لا تقاوم: ظهور التكنولوجيا المسببة للإدمان

قراءة وتلخيص لكتاب آدم آلتر

في مؤتمر شركة آبل عام 2010، أمضى ستيف جوبز 90 دقيقة لاستعراض جهاز الآيباد وإمكانياته، من تطبيقات وموسيقى وتصفح للشبكة، شارحًا لماذا يجب على كل شخص أن يمتلك جهاز آيباد. ولكن في أواخر عام 2010، اعترف جوبز لصحفي النيويورك تايمز، نيك بيلتون، أنه لم يسمح لأطفاله قط باستعمال الآيباد.

لاحظ بيلتون بعدها نمطًا متكررًا. إيفان ويليامز، مؤسس تويتر ومدونات بلوغر وميديوم على سبيل المثال، اشترى مئات الكتب لطفليه، ورفض تمامًا أن يشتري لهما آيباد. والتر آيسكسون، كاتب سيرة ستيف جوبز، أخبر بيلتون بعدها أنه حين كان يتناول طعام العشاء مع أسرته، كان جوبز يتحدث عن الكتب أو التاريخ أو مواضيعَ أخرى، لم يخرج أيٌ  منهم جهاز آيفون أو آيباد. “لم يبدُ الأطفال مصابين بالإدمان على تلك الأجهزة على الإطلاق”.

صانع السجائر، لا يدخن!

الأمر مريب، وأنصحكم أن تقرؤوا مقالة بيلتون كاملة[1]. كان بيلتون يتوقع أن يكون منزل رواد التكنولوجيا أولئك مليئًا بالشاشات كمنزلٍ مستقبليّ، لكنه يقول أنهم لاحظوا شيئًا يبدو أن أكثرنا لم يلاحظه. فحسب تعبير كريس آندرسن:

أطفالي يتهمونني وزوجتي بأننا فاشيون ومهووسون بالتقنية، ويخبرونني أن أيًا من أصدقائهم لا يواجهون قوانين مماثلة لتقنين استخدام الأجهزة. لكن هذا لأننا رأينا مخاطر التكنولوجيا مباشرة، لقد لاحظتها في نفسي، ولا أريد أن أرى ذلك يحدث لأطفالي.

يحاول آدم آلتر –البروفيسور في جامعة نيويورك- في كتابه “لا تقاوم” (Irresistible)، يحاول أن يشرح الأسباب التي تجعل التكنولوجيا الحديثة –وبالأخص مواقع التواصل وألعاب الفيديو- مسببة للإدمان بهذا الشكل. يقدم آلتر في بداية كتابه صورة شبه مخيفة عن أحدث وسائل التقنية صادرةً عن أولئك الذين صمموها وأنتجوها بالفعل؛ حيث يوضح كيف أن الوسائل التي تُصمم بها تلك التقنيات مصممة أصلًا لكي تسبب الإدمان، وهو ما يدفع أولئك الذين صمموها –ويعرفون خبايا ما عملتهُ أيديهم- متوجسين منها. حسب تريستان هاريس، أحد مسؤولي أخلاقيات التصميم السابقين في جوجل، فالمشكلة ليست في انعدام الإرادة لدى الناس، بل في وجود آلاف الأشخاص في الجانب الآخر من الشاشة، بلا مهمة سوى تحطيم منظومة التحكم الذاتي لديك.

إعلان

المدمن الذي بداخلنا جميعًا

الإدمان مشكلة مجتمعية عويصة، ويحاول آلتر في بداية كتابه أن ينوه أنّ إدمان شيءٍ ما لا يجب أن يكون إدمانَ مادةٍ كالمخدرات، بل الغالب الآن أن يكون سلوكًا ما. بل إن تأثير الهيروين على أدمغة بعض المدمنين، يكاد يتطابق مع تأثير بدء لعبة جديدة على مدمني لعبة World of Warcraft. في الواقع، ما يحاول آلتر أن يقنعك به هو أن وصف “مدمن” يُشعرنا بأن الإدمان ضعفٌ  كامن في بعض الناس، أولئك الموصومون بأنهم “مدمنون”.

رغم أنه في واقع الأمر، فإن من نصفهم بالمدمنين لا يختلفون عنّا في شيء – سوى أنهم قد تعرّضوا بالفعل للتجربة أو السلوك الذي قادهم للإدمان.

يحدثنا الكاتب عن حرب فيتنام، وبالتحديد عن تجارة الهروين التي قد تمكنت من إنتاج نوعٍ جديد من الهروين النقي والذي انتشر كالنار في الهشيم بسبب سعره وتأثيره، وبالطبع وصل إلى الجنود الأمريكيين الذي يشعرون بالملل في معسكراتهم وخنادقهم. بنهاية الحرب، اعترف 35% من الجنود أنهم تعاطوا الهروين، بينما أقرّ 19% أنهم مدمنون بالفعل. كانت أعداد المدمنين والمتعاطين هذه تحدث جلبة في السياسة الأمريكية بسبب مخاطر عودة 100 ألف مدمن هروين للبلاد. الأمر الذي استدعى الرئيس نيكسون ليصرّح بأن إدمان المخدرات هو العدو الأول للشعب الأمريكي.

كلفت الحكومة الأمريكية الباحثة والدكتورة لي روبنز بدراسة الجنود العائدين من فيتنام لتقييم حالات الإدمان. لكن ما وجدته روبنز لم يكن منطقيًا؛ ففي المعتاد، يتعافى 5% فقط من مدمني الهروين بشكل كامل، لكن ما وجدته روبنز أن 5% فقط من الجنود العائدين عاودوا إدمان الهروين. لقد تعافى 95% منهم بشكل كامل.

بالطبع، لم يساعد الوضع السياسي المشحون على تقبل نتائج روبنز، رغم أنها وصلت إليها بشكلٍ وبمنهجيةٍ صحيحة. المشكلة كانت في تفسير لماذا وكيف تعافى 95% منهم.

الجرذ سيء الحظ

في الخمسينات كان بيتر ميلنر وجيمز أودز يدرسان سلوك الجرذان، وقاما بإنشاء تجربة لملاحظة سلوك الجرذان حين التعرض لصعقات كهربائية، بحيث يتعرض الجرذ للصعقة إذا ضغط على زرٍ معدنيّ موجود بالقفص. كان من المفترض أن تهرب الجرذان بعد ضغط الزر، لكن أحد الجرذان – الجرذ 34- لم يهرب من الصعقة الكهربائية. لقد دُهش للحظة، ثم استمر بالضغط على الزر لمدة 12 ساعة متواصلة، بمعدل مرة كل خمس ثوان. لقد تجاهل ذلك الجرذ كل الإغراءات بالطعام والشراب داخل القفص، وبعد إثنا عشرة ساعة، كان قد مات من الإرهاق.

كان المسبار المزروع في دماغ الجرذ المسكين مثنيًا وموجهًا بدون قصد إلى ما سمّاه ميلنر فيما بعد بـ”مركز اللذة”. كرر الباحثان تلك التجربة فيما بعد، وحاولوا منع الجرذان من الضغط على الزر، وللمفاجأة فقد كانت الجرذان تقوم بشرب الماء بشكلٍ مبالغٍ فيه إذا لم تستطع أن تشعر باللذة بعد ضغط الزر. كانت تقوم بأي شيء لتمضية الوقت.

بعد فاجعة الجرذ رقم 34، عرف أودز أنه لم يكن هناك شيء خاطئ في الجرذ رقم 34، لم يكن مدمنًا بالفطرة. لقد كان مجرد فأر سيء الحظ الذي وُجِدَ في المكان الخاطئ في الوقت الخاطئ.

كانت تجربة أودز وميلنر تحمل الإجابة على إشكالية جنود فيتنام. لقد تعافى جنود فيتنام من تعاطي الهروين لأنهم تخلصوا من المؤثرات والظروف التي دفعتهم للإدمان في بداية الأمر. فكما هي الحال مع الجرذ رقم 34، فأدمغتنا نحن أيضًا تفرز تفاعلات كيميائية وكهربائية عند ممارستنا لنشاطٍ ممتع. لكن الأمر أعقد من ذلك. الإدمان ليس مجرد تعاطي واستمتاع بمادة أو سلوكٍ ما، الإدمان هو الربط بين المؤثر الذي يسبب الإدمان، وبين التخلص من الوحدة والحزن والتوتر.

كيف تصمم تجربة مسببة للإدمان؟

تكون السلوكيات مسببة للإدمان – حسب الكاتب – إذا اشتملت على أهداف صغيرة سهلة الوصول، مع تغذية رجعية (Feedback) إيجابية ومثيرة بمعدل غير ثابت. ملاحظة تطورات في الأداء الشخصي (سواء في هواية، رياضة، أو لعبة) ومحاولة حل أمرٍ مستعصٍ، عوامل تؤدي إلى إدمان سلوكٍ  ما أيضًا (فكّر مليًّا في هواية أو مهارة ما تحبها وتندمج معها وما يدفعك للشعور بذلك). الكثير من الألعاب على الإنترنت ومواقع التواصل الإجتماعي تحوي هذه العوامل وغيرها، وتحقق مكافآت نفسية قصيرة الأمد إلا أنها على المدى البعيد ضارة. من المهم هنا توضيح الفارق بين الإدمان (خاصةً الشق السلوكيّ منه)، وبين الهواجس أو الوساوس كالوسواس القهري مثلًا؛ فالإدمان يمنح شعورًا باللذة، بينما قد تكون الهواجس والوساوس مزعجة. مع مرور الوقت قد يكره الناس المادة أو السلوك الذي دفعهم للإدمان بسبب توابع الإدمان الضارة عليهم، لكن العمليات الدماغية المتحكمة في الشعور باللذة والسعادة –وبالأخص إفراز هرمون الدوبامين- ستدفعهم للاستمرار في سلوكهم، من أجل الحصول على اللذة المترتبة عليه.[2]

يصنّف آلتر في كتابه 6 عوامل أو أسباب، تجعل تجربةً أو سلوكًا ما مسببًا للإدمان:

  • الأهداف

وضْعُ الأهداف أمرٌ محمود في حياتنا؛ لكن اليوم، تفرض الأهداف نفسها علينا فرضًا وبشكلٍ غير واعٍ أحيانًا. أنشئ حسابًا على فيسبوك أو انستجرام أو غيرهما وسرعان ما ستلاحق الإعجابات والمتابعين. إلعب كاندي-كراش، وستحاول كسر رقمك القياسي السابق باستمرار. إلبس ساعة تمارين وقد تجد نفسك تحاول المشي عددًا أكبر من الخطوات كل يوم. الخطر هنا يكمن في قرنِ النجاح أو السعادة بالأرقام –والذي يتطور إلى مقارنات مع الآخرين (لاحظ كيف يشعر أحدهم إن حصلت صورته على انستجرام على عددٍ قليل من الإعجابات) . ستريد أن تتفوق على أعداد متابعي أصدقائك، أو تحصل على عدد إعجابات أكبر من باقي معارفك، وحين يصل الأمر إلى المقارنة مع أناسٍ  آخرين، فإن الحصول على 1000 إعجاب لن يكون كافيًا إذا كان غيرك يحصل على 1200. إذا كنت مهووسًا بكسب 100 ألف دولار سنويًا مثل بعض المحظوظين، فإن حصولك على 99500 دولار سيبدو فشلًا مقارنة بهم. هذه الأهداف تتراكم وتخلق دافعًا للسعي وراء المزيد من السلوكيات المضرّة، فإما أن تؤدي بك إلى الفشل، أو –والأسوأ ربما-، تدفعك للنجاح في سعيك، ما سيجعلك تسعى وراء هدفٍ أكبر هذه المرة لتبدأ حلقةً مفرغة.

  • التغذية الرجعية

           هل تعلم عزيزي مستعمل موقع فيسبوك، أنه قبل عام 2009 لم يكن زر اللايك موجودًا؟ تخيل الفيسبوك بلا خاصية “لايك” وأخواتها (أضحكني وأحزنني …)، لا بد أنه سيكون أكثر مللًا (بالمناسبة كان زوكربرج متحفظًا على إدخال خاصية الإعجاب تلك لفيسبوك[3]). لكن لا تنس أن ردود الأفعال على ما تنشره على مواقع التواصل هي ما يدفعك في الواقع لاستخدامها، بل وقد تحدد ما تنشره وما تقوله. المعادلة بسيطة: ما يجلب الإعجابات يُنشر ويُشعرك بالسعادة، وما لا يجلب الإعجابات – بعددٍ كافٍ على الأقل- يكون علامة سوداء صغيرة (تذكر مرةً أخرى كيف قد يشعرُ أحدهم إن حصلت صورته على انستجرام على عددٍ قليل من الإعجابات).

بل إن هذا النوع من التغذية الرجعية –Feedback- هو ما جعل مارك زوكربرج يصرّح بأن فيسبوك لن يتضمن زر “ديس لايك” في المستقبل. لأنك –كما يقول زوكربرج- لا تريد أن تنشر لحظةً مهمة في يومك ثم تفاجئ بأحدهم “يصوّت” ضدها[4]. بالمناسبة، هل لاحظتم أن هذا عينُ ما يحدث للكثيرين إذا “شوّه” أحد أصدقائهم منشورًا لهم بوضعه “لايك” بدل “هاها”؟

  • الإنجاز

          يذكر آلتر في هذا الفصل لعبة كانت تستعمل في المزادات لجمع التبرعات: يعرض منظم الحفل دولارًا للبيع مقابل أغلى سعر، بشرط أن صاحبا أعلى سعرين يجب أن يدفعا معًا (لو عرض الأول ثمانين سنتًا مثلًا والثاني سبعين، سيحصل المنظم على 1.5 دولار، وفي المقابل سيخسر دولارًا واحدًا). قام آلتر بنفس اللعبة في جامعته ولكن مقابل 20 دولارًا، وكانت المفاجأة أنه حين وصل المزاد إلى 19 دولارًا، ظل الشخصان المتبقيان يرفعان السعر لضعفي أو لثلاثة أضعاف القيمة. صاحب السعر الأعلى سيربح ال20 دولارًا، لكن صاحب السعر الأدنى سيخسر كل شيء في مقابل لا شيء، ولهذا يستمر في المزايدة.

يشبه هذا المزاد الشيطانيّ الألعاب التي تدفع مستخدمي ألعاب الفيديو لصرف أموالهم للحصول على إنجازات أو معدات جديدة، وأحيانًا تكون اللعبة مجانية في البداية وبعد أن تصل لمستوىً  معين يتوجب عليك دفع مبلغ ما لتستمر في التقدم. بل إن آلتر يستشهد بلعبة Canabalt والتي لم تسمح للاعبين باللعب أكثر من 5 ساعات ثم تستوجب عليهم العودة بعد 4 ساعات – إلا لو دفعوا دولارًا للعودة بشكلٍ أسرع.

  • التصعيد

          ماذا سيكون شعورك لو لعبت لعبة سهلة لدرجة أنك دائمًا ما تفوز فيها بلا جهد؟ بالطبع ستملّ منها. لهذا لا بد من إدخال عنصر التصعيد – لا بد من تحدٍ يجعلك متحمسًا ومصرًا على الفوز. لكنه سهلٌ بما يكفي لتستطيع تجاوزه في نفس الوقت. التوازن بين اليسر والعسر والعيش في تلك المساحة –بين المساحة المريحة والمساحة الموتّرة-، هو ما يجعل عملًا  أو سلوكًا ما ممتعًا (تخيّل مثلًا  واجب رياضيات معقد لم تتكمن من حلّه مهما كان، وفي المقابل صنعةً يدوية تحتاج بعض الجهد لكنك تستطيع إنجازها أو تركيبها، كأجهزة أيكيا مثلًا)، وتسمى تلك المساحة بمساحة التدفق[5]. الأمر أكثر وضوحًا في ألعاب الفيديو، حيث تحتاج المزيد من الخبرة لإنجاز المهمات أو المستويات الاعلى من اللعبة، بل وقد يزداد الأمر تعقيدًا إذا اضطرتك اللعبة للاستمرار في اللعب وإلا خسرت إنجازاتك (تذكر حتى لعبة المزرعة السعيدة التي تموت فيها محاصيلك إذا لم تلعب لفترة طويلة).

  • التشويق

          لعلك شاهدت العديد من المسلسلات من قبل ولاحظت أن كل حلقة لا بد أن تنتهي بحدثٍ مشوق، يثير لديك الفضول لمعرفة ماذا سيحدث (وإن كنت تقرأ الروايات فلعلك لاحظت هذا أحيانًا أيضًا). الإحساس بالفضول يبعث شعورًا باللذة أكبر من معرفتك لما سيحدث، لهذا فالناس مستعدون لمشاهدة العديد من الحلقات متتابعة لكي يشفوا شعور الحيرة والفضول الذي يصيبهم.

أي الخطوات التالية في نظرك ستجعل الناس أكثر سعادة؟ تمني شيءٍ ما كالطعام أو النوم مثلًا؛ أو التساؤل عمّا إذا كانت تلك الرغبة ستتحقق؛ أم الحصول على تلك الرغبة بالفعل؟ لعلك توقعت أن الحصول على رغبةٍ ما هو ما يحقق أكبر قدرٍ من السعادة، لكن المفاجأة التي يقدمها الكاتب هي أنه وحسب بعض الدراسات فإن توقع تحققَ رغبةٍ ما بشكل مستمر يؤدي إلى التعوّد، ومن ثم يموت الشعور بالاستمتاع. لهذا نشعر بالإنزعاج إن انتهى فيلمٌ ما بدون أن تُحلّ  حبكته، ولهذا نستمر في مشاهدة حلقات المسلسلات بشكلٍ مستمر. لاحظ أيضًا أن التشويق المتعلق بآخر الإشعارات والمنشورات والصور على مواقع التواصل يدفعك للدخول عليها بشكل مستمر.

  • التفاعل الإجتماعيّ

            العنصر الأخير لبناء الإدمان هو التفاعل المجتمعي. البشر كائنات إجتماعية بطبعها والتطبيقات الأكثر نجاحًا هي تلك التي تسمح لنا بالتواصل والمشاركة مع آخرين يشاركوننا الاهتمامات. تطبيق فيت بيت مثلًا  يسمح للمستخدمين بالتفاخر حول منجزاتهم الرياضية الأخيرة مع أصدقائهم، مستخدموا انستجرام لديهم متابعوهم، مستخدمو ألعاب الفيديو كـworld of warcraft لديهم كيانات وعشائر من لاعبين يلعبون سويًا. هذا التفاعل الافتراضي يحل مكان العلاقات الواقعية والحاجة لمعاشرة الناس، ولكنه –حسب الكاتب- تعويضٌ  ناقص وغير مساوٍ.

في دراسة قام بها بعض علماء النفس والسلوك عام 2000، طلب المنظمون من بعض الطلاب ارتداء قميص عليه صورة المغني “باري مانيلو”، ثم الدخول إلى غرفة ملآى بالطلاب (قام العلماء باستبيان قبلها ووجدوا أن معظم الطلبة لا يفضلون ارتداء تيشيرت باري مانيلو أمام الناس). بعد بضع دقائق أخرج المنظمون المشاركين وطلبوا منهم توقع عدد الطلاب الذين لاحظوا صورة باري مانيلو عليهم، وبالطبع قام المشاركون بتوقع أن نصف الطلاب في الغرفة لاحظوا الصورة. ولكن في الواقع، تذكر شخصٌ  واحد فقط من كل خمسة طلاب أنه رأى ملامح (أو ما يشبه) باري مانيلو في تلك الغرفة. يشبّه آلتر صورة على انستجرام لا تحصل سوى على 3 إعجابات بصورة باري مانيلو: محرِجة لصاحبها الذي يعتقد أن الجميع ينظر ويضحك، في حين أن الآخرين مهتمون أكثر بصورهم وحياتهم الشخصية.

إن منشورًا بلا إعجابات ليس فقط مؤلمًا بشكلٍ شخصيّ، بل هو أشبه بالتشنيع على الملأ: إما أنك لا تملك أصدقاء على الانترنت، وإما -وهو الأسوأ-، أصدقاؤك الافتراضيون ليسوا منبهرين.

يحكي آلتر على لسان متخصصين في إدمان التكنولوجيا أن الصداقات عبر الانترنت ليست خطيرة بسبب ما توفره فقط، بل بسبب ما لا توفره أيضًا: تعلم كيفية الجلوس وجهًا لوجه مع شخص آخر وإدارة حديث معه. المشكلة تكمن في الاستغناء عن العلاقات في العالم الواقعي.

مستقبل الإدمان السلوكي

تذكّر، حين يتحولُ الخيارُ الذي في دماغك إلى مُخلّل، لن يُمكنه أبدًا أن يرجعَ خيارًا.

هذه العبارة هي الشعار الذي يقدمه مركز ري-ستارت لعلاج إدمان التكنولوجيا لمرتاديه. ومفادها أنه بعد أن يخرج أحدهم من المركز، ألا يعتقد أنه يمكنه العودة للعب لعبة واحدة مرة أخرى بدون أن يعود له إدمانه.

بل إن ذلك الإدمان يكون خطيرًا بالأخص إذا ترافق مع مرحلة الطفولة: الأطفال يمرون بمراحل نمو وتتشكل قدراتهم العقلية في مراحل مختلفة من نموهم، وإن فاتتهم الفرصة على تعلم كيف يتعاملون مع الناس وجهًا لوجه أثناء طفولتهم وانكبّوا على أجهزتهم فإنه من الوارد أن قدراتهم الاجتماعية ستتأثر إلى الأبد.

حتى مع الكبار، فحسب دراسة لشركة مايكروسوفت فإن مدة انتباه الإنسان العادي نقصت من 12 ثانية عام 2000 إلى 8 ثوان فقط عام 2013 (حسب مايكروسوفت أيضًا فإن سعة انتباه السمكة قد تصل إلى 9 ثوان). حسب إحصائية أخرى فإن متوسط الوقت الذي يمضيه الشخص البالغ على هاتفه ارتفع من 18 دقيقة يوميًا عام 2008 إلى ساعتين و45 دقيقة عام 2015. نحن بالفعل معتمدون على التقنية بشكل لا مفك منه. وقد كان لي مقال سابق عن تأثير الانترنت على أدمغتنا.

المحاربون هم من يتساقطون أولًا

يرى آلتر أن الحل لعلاج مشاكل الإدمان السلوكي تتضمن تهيئة البيئة التي نعيش فيها، وهندستها بحيث لا تسمح لنا بإشباع رغباتنا. لهذا تعافى 95% من الجنود الأمريكيين بعد حرب فيتنام: لقد ابتعدوا عن بيئة الهروين تلك بالكلية. الاعتماد على الإرادة لا يكفي، وكما يُقال فالوقاية خيرٌ من العلاج. حسب دراسة أجريت على بعض الطلاب في هونج كونج الذين طلب منهم أن يكفوا عن استخدام فيسبوك لثلاث أيام، قالوا جميعهم أن حاجتهم للدخول إلى الموقع زادت وأرادوا الدخول إلى الموقع بشكلٍ أكبر. وحدهم الطلاب الذين استعملوا مواقع توصل أخرى لم يصبهم هذا التأثير، ببساطة لأنهم لبّوا حاجتهم عن طريقٍ آخر.

لنقم بتجربة: خذ فاصلًا، وحاول لمدة دقيقة ألا تفكر في فيلٍ أحمر. في المتوسط سيقوم كل شخص بالتفكير في الفيل الأحمر لمرة أو اثنتين على الأقل، ببساطة لأن ما تحاول تجنبه هو بالضبط ما تذكر نفسك به: لا تفكر في الفيل الأحمر. الحل يكمن ليس في الإرادة وحدها، بل في الإرادة والإنشغال. فأنت تعلم ما تحاول تجنبه، لكنك لا تعلم بماذا يمكنك أن تشغل تفكيرك في الوقت الراهن.

الحل الوحيد للمشاكل النفسية هو: لا تكن عاطلًا  لا تكن وحيدًا.

– أحمد خالد توفيق.

التصميم السلوكي

الشق الآخر للتخلص من الإدمان السلوكي هو تعديل وتهيئة البيئات التي نعيش فيها بحيث نقضي على مصادر الإدمان سالفة الذكر. على فيسبوك مثلًا، يمكنك أن تستعمل تطبيق demtricator، والذي يزيل كل العدّادات من على الموقع (عدد الإعجابات والمشاركات وغيرها). الآن أنت لا ترى تلك الأرقام المتلألئة وتتابعها بشغف. تطبيقات أخرى مثل Wastenotime  أو Antisocial  تمكنك من مراقبة استخدامك للمواقع والتطبيقات التي تختارها.

إذا كنت متابعًا نهمًا للمسلسلات وتشتكي من متابعة العديد من الحلقات دفعةً واحدة، فهناك طريقة للالتفاف حول حبكات التشويق التي توضع في نهاية الحلقات. بنهاية الحلقة الأولى، تُعرض حبكة مشوقة جديدة (أحدهم قُتل ولا ندري إن عاش أم مات مثلًا)، وإجابة هذا الفضول تتكشف في الحلقة الثانية. يمكنك أن تشاهد أول 5 دقائق من الحلقة الثانية لتعرف ماذا حدث، ثم تنهي المشاهدة. حجر الزاوية هو أن تعرف كيف تصطادك هذه المواقع والتطبيقات والألعاب وكيف تدفعك إلى إدمانها لكي تعرف كيف تضبط استعمالك لها. على سبيل المثال، ساعة “بافلوك” تتيح لك برمجتها للتخلص من عادة سيئة كمشاهدة التلفاز أو الدخول على فيسبوك، وتستطيع الساعة معرفة سلوكك ومتى تقوم بالعادة التي تود التخلص منها ثم تقوم بتوجيه صعقة صغيرة لك كنوع من التغذية الرجعية لتكسر حلقة الإدمان.

في آخر فصل يضرب الكاتب بعض الأمثلة لمفهوم “التلعيب”[6]، والذي يرى أنه يمكننا من دمج التقنية في حياتنا اليومية لتغيير السلوك. على سبيل المثال، وضعت شركة “فولكس واجن” ما سمّته (أعمق سلة مهملات في العالم) في حديقة في السويد، وهي ببساطة  سلة مهملات عادية إلا أنها تصدر صوت سقوط من مكان مرتفع عند وضع شيءٍ فيها[7]. كما قامت مدرسة حديثة في أمريكا [8] بتغيير شكل المناهج لتكون كمستوياتٍ  في لعبة. تفترض هذه المبادرات أن المرح قد يدفع الناس لتغيير سلوكهم وعاداتهم، ويجعلون السلوك المستهدف نفسه ممتعًا (كرمي القمامة في السلة). مبدأ التلعيب قد يساعد في تغيير بعض السلوكيات للأفضل، رغم أن الكاتب يقر بأن له جوانب سلبية يجب أخذها في الاعتبار.

كتاب آلتر عن إدمان التكنولوجيا وكيف تبقينا متمسكين بها كتاب مهم لكل المهتمين بالانترنت كما للمهتمين بالتربية والتعليم، وهو مهم ومفيد وغنيّ جدًا لكل الشباب الذين نشؤوا كـ”مواطني انترنت”، لكي يتعلموا كيف يتعاملون مع واقعنا الحالي الذي قد يؤسس لنظام مجتمعي مختلف تمامًا في المستقبل، ناهيك عن أنه يشكل ويغير نظام حياتنا اليومية.

للمزيد:
[1] https://www.nytimes.com/2014/09/11/fashion/steve-jobs-apple-was-a-low-tech-parent.html

[2] https://www.learningandthebrain.com/blog/irresistible-the-rise-of-addictive-technology-and-the-business-of-keeping-us-hooked-by-adam-alter/

[3] https://www.newstatesman.com/science-tech/social-media/2015/10/cursed-project-short-history-facebook-button

[4] https://techcrunch.com/2015/09/15/the-sorry-button/

[5] https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%AA%D8%AF%D9%81%D9%82_(%D8%B9%D9%84%D9%85_%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%81%D8%B3)

[6] https://www.new-educ.com/gamification-education

[7] https://www.youtube.com/watch?v=cbEKAwCoCKw

[8] https://www.q2l.org/

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: مريم زهرا

اترك تعليقا