في زمن التعصب الديني يهمنا سبينوزا أكثر من أي وقت مضى

كيف تدعو فلسفة سبينوزا إلى تقبل الآخر والتسامح؟

سبينوزا: الشهرة والمعاناة

في يوليو من العام 1656، طُرد بينتو سبينوزا البالغ من العمر آنذاك ثلاثًا وعشرين عامًا من الطائفة اليهودية البرتغالية في أمستردام. كانت المقاطعة (هِرِم) (هي العقاب الأقسى الذي تمّ إصداره في تاريخ هذه الجماعة. وتشير الوثيقة التي مازالت موجودة، وهي عبارة عن خطبة طويلة ولاذعة، إلى الهرطقات المشينة والأفعال المستهجنة التي قام بها هذا الشاب. وبعدما تباحث زعماء الجماعة مع الأحبار، وباستخدام اسم سبينوزا اليهودي، وبموجب هذه الوثيقة صرّحوا بـ ’’الطرد والإقصاء واللعن والويل لباروخ سبينوزا‘‘ وأنه ’’سينبذ من كل قبائل إسرائيل‘‘ وأنّ اسمه ’’سيمحى من تحت السماء‘‘.

على مرّ القرون، كانت هناك نداءات دورية لرفع المقاطعة (هِرِم) عن سبينوزا، بل إنّ ديفيد بين جوريون، أثناء تولّيه رئاسة وزراء إسرائيل، أصدر دعوى عامة لـ ’’إصلاح الظلم‘‘ الذي وقع على سبينوزا من الجماعة البرتغالية في أمستردام، ولم يلاقِ ذلك صدى، إلا في أوائل عام 2012 من الطائفة اليهودية في أمستردام وبإلحاح أحد أعضائها، بأن أخذت الموضوع بشكل رسمي؛ إذا ما كان قد حان الوقت لردّ الاعتبار لسبينوزا والترحيب به في الجماعة التي طردته وتحاملت عليه، ولكن ظلّ هناك شيء واحد أرادوا معرفته:

هل يجب علينا الاستمرار في اعتبار سبينوزا مهرطقًا؟

لسوء الحظ، لم تذكر وثيقة المقاطعة (هِرِم) تجاوزات سبينوزا بالتحديد – وفي وقت لم يكن قد كتب سبينوزا شيئًا بعد – وبالتالي هناك لغز يدور حول هذا الحدث المؤثر في مستقبل حياة هذه الفيلسوف، ولكن، ولأي شخص ملمّ بالأفكار الفلسفية المكتملة لسبينوزا والتي شرع في كتابتها بعد عدة سنوات من إقصائه، لا يوجد هناك لغز. وبمعايير اليهودية الحاخامية الحديثة المبكرة– وبالتحديد يهود سيفارديم في أمستردام، والذين كان ينحدر كثير منهم من الكونفرسوس اللاجئين من الاحتلال الإسباني والذين كانوا يكافحون لبناء مجتمع يهودي سليم على ضفاف نهر الأمستيل– كان سبينوزا مهرطقًا، وخطيرًا في ذلك.

والجدير بالملاحظة هو كيف كان لهذا المهرطق أن يبقى مشهورًا- وليس فقط ضمن المتخصصين- بعد وفاته بما يقرب من ثلاثة قرون ونصف. إنّ معاصري سبينوزا، كَرينيه ديكارت وجوتفرايد لايبنيز، قدموا إسهامات هائلة ومهمة ومؤثرة في نهوض العلم والفلسفة الحديثة، ولكنك مع هذا لن تجد اليوم كثيرًا ممن يلتزمون بالديكارتية أو اللايبنزية إلا أنّ السبينوزيين لازالوا يمشون بيننا. هم غير أكاديميين محبّين ممن يكوّنون مجتمعات سبينوزية وحلقات دراسية وممن يجتمعون ليقرأوا أعماله في المكتبات العامة وفي المعابد ومراكز التجمُّع اليهودية، بل ستجد المئات من الناس من مختلف التوجهات السياسية والدينية يعطون من وقتهم يومًا ليستمعوا إلى محاضرات عن سبينوزا، سواء أكانوا قد قرأوا له أم لا. هناك روايات وقصائد ومنحوتات ولوحات بل ومسرحيات وحفلات أوبرا قد خصصت لسبينوزا، وهذا شيء رائع بالفعل.

إنه أمر يثير الفضول أيضًا، كيف لفيلسوف يهودي برتغالي من القرن السابع عشر ومن كانت مؤلفاته الغامضة والضخمة سيئة السمعة لصعوبة فهمها، أن يثير هذا الإخلاص والشغف بل والهوس ضمن حضور علماني في القرن الحادي والعشرين؟ إنّ جزءًا من الإجابة يكمن في الدراما واللغز المتمركز في حياته؛ لماذا بالضبط عوقب سبينوزا بشدة من قبل الجماعة التي ربّته ورَعته؟ وبنفس ذات الأهمية أعتقد أنّ الجميع يحب أيّ محطم للأيقونات الدينية؛ خصوصًا لثائرٍ لا يخاف وعانى الاضطهاد في حياته بسبب أفكار وقيم مازالت على ذات قدر الأهمية لنا اليوم. إنّ سبينوزا هو مثال للشجاعة الفكرية، وكأيّ نبي، فقد أخذ على عاتقه أصحاب السلطة بصدق ورباطة جأش أظهرت حقائق مرّة عن بني جلدته ومجتمعهم.

إعلان

سبينوزا وفلسفته

كُتبت معظم فلسفة سبينوزا ردًا على الوضع السياسي المتزعزع للجمهورية الهولندية في أواسط القرن السابع عشر، وكانت أواخر الستينيات فترة “الحرية الحقّة”- يحكم المدينة والمقاطعات الحكومية حكّام ليبراليون يدعمون سياسية عدم التدخل الاقتصادية- وكانت المدينة تحت التهديد من قبل طائفة المحافظين ’’الأورانجيين‘‘ (سمّوا بذلك لأن أتباعهم فضلوا رجوع السلطة المركزية لأمير ولاية أورانج) وحلفائهم الكنسيّين. خاف سبينوزا على مبادئ التسامح والعلمانية المنصوص عليها في العقد المؤسس للمقاطعات المتحدة لهولندا وذلك لأنها كانت تتآكل باسم الامتثال للدين وأرثوذكسية السياسة والاجتماع. وفي عام 1668، حُكم على صديق وزميل سبينوزا، أدريان كويرباخ، بتهمة التآمر والتجديف على الله. مات صديقه في زنزانته بعد ذلك بسنة، وردًا على ذلك، كتب سبينوزا كتابه ’’الفاضح‘‘ رسالة في اللاهوت والسياسة، ونشره بتأهب كبير في عام 1670.

لم تفقد تصورات سبينوزا عن الله والدين والمجتمع أيًّا من صِلاتها اليوم، ففي وقت يبدو الأمريكيون فيه مستعدّين للتخلي عن حرياتهم في مقابل الأمان، ويتكلم السياسيون عن حظر أناس من طوائف دينية معيّنة من على شواطئنا، وعندما يؤثر التعصب الديني بشكل قوي في شؤون القانون والسياسة العامة، تكون فلسفة سبينوزا – وبالتحديد دفاعه عن الديمقراطية والحرية والعلمانية والتسامح – مناسبة أكثر من أي وقت مضى. رغم الأسى الذي أصابه جرّاء الأوضاع السياسية المتدهورة في الجمهورية الهولندية والخطر الشخصي الذي واجهه، لم يتوانَ سبينوزا في الدفاع عن قيم التنوير الجذرية والتي كان هو وغيره من مواطني بلده يعتزّون بها. يمكننا أن نستمدّ من سبينوزا الإلهام لمقاومة السلطة القامعة وكمثال للمعارضة الفكرية ضد هؤلاء الذين حاولوا أن يدفعوا المواطنين للتصرف على عكس مصلحتهم وذلك بتشجعيهم على المعتقدات اللاعقلانية وعلى استبقاء الجهل.

تقوم فلسفة سبينوزا على رفض إله الديانات الإبراهيمية. إنّ إلهه يفتقد لكلّ الصفات النفسية والأخلاقية لأيّ إله متعالٍ يعطي لخلقه من لَدُن عنايته. إن إله سبينوزا في رائعته الفلسفية الأخلاق (1677) ليس عبارة عن شخص؛ فهو لا يمتلك معتقدات ولا آمال ولا رغبات ولا انفعالات، ولا يمكن اعتباره خيّرًا وحكيمًا ومشرّعًا عادلًا يجزي هؤلاء الذين يطيعون أوامره ويعاقب هؤلاء الذين يحيدون عن طريقه. فبالنسبة إلى سبينوزا، الله هو الطبيعة، وكل شيء موجود هو الطبيعة (وفي عبارته Dues sive Nature، ’’الله أو الطبيعة‘‘)، فكلّ ما هو موجود، موجود في الطبيعة، ويحدث بالضرورة التي تقتضيها قوانين الطبيعة. لا شيء يقبع وراء الطبيعة ولا توجد استثناءات من قانون الطبيعة – فالمعجزات والخوارق ما هي إلا مستحيلات. لا توجد هناك قيم في الطبيعة، لا شيء خيّر في جوهره أو شرّ، ولا توجد الطبيعة ولا أيّ شيء فيها بغرض هدف معين؛ فما هو موجود، موجود كما هو.

في بداية كتاب الأخلاق يقول سبينوزا:

إنّ جميع الأحكام التي أتعهّد بالإشارة إليها هنا متأتّية عن حكم مسبّق واحد، وهو أنّ الناس يفترضون عمومًا أنّ جميع الأشياء الطبيعية تتصرف مثلهم من أجل غاية، بل إنهم على يقين من أن الله نفسه يوجّه كل شيء نحو غاية معيّنة. فعلًا إنهم يقولون بأن الله قد سخّر كل شيء للإنسان، وأنه خلق الإنسان ليعبده.

يُصَنَّف سبينوزا عادةً كمتبع لمذهب ’’وحدة الوجود‘‘ Pantheist، ولكن وصف ’’ملحد‘‘ Atheist ملائم أكثر من حيث التصنيف. إنّ سبينوزا لا يؤلِّه الطبيعة، فالطبيعة ليست موضوعًا للتبجيل والرهبة ولا لتوقير ديني؛ فالرجل الحكيم بحسب سبينوزا ’’هو الذي يسعى لفهم الطبيعة، لا أن يحدّق فيها كأبله‘‘. إنّ السلوك الوحيد الملائم الذي يمكن أخذه اتجاه الله أو الطبيعة هو الرغبة في معرفتها عن طريق العقل.

سبينوزا وأفكاره عن الحياة والموت

إنّ إقصاء العناية الإلهية يساعدنا على أن نشكّ في خلود الروح والحساب الإلهي الذي سنخضع له في عالم آخر والذي اعتبره سبينوزا واحدًا من أكثر العقائد المدمّرة التي روّجت لها الأديان. فإذا ما اعتقد شخص منّا أنّ الله سيجزي الصالح ويهلك الطالح فإنّ حياته ستحكمها انفعالات الخوف والرجاء. الرجاء في أن يكون من المصطفين والخوف من أن يكون قد قُدّر له أن يكون من الهالكين. وبلغة سبينوزا فإنّ حياة محكومة بأهواء لا عقلانية، هي حياة ’’عبودية‘‘ بدل أن تكون حياة حرية عقلانية.

إنّ الذين تحكمهم الأهواء عوضًا عن العقل يمكن وبكلّ بسهولة أن يتمّ التلاعب بهم من قبل رجال الكنيسة. لقد أقلق هذا سبينوزا في أواخر الستينيات من القرن السابع عشر، فلقد بات للقمع والتعصّب دور كبير في الكنيسة الإصلاحية في هولندا. ولا يجب علينا أن نقلل من هذا الخطر اليوم على المستنيرين العلمانيين في وقت تمارس فيه الطوائف الدينية دورًا خطيرًا في الحياة العامة.
لقد هاجم سبينوزا العقيدة التي تقول بالبعث وخلود الروح لكي يقوّض التدخل الديني في الشئون العامة والأخلاق الفردية. فالموت عند سبينوزا، هو أن تموت بشكل نهائي. قد يكون هناك جزء ’’أزلي‘‘ في العقل الإنساني كحقائق الميتافيزيقا والرياضيات وغيرها والتي نكتسبها خلال حياتنا وتصبح جزءًا من عقولنا، فهذه ستبقى بالتأكيد عندما نموت لأنها في النهاية حقائق أزلية لا شيء شخصي فيها وبالتالي فإنّ ما تجلبه لنا هذه المعرفة من عطايا ومنافع هي لهذا العالم وليس لعالم آخر مزعوم.

كلما عرفنا أكثر عن الطبيعة وعن أنفسنا كبشر، استطعنا أن نتجنّب تقلبات الأقدار وأن نتغلب على المصاعب التي تواجهنا في هذه الطبيعة للوصول إلى السعادة ورغد العيش. إنّ النتيجة المترتبة على حكمة كهذه هي راحة البال لأنك ستكون مُعَرَّضًا بشكل أقل للانفعالات المفرطة والتي عادةً ما تكون مصحوبة بما تجلبه الحياة لنا من مكاسب وخسائر، وبالتالي لا يصبح الشخص مسكونًا بالقلق لما سيحدث له بعد الموت، وكما عبَّر عنها سبينوزا وببلاغة ’’الإنسان الحرّ لا يفكر في الموت إلا نادرًا، أما حكمته فهي تأمُّلٌ، لا للموت، بل للحياة‘‘.

سبينوزا والكتاب المقدس

يوجد سلاح آخر في حوزة رجال الدين الذين يهدفون إلى التحكم في حياة المواطنين. إنهم ينادون بوجود كتاب واحد فيه الحقّ من الله، وأنه الطريق الوحيد للخلاص، وأنهم فقط المفوضون الرسميون لتفسيره. يردّ عليهم سبينوزا فيقول ’’إنهم يعزون إلى الروح القدس كل ما يبتدعونه في هذيانهم‘‘.
لقد كانت فكرة سبينوزا عن أصل ومنزلة الكتاب المقدس من أكثر الأفكار شهرة وتأثيرًا وتهييجًا للرأي العام. فلقد حاجج سبينوزا في كتابه “رسالة في اللاهوت والسياسة” أنّ الله أو الطبيعة غير قادرين ميتافيزيقيًا على الإملاء والنشر، ناهيك عن كتابة أي شيء.. ويدلّ هذا بدوره على أنه لم يتمّ تأليف الكتاب المقدس بشكل حرفي من قِبل الله. فالكتاب المقدس ليس رسالة للإنسانية نزلت من الله عبر السماء، بل هي نصّ بشري خالص. فهي نصوص قد كتبت بواسطة مؤلفين من مختلف الخلفيات الاجتماعية والاقتصادية، في فترات متباينة على مدى زمنيّ طويل وتم تناقلها عبر الأجيال عبر نسخ متلاحقة، وفي النهاية تمّ اختيار بعض من هذه الكتابات وتجميعها – بشكل اعتباطي كما أصَرَّ على ذلك سبينوزا- في فترة الهيكل الثاني ولقد حُرّرت على الأغلب من قبل عزرا -الكاتب الذي كان قادرًا، وبشكل جزئي، على اختلاق مصادره ليكوّنَ نصًا كاملًا منها- ولقد كانت هذه العملية الناقصة من التأليف والجمع عرضة للتغيرات التي تسرّبت إلى النص عن طريق عملية النقل التي تمت عبر القرون المتلاحقة. فيصنف الكتاب المقدس الذي في حوزتنا اليوم كعمل من الأدب الإنساني بل بالأحرى كعمل ’’ركيك ومحرّف وموضوع وغير متناسق‘‘، إنه خليط هجين منذ لحظة مولده ومحرّف بعمليات الانتقال والحفظ، إنها نصوص مبعثرة كُتبت بأيادي مختلفة في أزمنة متباعدة لجماهير متباينة.

يدعّم سبينوزا نظريته عن الأصل البشري للنص المقدس بتقزيم دور مؤلفيه ووضعهم جميعهم على قدم المساواة. فلم يكن الأنبياء متعلمين بالضرورة ولم يحظوا بتعليم عالٍ أو بثقافة رفيعة المستوى ولم يكونوا بالطبع فلاسفة أو فيزيائيين أو فلكيين، ولا يمكن أن نجد حقائق عن الطبيعة أو الكون من كتاباتهم (اعتقدَ النبي يوشع بدوران الشمس حول الأرض) ولم يكوّنوا مصدرًا لأي حقائق لاهويتة أو ميتافيزيقية. لقد كان للأنبياء عادةً معتقدات ساذجة وخاطئة فلسفيًا عن الله، ولكنهم وبالرغم من كلّ ذلك كانوا متفوقين أخلاقيًا وذوي خيال خصب، وهكذا يمكننا أن نستشف من ذلك بعض الحقائق من النص المقدس، حقائق غير مشوهة جاءت واضحة وبشكل صارخ. في الواقع، إنّ التعاليم المطلقة للنص المقدس، سواء في التوراة اليهودية أو في الأناجيل المسيحية، بسيطة؛ أَقِمْ العدل وعامل أخاك الإنسان بالحب والطيبة.
إنّ محصلة كلّ الأوامر والتعاليم الواردة في قصص الكتاب المقدّس هي الرسالة الأخلاقية الأساسية، والتي بقيت سالمة من التحريف عبر كل اللغات والنسخ المختلفة وكل التعديلات والتلف والأخطاء الإملائية التي تسربت إلى النص خلال القرون. ويصرّ سبينوزا على أنها موجودة عند اليهود ’’لا تَنْتَقِمْ وَلاَ تَحْقِدْ عَلَى أَبْنَاءِ شَعْبِكَ، بَلْ تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ [التثنية 19:18]‘‘ وعند بولس بقوله “لاَ تَكُونُوا مَدْيُونِينَ لأَحَدٍ بِشَيْءٍ إِلاَّ بِأَنْ يُحِبَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، لأَنَّ مَنْ أَحَبَّ غَيْرَهُ فَقَدْ أَكْمَلَ النَّامُوسَ [رسالة إلى أهل رومية 13:8]”. كتب سبينوزا: ’’وأستطيع أن أقول وعن يقين أنّي لم أجد أيّ خطأ أو أيّ اختلافات في القراءات، وخاصة في النصوص الخاصة بالتعاليم الخُلُقية، بحيث يجعلها غامضةً أو مشكوكًا فيها. إنّ التعاليم الخُلُقية هي الرسالة الكلية والواضحة للكتاب المقدّس، على الأقل لهؤلاء الذين لم تمنعهم أحكامهم المسبّقة وخرافاتهم وتعطشهم للسلطة من أن يقرأوه بشكل صحيح‘‘.

هل يؤمن سبينوزا بأنّ هناك تصورًا يمكن فيه أن يكون الكتاب المقدس ’’إلهيًا‘‘؟ بالتأكيد لا، ولكن هذا النفي هو نفي للتصور المركزي الذي تعتقده الفِرَق الأصولية والتقليدية للأديان الإبراهيمية. في الواقع، إنّ قداسة النص لسبينوزا – قداسة أي نصّ- تحمل خاصية وظيفية. إنّ أيّ عمل أدبي أو فني يحمل صفة ’’المقدّس‘‘ أو ’’الإلهي‘‘ بكونه فعالًا فقط في تعبيره عن ’’كلمة الله‘‘.
ما هي كلمة الله، ما هو القانون الإلهي الكلي؟ إنها بالتحديد الرسالة غير المحرفة والتي لم تُتلَف وبقيت في نصوص الكتاب المقدس: أحِبّ جيرانك وعاملهم بالعدل والإحسان. ويبرَع الكتاب المقدّس ربما أكثر من أيّ عمل أدبي آخر في حثِّ الناس ليتّبعوا العظات والعِبر وأن يحاكوا في حياتهم الصورة (الروائية) الإلهية لعدالة الله ورحمته. ويلاحظ سبينوزا أننا نسبغ صفة ’’المقدس‘‘ و’’الإلهي‘‘ على ما يكون الغاية منه هو تعزيز التقوى والدين، ويصبح مقدسًا فقط إذا ما اتبعه الإنسان دينيًا. وبعبارة أخرى، إن إلهية النص المقدس تكمن في حقيقة أنه، وَعَدا كل شيء آخر، عمل أدبي أخلاقي في المقام الأول. ولكن ولهذا السبب بالذات، لن يكون الكتاب المقدس هو الوحيد الذي يحمل صفة ’’المقدس‘‘، فلو دفعت قراءة أعمال شكسبير ومارك توين وتشارلز ديكينز شخصًا ما للحب والإحسان، تصبح بالتالي هذه النصوص مقدسة وإلهية أيضًا. إنّ كلمة الله كما يقول سبينوزا، ’’ليست محصورة في نطاق مجموعة من الكتب‘‘.
أرسل الديكارتي لامبرت فان فيلتهوزين رسالة إلى سبينوزا أعرب فيها عن اعتراضه بقوله ’’إن القرآن أيضًا، وبحسب الرسالة اللاهوتية السياسية، يمكن أن نضعه في مقام كلمة الله، وذلك لأن الأتراك… في طاعتهم لنبيهم يرعون القيم الأخلاقية التي لا خلاف عليها بين الأمم‘‘. يقرّ سبينوزا بهذه النتيجة ولكنه لا يرى في ذلك أي تناقض. إنه على استعداد تام بأن يأخذ بعين الاعتبار وجود أنبياء آخرين صادقين بجانب أنبياء الكتاب المقدس، وكتب مقدسة أخرى خارج الشريعة اليهودية المسيحية.

إنّ الرسالة الأخلاقية وفروضها في الكتاب المقدس هي المكنون الحقيقي لكلام الله في كيفية تعاملنا كبشر مع بعضنا البعض. يصر سبينوزا إذن على أن التقوى الحقيقية (الدين) ليس لها علاقة بالطقوس والعبادات. فمحرمات الطعام، والترانيم والقرابين والصلوات – كل هذه العناصر تُعَبِّرُ بشكل نمطي عن الديانات المنظمة، ولكن ما هي إلا سلوكيات خرافية ليس لوجودها أية مبرر وإن كان لها أصول تاريخية وسياسية. ويستمر رجال الدين في الدعوة لهذه السلوكيات لإنتاج متعبدين مذعنين وطائعين فقط.

ما يعتبره سبينوزا ’’الدين الحقيقي‘‘ أو ’’التقوى الحقيقية‘‘ لا يتطلب إيمانًا بأي أحداث تاريخية، أو حوادث خارقة أو معتقدات ميتافيزيقية، ولا يأمر بأي طقوس إيمانية. إنه لا يُلزِم القبول بفكرة لاهوتية محددة عن طبيعة الله أو أي مزاعم فلسفية عن الكون وأصله. إنّ القانون الإلهي يرشدنا للعمل بالعدل والإحسان للبشر وأن علينا أن نتمسك بالعدل وأن نساعد الضعيف وأن لا نقتل وأن لا نسرق وهكذا، فكل الطقوس والشعائر القادمة من وصايا الكتاب المقدس هي ممارسات فارغة ولا تسهم في الوصول إلى الغبطة والفضيلة.

إن الدين الحقيقي لا شيء غير السلوك الأخلاقي، فما يهم ليس ما تعتقد بل ما تفعل، ويقول سبينوزا في رسالة له إلى وزير المجتمع الملكي الإنجليزي هنري أولدنبيرج في عام 1675: ’’إن التمييز الأساسي الذي أقوم به بين الدين والخرافة هو أن الأخير مؤسس على الجهل، أما الأول فمؤسس على الحكمة‘‘.

سبينوزا: الدولة وضرورة التسامح والتعبير عن الرأي

إنّ المثال السياسي الذي يدعو إليه سبينوزا في الرسالة اللاهوتية السياسية هو علمانية وديمقراطية الدولة، وأن تكون كذلك حرة ومتخلصة تمامًا من تدخل رجال الدين. إن سبينوزا هو واحد من أكثر من دافع بفصاحة عن الحرية والتسامح في التاريخ. بل إن الهدف المطلق للرسالة اللاهوتية السياسية تمَّ التعبير عنه في العنوان الفرعي للكتاب وفي الحجة المطروحة في الفصل الأخير وذلك بقوله: ’’إنّ حرية التفلسف لا تمثل خطرًا على التقوى أو على سلامة الدولة بل إن القضاء عليها قضاء على سلامة الدولة وعلى التقوى ذاتها في آن واحد‘‘.
إن كل الآراء مهما كانت – متضمنة في ذلك الآراء الدينية – يجب أن تكون حرة تمامًا ولا يتم إعاقتها وهذا بكونها ضرورة وحقًا معًا. إنّ ذهن الإنسان لا يمكن أن يقع تحت سيطرة أي إنسان آخر، إذ لا يمكن أن يخول أحد بإرادته أو رغمًا عنه إلى أي إنسان حقه الطبيعي أو قدرته على التفكير وعلى الحكم الحر في كل شيء، وبالطبع إنّ أيّ مسعى للسلطة الحاكمة للسيطرة على معتقدات وآراء المواطنين يمكن فقط أن يعطي عكس النتائج المرجوة، والتي في النهاية ستكون في خدمة تقويض سيادة السلطة الحاكمة نفسها.

في الفقرة التالية لسبينوزا يمكننا أن نرى شجاعة منقطعة النظير لزمنه وكيف كان محقاً بوضوح، يقول سبينوزا:
إنّ الحكومة التي تحاول أن تتحكم في عقول الناس هي حكومة اسبتدادية، و عندما تفرض السيادة الحاكمة ما يتعين على كل مواطن أن يقبله على أنه حق ويرفضه على أنه باطل، وما هي المعتقدات التي تحضه على تقوى الله؛ تكون السيادة الحاكمة حينها مجحفة ومنتهكة لحق مواطنيها. إن كل هذه الأمور تنتمي إلى الحق الفرديّ الذي لا يستطيع أي إنسان أن يتخلى عنها حتى وإن شاء.
إن السيادة الحاكمة يمكنها بالطبع أن تحاول أن تفرض على الناس حدودًا للفكر، ولكن النتيجة من سياسة متهورة وعقيمة كهذه ستؤدي إلى احتقارها ومعارضة حكمها. يبقى تسامح المعتقدات أمرًا مهمًا وحسّاسًا، ولكن القضية الأصعب تخص حرية المواطنين في ’’التعبير‘‘ عن هذه المعتقدات، إما بالحوار أو بالكتابة. وهنا ذهب سبينوزا إلى حدٍّ أبعد من أي شخص آخر في القرن السابع عشر، بقوله:
إنّ أي محاولة للدولة لِفَرض التحدث كما تريد السادة العليا بالرغم من الأفكار المتباينة والمختلقة للأفراد، سيؤول بالفشل التام. إنّ أشد الحكومات استبدادًا هي تلك التي يُحرم الفرد فيها من الحرية عن التعبير و الدعوة لما يفكر فيه، بينما الحكومات المعتدلة هي تلك التي تضمن الحرية لكل فرد.

إن حجة سبينوزا في حرية التعبير تقوم على حق (سلطة) المواطنين في أن يتكلموا كما يشاؤون وعلى حقيقة أن النتيجة ستكون عكسية إذا ما حاولت السيادة الحاكمة أن تكون حجرًا على هذه الحرية (حرية الاعتقاد). ومهما شُرّع من القوانين ضد حرية الكلام والأشكال الأخرى من التعبير، سيستمر المواطنون في أن يعبّروا عمّا يعتقدون ولكنهم سيفعلون هذا في السر. ومرة أخرى أقول، إن أي محاولة لقمع حرية التعبير ستضعف فروض الولاء التي تربط المواطنين بالسيادة الحاكمة. ومن وجهة نظر سبينوزا ستؤدي القوانين غير المتسامحة في النهاية إلى الغضب والانتقام والفتنة.

لا يجب أن يكون هناك تجريم للأفكار في دولة محكمة التنظيم؛ فيجب الحفاظ على حرية التفلسف من أجل أن تنعم الدولة بالصحة والأمن والسلام وللتقدم المادي والثقافي. يعي سبينوزا أنه سيكون هناك تبعات غير حميدة تعقب الاحترام الواسع للحريات المدنية، وسيكون هناك منازعات علنية بل وتحزبيّة وذلك لأن المواطنين سيعبرون عن آرائهم المتضاربة عن الأسئلة السياسية والاجتماعية والأخلاقية والدينية، ولكن هذا سيأتي بمجتمع ينعم بالصحة والديمقراطية والتسامح.

لا يمكن أن تنهج الدولة مسارًا أكثر أمنًا إلا عندما تتوقف التقوى والدين على ممارسة الإحسان وتطبيق العدل، وعلى أن يصبح الحق في السيادة في الدوائر الدينية والعلمانية مقصورًا على أفعال الناس فقط، وأن يسمح لكل شخص أن يفكر كما يريد وأن يقول ما يفكر فيه. إن هذه الجملة، إقرار بديع للمبادئ الحداثية للتسامح، ويمكن أن تكون الدرس الحقيقي للرسالة اللاهوتية السياسية ويجب أن تكون أفضل ما نتذكر به سبينوزا.

سبينوزا المهرطق

في عام 2012، ألحّ عضو من الطائفة البرتغالية اليهودية في أمستردام على أنه قد جاء الوقت أخيرًا للجماعة أن تفكر في إبطال المقاطعة (هِرِم) عن سبينوزا، سعى عندها رؤساء الطائفة لاستشارة خارجية لاتخاذ قرار خطير كهذا. عُقدت لجنة – كنت أنا وثلاثة من الباحثين فيها- للإجابة عن العديد من الأسئلة الفلسفية والتاريخية والسياسية والدينية التي أحاطت بظروف إقصاء سبينوزا، وبينما لم نسأل عن أي اقتراح يخص الفعل المناسب الذي يمكن أخذه، طلبوا رأينا عن المميزات والعيوب التي يمكن أن تحدث إذا لم يُرفع الإقصاء.
قدمنا التقارير ومرَّت أكثر من سنة دون أن تردنا أية أخبار. وأخيرًا في صيف 2013، تلقينا رسالة تم إبلاغنا فيها أن حبر الطائفة قد قرر عدم إبطال المقاطعة “هِرِم”. كان سبينوزا في وجهة نظره، مهرطقًا، وقد أضاف أنه وبينما يمكننا أن نقَدِّرَ الحرية عن التعبير على الصعيد المدني، لا يوجد هناك سبب لتوقع حرية كهذه في يهودية أرثوذوكسية. إضافة إلى ذلك، سأل الحبر سؤالًا بلاغيًا: هل رؤساء الطائفة اليوم هم أكثر حكمة ومعرفة عن قضية سبينوزا من الأحبار الذين عاقبوه في المقام الأول؟ لا شك، أن سبينوزا كان سيجد هذا الأمر ممتعًا. وإذا سُئل سبينوزا عن رغبته في إعادته إلى ’’شعب إسرائيل‘‘، لكان رده على الأغلب: ’’افعلوا ما شئتم، ما كنت حتى لأهتم‘‘.

الهوامش

1- (هِرِم): هو مصطلح يهودي يعني الحرمان الكنسي اليهودي من المجتمع اليهودي ، ويشابهه في العربية كلمة ’’حرام‘‘. (المترجم)
2-Converso وهم اليهود المتحولين إلى الديانة الكاثوليكية في أسبانيا والبرتغال، وتم طرد البقية الباقية ممن اختاروا البقاء على اليهودية وكان هذا في القرن الخامس عشر. (المترجم)
3- سبينوزا، علم الأخلاق، ترجمة جلال الدين سعيد، (لبنان: المنظمة العربية للترجمة 2009)، ص71 -72
4- هي فترة الديانة اليهودية منذ بناء الهيكل من عام 515 ق.م إلى تدميره في عام 70 م. (المترجم)
5- سبينوزا، رسالة في اللاهوت والسياسة، ترجمة حسن حنفي، (لبنان: دار التنوير 2005) ص107

 

إعلان

مصدر Why Spinoza still matters: Steven Nadler
فريق الإعداد

إعداد: يحيى فكري

تدقيق لغوي: ضحى حمد

اترك تعليقا