كارل ماركس في عصر الذكاء الاصطناعي (مترجم)

هل يؤكد الذكاء الاصطناعي على أفكار كارل ماركس؟

«يعتمد التأثير قصير المدى للذكاء الاصطناعي فيمن يتحكم به، إلا أنّ تأثيره طويل المدى يكمن في إن كان يمكن التحكم به على الإطلاق» – ستيفن هوكينج

«إن لم يتمكن المجتمع الحر من مساعدة غالبيته من الفقراء، فلن يمكن إنقاذ الأقلية من الأغنياء» – جون كينيدي

إن الإنسانية على حافة أحد أهم التطورات في تاريخها، فقد بدأت خوارزميات الذكاء الاصطناعي والروبوتات بالتطور ملحقةً ثورة في كل مجالٍ وصلت إليه. ولكن، هل قد تستبدلنا الروبوتات والخوارزميات يومًا آخذة جميع وظائفنا؟

لم تثبت إلى الآن نبوءة كارل ماركس صحتها، فلم تحدث الثورة الشيوعية، ولم تتأسس ديكتاتورية البروليتاريا، ولم تنهار النظم الرأسمالية مع تطور الاقتصاد. لكن بظهور التقنيات الجديدة في القرن الواحد والعشرين، قد ينتهي الأمر بما تنبأ به كارل ماركس.

نبوءات كارل ماركس

تشكلت نبوءات كارل ماركس استنادا على عدة أسس نظرية، أولها تشكُّل طبقة من العاطلين عن العمل بشكلٍ كلي، أو “جيش احتياطي من العمال”، وهو ما ينتج من استخدام الرأسماليين لتكنولوجيا تقلل من العمالة المطلوبة حتى يتمكنوا من الاستمرار في المنافسة أمام بقية الشركات، فيضطرون إلى خفض تكاليف الإنتاج إما بخفض الأجور أو بتطبيق تقنيات حديثة. وبوجود جيش احتياطي من العمال تقل أجور العاملين، مما ينعكس على جودة حياة جميع العمال والتي تنخفض بشدة.

وبذلك سيؤدي التقدم التكنولوجي -حسب قول كارل ماركس- إلى زيادة في حجم الطبقة العاطلة بشكلٍ كليّ، وهو ما سيزيد تباعًا من بؤس العمال وتعرضهم للاستغلال.

أما الفرضية الثانية للتحليل الماركسي، فترتكز على ازدياد التمركز الاقتصادي، فتقضي الشركات الأقوى على الأضعف وتحل محلها.

إعلان

وبذلك يزداد الاحتكار وترتفع أعداد العاطلين عن العمل تدريجيًا مما يتسبب في انخفاض المساواة بين الأفراد، لينتهي الأمر أخيرًا بثورة تقودها طبقة العمال العاطلة محاولة أن تطيح بالحكومة. (هذه نظرة سريعة عما تنبأ به ماركس: لن نتطرق في هذه المقالة إلى العيوب الكامنة في هذه النظرية).

وبذلك فإن تحقق نبوءات كارل ماركس مقترن بتأثير التكنولوجيا على سوق العمل، كما يعتمد ذلك بالطبع على الجوانب الأساسية للطبيعة البشرية.

لا يمكن التنبؤ بالتوقيت الدقيق، وسرعة التغيرات القادمة ونطاقها، فالنتائج النهائية تعتمد على البشر أنفسهم، لكن يمكن أن نحصر ما قد تؤول إليه الأمور في احتمالين: استبدال التقنيات الجديدة للبشر بشكل كليّ أو استبدالها لبعض الوظائف مع ترك البعض في يد البشر.

إن آل مصيرنا إلى الاحتمال الثاني، فقد نتمكن من اتخاذ بعض التدابير المناسبة لنمنع حدوث أي اضطرابات اجتماعية كبيرة، وهو ما قد يساعدنا في الانتقال إلى نوع آخر من المجتمعات، بعكس السيناريو الأول والذي سيَفقد البشر فيه قيمتهم تدريجيًا إلى أن تظهر الخوارزميات فائقة الذكاء والتي ستكون بمثابة نقطة تحول في تاريخ التطور التكنولوجي.

وقد دارت الأسئلة لآلاف السنين حول طبيعة الواقع، ولذلك أهمية فلسفية بالطبع، إلا أنّ فائدته العملية كانت ضئيلة أو ربما معدومة، لكن مستقبل البشرية الآن متوقف على تلك الإجابات.

طبيعة الواقع

يقول بايرون ريس في كتابه “الجيل الرابع”: إن كان الكون أحادي الطبيعة، فيمكن لأجهزة الكمبيوتر أن تكتسب وعيًا وتتمكن من استبدال كل ما يقوم به البشر، لكن إن كان ذي طبيعة ثنائية، فستترك الآلات لنا بعض الوظائف، لأن طبيعة الآلات ستكون بذلك مختلفة عن طبيعة البشر.

الأحادية Monism (وتُعرف أيضًا باسم المادية أو الفيزيائية) هي نظرية فلسفية تفترض عدم وجود فرق بين المادة والفكر: فلا يوجد سوى مادة نهائية واحدة. يعتقد الأحاديون أننا مجرد مجموعة من الذرات تفتقر إلى الإرادة الحرة تتفاعل بطرقٍ شتى، وبعبارة أخرى، ما البشر إلا آلات: لا يوجد فرق بين المادة الجامدة والمادة الحية، فنحن جميعًا نتكون من ذرات، كما يُنكر الأحاديون وجود النفس، وقد لخص فرانسيس كريك، وهو أحد المشاركين في اكتشاف الحمض النووي، وجهة نظر الأحادية في قوله: «أنت بجميع مسراتك وأحزانك، بكل ذكرياتك وطموحاتك، بإحساسك بالهوية وشعورك بالإرادة الحرة، لست في الواقع سوى سلوك نتج عن ارتباط مجموعة واسعة من الخلايا العصبية والجزيئات».

بعكس الثنائية Dualism والتي تعتبر البشر مختلفين عن الجوامد وحتى الحيوانات، فالأشياء الجامدة ليست كالعاقلة؛ فنحن كائنات حية بعكس الآلات الميتة: نحن لسنا مجرد حفنة من الذرات، هناك ما هو غير مفهوم فينا، شيء يسميه البعض بالروح ويسميه آخرون بالوعي.

الفيلسوف فرانك جاكسون من أشهر مؤيدي الثنائية، ابتكر تجربة ذهنية تُدعى “غرفة ماري” وهي كالآتي:

ماري عالمة جليلة تعرف كل ما قد يتصوره عقل عن الألوان، بما في ذلك طبيعة الفوتونات وكيف تؤثر على إدراك الدماغ عن العالم مثل تحفيز الأطوال الموجية لتفاعلات معينة في شبكية العين وما إلى ذلك.

إلا أنّ حياة ماري بأكملها مقتصرة على غرفتها التي تحتوي على لونين فقط (الأبيض والأسود)، حتى علمها بالألوان قد اكتسبته بالتعلم من خلال شاشة رمادية.

والسؤال هنا: هل ستتعلم ماري شيئًا جديدًا إن خرجت من الغرفة ورأت العالم الحقيقي؟ إن كان الأمر كذلك، فإن تجربة شيء هو أمر مختلف عن مجرد معرفته وهناك أشياء في عالمنا لا يمكن شرحها (بعد)- وهو ما يثبت ثنائية العالم.

ما يترتب على النظرية الأحادية

يتبني ستيفن هوكينج وجهة النظر الأحادية عن طبيعة العالم، فيعتقد بـ «عدم وجود فروقات عميقة بين ما يمكن تحقيقه بواسطة الدماغ البيولوجي وما يمكن للكمبيوتر بلوغه. وبذلك يمكن لأجهزة الكمبيوتر من الناحية النظرية أن تحاكي الذكاء البشري- بل وتتجاوزه».

فإن كان ذلك صحيحًا والكون أحادي بالفعل، فستحل الروبوتات والخوارزميات عاجلًا أم آجلًا محل البشر وتستبدلهم في وظائفهم بشكلٍ تام، فإن كان البشر مجرد آلات ولا يوجد ما يميزهم (روح/ وعي)، فسوف تحل الروبوتات محلهم تدريجيًا كلما تطورت خوارزمياتها، لتقوم في النهاية بكل ما يمكن للبشر القيام به، بدايةً من العمل في المصانع وتقديم الطعام إلى ابتكار أعمال فنية وتأليف الكتب.

وقد كتب يوفال هراري في كتابه “21 درسًا للقرن الحادي والعشرين” يقول: «على المدى الطويل، لن تكون هناك أي وظيفة في مأمن من الميكنة»، حتى الوظائف المعتمدة على المشاعر كالفن مثلًا، وذلك لأنّ «العواطف ليست بظواهر غامضة- بل نتيجة لعمليات كيميائية حيوية».

قد يعجبك أيضًا

وفقًا للمنطق الأحادي، فقد بدأت التكنولوجيا بالفعل في تجاوز بعض القدرات المادية للبشر، فاستبدلت العديد من وظائفهم الميكانيكية البسيطة وتتعدى بالتدريج على المجالات التي تتطلب قدرات معرفية، فيمكن للخوارزميات الآن اكتشاف أنواع من السرطان أفضل من البشر، وبتسارع وتيرة التطور التكنولوجي، سيصبح المزيد والمزيد من الناس عاطلين عن العمل، إن أصبح الأغلبية عاطلين، قد تتحقق حينها الثورة الشيوعية.

وفي ظل غياب التدخل الحكومي، ستقل المساواة بشكلٍ كبير، فينخفض المستوى المعيشي لأغلب السكان، كما ستقل أعداد الشركات الصناعية المنافسة نتيجة لماهية الذكاء الاصطناعي المعززة للاحتكار (حيث تحصل الشركات الكبيرة على مزيد من البيانات من مستخدميها، وهو ما يمكنها من تحسين كفاءة خوارزمياتها، مما يحسّن من منتجاتها، مما يجذب المزيد من المستخدمين الذين يوفرون بدورهم المزيد من البيانات، وهكذا دواليك)، وهو ما يتماشى مع توقعات ماركس بأن إدخال تقنيات جديدة سيؤدي إلى تكوين طبقة عاطلة عن العمل بشكل مستدام وزيادة في عدم المساواة.

فإن تحققت النظرية القائلة بانخفاض عدد السكان خلال العقود القادمة، فقد تنقرض البشرية على المدى الطويل جدًا- خلال عدة قرون مثلًا، وهو ما سيفسح الطريق أمام الخوارزميات لتحكم العالم.

ما يترتب على النظرية الثنائية

إنْ افترضنا صحة نموذج ثنائية الكون، فسوف تتولى الخوارزميات يومًا معظم الوظائف ،عدا تلك التي تتطلب قدرات جسدية معقدة أو مهارات اجتماعية، وسيتسبب ذلك في سلب عدد كبير من الوظائف وتحويل أصحابها إلى عاطلين، بما سيجعل منهم جيشًا صناعياً احتياطياً.

ويزعم مؤيدي الثنائية أن الآلات تفتقر إلى التعاطف أو الإبداع أو التفكير النقدي، ربما يدرك الثنائيون أن العلم يشكك في وجود الروح والإرادة الحرة وما إلى ذلك، مما يجعل البشر والآلات سواء، إلا أن هناك حدودًا لما يمكن للعلم أو العقل البشري فهمه ودراسته باستخدام الأساليب العلمية التقليدية.

قال فريدريك نيتشه في ذلك:

«ما يفتقر إلى العقل… لا يفتقر بالضرورة إلى الذكاء»، فقد يكون هناك «عالم للحكمة يأتي منه المنطق».

لقد فشلنا نحن البشر في فهم ماهية العالم وتعقيداته، لذا لجأنا إلى استخدام التراكيب النظرية، وأهمها اللغة والرياضيات والمنطق والعقل والعلم، وهي طرق مختلفة حاولنا استخدامها لنفهم الواقع.

لكن ألايمكن أن يكون هناك شيءٌ لا يمكن التقاطه بما في أيدينا من تركيبات نظرية؟ شيء يميز البشر عن الأشياء الأخرى في الكون؟ نحن نُعتبر كائنات تأملية، فمجرد تفكرنا في أسئلة الوجود الجوهرية قد يكون بحد ذاته دليلاً على أننا لسنا آلات، وطبقاً لمزحة قديمة، فإن كنا مجرد مجموعة من الذرات، فالعلماء الدارسين للذرات هم مجرد كومة من الذرات تدرس ذرات أخرى.

لكن قد لا نكون مجرد حفنة من الذرات: ربما هناك شيء يميزنا- سواء أكان ذلك الشيء هو الإبداع أم الروح أم الوعي- شيء لا يمكن أن يستوعبه العلم بعد، فلا يمكن لمجموعة من الذرات أن تتمكن من الفهم.

لكن إن كان تصميم أدمغتنا بسيطًا بحيث يمكن فهم الشيء المميز به، فستكون أدمغتنا أقل قدرة مما قد يمكننا من فك رموزها الداخلية، وبذلك لا يمكننا أبدًا التثبت من فهمنا لأنفسنا بشكلٍ كلي.

وكما يقول نسيم طالب: «غياب الأدلة ليس دليلاً على غيابها». فهناك حدود لما يمكن فهمه، حتى وإن شرحنا الحياة من حيث العمليات البيوكيميائية، فلن يعني ذلك بالضرورة أن كياننا مبني على مجرد الكيمياء الحيوية. فإن لم نَعِ وجود الشيء، فلا يعني ذلك بالضرورة أن هذا الشيء (الروح أو الوعي) غير موجود.

هل تقدر الأسواق الحرة على إنقاذنا؟

ولهذا السبب تعتبر المجريات الناجمة عن نموذج الكون الثنائي أقل سوداوية من نظيره الأحادي، فوفقًا للنموذج الثنائي -مع عدم وضع أي قوى خارجية في الحسبان- فإن نسبة البطالة ستزداد، لكنها لن تؤدي إلى فقد 99.99٪  من الناس وظائفهم مثلًا ليبقوا دون مورد يعينهم على الحياة.

هناك احتمالان لذاك السيناريو: قدرة الأسواق الحرة على استيعاب التأثيرات السلبية للميكنة مع حاجتنا فقط إلى الحد الأدنى من التدخل الحكومي (مثل إعادة تأهيل بعض العمال أو تقديم مزايا اجتماعية مؤقتة أثناء انتقالهم إلى وظائف جديدة)، أو ربما نحتاج إلى تدخل حكومي على نطاق واسع (مثل توفير نوع من الدخل المادي الأساسي لكل فرد).

هناك أسباب تدفعنا إلى الاعتقاد بأن الأسواق الحرة قد تمثل منقذاً لنا، نظراً لقدرتها على تخفيف الآثار السلبية للثورة التكنولوجية مع احتياجنا فقط إلى الحد الأدنى من التدخل الحكومي.

فالميكنة ليست بلعبة محصلتها صفر، فحتى وإن فقدنا العديد من الوظائف، فلا يوجد حد لعدد الوظائف الجديدة التي يمكن ابتكارها، لطالما أبدعنا في ذلك، ولقد أدخلنا العديد من التقنيات الجديدة على مر التاريخ، ومع كل تقنية جديدة، كان يتوقع البعض تسببها في بطالة كبيرة واسعة النطاق، ولكن ظلت معدلات التوظيف مستقرة إلى حدٍ ما على المدى الطويل.

لم تنفذ الوظائف أبدًا لأن الناس دائمًا ما يبتكرون أشياء جديدة تحتاج إلى من يقوم بها، وكما قال جون كينيدي: «إن كان لدى البشر الموهبة لابتكار آلات جديدة تطرد الرجال من العمل، فإن لديهم الموهبة لإعادة هؤلاء الرجال إلى العمل».

هناك دراسة أُجريت بواسطة المنتدى الاقتصادي العالمي وقد توقعت توفير الذكاء الاصطناعي لما يقرب من 133 مليون وظيفة بحلول عام 2022، لكنه في الجانب الآخر سيقضي على 75 مليون وظيفة، مما يؤدي إلى زيادة الوظائف بنسبة تصل إلى 58 مليون وظيفة (الدراسة لا تعالج النتائج طويلة الأمد).

أي أنه ليس من المؤكّد حدوث بطالة واسعة النطاق، لأن التقنيات الجديدة قد تتمكن من خفض التكاليف للمستهلكين، وهو ما سيشجع المواطنين على إنفاق المزيد من الأموال على السلع والخدمات الأخرى، وهو ما سيزيد تباعًا الطلب الكلي وتشجيع المنتجين على توسيع الإنتاج وبالتالي خلق المزيد من فرص العمل، وستنتشر آثار التقنيات الجديدة بشكل متساو، لتتيح الفرصة أمام الجميع للانتقال إلى قمة السلم الاجتماعي بسهولة نسبية، يقول بايرون ريس عن ذلك: إننا لن نواجه نقصًا مرعبًا في القوى العاملة ذات المهارات العالية ولن نصل إلى مرحلة وجود جيش من العمال العاطلين عن العمل من ذوي المهارات المتدنية.

فإن زاد الطلب مثلًا على مهندسي الذكاء الاصطناعي، وتم في نفس الوقت استبدال الصرافين ببرامج ذكية، فلن نضطر إلى إعادة تدريب الصرافين ليسدوا العجز في مهندسي الذكاء الصناعي، بل يمكن في تلك الحالة أن يعمل أساتذة الجامعات كمهندسي ذكاء اصطناعي، ويمكن حينها لطلاب الدكتوراة أن يشغلوا وظائف أساتذة الجامعات، ومدرسي المدارس الثانوية -على سبيل المثال- يمكنهم أن يقوموا بعمل طلاب الدكتوراة، ومعلمي المدارس الإعدادية أو الابتدائية سيتولون وظيفة أساتذة المدرسة الثانوية، وهكذا دواليك.

وأخيرًا يمكن للصرافين -مع بذلهم لبعض الجهد- أن يقوموا بتعليم البرمجة في المدرسة الابتدائية، تاركين للروبوتات أداء وظيفة أمين الصندوق الرتيبة المملة غير الإنسانية؛ أي يمكن للجميع بفضل التكنولوجيا أن يتحركوا في النظم الاجتماعية ويزيدوا من دخلهم، هذه هي اليد الخفية للسوق الحرة.

ووفقًا لمفارقة مورافيك، فإن التقنيات الجديدة لن تكون ذات تأثير على عمال الياقات الزرقاء، فينص مبدأ مورافيك على أنه نتيجة لأسباب تطورية، ستكون وتيرة الثورة الروبوتية أبطأ من وتيرة ثورة الذكاء الاصطناعي، لأنه من الصعب محاكاة الإمكانات الحسية الحركية -والمهارات الشبيهة- التي تطورت عبر مئات الآلاف من السنين، في حين أن المهارات التي تطورت بشكل حديث نسبيًا، كالفكر المجرد والتفكير الرياضي، أسهل كثيرًا في محاكاتها.

ولذا تمكنت الخوارزميات من التغلب على أبطال الشطرنج بالسهولة، واستطاعت اكتشاف السرطانات بشكل أفضل من البشر، إلا أنّ الروبوتات لم تتمكن بعد من لعب كرة القدم بمستوى قريب مما يفعله البشر، وهو ما صاغه كاي فو لي في كتابه “القوى العظمى للذكاء الاصطناعي” كالآتي: «الذكاء الاصطناعي عظيم إذا ما تعلق الأمر بمهارات التفكير، لكنّ الروبوتات سيئة في مجرد تحريك الأصابع». وكتب هانز مورافيك يقول: «من السهل نسبيًا أن تُعلم الكمبيوتر ما يتفوق فيه البالغون مثل اختبارات الذكاء أو احتراف لعبة الداما، لكنه من الصعب أو من المستحيل أن تعلمه مهارات الإدراك والحركة عند طفل يبلغ عامًا واحدًا».

إن العمال ذوي الياقات الزرقاء هم من تعتمد وظائفهم على العمل البدني، وبالتالي استبدالهم بالروبوتات ليس بالأمر الهين، بعكس من يقومون بأعمالٍ مكتبية، خاصةّ إن كانوا من ذوي المهارات المنخفضة (كتبة، موظفي دعم المكاتب، السماسرة، إلخ)، وقد بدأت الخوارزميات في إزاحة بعضهم بالفعل، وبالتالي لا تتوقع أن ثورة الذكاء الاصطناعي ستستبدل (إن حدثت) العمال ذوي الأجور المنخفضة فقط.

وتؤكد دراسة ماكينزي على ما قاله مورافيك في هذا الصدد، فوفقًا لماكينزي، سينخفض الطلب على وظائف “الدعم المكتبي” (العاملين في المجالات المالية وتكنولوجيا المعلومات والمساعدين الإداريين) بنسبة 20% بحلول عام 2030، ويتوقع أن يزداد الطلب على “الأعمال البدنية” التي لا يمكن توقع حركاتها (مثل تركيب الآلات وإصلاح الأعطال والأعمال الميدانية الزراعية) بنسبة 6%.

ستكون ثورة الروبوتات أبطأ من ثورة الذكاء الاصطناعي، لذا لن تتضرر الطبقة العاملة بشدة كما تؤكد بعض التوقعات، فلن يكمن التحدي في ندرة الوظائف، بل في إعادة تدريب هؤلاء وتثقيفهم.

لكن ليس من المؤكد أن تتمكن السوق الحرة وحدها من مواجهة الآثار السلبية لعمليات الأتمتة، فعاجلاً أم آجلاً ستفوقنا التكنولوجيا في معظم المهارات وستستبدل أغلب الوظائف، وربما تساعدنا السوق الحرة على المدى القصير، ولكن ستنخفض الوظائف المتاحة على المدى الطويل، وهو ما سيلزم تدخل حكومي لتعويض التأثير السلبي.

لنعرض بشكل موجز ما قمنا بتناوله:

  1. الأحادية: يتم أتمتة جميع الوظائف، وبالتالي: (أ) تنشئ الخوارزميات نظامًا عالميًا جديدًا لما بعد البشرية أو (ب) يستعين البشر بالذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحيوية في ترقية أنفسهم ليتمكنوا من البقاء في عصرٍ هيمنت عليه الخوارزميات.
  2. الثنائية: يتم أتمتة غالبية الوظائف، مع بقاء بعضها لنا، وبالتالي (أ) نحتاج إلى تدخلات حكومية على نطاق واسع أو (ب) يكون هناك تدخل حكومي محدود أو ربما غير ضروري بفضل الأسواق الحرة.

رأسمالية السوق الحر وأعداؤها

قد يتخذ الماركسيون الجدد من ظهور التكنولوجيات الجديدة وأثرها المتسبب في بطالة ضخمة مبرراً لاحتكار الدولة لوسائل الإنتاج، وهو ما يقترحه يانيس فاروفاكيس، حيث يرى أنه من الضروري الآن أن «نترك مفهومنا القديم عن امتلاك القطاع الخاص لوسائل الإنتاج ونتبنى فكرة الملكية الجماعية للآلات والأراضي والموارد».

حتى إن واجهتنا بطالة هائلة، فيمكن تقرير دخل أساسي لمساعدة من يعيشون تحت خط الفقر، فالتقنيات الجديدة ستكون منتجة للغاية، وحتى وإن فرضنا ضرائب تصاعدية متواضعة على تلك الشركات، سنتمكن بسهولة من مساعدة المتضررين من التكنولوجيا.

لن يتحقق ما تنبأ به كارل ماركس خلال القرن الحادي والعشرين، فلقد آمن بعجز الحكومات على تغيير النظام لتلاشي الأزمات، لكن تم بالفعل تلاشي تلك الأزمات خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، فقد تبنت حكومات الدول المتقدمة أفضل ما يقدمه البرنامج الاشتراكي، فاستفادوا من ذلك دون أن يربط أحد تلك الأفكار بالفكر الشيوعي (فمثلًا، قدم المستشار الألماني أوتو فون بسمارك إلى الغرب نظام البرامج الاجتماعية الحكومية) .

الثورة ليست حتمية طالما تمكنا من معالجة العيوب الكامنة في النظام، على الرغم من أنّ احتمالية حدوث ما تنبأ به ماركس تزداد في عصرنا نتيجة لما تتسبب فيه الصناعة المعتمدة على الذكاء الاصطناعي من احتكار وبطالة، ولكن باتخاذنا الخطوات الصحيحة، لن تتحقق “نبوءات ماركس العتيدة” في المستقبل، كما لم تتحقق في الماضي.

لكنّ المؤيدين للأنظمة السلطوية ينظرون للأمر من منظورٍ مختلف، حيث يعتقدون بإمكانية إلغاء الحاجة للسوق الحرة بالتخطيط الاقتصادي باستخدام الذكاء الاصطناعي، فهم يرون أنّ قوى العرض والطلب هي شيء رائع في تحديد القيمة الجوهرية للمنتج، ولكن يمكن الاستغناء عن هذه الآلية بتحليل البيانات الاقتصادية من حيثُ طلبات الناس وتفضيلاتهم ثم استخدام الخوارزميات لمحاكاة آلية السعر، وقد جادل فريدريك هايك قديمًا حول ذلك، فهو يرى أنّ العوامل المحددة للسعر تعتمد على العديد من المشاركين، ونتيجة لعجز المخططين المركزيين على الإلمام بهذا الكم الهائل من المعلومات فستكون قراراتهم خاطئة، وسيتم تسعير وتوزيع السلع والخدمات بطريقة غير فعالة.

لكن الوضع بات مختلفًا مع تطور الذكاء الاصطناعي، فقد منحت التكنولوجيا الجديدة المخططين المركزيين أداة يمكنهم من خلالها الحصول على مثل تلك المعلومات واستخدامها. وكما قال جاك ما “مؤسس موقع علي بابا”: «ستمكننا البيانات الضخمة Big Data  من إتمام المعاملات السوقية بطريقة أكثر ذكاءً، وستجعل من الممكن أن نخطط ونتنبأ بالقوى المؤثرة في السوق لنتمكن أخيرًا من الوصول إلى اقتصاد مخطط له سلفًا».

قد يكون التخطيط المركزي المبني على خوارزميات الذكاء الاصطناعي أمرًا جيدًا في معرفة ما يرغب به المستهلكون ومن ثم تحديد السعر الحقيقي للمنتجات، لكن سيفتقر ذلك إلى ما يتسم به النظام الرأسمالي من ابتكار في عرض المنتجات، فكيف يتمكن المستهلك داخل نظام كذاك من التبليغ برغبته في منتج ليس موجودًا بعد؟ وقد قال ستيف جوبز في ذلك: «لا يعرف المستهلك ما يريده حتى نعرضه عليه».

من المستحيل أن نخرج عن النماذج السابقة ونصنع شيئًا جديدًا بشكل جذري اعتمادًا عما بأيدينا فقط من أسس معرفة قديمة: فالتطورات تحدث فقط بمواجهة أشخاصٍ جريئين كفاية لتحدي العادات القديمة، إن اتّخذ المسؤولون عن النظام قرارات اقتصادية بناءً على البيانات القديمة وحدها، فلن يتسم الاقتصاد الناتج بالابتكار: فالابتكار يأتي في الغالب (وإن لم يكن دائمًا) من المخترعين المستقلين (أشخاصٍ من أمثال توماس إديسون وجيمس وات والأخوان رايت وألكسندر بيل وبيل غيتس وستيف جوبز وإيلون ماسك ومارك زوكربيرج) وليس المشاريع المدعومة من قبل الحكومة.

وكما سيقضي هذا النوع من التخطيط المركزي على المزايا التي توفرها المنافسة بين العديد من اللاعبين في السوق، فعادةً ما تتسبب سيطرة الدولة على الاقتصاد في حدوث ركود ونقص في الابتكار، فالحرية تؤدي إلى الإبداع وتشجع التفكير خارج الصندوق كما تُحفّز العقول الجليلة على متابعة سبر المجهول وتوسيع أفق فهمنا، الأسواق الحرة ليست مثالية، وينبغي أحيانًا استكمالها بتدخل حكومي محدود لتلاشي أضرارٍ معينة- ولكن حتى في عصر الذكاء الاصطناعي، ستظل أفضل طريق أمامنا لنواصل التقدم التكنولوجي، فلا تقع فريسة لمزاعم من يدعي بأنّ الخوارزميات ستنهي عصر السوق الحرة.

بحثًا عن المعنى

تُعتبر العديد من الوظائف خطيرة درجة اعتبارها غير إنسانية، لذا يتحتم علينا تسليمها إلى الروبوتات والخوارزميات بمجرد استطاعتنا، وقد قال بيل جيتس: «التكنولوجيا تحرر ما بنفوسنا من رحمة فطرية تجاه إخواننا من بني البشر».

ستساعدنا التكنولوجيا في اكتشاف هويتنا، ستمكننا من الانخراط في أنشطة مناسبة حقًا للبشر مما يسهل علينا معرفة طبيعتنا الحقيقية، سنتوقف أخيرًا عن الهوس بالتحسُّن المادي المستمر وزيادة الرضا تجاه احتياجاتنا المادية، وهو ما سيحدث فقط حين يقوم الذكاء الاصطناعي بمعظم مهامنا موفرًا لنا الوقت لنتفرغ للانخراط فيما يجعلنا بشرًا.

وطالما كان شعار ماركس للحالة النهائية للمجتمع «من كل حسب قدرته، إلى كلٍ حسب حاجته». فالتقنيات الجديدة ستوفر لنا جميع احتياجاتنا الشخصية، وستوفر لنا الوقت لنسير في درب أهدافنا.

اعتقد كارل ماركس بأنّه سيمكن تطبيق الشيوعية في مرحلة معينة من تطور المجتمع حينما تتمكن التقنيات الجديدة من انتاج ما يكفي لتلبية احتياجات الجميع، وهو ما بإمكان الذكاء الاصطناعي والروبوتات تحقيقه. وربما يبدو ذلك متناقض، إلا أنّ ماركس كان بطريقة ما ليبراليًا، فقد عُرف بكرهه للدولة، فقد تخيل أن وجهتنا الأخيرة ستكون مجتمعًا عديم الجنسية، فيه من الموارد ما يكفي للسماح للبشر باكتساب ما اعتبره الحرية الحقيقية- وهو التحرر من الضرورات المادية وما قد تتسم به أنظمة الدول من قمع ومحسوبية، ذلك بجانب امكانية الانخراط بحرية في المساعي غير المادية.

الاستعداد للمستقبل

حينما يزداد تطور الذكاء الاصطناعي ويبدأ توغله في جوانب مؤثرة في المجتمع درجة فرضه لبعض التحديات الأساسية على النظام المجتمعي القائم، سينبغي علينا أن نسمح بقدر محدود ومعقول من تدخل الدولة، فالتشدد على موقف أيديولوجي من عدم التدخل يعتبر ضربًا من الوهم قد يتسبب في مخاطر عدة على بنية المجتمع ككل، كتب فريدريش هايك في كتابه “الطريق إلى العبودية” يقول: «تُشجع النقاشات الليبرالية على الاستفادة القصوى من المنافسة باعتبارها وسيلة لتنسيق الجهود الإنسانية، وليس أن نترك الأشياء كما هي”.

ففي الديمقراطيات الليبرالية، دائمًا ما نجد هناك مؤسسات سياسية تهدف إلى حماية الأقلية والضعفاء من بطش الأغلبية، فكثيرًا ما تضر الحرية غير المحدودة بالغرض منها، فعدم وجود قيود على الكيفية التي يمارس بها الفرد حرياته قد تحدث انتهاكات لحقوق الآخرين، وكذلك الحال في الاقتصاد كما هو في السياسة، فسياسة الحرية المطلقة ليست حلٍ جيد دائمًا، حيث ينبغي على الدولة أن تضع أحيانًا بعض القيود على طريقة ممارسة الحريات الاجتماعية والسياسية حتى لا تتسبب تلك الحرية في نتائج عكسية محافظة بذلك على العدل والعدالة، ويجب على الدولة بالمثل أن تنظم الاقتصاد بوضع قيودٍ مناسبة تحد من بعض الحريات الاقتصادية لتحافظ بذلك على حقوق وحريات الآخرين، لأنه «إن لم يتمكن المجتمع الحر من مساعدة الغالبية الفقراء، فلن يمكن إنقاذ الأقلية الأغنياء»، فالتدخل الاقتصادي هنا ليس بغرض تقييد المجتمع، بل يهدف إلى حماية حرية الجميع.

سيتضمن عصر الذكاء الاصطناعي التطور الأكبر على مر التاريخ، وسيحمل بداخله من التغييرات ما يحتم علينا عدم الانصياع لما ينادي به أعداء المجتمع المنفتح، وسيضع ذاك العصر حضارتنا تحت وطأة الكثير من الضغوط، قال دانيال دودني: «يكمن علاج مشاكل الديمقراطية الليبرالية في ديمقراطية أكثر ليبرالية، فالليبرالية تحوي بداخلها بذور خلاصها». فما يحمي المجتمع في ذاك العصر هو اعتراف المرء إن أخطأ، واستعداده للانخراط مع الآخرين في خطاب عقلاني بغية الاقتراب من الحقيقة مع اعطاء الأولوية للحقيقة لا الرأي، بجانب حل المشاكل الاجتماعية باتفاق الأحزاب الممثلة لمصالح جميع الفئات.

لقد أنشأنا هذه الحضارة، ويجب ألا نترك وجهتها في يد المصير التاريخي، فحتى وإن كانت الحضارة محكومة بذاك القانون بالفعل، فهذا القانون متأثر بأفكارنا وأفعالنا، إن أردنا إثبات عدم صحة ما تنبأ به ماركس مرة أخرى، فينبغي أن نكون مستعدين لاتخاذ الخطوات اللازمة، فالتاريخ لا يتحرك وحده في اتجاه معين، بل نحن من نتحرك ويمكننا تغيير مسارنا، وهو ما أشار إليه فيلسوف العلم “كارل بوبر” في قوله: «التاريخ ليس له غايات، لكنّا نستطيع أن نفرض عليه غاياتنا، وليس له معنى، لكن بإمكاننا اكسابه معنى».

مصدر الترجمة

إعلان

مصدر مصدر الترجمة
فريق الإعداد

تدقيق لغوي: ديما الخطيب

تدقيق علمي: ليلى أحمد حلمي

ترجمة: محمود غنيم

اترك تعليقا