مراجعة كتاب مستقبل العقل لميتشيو كاكو الجزء الأول

يحظى العقل باهتمامٍ بالغٍ من قبل الفيزيائيين والبيولجيين والفلاسفة وعلماء النفس. والعقل ليس المخ فقط، بل هو المخ وجميع العمليات المرتبطة به، كالوعي والتخاطر والذكريات والأحلام والذكاء وغيرها. لذلك أقدِّم لكم كتاب مستقبل العقل لأحد ألمع الفيزيائيين في عالمنا المعاصر، وهو ميتشيو كاكو، وهو يحاول سبر أغوار العقل والإشكاليات المتعلِّقة به في بحث يجمع تقريبًا جميع الآراء الحديثة المطروحة في الساحات العلمية في هذا الوقت.

يتضمَّن الكتاب مقدِّمة للمؤلِّف وخمسة عشر فصلًا، وقد أنهى الكتاب بملحق جميل يدعى وعي كوانتي. ولأنَّ الكتاب عبارة عن معلومات مكثَّفة ومركَّزة، فسوف أقدمه على ثلاث مرات، ليسهل استيعاب الأفكار في الكتاب. وفي هذا المقال، أقدِّم لكم المقدمة والفصل الأول.

المقدِّمة:

ينبِّه ميتشيو كاكو بوجود ثورةٍ علمية جديدة في دراسة الدماغ، وحدثت هذه الثورة بعد إدخال تقنيات الرنين المغناطيسي وأنواع مختلفة من مسوحات الدماغ المتقدم MRI, EEG, PET, TCM, TES, DBS. ويشبِّه هذه الثورة بثورةِ ظهور التلسكوب الذي جعل معارفنا الكونية تتطوَّر بسرعةٍ شديدة؛ فهذه التقنيات الفيزيائية الجديدة أدَّت لاتحاد الفلسفة وعلم النفس مع البيولوجيا، مما طوَّر من معارفنا بما يتعلَّق بالدماغ، ويعلِّل ميتشيو كاكو سبب اعتبارها ثورة بقوله “استطعنا فجأة بواسطة هذه الآلات رؤية الأفكار وهي تتحرَّك ضمن الدماغ الحي”.

ولكي يعرفنا بمراحل تطوُّر هذه التقنيات، يعرض مواقفًا من سيرته الشخصية الثانوية والجامعية، فيقول أنه أثناء المرحلة الثانوية، أراد القيام بمشروع عن مضاد المادة، وطلب حينها من هيئة الطاقة الذرية مادة وهي الصوديوم 22، وهي مادة تصدر عادة إلكترونًا موجبًا (مضاد الإلكترون، ويسمى أيضًا البوزيترون).

وبعدما أخذ المادة، استطاع بناء غرفة غيوم وحقلًا مغناطيسيًّا قويًّا، سمح له بتصوير آثار البخار الذي تركته جسيمات المادة المضادة، وهو يشير لهذه القصة؛ لأنَّ الصوديوم 22 يستخدم الآن في تقنية جديدة لمسح الدماغ تسمى PET (الرسم السطحي لإصدار البوزيترون).
ويتناول الكاتب قصة أخرى، وهي المدرسة الثانوية التي جعلته يتعرَّف على الرنين المغناطيسي عندما حضر محاضرة للدكتور فيليكس بلوخ مكتشف الرنين المغناطيسي النووي وحاز على جائزة نوبل بسبب هذا الاكتشاف بالمشاركة مع إدوارد بورسيل عام 1952 م، فبعدما تعرَّف على هذه التقنية، قام ببناء مسرع جسيمات بقدرة 2.3 مليون إلكترون فولت في مرآب (جراج) والدته! ويسترسل في ذكرياته بخصوص الرنين المغناطيسي بعدما دخل جامعة هارفارد، وعمل في وظيفة صيفية مع الدكتور ريتشارد إرنست، الذي استخدم عمل بلوخ وبورسيل على الرنين المغناطيسي ووضع الأساس لآلة MRI (التصوير بالرنين المغناطيسي)، وأصبحت أدق من مسوحات PET على الدماغ.

إعلان

وباستخدام مسوحات MRI، يمكن للعلماء الآن أن يقرأوا الأفكار التي تدور في عقولنا، ويمكن لهم وضع شريحة في دماغ المريض المشلول كليًّا؛ ليتمكَّن من خلال التفكير وحده أن يتجوَّل عبر الإنترنت، ويلعب الفيديو جيم، ويتحكَّم في المقعد المتحرِّك، ويشغل الأدوات المنزلية، ويتحكَّم في ذراعيين صناعيين، وغيرها من التطبيقات.

ويتحدَّث ميشيل كاكو عن المرض العقلي في حياة شخص مثل آينشتاين، وإصابة أصغر أبنائه بفصام في الشخصية؛ كما أصيب الفيزيائي بول إهرنفست- الذي ساعده في إنشاء نظرية النسبية العامة، وأحد أقرب أصدقائه- بنوبات من الكآبة، جعلته يقتل ابنه المصاب بمتلازمة داون وينتحر. وأشار ميتشيو كاكو لتأثير المرض العقلي في حياته هو شخصيًّا عند إصابة والدته بمرض الألزهايمر، مما جعلها تنساه قبل وفاتها، مما أثَّر عليه هو نفسيًّا.

الفصل الأوَّل: الكشف عن أسرار الدماغ

يُفتتَح هذا الفصل بحادثة يصفها ميشيو كاكو بأنها المحرِّض الأول للبحوث العلمية الجدية للدماغ، رجل يدعى فينياس غيج دخل مسمار حديدي في دماغه أثناء عمله واخترقه للناحية الأخرى ودخل في غيبوبة لعدة أسابيع، غير أنَّه قد حقَّق في النهاية ما بدا أنه شفاءٌ كامل، وبعد هذه الحادثة بدأ زملاؤه في العمل يلاحظون تغيُّرا بارزًا في شخصيته فبعد أن كان مرحًا ومتعاونًا أصبح مزاجيّا ومتردِّدًا ووصف طبيبه حالته “بدا كالطفل في قدرته العقلية وتصرفاته ولكنه امتلك الرغبات المتوحِّشة لرجل قوي”.

وقد أكدَّت مسوحات أشعة إكس للجمجمة بأنَّ القضيب المعدني تسبب في تخريب كبير في منطقة الدماغ خلف الجبهة المعروفة بالفص الأمامي، وتكمن أهمية حالة فينياس غيج بأنَّها غيَّرت مسار التفكير العلمي لأنه سابقًا قد سيطر اعتقادّ يفيد بأنَّ العقل والروح كيانان منفصلان وهي فلسفة دعيت بالثنائية، ولكم حالة غيج بينت أنه بسبب عطب في الفص الأمامي للمخ حدث تغيُّرات في شخصية غيج، وذكر بعدها كاكو حالة حدثت بعد وفاة غيج بعام واحد، عندما قام الدكتور بيير بول بروكا بتشريح أحد مرضاه بعد وفاته وكان مصابًا بقصور شديد في النطق ووجد جرح في فص دماغه الأيسر، وبعد دراسة اثنتي عشرة حالة مشابهة أكَّد الدكتور أنهم مصابين بعطل في هذه الناحية من الدماغ، واليوم يوصف المرضى الذين لديهم عطل في الفص الصدغي وعادة في نصف الكرة الأيسر بأنهم يعانون حبسة بروكا “وهو مرض معروف للمهتمين بعلم النفس”. وبعد ذلك بزمنٍ قليل وصف الطبيب الألماني كارل فيرنيكه حالاتٍ لمرضى عانوا مشكلة معاكسة فكان بإمكانهم النطق بوضوح بجمل مضبوطة إلَّا أنَّها غير مفهومة، وبعد إجراء التشريح لهم وجد أنهم يعانون عطبًا في منطقة مختلفة في الفص الصدغي الأيسر، شكلت بعد ذلك دراسات بروكا وفينيكه علامات فارقة في علم الأعصاب ربطت بين المشاكل السلوكية وعطب في أماكن محددة من الدماغ، وأشار كاكو أيضا لأبحاث الدكتور وايلدر بينفيلد على مرضى الصرع وأنه قام بحث مناطق معينه من الدماغ فوجد أنه أثناء تحريض أجزاء من الفص الصدغي عاد مرضاه فجأة لتذكُّر ذكريات نسوها من زمن.

يبدأ بعد ذلك كاكو في شرح أجزاء المخ ومحاولة العلماء ربط كل جزء بوظيفته مع وجود رسومات توضيحية، وانتقل بعدها ليشرح جهاز MRI والأساس العلمي له، ويبيِّن أنه يحوى على ملفات اسطوانية مغناطيسية ضخمة تنتج مجالًا مغناطيسيًا أقوى من مجال الأرض بعشرين إلى ستين ألف مرة وهذا حقل مغناطيسي قوي بما يكفي لجعل الأدوات المعدنية تطير في الهواء بسرعة عالية عندما تشغَّل بطريقة خاطئة وقد جرح أناس عديدية وحتى قتلوا بهذه الطريقة.

وقد تم في منتصف التسعينات اختراع نمطٍ جديد من آلات MRI دعيت بأجهزة تصوير الرنين المغناطيسي الوظيفي fMRI، سمحت أجهزة MRI برؤية الطاقة الكهربائبية وهي تدور عبر مناطق مختلفة من الدماغ أثناء التفكير وأوضحت طبيعة أمراض مثل الزهايمر والباركنسون وانفصام الشخصية ومجموعة من الأمراض العقلية.

ومن مميِّزات MRI قدرتها الفائقة على تحديد أجزاء صغيرة جدًا من الدماغ حتى حجم 1 مم. و MRI لا ينتج نقاطا على شاشة ببعدين (بيكسل pixel) فقط ولكن ينتج نقاطًا بثلاثة أبعاد فوكسيل (voxel) ومع هذه المميِّزات توجد مشكلتان بالنسبة لهذه التقنية فهي ليست جيدة في التتبُّع الزمني لأنه يستغرق الأمر ثانية كاملة تقريبًا لاتباع مسار الدم في الدماغ الذي يحدث بصورة لحظية، وبالتالي يمكن لمسوحات MRI أن تخطئ بعض التفاصيل الدقيقة لأنماط التفكير والمشكلة الأخرى هي الكلفة العالية.

ينتقل المؤلِّف بعد ذلك لتقنية أخرى وهي EEG أو المسح الكهربائي للدماغ ويوضِّح كيف أنها تتفوق على MRI في سهولة الاستخدام وقلة التكلفة ولكنها أقل دقة بكثير، ثم يعود ليشرح مسوحات PET “آلة التصوير المقطعي بالإصدار البوزيتروني” الذي يحسب تدفُّق الطاقة في الدماغ بتحديد وجود الجلكوز ويستخدم فيها مادة الصوديوم 22 كما ذكرنا سابقًا، وبالرغم من أنه أقل دقة من MRI إلَّا أنه أقرب ارتباطًا بالنشاط العصبي لأنه يقيس استهلاك الطاقة لمناطق الدماغ، ويوجد مشكلة كبيرة في مسوحات PET بسبب أنها مشعة مما يسبب عدم تعرض المريض لها أكثر من مرة في العام.

وانتقل ميشيو كاكو بعد ذلك لعدة أدوات تستخدم لعمل جراحات داخل الجمجمة والمخ بدون إجراء فتح مثل MEG الذي يقيس الحقول المغناطيسية الناتجة عن الحقول الكهربائية المتغيرة للمخ، ويفرِّق بينها وبين TES الذي لا يكتفي بقياس المجالات المغناطيسية بل هو الذي يولِّد نبضة كهربائية ضخمة والتي بدورها تصنع دفقة في الطاقة المغناطيسية تخترق الجمجمة مما يجعلها تخلق نبضة كهربائية داخل الدماغ وهذا يسبِّب غلق نشاط مناطق مختارة من الدماغ أو إخمادها بدون حدوث ضرر، وتم استخدام هذة الأجهزة في دراسة المخ عن طريق تسليط النبضات لمناطق معيَّنة لإخمادها أو تنشيطها ودراسة تأثيرها على السلوك، ولكن إحدى سيئات TES أنه لا يستطيع الوصول لمناطق عميقة في المخ مثل الجهاز الحوفي، ويوجد أداة أخرى تسمى DBS “جهاز التحفيز العميق للدماغ” مشابه لجهاز TES يستخدمه علماء الأعصاب ويصل لمناطق أعمق من الدماغ.

وينتقل ميشيو كاكو لتقنية الجينات الضوئية optigenetics وهي تقنية تسمح بتنشيط ممرات معينة تتحكَّم في السلوك بتسليط شعاع ضوئي على الدماغ، ومن خلال هذه التقنية الحديثة التي لم تتجاوز عقد من الزمان استطاع العلماء بإدارة مفتاح ضوئي جعل ذبابة الفاكهة تطير فجأة والديدان تتوقَّف عن التلوِّي، والفئران تجري بجنون في دوائر.

ثم يعرض الكتاب تقنية أخرى تجعل الدماغ شفاف تمام بحيث تعرض ممارات الأعصاب فيه للعين المجردة ومفتاح هذه التقنية الجديدة هي إزاحة الشحوم، وذلك بوضع الدماغ في هلام مائي (هايدروجيل) الذي يرتبط بالشحوم وعند غسل الدماغ بالصابون يزيل الهايدروجيل مع الشحوم ويبقى الدماغ شفافا، ولأنها تقنية حديثة فهي صعبة، فجعل الدماغ بكامله شفَّافًا يحتاج إلى إبداع، لذلك فإنَّ الدكتور كوانغهن تشانغ أحد رواد هذه التقنية الجديدة التي تسمى كلاريتي clarity (الوضوح) يعترف “حرقت أكثر من مائة دماغ وأذبتها”.

نماذج الدماغ:

ينتقل كاكو الآن للحديث عن النماذج التي وضعها العلماء للدماغ التي تتطوَّر مع كل كشف علمي جديد، وأقدم هذه النماذج هي (القزم) وهو يصوِّر الدماغ على شكل شخص قزم يتخذ القرارات، ولكن هذه الصورة غير مفيدة فهي لا تفسِّر ما كان يجري في دماغ القزم نفسه، ومع قدوم الآلات الميكانيكية ظهر نموذج (الآلة) فشبَّه الدماغ كساعة مليئة بالمسنَّنات والتروس، وكان هذا التشبيه مفيد لعلماء ومخترعين مثل ليوناردو دافنشي الذي صمَّم بالفعل رجلًا ميكانيكيًا. وقد ظهر في أواخر القرن التاسع عشر عند ظهور الطاقة البخارية نموذج “المحرِّك الكهربائي” حيث تتنافس تدفقات الطاقة بعضها مع بعض، ورأى المؤرِّخون أنَّ هذا النموذج قد أثَّر في تصوُّر فرويد للدماغ وأنه عبارة عن ثلاث قوى وهي «الأنا ego» و«الهو ID» والأنا الأعلى «super ego».

وفي أوائل القرن الماضي مع صعود الهاتف برز نموذج أ الدماغ (بدال هاتف ضخم). ومع صعود الترانزستور ظهر نموذج جديد للدماغ وهو (الحاسوب). وأكثر التشبيهات حداثة هو تشبيه العقل (بالانترنت) والوعي في هذا النموذج عبارة عن ظاهرة تنتج عن العمل الجمعي لمليارات العصبونات ولكن المشكلة هي أنَّ هذا النموذج أنه لا يقول شيئًا على الإطلاق عن كيفية حدوث هذه المعجزة فهي تطوي تعقيد الدماغ كله تحت عباءة نظرية الشواش، ويرى الكاتب أنَّ هذه التشبيهات تمتلك جزءًا من الحقيقة، ولكن لا تلتقط أي منها تعقيد الدماغ، ولذلك يحبذ الكاتب نموذج (مؤسَّسة ضخمة) وبالتالي فالعقل نظام بيروقراطي ضخم وخطوط اتصال وتدفقات كبيرة للمعلومات تجري بين مختلف الأقسام، ولكن المعلومات المهمة تنتهي في مركز التحكُّم مع مدير المؤسسة وهناك تتخَّذ القرارات النهائية. ولو صح تشبيه الدماغ بمؤسسة ضخمة فيمكن تفسير بعض خصائص الدماغ على ضوئها مثل:

خصائص الدماغ

1 –  معظم المعلومات تتركَّز في الوعي
مثل المؤسَّسة، فإنَّ المدير لا تصله إلَّا كمية ضئيلة فقط من المعلومات التي تهمه، والمدير هنا هو القشرة الجبهية للدماغ التي تمثل الوعي.

2 – الإنفعالات عبارة عن قرارات سريعة تتخذ على مستوى أدنى. وبالتالي فالإنفعالات (الخوف، والغضب، والإشمئزاز ، .. إلخ) وهي استجابات فورية تم على مستوى أخفض من المدير، وهذا يبيِّن أن تحكُّمنا الواعي في الإنفعالات قليل.

3 – هناك محاولات مستمرة لنيل اهتمام المدير العام
فالمراكز الفرعية ضمن مركز التحكم هي في حالة تنافس دائم بعضها مع بعض من أجل الحصول على اهتمام المدير العام.

4 – تتخذ القرارات النهائية من قبل المدير العام في مركز التحكُّم. وتقوم معظم العصبونات والممرات العصبية بجمع المعلومات وترتيبها للمدير العام (القشرة الجبهية). يحاول المدير العام التوفيق بين المعلومات المتعارضة التي تتدفق عليه. وبينما تتخذ معظم القرارات بالغريزة في الحيوانات، يتخذ البشر قرارات عل مستوى أعلى بعد تمحيص مجموعات مختلفة من المعلومات القادمة من الحواس.

5 – تتدفَّق المعلومات هرميًا بسبب كمية المعلومات الهائلة التي يجب أن تتدفق للأعلى نحو مكتب المدير العام أو للأسفل نحو العناصر المساعدة.

ولكن يبقى أن نقول أنَّ هدر الطاقة في الدماغ اللازم لنقل المعلومات ترف لا يمكن للعقل تحمُّله، ومن الممكن أن يسبِّب تلف الأنسجة لذلك يستخدم الدماغ طرقا مختصرة للحفاظ على الطاقة التي سيتم ذكرها خلال فصول الكتاب.

ينتقل الكاتب في نهاية الفصل الأول لموضوع هام جدا وهو يطرحه عند الإجابة عن التساؤل : هل مايكونه المخ من أفكار ناتجة عن معلومات الحواس هي الحقيقة؟.

يجيب الكاتب أنَّ معظم مانراه هو في الحقيقة وهم، فعلى سبيل المثال عندما نرى مشهدًا طبيعيًا ومع وجود ثغرة في حقل رؤيتنا توجد عند العصب البصري في الشبكية، من المفترض أن نرى هذه البقعه السوداء الضخمة أينما نظرنا ولكن أدمغتنا تملأ تلك لثغرة بتغطيتها وتعديلها وهذا يعنى أنَّ جزءًا من رؤيتنا هو في الحقيقة زائف  حيث يولِّده عقلنا الباطن لخداعنا. ويذكر مثال آخر يتمثَّل في أنَّ مجسَّات شبكية العين تكتشف اللون الأحمر والأزرق والأخضر وهذا يعني أننا لا نرى اللون الأصفر والبني والبرتقالي ومجموعة الألوان الأخرى حقًا ولكن دماغنا يستطيع تقريب كل منها فقط بخلط كميات مختلفة من الألوان الثلاث الأساسية، كما يشرح أنَّ شبكية العيون ثنائية البعد، وأنَّ الدماغ الأيسر والدماغ أيمن يدمجان هاتين الصورتين مما يعطينا الإحساس المزيَّف بالبعد الثالث، ولإعطاء مثال أوضح هام جدًا ذكر حالة الدماغ المشطور split-brain . فانقسام الدماغ لشطرين حير العلماء وزادت الحيرة أكثر عندما اكتشف العلماء أنه لو أزيح نصف كرة بأكمله فإن الدماغ يعمل، ومن التطورات الهامة في هذا الشأن هو حصول الدكتور روجر سبيري على جائزة نوبل عندما بيَّن أن نصفي كرة الدماغ ليستا نسختين كربونيتين متطابقتين لكنهما يؤديان وظائف مختلفة، فقد كان سبيري يعالج مرضى الصرع الذين يعانون أحيانا نوبات صرع كبيرة تنتج غالبًا عن دارات تغذية راجعة بين نصفي كرة الدماغ اللذين يخرجان عن السيطرة، ومثل مكبر يصرخ في آذاننا يمكن أن تصبح النوبات مهددة للحياة.

بدأ الجزء الأهم عندما قطع الدكتور سبيري الجسم الثفتي corpus callosum الذي يصل نصفي الدماغ لمنع دارات التغذية الراجعة بين الدماغين فتم إيقاف نوبات الصرع وأصبح المرضى طبيعيون ولكن حدث شئ غريب!

إنَّ الدماغ الأيسر الذي يملك السيطرة ويعطي الأوامر، هو الأكثر تحليلا ومنطقية، أما الدماغ الأيمن أكثر شمولية وفنية، وعند قطع الجسم الثفتي الذي يصل الدماغين فإنَّ الدماغ الأيمن يتحرَّر من سيطرة الدفاع الأيسر المسيطر وهذا الوضع الغريب يسبب أنَّ اليد اليسرى التي يتحكم فيها الجزء الأيمن تتصرَّف بشكلٍ مستقِّل عن تصرفاتك كأنها عضو غريب، وذكر حالتين أحدهما لرجل كان يعانق زوجته بيد ويضربها باليد الأخرى، وامرأة ذهبت لتلتقط يد لترى يدها الأخرى تلتقط ثوبًا آخر، وذكر تجارب الدكتور سبيري على هذا الأمر، وعرض تجربة أخرى لعالم الأعصاب راماتشاندران مريضا بدماغ مشطور سئل عما إذا كان مؤمنًا أم لا فأجاب أنه ملحد ولكن دماغه الأيمن صرح بأنه مؤمن، وخلقت هذه التجارب والاستنتاجات إشكاليات تتعلق بالوعي، وهو ما سيتم مناقشته في الفصول التالية.

إعلان

اترك تعليقا