعوبة التي تواجه الإنسانية هو موقفها الأخلاقي حيث البشر ومصالحهم هم العوامل المحددة الرئيسية للعمل المقبول أخلاقيًا، فكانط على سبيل المثال اعتقد أن السبب الرئيسي لعدم القسوة على الحيوانات ،هو أن القيام بذلك سيجعلك قاسيًا على البشر الآخرين.

يظهر جليًا أن مظلة الإنسانية غير واسعة بما يكفي لتستوعب موقفًا كموقف توم ريغان في “قضية حقوق الحيوان The Case for Animal Rights2004 والذي يؤكد أن للحيوان قيمة وحقوقًا بعيدًا عن منفعة ومصالح البشر، وإن اعترفت الإنسانية بذلك فهي تخرج من مفهومها الضيق الذي يركز على الإنسان فقط، وربما حينها سيتوجب توسيع هذا المفهوم لما قد نسميه “العاطفية” والذي بموجبه يعطي لكل الكائنات الحية قيمة وحقوق مستقلة عن الإنسان وسيكون لهذه الاخلاق والمفهوم الجديد تأثير كبير على “ازدهار الإنسان”.

الأمر الغريب هو قلة الاهتمام الذي يوليه كثير من الإنسانيين لهذه القضية المهمة. ففي مناقشة موجزة حول وضع الكائنات الحية، تحدث نورمان عن الالتزامات والمسئولية تجاهها، مما يتيح لهم عيش “حياة خالية من الألم” وتجنب “إلحاق معاناة لا داعي لها”، وأن نعارض ممارسات الزراعة القاسية والتجارب المعملية غير الضرورية.

قليل من الإنسانيين قد بادروا لمناقشة هذا الأمر، لكن السؤال المهم الآن هو لماذا يجب أن نفعل هذه الأشياء؟ ما هي طبيعة التزاماتنا تجاه الكائنات الأخرى بالتحديد؟ نجد أن نورمان يعطي وقتًا أقل بكثير لهذه التساؤلات المهمة مقارنة لما يعطيه لمناقشة أشياء مثل وجود الله. ومن الجدير بالملاحظة أن بينكر يتجنب تمامًا مناقشة وضح الكائنات الحية وموقف الإنسانية منها، ويذكر فقط أن “الإنسانية لا تستبعد ازدهار الحيوانات” (ص 410). لا يمكننا الجزم إن كانت الإنسانية الآن قاسية أو مجرمة في حق الكائنات الحية، ولكننا نعلم أن أي نظرة تنكر القيمة المستقلة (وبالتالي الحقوق) للحيوانات من المحتم ألا تكفل الرحمة للحيوانات.

قد يعجبك أيضًا

نظرة للواقع الآن فإننا نرى بعض الإنسانيين لا يهتمون كثيرًا بوضع الكائنات الحية الأخرى (ناهيك عن الطبيعة والنظام البيئي)، فنورمان على سبيل المثال وهو مؤلف وثيقة بعنوان “أن تكون جيدًا Being Good” -وهي متاحة على موقع الجمعية الإنسانية البريطانية- تهتم هذه الوثيقة بكيفية عيش الإنسان حياة ذات معنى بمجرد أن يتخلى عن المعتقد الديني، هي في الأساس نوع من الدليل العلاجي للمؤمنين المهملين أو المحبطين (مثل معظم الكتابات الإنسانية). وهي تعكس الإنسانية المعاصرة ككل، وتظهر مركزية الإنسان بطريقةٍ غريبة جدًا كما لو كانت تتجاهل الطبيعة والكائنات الحية بها. هناك اهتمام غير حيادي بقضية عدم الإيمان بالله وآثارها على الإنسان والتأكيد على أن حياة المرء ستظل ذات معنى بعدم وجود الله، أما قضية حقوق الحيوان، والقضايا البيئية فليس لها وجود فتلك الوثيقة!

وإلى هنا، فالإنسانية كفكر قديم من القرن الثامن عشر لا زال غير متكيف مع العصر ومستجداته ولا زال بعيدًا عن القضايا التي تشغل أجيال اليوم، فالأجيال الشابة اللامبالية لا تأبه بدحض الإيمان ومناقشة وجود الله بل باتت الطبيعة والبيئة والكائنات الحية تهتمهم أكثر، بينما تقف الإنسانية وفلسفتها عاجزةً أمام جذب تلك الأجيال برغم زيادة أعدادهم.

ولأن الإنسانيين لا زالوا منهمكين في قضايا لا تمت للقضايا المهمة المعاصرة بصلة فيبدو أن الإنسانية تسير في ذات الطريق الذي سارت فيه المعتقدات الدينية غير المرنة لتلقى حتفها.

للمصدر

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: رنا داود

تدقيق علمي: ريهام عطية

ترجمة: إيمان خالد

اترك تعليقا