لا تتعايش الأديان إلا في فضاء الإيمان

لا تلتقي الأديان وتتعايش إلا في فضاء الإيمان، يولد السلامُ بين الأديانِ في فضاءِ الإيمان، لا يولد السلامُ بين الأديان في فضاءِ الاعتقاد، لأنَّ المؤمنين في كلّ الأديان يستقون إيمانَهم من منبع مشترَك هو الحقّ، وإن تجلّى لكلّ منهم في صور تتنوّع بتنوُّعِ دياناتِهم، وبصمةِ بيئاتِهم، غير أنَّهم يعيشون التجاربَ الروحيَّةَ الملهِمةَ للطّمأنينة والسكينة والسلام ذاتها. الإيمانُ حقيقةٌ يتجلَّى فيها جوهرُ الأديان، والأرضيةُ المشتركة التي تتوحّد في فضائها، والشلّالُ الملهِم للحياة الدينيَّة فيها. لا يتخلّص الإنسانُ من نزاعات الأديان وحروبها إلّا في فضاءِ الإيمان. في الإيمان تلتقي الأديانُ وتتعايش وتأتلف، بعد أن تكتشفَ شفرةَ اللغة الروحيَّة الواحدة المشتركة التي يتكلّمها إيمانُها، وإن كانت في الاعتقاد تتكلّم لغاتٍ شتى، لا تفقه كلٌّ منها الأخرى. 

الأديانُ التي استفاقتْ راجعتْ الصورَ الخلّابةَ التي تملأُ مخيلتَها التاريخية، فدرستْها بعناية، وغربلتْها في ضوءِ المناهج الحديثةِ في دراسةِ الأديان، وتأمَّلتْ بدقة سردياتِها وفتَّشتْ عن منابعِ إلهامِها وكيفيةِ تشكُّلها عبر الزمان، وامتلكتْ شجاعةَ الاعتراف بما اكتنف مسيرتَها من انتهاكاتٍ لكرامةِ الغيرِ، وحاولتْ أن تستبعدَ ما تراكم في تراثِها من أحكامٍ تنبذ كلَّ من لا يعتنقُها.

أدركت بعضُ الأديانِ متأخِّرة ضرورةَ احترام كلّ انسان بوصفه إنسانًا، وأنه لا يمكن إدارةُ الاختلاف والتنوّع في المجتمعات إلّا عندما تحترم المختلف بما أنه إنسانٌ يشترك مع الكلّ في إنسانيته، بالمعنى الذي تتأسس عليها كلُّ حقوقِه الطبيعيةِ والمدنيَّة. الاحترامُ سلوكٌ أخلاقي، وهو أسمى من التسامح. التسامحُ يتضمن إشارةً بالعلوِّ على المختلف، أنت تسامحه كرمًا منك، وتفضُّلًا، وعطفًا، ورأفة؛ لأنك: الأكثرُ إنسانيةً، والأعلى، والمتفوّق. يفرضُ الضميرُ الأخلاقي اليقظ احترامَ المختلف بوصفه إنسانًا لا غير، لا بوصفه منتميًا لقومية، أو هوية خاصة، أو دين، أو معتقد. نحترمُ المختلفَ لأنّ اللهَ كرّمه مثلما كرّمنا، كلُّ إنسان يولدُ مكرّمًا. 

ما أعنيه بالتسامح هنا هو الشعور بمنح الغفران لإنسان يرى من يختلف معه أنه خاطئٌ في معتقده، إنسانٌ لا يعرفُ الحقيقةَ كما يعرفها مَنْ يمنحُه العفوَ الذي يشفق عليه ويغضُّ النظرَ عن خطيئته. التسامحُ بهذا المعنى يبتني على الاعتقاد بوجود طريقٍ واحد لإدراك الحقيقة، وهو غيرُ معنى الاحترام الذي يبتني على تعدّد الطرق لإدراك الحقيقة، ويحيل إلى تنوع وجوهها، والاختلاف في وسائل فهمها والتعبير عنها. المفهومُ الشائعُ للتسامح غيرُ المفهوم الذي أقصدُه، نشأةُ وتطور مفهومِ التسامح في سياق غربي غيرُ مفهومه وما يرادفُه في سياق تراثي، وغيرُ ما ورد بما يشي بمدلوله في المعجم العربي.

  لا يمكن فرضُ دينٍ واحدٍ على كلِّ البشر، إذ لم تتوحَّد البشريةُ على مرّ التاريخ في دينٍ واحد، ولو حاولتْ ديانةٌ ما أنْ تحتكرَ تمثيلَ اللهِ في الأرض، وتفرض حضورَها، بممارسةِ إبادةٍ لكلِّ مَن يعتقدُ بأيّة ديانةٍ غيرِها، فإنها لنْ تستطيع. كلُّ وقائع الحروب تُكَذِّب فناءَ الأديان، إذ يتعذَّر أن تُفْنِيَ عمليَّاتُ الإبادة مكوّنًا دينيًا، وذلك ما نراه ماثلًا في بقاءِ ديانات غير تبشيرية، وتواصلِ حياة دياناتٍ قديمة تعود نشأتُها إلى ما قبل الميلاد، مع أنَّ حجمَها الديموغرافي ظلّ محدودًا. لكنَّها عانَدَتْ كلَّ عذاباتِها ففرضتْ حضورَها الأبديّ، على الرغم مما تعرَّضَتْ له من تعسُّفٍ واضِّطِهادٍ وقتل مريع في محطَّاتٍ متعدّدةٍ من مسيرتِها.

إعلان

لم نجد ديانةً يتنازل عنها كلُّ المعتنقين لها، إثر قناعات بحجج ديانات أخرى على بطلانها. وعلى فرض اقتناع بعض الأشخاص، لكن لا يمكن أن يقتنع كلُّ أتباع الديانة بحجج أتباع ديانة الأخرى تدلل على بطلان ديانتهم، مهما كانت هذه الحجج؛ ذلك أنه لن يصلَ إلى نتيجةٍ منطقيةٍ جدلُ تصوُّريَن مختلفَين للحقيقة، ورؤيتَين مختلفتَين لله. مضافًا إلى أنه لا يمكن إعادةُ بناءِ كلِّ تفاصيل نشأة الدِّياناتِ في ضوء أُفُقٍ تاريخيٍّ متأخّر كثيرًا عن عصر مؤسّسها، والتعرّفُ على كلِّ ظروف نشأتها وصيرورتها عبر الزمان، لأن تاريخَ كلِّ ديانةٍ تعيد تكوينَه باستمرارٍ مخيلةُ الجماعةِ، وتعمل هذه المخيلةُ على تغذيتِه بكلِّ ما تمتلئُ به من أحلامٍ ومطامحَ ونرجسيَّاتٍ، لذلك تظلُّ الجماعةُ أسيرةَ الصور الخلَّابة التي رسمتْها ورسّختْها لمعتقداتِها وماضيها، وما لم تقرأ الجماعةُ تاريخَها خارجَ الأُطُر المغلَقة لمعتقداتها، فإنَّها تلبثُ على الدَّوام تُسْرِفُ في الإعلاء من تميّز معتقدِها وتصرّ على تفوّقها على سواها، بنحوٍ تمسي فيه هذه الحالاتُ من العناصرِ العميقة للاوعي الجمعي، وتشتدّ سطوتُها عليها إلى الحدّ الذي تتحكم في اختياراتها ومصائرها. 

لا يكفي الحكمُ على أخلاقيّة وإنسانيّة الديانة بما تشتمل عليه مدوَّنتُها، أو بشهاداتِ أتباعِها عنها، مهما ادّعوا من انحصار الأخلاق والإنسانية فيها، إنما يتمّ ذلك بمقارنتها بالديانات الأخرى، مضافًا إلى اكتشاف مقدارِ تجلّي القيمِ الإنسانيَّة لهذه الديانة وأخلاقيَّاتها في سلوك معتنقيها أفرادًا وجماعاتٍ في المَاضي والحاضِر.

إن دراسةَ الأديان ومقارنتَها هي المعيارُ الحقيقي لاختبار وفاءِ الأديان بوعودها، ومصداقيةِ ادِّعَاءاتِ أتباعها. ولا يتحقّق ذلك إلّا بالعوْدَةِ إلى نصوصِها المقدّسة، ومدوَّناتِها الخاصَّة الشارحة لهذه النصوص، والتعرّفِ على أنماطِ حضورها في حياة الأفراد والمجتمعات التي تعتنقها، ومدى تأثيرِها الإيجابيّ في تنمية الحياة الروحية والأخلاقية والجمالية، والتفتيشِ عن أثرها السلبي، وفضحِ ما تعمل على إخفائِه أو تتعمَّد حذفَه من تراثها وتاريخها الخاصّ. فدراسةُ الأديانِ السماويَّة لا تصحُّ إلّا بالعودة إلى نصوصِها المقدَّسة، وطبيعةِ آثارها في حياة الفرد والمجتمع الذي يعتنقها، وكيفيَّاتِ حضورِها في التَّاريخ البشريّ، وما تركتْه من آثارٍ مختلفةٍ في البناءِ والهدم. 

ما لم يتسع حقلُ دراسةِ الأديان ومقارنتِها لدى الباحثين في الدِّرَاساتِ الدينيَّة، لا يمكنُ تصويبُ سوءِ الفَهْمِ والأحكام السلبيَّة المُسْبَقَة، وحذفُ الكثير من الأخطاءِ المُتَرَاكِمَة في فهم أتباعِ ديانةٍ لمقولاتِ ومعتقداتِ أتباعِ ديانةٍ أُخرى، إذ تتوالد من سوءِ الفهمِ والأحكامِ السلبيَّة المسبقة دائمًا أحكامٌ إقصائيَّة حيالَ الآخَر المختلف.

تؤهل دراسةُ الأديان ومقارنتُها الدارسَ لغربلةِ فهمه للدين وتمحيصِ تفسيراتِه لنصوصه المقدَّسة، واكتشافِ الروافدِ العميقة المغذّية لمنابع المعنى فيه، والقيمِ الأخلاقيّة الكونيّة التي تسقي شبكاتِ مقولاتِه ومفاهيمِه المركزيَّة. 

تتكفّل دراسةُ الأديانِ ومقارنتُها ببيان مكانةِ كلّ دين، والأثرِ والتأثيرِ المتبادَلين بينه وبين الأديان الأخرى المنتميةِ للجغرافيا الرّوحية ذاتها، واكتشافِ ديناميكيّة حضورِه في حياة الشعوب المنتمية إليه. كما تُسهم دراسةُ الأديان ومقارنتُها في تحقيق العيش المشترَك، لأنها تؤسِّسُ لقبول المختلِف عقائديًّا وثقافيًّا، وترسي بيئةً ملائمةً لتكريس الحقِّ في الاختلاف، واحترامِ من لا تشبه معتقداتُه معتقداتِنا وثقافتُه ثقافتَنا.

يمكننا من خلال مقارنة كلِّ دين بالأديان الأخرى أن نتعرّف على ذلك الدّين من جديد. وبذلك يصحُّ أن نقول: “من يعرف دينًا واحدًا لا يعرف أيَّ دين”. كما قال الشاعر غوته من قبل: “من يعرف لغةً واحدةً لا يعرف أيَّ لغة”

  كذلك تعمل دراسةُ الأديان ومقارنتُها على الحدّ كثيرًا من حالات الكراهية والتعصّب والتحجّر التي تصيب الذين ينغلقون على تراث المذهب الذي ينتمون إليه في ديانتِهم، ولا يقبلون إلّا فهمًا واحدًا لذلك التُّراث. 

  تتصارعُ الأديانُ وتحتربُ لحمايةِ خرائطِها وتوسيعِها، كما تتصارعُ الدُّوَلُ وتحترب لحمايةِ خرائطِها وتوسيعها. فبين الأديان تباينٌ بين الصور الذهنيّة المختلفة للمطلق، والمفاهيم والمقولات الاعتقاديَّة، التي ينفي الكثيرُ منها الآخرَ.كلُّ ديانةٍ مسكونةٌ بتكريس مفاهيمِها ومقولاتِها الاعتقاديَّة على أتباعها، وتعميمها على غيرهم. الاعتقادُ يرسم جغرافيا الأَدْيَان ويضع الحدودَ الصارمةَ لها، والحدودُ بطبيعتها تنفي ما وراءها، ولا تقبل كلَّ ما هو خارج فضائها. وذلك ما يسوّغ الأفعالَ المتشدّدة ضد المختلِف. من هنا تأتي الحاجةُ لتجديد الفكر الديني، وتشتدّ الضرورةُ إليه في كلّ عصر يحتجب فيه اللهُ عن العالم، من أجل تحريرِ فهم الدين وتفسير نصوصه من التعصُّب الأعمى، وبعثِ الإيمان، وحمايةِ الاعتقاد من الاستغلال فيما ينتهك كرامة الإنسان ويصادر حرياته وحقوقه. 

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: عبد الجبار الرفاعي

اترك تعليقا