لغة الأرض .. هل تنتج اللغة من العقل؟

هل تنتج اللغة من العقل؟ النظرية الرومانسية تقول خلاف ذلك: تأتي الكلمات من الكون الذي يعبّر عن روحها

في حوار ضمن مهرجان هاي (Hay festival) المنعقد في ويلز في شهر أيار من هذا العام، ذكر الشاعر الإنجليزي سيمون أرميتاج ملاحظةً لافتةً للنظر. وفي معرض مناقشته لطبيعة اللغة وقدرتها على وصف تجارب الحياة، قال: “أشعر أن الكثير من اللغة التي نستخدمها، خصوصًا لغة الشعر، تأتي مباشرةً من الأرض”. كان أرميتاج يضع نفسه ضمن تفسيرات التقاليد الرومانسية لأصول اللغة التي تجادل بأن الكلمات والقواعد ليست مجرد اختراعات عشوائية لأدمغة البشر وعقولهم، ولكنها بطبيعتها ذات صلة بالبشر والكون نفسه. اللغة هي مدخلٌ ممتازٌ لفَهم الكون، لأن اللغة تنبع من الأشياء التي تصفها.

وانطلاقًا من طبيعة عمله كلغويّ، أيَّدَ الفيلسوف الإنجليزي أوين بارفيلد -عضو في أكسفورد إنكلينجس وهي مجموعة نقاش أدبية غير رسمية مرتبطة بجامعة أكسفورد في الثلاثينات والأربعينات- الاعتقاد الرومانسي، ويُجادل بأن الكلمات لها روح وتمتلك حيويةً تعكس الحياة الداخلية للعالم، وأن هذا الرابط الذي تعبّر عنه جميع أشكال اللغة ضمنيًا هو مصدر قوتها. ويمكن القول أن الشعراء أكثر انتباهًا لذاك الرابط كونهم يدركونه ويسعون لإظهاره.

إنها نظرةٌ ثاقبةٌ ذات دلالات جوهرية على نظريات حول أصل اللغة، ويعود ذلك في المقام الأول لكون الفرضيات السائدة في العلم الحديث تعتبر الكلمات مختلفة من ناحية كونها علامات بلا روح تعمل كتسميات للأشياء والرموز التي تسهّل الفهم الإدراكي. يلخّص عالم النفس التطوري الإنجليزي روبن دونبار النهجَين الرئيسيين: “من الناحية التاريخية، كان الإجماع هو أن اللغة تطورت للسماح للناس بتبادل المعلومات الواقعية حول العالم المادي، لكن ثمة وجهة نظر بديلة هي أن اللغة تطورت -على الأقل عند البشر المعاصرين- لتحسين الروابط الاجتماعية”. باختصار، ظهرت اللغة كما نعرفها بسبب ما يمكن أن تقدمه للنوع البشري من منافع. كما زادت من فرص أسلافنا في البقاء على قيد الحياة بتمكينهم من الصيد بشكل أكثر نجاحًا أو التعاون على نطاق أوسع؛ كون اللغة تعني أن الأمور يمكن تفسيرها وأن الخطط والخبرات السابقة يمكن مشاركتها بكفاءة.

ومع ذلك، فإن هذه المنافع لا علاقة لها بروح الكلمات، خصوصًا عندما تعزو الكلمات الشخصيات أو الأشياء إلى ظواهر، مثلًا بوصفنا الرياح بأنها “عليلة” أو الجبال بأنها “شامخة” فإنها لا تعكس الحياة الداخلية للعالم ولكن تفتعل ذلك. إذ أن مثل هذه الاستعارات تضيف لونًا
للحياة لكنها خياليةٌ ومخترَعةٌ في الأساس، وكثيرًا ما تؤدي إلى استنتاجات خاطئة عن الواقع حتى لو افترضنا أن الريح هي روح أو أن جبل هو إله. ويعد المؤرخ الإسرائيلي يوفال نوح هراري من أبرز المدافعين عن هذا الرأي قائلًا: “السمة الفريدة حقًا للغتنا هي القدرة على نقل المعلومات حول الأشياء التي لا وجود لها على الإطلاق”، كما يذكر في كتابه الأكثر مبيعًا “تاريخ الجنس البشري المختصر”: “إنّ القدرة على التحدث عن أحداث خيالية هي الميزة الفريدة من نوعها للغة البشرية”. وانطلاقًا من وجهة النظر هذه، فإن اللغة لا تأتي من الأرض بل من العقول البشرية.

ويدَّعي كلٌّ من دانبار وهراري ما يمكن أن يُطلَق عليه “الفرضية الإيمائية” عن أصل اللغة. تشير هذه الفرضية إلى شيء من هذا القبيل؛ إنَّ البشر الأوائل أو ربما أسلافنا القدامى بدؤوا يشيرون إلى الموز أو الأُسود ويطلقون أصوات عشوائية، والتي أصبحت فيما بعد علامات، في عملية مشابهة لمختبرات تدريب الشامبنزي على علامات مثل “حذاء” أو “تناول الطعام” ليصبح قادرًا على التعرف عليها بعد تدريبات تدريجية وعلى مدى سنوات عديدة.

إعلان

ثم ومع استمرار البحث في هذه الفرضية، كانت هناك ثورة معرفية أو “قفزة كبيرة إلى الأمام” كما يسميها عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي جاريد دياموند في كتابه “أسلحة وجراثيم وفولاذ”. مما أدى إلى امتلاك الدماغ الورقة الرابحة في القضية، الأمر الذي أحدث نقلةً في الطريقة التي ننظر فيها إلى تطور بعض العلامات، لتصبح أكثر ارتباطًا بتفاصيل الكلام وقواعد اللغة. مما سهَّل سلامة اللغة  لتساهم في عمليات مثل: حل المشاكل، والبقاء على قيد الحياة، والتصرفات العملية. كان ذلك مثل إعطاء العقل الأولوية والقوة بحسب ما قال العالم المعرفي الكندي-الأمريكي ستيفن بينكر في كتابه غريزة اللغة (1994).

بعد مرحلة القواعد، جاءت الاستعارة في فترة يطلق عليها أحيانًا “مرحلة الاستعارة” حيث بدأ الدماغ البشري النامي في تحقيق دلالات وهمية من الكلمات التي أوجدها للأشياء المادية، وفي استخدامها لتسمية المشاعر غير الملموسة، وتباعًا، في تشكيل الحقائق الروحية غير المادية. حيث يبدو الأمر كما لو أن مجموعة كبيرة من شعراء ما قبل التاريخ عملوا سويّة من أجل استحداث دلالات إبداعية تنتشر في جميع أنحاء العالم.

إن الخيال في هذه المرحلة هو جزء أساسي من النظرية الإيمائية، التي تفترض بشكل عام أن البشر الأوائل كانوا مؤمنين بالخرافات إلى حد كبير، ولذلك قاموا باختلاق قصص خاطئة حول طبيعة الواقع. فهم ظنوا أن الرياح كانت أرواحًا، أو الجبال كانوا الآلهة، ويُفترض أنهم قاموا بربط هذه الدلالات معًا من خلال أحلام اليقظة والأوهام، والتي في كثير من الأحيان ساعدتهم على البقاء على قيد الحياة إذ أنه من الأفضل الاعتقاد بأن الأوراق في البستان تتحرك بسبب وجود شيطان ومن ثم الفرار، بدلًا من عدم الفرار والتعرض لخطر حيوان مفترس قد يكون حرّكها. يفسر هذا النوع من الافتراضات كيف أن معنى كلمة pneuma في اللغة اليونانية القديمة “روح” و”ريح” وأحيانًا “نَفَس”؛ فاشتراك الكلمات في معنى واحد أمرٌ شائع في اللغات القديمة.

وأخيرًا جاء دور الأدب؛ عندما تم تخصيص الكلمات لتعبر بشكل رئيسي عن مشاعر الإنسان وحالته النفسية. هذه هي الحالة الأكثر دراماتيكية التي نعرفها عن تلك الظاهرة الاستثنائية المسماة “الوعي”، والتي انبثقت بطريقة ما عن كون غير واعٍ.
من الجدير بالذكر أن العديد من تفاصيل المسار المتّبَع من قبل هذا النوع من تطور اللغة يحظى بمنافسات عديدة مع بعض الذين يعملون في المجال، معترفين جميعهم بأن أصول اللغة في الحقيقة تظل غامضةً مثل أصول الحياة. لكن لا يزال هناك افتراض واسع الانتشار أن الكلمات واللغة ظهرتا في مسار تطوري، على الأقل مثل ما تشير إليه الإيمائية أو أي شيء من هذا القبيل.

تشير النظرية الرومانسية إلى مسار بديل. حيث يجادل مؤيدوها (الأقلية المعترَف بها) بأن الفرضية الايمائية لا تضيف شيئًا نظريًا وأن الكثير من الأدلة تقف ضدها. فهنالك اعتراض منطقي واضح: إذا كانت اللغة في الأصل وسيلة للتحدث عن الخيال، من الذي يقول إن ما نتحدث عنه الآن -بما في ذلك العلم- ليس في حد ذاته كذبة تفصيلية؟ وبالتالي، فإن العلم لا يعد فعالًا لأنه صحيح، بل لأنه يوفر للمجتمع التكنولوجي خطابًا مشتركًا يسهل الارتباط الاجتماعي والبقاء على قيد الحياة من خلال المنتجات. باختصار، إذا خُدعنا بخصوص أصل اللغة فسوف يفيض العلم بالأوهام أيضًا. أو بعبارة أخرى، فإن النظرية الايمائية تضر بالأساس الذي تستند عليه.

اكتشف بارفيلد في عمله كعالم لغوي، أن الكلمات في أصلها لا تشير أبدًا إلى الأشياء المادية وحدها أو تعمل كرموز عشوائية. فلم تتواجد  “مرحلة الاستعارة” في اللغة، وقد يعود ذلك لحقيقة أن الكلمات لم تكن جرد علامات بل نتاج الإيماءات والهمهمات. تبدو الكلمات وكأنها امتلكت كل من المعاني المادية والداخلية، وكان لديها مهمة شعرية متأصلة أيضًا. وقد كتب بارفيلد في كتابه “إعادة اكتشاف المعنى” : “لم يلاحظ الإنسان الأول الطبيعة بالطريقة المنفصلة التي ننظر بها الآن. لقد كان جزءًا من عملياتها الداخلية والخارجية قلبًا وقالبًا”. كما وأنه ليس العالِم الوحيد الذي لاحظ ما سبق؛ حيث أيّده مفكرون آخرون مثل الأمريكي رالف والدو إمرسون – المُؤيِّد للفلسفة المتعالية- والفيلسوف النفعي  جيريمي بينثام.

فلخّص بنثام الأمر كما يلي في مقاله عن اللغة المنشور بعد وفاته (1843): “في جميع أنحاء مجال اللغة، بالتوازي مع ما يمكن أن يطلق عليه اللغة المادية يوجد خط يمكن أن يسمى لغة غير مادية. فلكل كلمة أصل غير مادي حيث تنتمي، أو على الأقل أصل آخر مادي”.
كلمة Pneuma تعتبر مثالًا على كلمة قديمة كان لها في الأصل معنى مادي وغير مادي. لكن ضع في اعتبارك مثالًا آخر: الكلمة القديمة جدًا “القلب” – cardium في اللاتينية، kardia في اليونانية وما سبقها.  فلهذه الكلمة في عصرنا الحاليّ معنيان مختلفان؛ أحدهما يشير إلى عضو مادي، شبيه بمضخة ويوجد على الجانب الأيسر من تجويف الصدر، والآخر يشير إلى الشعور، كما هو الحال في قولنا “القلب الدافئ”، “القلب البارد”، “القلب الرقيق”، “القلب القاسي”.

وتدّعي الفرضية الإيمائية أن المعنى الثاني مجازي أو وهمي، أي أنه إضافة لاحقة للمعنى المادي الحرفي للكلمة. ولكن ما تشير له الأدلة هو خلاف ذلك؛ فالمعنى الذي يشعر به الإنسان قديم قِدم الكلمة نفسها؛ لأنه بحسب الاستخدام القديم لا يعتبر القلب كمضخة ولكن كمصدر للعواطف، بينما يعتبر المعنى الميكانيكي -والمعروف هذه الأيام-  نتيجة لاحقة؛ إذ لم يُعرف القلب كمضخة حتى أوائل القرن السابع عشر، وذلك بعد اكتشاف الطبيب الإنجليزي وليام هارفي للدورة الدموية (الذي أصرَّ على اعتبار القلب عضوًا روحيًا).

وبالتالي، فإن الكثير من الأدلة تشير إلى أن تطور اللغة يسير في الاتجاه المعاكس للفرضية الإيمائية، وهذا لا ينفي وجود معانٍ ضمنية منذ البداية، فهذا أمر منطقي بطريقة أخرى لأنه إذا أيدنا التاريخ اللغوي لتحول الدلالات الحرفية إلى تعبيرات مجازية وهمية، فقد نتوقع أن نجد أساليب استعارة أقل في أعمال هوميروس – المؤلف الأسطوري للإلياذة والأوديسة وهي قصائد ملحمية ذات قيمة هامة في الأدب اليوناني القديم- وأساليب استعارة أكثر في أعمال فرجينيا وولف – كاتبة إنجليزية وواحدة من أيقونات الأدب الحديث للقرن العشرين ومن أوائل من استخدم تيار الوعي كطريقة للسرد- وهارولد بينتر – الكاتب المسرحي البريطاني ذو اسلوب يتسم بالغموض – لكن هذا ليس صحيحًا.

ويمكن دحض هذا الرأي المُخالف؛ فمن الصعب العودة أكثر من بضعة آلاف من السنين لتتبع تطور الكلمات مباشرة. ولكن ثمة سبب آخر يمكن أن يساهم في رفض الفرضية الإيمائية؛ وذلك من خلال إدراك طبيعة الاستعارة، فيُلاحَظ عدم وجود فائدة مرجوّة من وجود تشبيه أو استعارة ذات معانٍ دلالية أو إيحائية لشخص واحد فقط. لنقل مثلًا أنني أريد تشبيه حبيبتي بالباذنجان، فسيبدو ذلك وكأنني أتحدث عن هراء؛ الأمر الذي لن يحدث إذا قارنت حبيبتي بالقمر. وهذا يعني أنه إذا كانت الاستعارات في أصلها مجرد أوهام في دماغ شخص واحد -وبالتالي تكون فوضوية ومحدودة- كيف يمكن أن يقوم باقي الأفراد بإدراكها؟ بالإضافة إلى أننا لو افترضنا أنها كذلك، فعندئذٍ سنكون جميعًا نتحدث بلغاتنا الخاصة.

لذلك تؤثر الاستعارات على البشر كونها ترقى بالحياة الداخلية للإدراك الواعي من خلال الجمع بين المعاني المبتكرة التي توحي بالجوهر الشعري للكلمات وللعالم. في مسرحية هاملت، يكتب شكسبير عن الصباح وكأنه “عباءة ذات قماش خشن خمري اللون” الذي يغطي ” تل يون الشرقي المرتفع”. استعارة مثل هذه من الممكن أن يتم إدراكها في حال كنا نعرف ما هو الصباح وما هي العباءة الخمرية حتى يتم الربط بينما بطريقة منطقية ذات معنى، لكن هذه التركيبة التي نجهل نصف معناها تفترض -بحسب الاعتقاد القديم- أن الأشياء غير تامة المعنى فهي غير تامة الإدراك، لو نتساءل ببساطة: “هل يمكننا وصف الصباح كعباءة خمريّة؟”، وقبل التسرع بتأييد التشبيه، حريٌ بنا أن نعلم أن شكسبير هنا لا يخلق معانٍ أو دلالات جديدة للصباح، بل يكشف شيئًا عن المعنى الضمني للصباح والذي يخفي داخله الظلال والنور والشمس.

لنعد النظر في المعنى المزدوج بين “الريح” و “الروح”، وفي الافتراض القائل أن أسلافنا كانوا قد شعروا أولًا بالريح ثم استخدموا نفس الكلمة للإشارة إلى الروح من خلال زيادة شمولية الكلمة. الأمر الذي يطرح السؤال التالي:  لماذا لم يكن لديهم كلمة تشير لـ”روح” إذا كانوا مؤمنين بالخرافات؟ وبشكل أكثر تحديدًا، يركّز السؤال على كيفية تحول كلمة “الريح” ذات المعنى الحرفي “النسيم” والذي تستشهد بها النظرية الإيمائية، لتصبح استعارة تستخدم على مستوى عالمي للإشارة “للأرواح غير المادية”. من المستحيل الاعتقاد بأنه لا يوجد تقارب تلقائي بين مفهوم “الريح” ومفهوم “الروح”، وهذا هو السبب في وجود رابط بينهما، فيجب أن تكون الكلمتان قد أضيفتا لقاموس البشر في ذات الفترة الزمنية.

وإن كان الأمر كذلك، فهذا يعني أن أصول اللغة غير مرتبطة بإيماءات وعلامات تشير إلى الأشياء؛ بل إن الكلمات الأولى للإنسان دائمًا ما حملت المعاني الداخلية والخارجية التي اكتشفها أسلافنا في الطبيعة وصاغوها بوضوح عندما بدؤوا الكلام، فهي رموز انتقلت إلينا من عصور ما قبل التاريخ. ولم ينقسم قطبَي المعنى -المادي وغير المادي- إلا بعد ذلك، عندما توقف أسلافنا -على أعتاب زيادة وعيهم العلمي- عن تجربة العالم بالطريقة الطبيعية واللجوء لفرض الثنائية الحديثة.

تظهر حاجة جليّة لوجود نظرية بديلة لتطور اللغة. وكما يكتب عالم البيولوجيا الإنجليزي سايمون كونواي موريس في كتابه “أساطير التطور” فإن التفسيرات السائدة لأصول اللغة غير كافية؛ لأنها في الأساس نفعية ومادية. حيث سيكون من الأفضل أن نخمن ماذا تخبرنا اللغة نفسها، إذ تحمل اللغة معانٍ لأن الشِعر الناتج عنها يمكِّننا من إدراك تراكيب أعمق للواقع. ونظرًا لأن الكلمات تنقل حيوية العالم الطبيعي، فهي تمتلك روحًا تمامًا كما تمتلك الطبيعة روحًا. ورغم كل هذا، فإننا في هذه الأيام نكافح من أجل أن نشعر بهذه المعاني في حين أننا نميل إلى عدم التصديق بها، هذا التوجه في الشعور هو الخسارة التي قال عنها الكاتب الإنكليزي روبرت ماكفارلين في كتابه “المعالم”: “إن ما نفقده حقيقةً أثناء الإلمام بالقراءة والكتابة هو شيء ثمين: نوع من سحر الكلمة، والقوة التي تمتلكها بعض المصطلحات لجعل علاقتنا مع االطبيعة والأماكن علاقة سحرية”.

في المقابل، تقدم التفسيرات الداروينية الضيّقة أوصافًا غير كافية لتطور اللغة؛ لأنها تتجاهل ما يؤدي إلى تطورها حقًا، وهي الطريقة التي تتفاعل بها الكلمات والقواعد النحوية مع الأشياء الموصوفة والخبرات المشتركة وتتولد منها في نفس الوقت. أما المفكرون الذين لا يقعون في فخ التقاليد المختصرة فإنهم يضعون احتمالات بديلة بشأن تطور اللغة. لا نختلف على أن التفاصيل غير ثابتة و مُختلف عليها لكن بشكل عام؛ يبدو الأمر  مثل ما وصفه عالم الاجتماع الأمريكي روبرت بيلاه في كتابة تطور الإنسان “Offline Theory”.

كان على أسلافنا القدامى قضاء الكثير من وقتهم “أونلاين” أي انه كان يجدر بهم قضاء المزيد من الوقت في أنشطة مثل جمع الطعام ومواجهة الصعاب والهرب منها وتجاوزها. ولكن بحسب الأدلة، حظَوا بكثير من وقت “الأوفلاين” حيث مارسوا بكثرة بأنشطة مثل اللعب كما تفعل العديد من الحيوانات الأخرى، أو شاركوا في الطقوس وأنتجوا الموسيقى -تشير الأدلة إلى أنهم مارسوا النشاطات السابقة بكثرة. إضافة إلى النوم الذي يستغرق عادة حوالي ثلث اليوم.

من المثير للاهتمام حول أنشطة الأوفلاين أنها لا تتلاءم بسهولة مع الأطر الداروينية الأرثوذكسية للفهم؛ لأنها لا تبدو أنها تحقق ميزة تكيفية كبيرة. فكلٌّ من اللعب وممارسة الطقوس والموسيقى والنوم لا تقدم أي فائدة تُذكر، بل يمكنها حتى أن تعرّض بقاء الكائنات التي تماريها للخطر. وبسبب عدم الانسجام التكيفي يميل علماء النفس التطوريون إلى وصف ظهورهم على أنه “غير مفهوم بشكل جيد”. فبدلًا من ذلك، يمكن القول بأن هذه الأنشطة ليس لها أي جدوى (أو كما يسميها بينكر بـ “التشيز كيك الناطق/ البساطة اللفظية” بل تعمل على تحفيز الأنشطة الأخرى التي تساعد على البقاء.

ترفض المدرسة الرومانسية هذه التفسيرات باعتبارها  ترهات غير منطقية؛ فيدَّعي رواد هذه المدرسة أن اللغة هي نشاط “أوفلاين” كذلك. فاللغة تختلف تمامًا عن الصراخ في وجه حيوان مفترس لإخافته أو التعبير عن الفرح عند إيجاد الطعام -يعد هذان النشاطان ضمن نشاطات “الأونلاين”. وكما يقول بيلاه، فإن اللغة ليست في الأساس تدخلًا في العالم المادي، لأن معظم الكلام لا يشير إلى الأشياء الموجودة بالفعل. كما وأن اللغة ليست الورقة الرابحة للعقل؛ لأن استخداماتها العملية محدودة. فكرة الأوفلاين لا تتمثل بالضرورة في عدم التكيف أو انعدام القابلية للتكيف أو النتيجة الثانوية لبدائل للتطورات التكيفية؛ أو ببساطة في عدم وجود تفسير أصلًا، كما لو أنها ظهرت في حيز الوجود بشكل مفاجئ في أعقاب فرصة الالتفات لدور الدماغ، بل لأن اللغة هي واحدة من تلك الظواهر التي نشأت عندما انخرط البشر في الحياة بدافع المساهمة في التطور الكبير لها والذين يشعرون بالانسجام الكبير فيه لا بسبب رغبتهم في البقاء على قيد الحياة، فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.

فإن كان هذا صحيحًا، فإن الطريق الذي يسلكه تطور اللغة مختلف تمامًا. أولاً، لم تكن هناك أية ايماءات أو علامات، في حين كان هناك موسيقى وطقوس شبيهة بما هو موجود في مجتمعات الحيوانات الأخرى، من عروض الأسماك، والزواحف، إلى ألحان الطيور والحيتان. علاوةً على ذلك، تتصرف هذه الكائنات بهذه الطريقة ليس فقط بغية نشر الموسيقى والمشاركة في الطقوس، بل ربما سعيًا لجذب شريك له بطريقة “أوفلاين” كما لو أن الانتقاء الجنسي يتطلب أيضًا حساسية جمالية. من المحتمل أن تشارلز داروين نفسه لاحظ وخمّن هذا، وأصبح مهتمًا بسلوك طير الأرجوس الأنثوي التي يبدو أنها تختار شريكها حسب عرض الذكور. إلا أن ملاحظات داروين دفعته إلى الاستنتاج بأن هناك الكثير من الأسرار في هذا التصرف أكثر من مجرد الاختيار، لأنه من الواضح أن ذكور الطيور كانوا يحاولون سحر والتأثير في الإناث، كانت الطيور من الجنسين تعيش المتعة الجمالية في رقصاتها. وقد كتب داروين في كتابه “نشأة الإنسان” : “سيعترف الكثيرون أنه من غير المعقول إطلاقًا أن تكون أنثى الطير قادرةً على تقدير التحركات في الظلال والأنماط الرائعة في رقصات الذكور، فمن المدهش أن تمتلك هذه الطيور هذه الدرجة من التذوق الفني البشري”. داروين نفسه لم يختلق كون هذه الظاهرة أمرًا لا يصدق، لكن الملاحظة الدقيقة لسلوك هذه الطيور جعلت ذلك شديد الوضوح.

ومن هذا الأساس، كانت الكلمات واللغة وليدة أنشطة مثل الموسيقى والطقوس. فمن المفترض أن هذا حدث بالتزامن مع تطور الذكاءات لأوائل البشر، ربما على الأقل الإنسان الأول، سامحًا للموسيقى والطقوس أن تتطور إلى قصص وأساطير، ربما في محاولة لاستكشاف الروح والرياح التي تملأ كل الأشياء. لم تكن اللغة مدفوعةً في مسار التطور بدافع الحاجة إلى البقاء في المقام الأول، بل بدافع الرغبة في المشاركة في حياة العالم الطبيعي. فمن المحتمل أن البشر الأوائل شعروا بأنهم منغمسين في العالم – وهي تجربة يتم تجربتها من خلال ممارسة الطقوس مثلًا. فعلى سبيل المثال لا الحصر، فكّر في قوة إضاءة شمعة أو ربط قطعة قماش حول شجرة مقدسة أو سماع مقطع شعري بليغ مؤثر، في مثل هذه الأوقات، ومثل هذه اللحظات، تندمج حياتنا الداخلية للحظات مرة أخرى مع الجوهر الداخلي العالم.

خِتامًا، بعد القصص والأساطير جاء الفكر كمرحلة أخيرة لتطور إلى الأدب، فعندما أخذت الكلمات -التي نشأت أصلًا من خلال المشاركة في الحياة الداخليّة للطبيعة- في الإشارة إلى معانٍ أكثر ارتباطًا بالطبيعة، من أجل الدلالة على التجارب العميقة للبشر، وفي نهاية المطاف إلى التجربة العميقة للوجود البشري نفسه. فتطورت “الرياح” لتدل على “الروح”؛ وأصبح “القلب” مضخةً عضوية.

يمكنك القول أن التطور لم يكن من الإيماءات إلى العلامات ثم إلى القواعد ثم إلى الاستعارة فالأدب. إن التطور نشأ من الموسيقى إلى الأسطورة ثم  إلى الفكر ثم إلى الأدب فالعزلة الروحية. إنها تلك اللفتة النهائية التي دفعت العلم الآن إلى افتراض أن الإشارات البدائية ظهرت قبل الشعر البدائي، وأن العلامات التي لا معنى لها ظهرت قبل استحداث الرموز الحية؛ وأن الاحتياجات العملية ظهرت قبل إدراك الحاجة للعلاقة بين البشر. لكن في الحقيقة، نشأت اللغة من الاندماج في الحياة. لخّص بارفيلد ذلك قائلًا: “كانت الاستعارات الأولى طبيعيةً أكثر من كونها مصطنعة”.

فإن كامن تلك النظرية نظرية أصولية، فإن لها تداعيات أصولية تقترح أن الكلمات التي جاءت لوصف الحياة الداخلية للبشر لم تكن لتتطور ما لم يكن الكون نفسه مليئًا بالأرواح. فالبشر الأوائل لم يكونوا مجرد متفرجين، لقد كانوا مشاركين يقظين في ذلك الوعي الأوسع. ويكمن اختلافهم عن المخلوقات الأخرى في القدرة الذاتية على نشر المعنى الذي شعروا به من حولهم. في كتاب “التاريخ والذنب والسعادة” خَلُصَ بارفيلد إلى أن تطور الكلمات “يعيدنا دومًا إلى فترة ثقافية حيث يكون هناك تداخل أكبر بكثير بين التفكير والإدراك مما هو الحال بالنسبة لنا اليوم”. أو كما أدرك ألكسندر فون هومبولت -أحد الشخصيات الرائدة في دراسة أصل العلوم الرومانسية- أنّ “الطبيعة في كل مكان تخاطب الإنسان بصوت مألوف لروحه”.

علاوةً على ذلك، فلأننا متجذرين في الطبيعة ونعد جزءًا  ماديًا ووهميًا منها يمكن الاستفادة من العلم. كما وأنّ فكرة ابتعاد العالِم عن الطبيعة وامتلاكه -في الوقت ذاته- القدرة على فهم المعاني هو ضرب من الخيال. قال هومبولت: “أنا شخصيًا منغمس في الطبيعة”. ولهذا السبب نشأت اللغة، إنها بالفعل تنبع من الأرض مما يجعلها تفيض قوةً وإدراكًا.

قد يعجبك أيضًا: هل يمكن أن يتحدث العالم بلغة واحدة؟

إعلان

مصدر مصدر الترجمة
فريق الإعداد

إعداد: أفنان أبو يحيى

تدقيق لغوي: أبرار وهدان

تدقيق علمي: راما ياسين المقوسي

اترك تعليقا