فلاحو الباشا

ولد أبي عام 1924، إذا كنت بدأت حساب عمري وعمره، فقد أنجبني في الستين من عمره رحمه الله، وتوفي وأنا طفل صغير، وما سمعته منه بسيط لكني سمعته مرة يقول أنه دخل فيلم “الأرض” في السينما، بطولة محمود المليجي، وكبرت ورأيت الفيلم وعاملت الفيلم بإجلال كبير لأنه مهم ولأنه ذكرى من والدي. لأصدقائي نكتة عني يقولون فيها أنني أنتمي لعصر والدي حسابيًا أكثر ممّا أنتمي لعصري حاليًا، وهو ميل لا أعرف سببه إلا أن أحاول فهم كيف سارت الأمور على ما هي عليه.

في فيلم الأرض تلخيص كبير لحال الفلاح المصري في هذا العصر، قهر وباشا يريد أن يتحكم في أهل القرية، وفي “مذكرات نجيب الكيلاني” وصفٌ لحال هذه القرية، يقول “وهناك نسبة كبيرة لا يمتلكون شبرًا من الأراضي الزراعية، فكانوا يشتغلون كأجراء… ويقضون أعمارهم في ضيق وصبر دون الكفاف من الرزق… وكنا ونحن أطفال نرى الشاحنات الكبيرة تأتي في مواسم معينة من العام، ثم يُحشر فيها مئات الفلاحين، ويُحملون إلى مناطق بعيدة يطلقون عليها (الوسايا) حيث الإقطاعيات الكبيرة خارج حدود المحافظة، وهناك يقضون شهرًا أو شهرين في العمل الشاق، سواء في زمهرير الشتاء، أو في قيظ الصيف، ثم يعودون بقروش قليلة، وأمراض كثيرة. هؤلاء هم عمّال التراحيل التعساء، الذين يسافرون وليس على أجسادهم إلا الملابس المهترئة وجوال به أرغفة جافة قاتمة، وكثيرًا ما كان البعض يقضي نحبه، ثم يطويه النسيان إلى الأبد”.

ووصفُ الرحّالة الأجانب لقرى مصر مؤلم، وكذلك وصف الرحالة الأتراك كما في رحلة محمد مهري حوالي عام 1894 ميلادي، فهو يصف أكواخ الفلاحين وحالات أمراض الرمد في أعين النساء والأطفال، ويتساءل كيف يعيش هؤلاء الفلاحون في تلك المساكن البدائية بينما يغلي هذا الأقليم تحت ألسنة اللهب في يوليو وأغسطس، وينهي وصف تلك القرى بأنها تشبه أعشاش الحمام، لتصور عشوائيتها وبدائيتها.

وعندما تريد أن ترى تاريخ الفلاح منذ عهد محمد علي، ستجده مبنيًّا على الظلم والسخرة، والصراعات بين الملتزمين و الفلاح وخلافات حول دفع الضرائب. والصورة التي يقدّمها الجبرتي لحال الفلاحين بشعة، لما تفشّى فيهم من الظلم، واستغلال المحصلين لهم بالهدايا والعمل بالخدمة، حتى يصف حالهم بأنه أقرب إلى العبودية. ثم لفت نظري تعليق مهمّ للجبرتي بأنّ الظلم أفسد نفوسهم وأخلاقهم، فربما تولى أمرهم رجل عادل ورحيم، فتكون ردة فعلهم أن يستهينوا به، بل ربما أطلقوا عليه اسمًا من اسماء النساء، وماطلوا في دفع الأموال. ثمّ يكمل أنّ أثر الظلم جعلهم يكثر بينهم إيقاع الشرّ بعضهم ببعض، فكان يقع بينهم كثير من الخصام وحوادث القتل. ثمّ يشير إلى أكل أعيان الريف لمال الأوقاف بالباطل، حتى تخربت مساجد كثيرة وأسبلة لأنّ أعيانهم كانوا يأكلون ربع ريعها. وتحليل الجبرتي لأثر الظلم في فساد الأخلاق يذكرنا بحديث الكواكبي في طبائع الاستبداد.

وكان أسوأ ما يُبتلى به الفلاحون فوق ما يقع عليهم من ظلم وسخرة، القحط بنقص فيضان النيل، أو الغرق بزيادة الفيضان والأوبئة، والقحط كان يلازمه بوار الأراضي، وتلف الزرع، وموت البهائم، وكانت الزيادة بالفيضان توقع تلف الزرع.

إعلان

وقد يجيء الفيضان والوباء بالطاعون معًا كما حدث عام 1800، فكان الناس لا عمل لهم إلا دفن الموتى كما يصف الجبرتي،  وكان يموت حوالي 600 كلّ يوم كما وصف الشيخ حسن العطار الحال لصديقه الجبرتي في رسالة له، وقد قدّر مسيو جومار، أحد مهندسي الحملة الفرنسية، عددَ الموتى ب 10 ألف في شهر واحد من سكان القاهرة.

هذا وصفٌ للفلاح في عام 1800 وقريب منها، فهل تغيّر الأمر في أربعينات القرن العشرين مثلًا؟ يجيب يوسف الشريف في كتابه “مما جرى في برّ مصر”  أنه كانت لوالده أرض زراعية في قرية أبي صير بمحافظة الجيزة، فكانت أجرة الفلاح المسكين وحماره لا تزيد عن خمسة قروش أواخر الأربعينيات، وعليه أن يواصل عمله في نقل السباخ والطمي أو المحاصيل من الصباح الباكر حتى تغيب الشمس، وأنّ طعام الفلاح مكون من المشّ  الأجاج (الجبن شديد الملوحة) والنباتات العشوائية مثل السريس والجعضيض. ثمّ يقول من كان في الريف عهدئذٍ الذي كان يعرف طعم لحم الأبقار والجاموس والأغنام والجمال، إلا أن تأتيه صدَقةٌ من أحد المُوسِرين، أو ربما أنّ بهيمة وقعت في ساقية فتحطمت عظامها، فلحقها جزار القرية وذبحها وطاف في القرية مردّدًا وهو يشير للذبيحة “من ده بكره” ويردّد وراءه الأطفال “بقرشين” أو ثلاثة على حسب وزن الرطل.

وانتشرت في الريف أمراض الرّمد وأمراض العيون، فأنشأ الإنجليز مستشفيات لهذا الأمر بسبب تفشّيه، وفي هذه الفترة انتشرت مشاريع مواجهة الحفاء، ونادرًا ما كان لهم أحذية، فخصصت بعض الأسر منحًا وهبات لمقاومة الحفاء، وفي المقابل يُنعم عليهم الملك بلقب الباشوية، وأحيانًا يكون اللقب من نصيب طالب في المدرسة أو الجامعة لأنه ابن باشا يريد أن يرث ابنه اللقب. ويتميّز أهل الريف بعادات منها دقّ الوشم والرسومات على الصدر، وكتابة الاسم والعنوان على اليد بالوشم الأخضر.

وفي عام 1937، نشرت عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ مقالات في جريدة الأهرام عن شرور صناعة تجهيز وحلج القطن على الأطفال، موضّحة كيف أنّ 25 ألف طفل تتراوح أعمارهم بين الثامنة والخامسة عشرة كانوا مستخدَمين في ذلك العام في حلج القطن، حيث كانوا يعملون وسط غبار خانق من الخامسة صباحًا وحتى العاشرة مساء، كلّ يوم بلا انقطاع.

وفي الفترة بين عامي 1929 – 1934، حدثت أزمات اقتصادية تأثرت بحالة الكساد الكبير وتوقف سوق القطن، ولدينا كتاب يرصد تاريخ تلك الفترة بعنوان “أزمة الكساد العالمي الكبير وانعكاسها على الريف المصري” والذي يضمّ شهادات تفصيلية من الجرائد والمجلات على حالات الغلاء الشديدة وبيع الفلاحين للمواشي، وبور الكثير من الأراضي الزراعية في تلك الفترة، مع عدم القدرة على دفع الأموال الأميرية وضرائب مجالس المديريات وأقساط البنوك، بل حتى عجز الفلاحون عن تدبير المصروفات الدراسية. ويورد المؤلف حالات انتحار ارتبطت بضيق ذات اليد، فضلًا على زيادة البطالة، وحالات الشحاذة والتسول، وكذلك ظهور حالات السرقة بالإكراه والسطو المسلح. ورصد الكاتب نموّ ظاهرة تعاطي المخدرات في تلك الفترة، وزيادة دور البغاء مع ارتفاع حالات الطلاق والتي ذكرها الصاوي محمد في مقاله “ما قلّ ودلّ” عن وقوع طلاق لعدد 15 ألف من عدد زواجات تصل إلى 28 ألف أي بمعدل 52%.

يجب الانتباه إلى أنّ في تلك الفترة قامت بريطانيا بتحويل مصر إلى بلد ذات محصول واحد يغذّي مصانع القطن في لانكشاير، ويجب الانتباه إلى نموّ مشاعر قومية منذ ثورة 1919 لدى الفلاحين؛ فبعد القبض على سعد زغلول اشترك الكثير منهم في المظاهرات، وهاجموا خطوط السّكك الحديدية، وقطعوا خطوط التلغراف، وقاموا بالاعتداء على الكثير من الأوروبيين بالإضافة إلى حرق المملتلكات الخاصة بهم.

وثبّت حزب الوفد أقدامه في الحياة السياسية عبر الاعتماد على أصواتهم، وأوضاع الفلاحين منذ الحرب العالمية الأولى كانت سيّئة؛ فقد تمّ استغلالهم والاستيلاء على مواشيهم، وبدأ الطعام يشحّ بسبب قلّة المحاصيل الزراعية مقابل زراعة القطن. وقد ظهر وباء الملاريا من عام 1942– 1945، وكذلك وباء الكوليرا عام 1947، وتفاقم مرض البلهارسيا. وكانت حالة الفقر تعود إلى وجود طبقة من كبار الملّاك تتمثل في 11% من الشعب تملك 90% من الأراضي الزراعية. وفي مذكّرات أحمد لطفي السيد تصوير لقسوة العمد في تحصيل الضرائب من الفلاحين بالضرب المبرح بالسياط.

الفلّاح في الكتابات الغربية

يبدو أنّ جذور الاهتمام بالدراسات الفلاحية في الكتابات الغربية تعود لمحاولة الغربيين تفسير انتفاضات الريف وتمرّداته؛ مثل تمردات المناطق الريفية بعد الحرب العالمية الأولى، وكذلك الانتفاضات والثورات في فلسطين والتي كانت جذورها ريفية. ولعلّ الأحداث في فلسطين شجّعت الباحثين البريطانيين للكتابة عن الريف، مثلما شجعت تمردات الفلاحين في الهند الصينية على كتابة بيير جورو كتابه بعنوان “فلاحين دلتا تونكين“. وتعتبر أول دراسة عن حالة الفلاح دراسة الأب عيروط بعنوان “طبائع وعادات الفلاحين“، بالفرنسية عام 1938، والذي أشار إلى تأثره بكتاب جورو عن فلّاحي الهند الصينية، وهناك دراسة لكريتشفلد عن الفلاحين بعنوان “شحات مصري“.

يفنّد تيموثي ميتشل في كتابه القيِّم “حكم الخبراء” أفكار عيروط في كتابه بدايةً من وجود حياة قروية ثابتة لم تتغير ويعتبرها خرافة، ويعرض مظاهر هذا التغير في القرن التاسع عشر كمثال، ويذكر منطقة في صعيد مصر ويعدّد التغيرات التي حدثت فيها بداية من الأفول والزوال لتجارة المسافات البعيدة مع الهند وشبة الجزيرة العربية والسودان، وانهيار صناعة النسيح المحلية، وإدخال وانتشار الملكيات الخاصة بالأرض، وظهور المحاصيل التصديرية، ودخول ماكينات الريّ الماكينكية، وظهور وباء الكوليرا، مع زيادة نمط المزارع التجارية الضخمة المتمثلة في الأبعاديات والعزب، والتي أصبحت بعضها مثل القرى التي تزرع قصب السكر مصدرًا للمواد الخام لمصنع كوم امبو لسكر القصب.

ويرى ميتشل القرية بشكل مختلف؛ فقد قاومت بعض القرى الاحتلال الفرنسي بقيادة نابليون، مثل قرية القرنة، وبعضها نظّم تمردًا على نمط التجنيد الذي فرضه محمد علي عليهم، وقد قامت في الصعيد انتفاضات على الضرائب مثل قيام قوات محمد علي بتطويق قرية البعيرات. ولعلّ الكتاب الذي صدر مترجمًا للعربية، حديثًا للدكتورة زينب أبو المجد بعنوان “إمبراطوريات متخيلة: تاريخ الثورة في صعيد مصر“، لعلّه يقدم قراءة لتمرّدات إقليم الصعيد على الكثير من السلطات واستعصائه على الاخضاع.

يلاحظ ميتشل أنّ هناك عمى تاريخي مقصود في كتابات عيروط وغيره عند الحديث عن تحولات الريف، فهناك إدعاء يحاول أن يدحضة بوجود صورة عتيقة للريف تجعل وجوههم تعود إلى أوجه التماثيل في المعابد الفرعونية، كأنّ هناك خطًّا تاريخيًا لم يتأثّر بتغيّر الأحوال السياسية والاجتماعية على حال الفلاح،  ويقدّم نقدًا لدراسة عيروط ويفسّر كثيرًا من المسلّمات عن الفلّاح والريف المصري، بأنها استخدمت منهجًا لا تاريخيًّا في تفسير تصرّفات الفلّاح، وجنحت بميلٍ استشراقيّ لتصوير عادات عقلية للفلاح، ونمط متكرّر يتجاهل الحدث التاريخي، وتحميل مشاكل الريف للعقلية الريفية بدلًا من النظر للتغيّرات في القوى السياسية والاقتصادية.

هناك العديد من المعالجات لقضية الفلاح، سواء في علم الاجتماع كما ذكرنا، أو في الرواية والأدب مثل “يوميات نائب في الأرياف“، ورواية “زينب” وغيرها من الروايات والسير الذاتية مثل “الأيام” لطه حسين، والتي تستحقّ أن تكون عنها دراسة عن صورة الفلاح في الروايات العربية، وكذلك صورة الفلاح في السينما. كتبٌ ومشاهد من فيلم “أفواه وأرانب“، بطولة فاتن حمامة، تظهر أمامي وأتخيل الأرض وعمل الفلاحين، وحبّ والدتي لهذا الفيلم.

لعلّني أختم بملاحظةٍ كيف قامت السينما بمعالجة موضوع الريف والفلاح في غلاله من الوهم عن الواقع الفعلي على واقع القرية، فتمّ تحويل خيال عامة الناس عن الريف كأنها قصيدة رعوية وثيقة الصلة بالطبيعة، ولذلك ظلت جاذبية الخيال أمام قاطني المدن لها فعل المغناطيس، فأصبح الريف هو المكان الذي يمكن اللجوء إليه هربًا من سرعة الخطى المتزايدة للحياة في المدينة، ولعل فيلم محمد خان “خرج ولم يعد” ينطبق عليه هذا النموذج. ونتذكر أنّ كلمات أغنية “محلاها عيشة الفلاح” والتي كتبها بيرم التونسي وغناها محمد عبد الوهاب “محلاها عيشة الفلاح مطمن قلب مرتاح.. يتمرغ على أرض مراح والخيمة الزرقا ساتراه.. واللقمة يأكلها ومبسوط، أكمنه وأكلها بشقاه.. الشكوى عمره ما قالهاش إن لاقى وإلا ما لاقاش)، لنكتشف أنّ الكلمات جميلة لكنها غير حقيقية.

مراجع
الأرض والفلاح في صعيد مصر في العهد العثماني، جمال كمال محمود، الهيئة العامة للكتاب.
مما جرى في بر مصر، يوسف الشريف، دار الشروق.
مصر في القرن الثامن عشر، محمود الشرقاوي، الهيئة العامة للكتاب
مصر في كتابات الرحالة الأتراك في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، سامية جلال، المجلس الأعلى للثقافة
حكم الخبراء، تيموثي ميتشل، المركز القومي للترجمة
مذكرات نجيب الكيلاني
أزمة الكساد العالمي الكبير وانعكاسها على الريف المصري 1929-1934، علي شلبي، دار الشروق
رؤية جديدة لمصر 1919-1952، آرثر جولد شميدت، المركز القومي للترجمة.

إعلان

اترك تعليقا