كيف تصل إلى عقيدتك الدينية بالعقل؟

لا موضوع للعقيدة الدينية إلَّا (خالق العالم) فقط، أي مخترع العالم، بعد أن ثبت لي بالدليل وجود مخترع للعالم (أي سبب حدوث العالم) لأنَّ العالم حادث، أي موجود بعد عدم، وكلٌ حادث فله سبب، فثبت لي وجود السبب، ثم هذا السبب إن كان هو حادثًا أيضًا فلا بدَّ له من سبب، فإما أن يتسلسل ذلك إلى ما لا نهاية، فيكون لكل سبب سبب بلا نهاية، وإما أن يكون هناك سبب لحدوث العالم وهو غير حادث في نفسه، وبالتالي لا يفتقر إلى سبب، وبما أنَّ التسلسل محال فلا يبقى إلَّا إثبات سبب قديم لحدوثِ العالم.

وبعد أن ثبت لي بالدليل العقلي وجوده فإنِّي أنظر بعد ذلك في ثلاثة أمور وهي أولًا حقيقته ثم ثانيًا صفاته ثم ثالثًا أفعاله. والمقصود بأفعاله هنا هو الأمور التي خلقها (بمعنى العالم الحادث كلّه). فليس في الوجود إلَّا قديم وحادث، وموضوع العقيدة الدينية هو (القديم) أي موجود لم يسبق وجوده عدم، ولكنِّي أنظر في مخلوقاته لا لأعرفها في ذاتها أو أعرف مما تتركب، بل أنظر فيها لأستدل بها على صفات مخترعها وعلمه وقدرته. فلا مطلب ولا غاية لي إلَّا معرفة المخترع فقط، وإنَّما أنا أنظر في مخترعاته لكي أستدل من خلالها على صفات مخترعها وخالقها وعلمه وقدرته وحكمته. وفرقٌ كبير بين أن تنظر في سيارة مثلًا لتعرف مما تتركب وكيف تعمل وبين أن تنظر فيها من حيث دلالتها على وجود مخترعها وعلى علمه وقدرته وحكمته في التدبير. فإنَّ النظر الأول هو نظر الطبيعي.

أما النظر الثاني فهو نظر الإلهي. فما ينظر فيه علماء الطبيعة هو نفسه ما ينظر فيه علماء الإلهيات، وإنَّما الفرق أنَّ الإلهي ينظر في العالم ليتعرَّف على خالقه وصفات خالقه، بينما الطبيعي ينظر في العالم ليعرفه في ذاته وليس ليستدل به على صفات خالقه.

المحاور الثلاثة

كما قلنا فإنَّ العقيدة الدينية لا نظر لها إلَّا في خالق العالم فقط، ولذلك فنظرها يندرج في ثلاث محاور وهي أولًا حقيقة هذا المخترع، وثانيًا صفاته، وثالثًا الأمور التي خلقها من حيث دلالتها على علمه وقدرته وصفاته وأسمائه، وليس من حيث هي في ذاتها وكيف هي في ذاتها، فإنَّ ذلك هو الحيثية التي ينظر بها الطبيعي للعالم وليس الإلهي. فيجب عليك التفريق بين النظرتين حتى لا تختلط عليك الأمور. فالمقصود كلّه هو معرفة الخالق لا المخلوق وإنَّما أنا أنظر في المخلوق لأعرف صفات خالقه.

ولعلَّ أقرب مثال يوضح لك الفرق بين النظرين هو أن تتخيل نفسك قد قرأت بعض المؤلَّفات والمصنَّفات لكاتب عميق الإدراك فأعجبت به أيَّما إعجاب، فحثك هذا الإعجاب على تتَّبع كل ما يكتبه. وكلما قرأت له شيئًا جديدًا ازداد إعجابك به وحبك له ومعرفة بصفات كماله، مثل علمه وقدرته وذكائه ولطفه وفصاحته. حتى كأنٌَ كلٌ كلمة تقرأها له تزيد من محله في قلبك، حتى كأنه يتبدَّى لك بين السطور، أو أنَّك تنسى السطور والكتابة من حيث ذاتها وتلتفت فقط للكاتب والمصنّف ودلالة كتابته وتصنيفه على كماله وعلمه.

إعلان

وقد يتطوَّر ذلك إلى أن يشغلك الكاتب عن كل شيء، ويسرع ذكره إلى قلبك بأدنى إدراك لأيِّ شئ يذكرك به، من شدة حبك له بسبب معرفتك بكماله وجماله الذي استوجب حبك له حتى شغلك ذلك عن الكتابة والسطور وغيرك من الناس (بل وعن نفسك). فصرت لا ترى غيره ولا تذكر غيره هو ولا تفكر إلا فيه، وتجتهد في البحث عن مصنَّفٍ جديد له لم تطالعه من قبل حتى تطلع على مزيد جماله وحكمته وعلمه، وكلما اطلَّعت على المزيد ازداد هيمان قلبك في هذا الجمال الجديد الذي انكشف لك. فهكذا يجب أن تكون مطالعتك لهذا العالم المخلوق فهو تصنيف وتأليف الله، فاجعل نظرك هو التعرُّف على جمال وجلال هذا المصنف من خلال النظر في مصنفه حتى ينكشف لك من الجمال ما يكاد يطير به قلبك فرحًا وتتعجب من نفسك كيف احتمل قلبك كل هذه اللذة الجمالية وتتعجب من الناس كيف غفلوا عن كل هذا الجمال وانشغلوا (بالظلال)

المحور الأول (حقيقته)

أقول ثَبُت لنا وجود خالق للعالم بالدليل العقلي. ولا تصدِّق من يقول لك أنَّ (العقل عاجز عن معرفة وجوده) بل العقل قادرٌ على معرفة وجوده بأدنى نظر وتأمل، وإنٌَما العقل عاجزٌ عن معرفة حقيقته، أما معرفة وجوده فالعقل قادر على هذه المعرفة وفي متناوله، بل هي أوضح من أن تطلب، وأظهر من أن تشرح، وأبْيَن من أن ينبه عليها. ولا يمنع من هذه المعرفة إلا عمى في القلب أو شدة الظهور، فمن كان أعمى لا يعترف بوجودِ الشمس رغم ظهورها، وما عم وجوده في كل شيء غفلت العين عن رؤيته سواء أكانت عين البصر أم عين القلب.

وقد زعم قوم عدم وجود النور رغم أنًَه أوضح الأشياء وأظهرها وبه ظهر كل شيء، ولم يدركوا وجوده إلَّا بغيابه عندما غابت الشمس فعرفوا وقتها أنَّ هناك شيء كان مع الأجسام هو غير ألوانها وأشكالها وقد فارقها هذا الشيء عند غياب الشمس. فعرفوا وجود النور بغيابه ولولا غيابه لما عرفوا وجوده إلَّا بجهدٍ شديد ونظر دقيق، فهؤلاء قوم أذهلتهم شدة الوضوح أو الظهور، وليس عمى القلب.

أما حقيقته

لا يمكن للعقلِ معرفةِ حقيقته، بل العقل عاجزٌ عن معرفة حقيقته ويثبت بالدليل أنَّه عاجزٌ عن معرفة حقيقته، ومن عرف ذلك فقد عرفه على التحقيق، وهذا هو معنى كونه جليلًا فإنٌَ الجليل هو الذي لا يحيط به علمًا ولا قدرة، فلا تقدر عليه ولا تحيط به علمًا، لأنٌَ كلّ معلوم محصور، وكلّ محصور فهو ليس بإلهٍ ولا جليل.

ولأجل ما سبق فإنَّ هذا المحور كلّه هو نظر في أنٌَه (ليس بكذا) وليس نظر في أنَّه (كذا). فأنتَ تسلب عنه وصفًا فقط ولا تصفه بصفة ثبوتية وذلك لأنه قديم بينما كلّ ما تدركه أنت فهو حادث فتنفي عنه كل صفات المحدثات أو المخلوقات وإلَّا وقعنا في التناقض، لأنٌَك عرفت أنه ليس بحادث فإنٌَ وصفته بعد ذلك بصفة موجودة في الحادث لكان معنى ذلك اجتماع الحدوث والقدم على ذاتٍ واحدة وهذا محال. ولذلك فهو ليس بجسم لأن الجسم حادث وخالق العالم ليس بحادث، فلا يمكن أن يكون جسمًا، وبما أنَّه ليس بجسم إذًا فهو ليس في جهة ولا في مكان ولا زمان، ولا هو متصِّلٌ بالعالم ولا هو منفصلٌ عنه، لأنٌَ كل ذلك هو أوصاف الأجسام، وخالق العالم ليس بجسمٍ فلا يوصف بشيءٍ يتوقَّف على الجسمية. وهو ليس مثل شيء ولا يماثله شيء وإلٌَا اجتمع الحدوث والقدم على ذات واحدة وهذا محال لأنه تناقض. ويمكنك أن تجمل كلٌ ذلك في قولك (ليس كمثله شيء).

المحور الثاني صفاته

يمكنك معرفة صفاته من خلال النظرِ إلى أفعاله ويقصد بذلك مخترعاته التي هي مخلوقاته، فإذا نظرت للعالم ووجدته قد حدث بعد عدم فتستدل بذلك على أنٌَ خالقه له صفة يصدر عنها المخترعات والحوادث، فتحتاج هذه الصفة إلى اسم، فنطلق عليها اسم (قدرة)، ومفهومها هي أنَّها عبارة عن صفة يصدر عنها الاختراع.

وكذلك ننظر في العالم فنجد أنَّه محكمٌ ومرتَّبٌ ومنظٌَمٌ، ومن نظر إلى بدنه فقط رأى فيه من الأحكام والدقَّة والنظام والترتيب ما يدهشه ويحيِّره، فلا بدَّ وأن لخالق العالم صفة يصدر عنها الأحكام في الفعل، وبذلك استحَّقت هذه الصفة أن نطلق عليها اسمًا، فأسميناها (علم)، ومعناها أنَّها صفة يصدر عنها الأحكام والنظام والدقَّة في الفعل.

وكذلك ننظر في العالم مجددًا فنجد أنَّه موصوف بصفاتٍ كان يمكن في العقل خلافها، فالأبيض كان يمكن أن يكون أسودًا، والكبير كان يمكن أن يكون صغيرًا، والحار كان يمكن أن يكون باردًا، والمرتفع كان يمكن أن يكون منخفضًا، فتخصيص العالم بهذه الصفات عن أمثالها يدل على وجود صفة يصدر عنها تخصيص الأشياء عن أمثالها ، وبعد معرفتنا لوجود هذه الصفة صارت مستحَّقة أن نطلق عليها اسمّا فأسميناها (إرادة)، ومفهومها أنَّها صفة يصدر عنها تخصيص أو تمييز الأشياء عن أمثالها. وهكذا يمكنك معرفة صفات الخالق من خلال تأملك في مخترعاته تمامًا كما تستدل بمقال عميقٍ لكاتب على ذكائه، وعلمه، وحكمته، وعبقريته، ثم باستمرار تأمُّلك في دقائق تصانيفه وعبارته تطلع على تفاصيل علمه وحكمته وقدرته وعبقريته، وإذا انفتح لك هذا الباب حيَّرك الجمال.

المحور الثالث أفعاله

ونعني بمخلوقاته، أي مخترعاته، فنحن ننظر فيها ولكن لا من حيث ذاتها، فإنَّ هذا نظر الطبيعي كما قلنا. وإنما نحن ننظر فيها لنعرف تفاصيل علمه وقدرته أي معلوماته ومقدوراته، فقد عرفنا من المحور الثاني الخاص بالصفات أنَّه له صفة هي علم وصفة هي قدرة، وأنٌَ القدرة هي الصفة التي يصدر عنها الأمور المخترَعة وأنٌَ العلم هو الصفة التي تجعل هذه الأمور المخترعة محكمة منظمة مرتبة.

ولقد عرفت أن له قدرة وعلم على الجملة، فيجب عليك الآن أن تتعرَّف على تفاصيل ما يعلمه وما يقدر عليه، بالتأمل في هذا العالم المخلوق، وكيف رتَّب الأشياء وأحكم صنعها وأحكم تأليفها حتى وجدت على ما يجب وكما يجب وبالقدر الذي يجب بلا أدنى نقص أو فتور. فيتعجب عقلك من هذه الحكمة، ويهيم قلبك في هذا الجمال الشامل، وتنسحق روحك تحت وطأة هذا الجلال، حتى تصل لمرتبة الفناء عن ذاتك والفناء عن فنائك، وهذا هو حال كلٌ قلب أدرك جمالًا وجلالًا، فهام في عالم الجمال وتاه في عالمِ الجلال، حتى غفل عن هذه الظلال وغفل عن ذاته وغفل عن غفلته حتى صار (كأنه هو)… ولكن ما أبعدنا عن هذه المعاني وما أبعدنا عن هذه الأحوال وكيف ندركها أو حتى نعترف بوجودها أو حتى إمكانها وقد عميت القلوب وطمست البصائر وانتكست العقول وغُصنا في بحر الرذيلة حتى الأعماق.

أسماء الله المقدَّسة/ الحسنى

لو تأملت جيدًا لعلمت أنَّ كل هذه المعاني التي ذكرناها وكلّ المحاور الثلاثة للعقيدة الدينية هي منطوية في أصداف أسمائه، فمن فتح أصدافَ هذه الأسماء تلألأت أمامه الحقائق العميقة لهذه العقيدة. فمن عرف تفاصيل معلوماته ازداد معرفةّ بمعنى كونه (عالمًا).

ومن اطلَّع على عجائب حكمته وتدبيره ازداد بصيرة بمعنى كونه (حكيمًا) و(مدبرًا). ومن اطلَّع على حفظه للمتضادات والمتماثلات وأوضاع الأجسام وأماكنها ازداد معرفة بمعنى اسمه (الحفيظ). ومن اطلع على تفاصيلِ وصول الأرزاق لأصحابها حتى للحيوانات والبهائم، وكيف رزق الطفل بلا حيلة منه ولا اضطراب، ازداد بصيرة بمعنى اسمه (الرازق). ومن اطلَّع على تفاصيل رحمته بالبشر رغم جحودهم وعصيانهم وتهاونهم ازداد بصيرة بمعنى اسمه (الرحمن). وندعوه أن يتجلَّى علينا بأنوار هذا الاسم ويتجاوز عنا بفضله وكرمه فلو عاملنا بما نستحق (لما ترك عليها من دابة).

 

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: خيال بعيد

تدقيق لغوي: أبرار وهدان

الصورة: نهى محمود

اترك تعليقا