غرفة الإعدام

اليومُ هو يومُ عيدٍ! تأكدتُ من أنَّ عقدةَ الحبل مربوطةٌ بإحكامٍ وأنا أدندِّنُ: “الفرصة بنتٌ جميلةٌ راكبةً عجلةً ببدال. تحسستُ بيدي الطبليةَ أسفلَ الحبل وانهلتُ براحةِ يدي على خشبها عدة مرات، رفعت قدمي ووقفت فوقها لأتأكدَ أنَّها لن تنهارَ بالمحكوم عليه “شعرها بيطير قدامها، بيداري علينا جمالها، والعاقل لو يمسكها، يتغير بيه الحال”. اليوم هو يوم عيد! كلُ يومٍ أشنقُ فيه رجلًا أو امرأةً هو يوم عيد!

كنت لا أزالُ واقفًا على الطبلية، أمسكت بحبل المشنقة بيدي، وأخذتُ أتأملُه مطولًا، أخذتُ أشدُّه إلى الأسفل مرارًا، لا عجبَ أنَّ أليافَه كانت باليةً تُطالبُ بحقها في التمزُّق، فآخر رجلٍ شنقتُه كان قوي البنيان ضخمَ الجثة، حتى أنّني توجّستُ أنْ يسقطَ السقفُ فوق رؤوسنا جميعًا ما إن أُزيحُ الطبلية من أسفل قدميه!

كانت ألحانُ “منير” عالقةً في أذني لا أكاد أتخلصُ منها، يتردد صداها في رأسي فتنتقل الذبذبات بشكلٍ لا إراديٍّ إلى خصري، فشرعت أحرك إليتيّ وخصري واقفًا فوق الطبلية مُراقِصاً حبل المشنقة “يتغير بيه الحال”. اليوم هو يوم عيدٍ بلا شك!

وظيفتي في الأوراق الثبوتية هي جلّاد، ولكنهم عادةً ما يسمونني “عشماوي”، لا أعلم السر المتواري خلف أستار الاسم، وذلك الغموض كان يُسري بأوصادي رعدةً في بادئ الأمر؛ ولكن المأمور –الله يحفظه- كان قد سبق وأخبرني أنهم يسمونني هكذا من “العشم”، إنهم “يتعشمون” في أن أطبق العدالة، وأن أقتص من القتلة وأثأر للمظلومين، ومن يومها وأنا أحب ذلك اللقب ويميل قلبي إلى من يناديني به.

يكاد قلبي يطير فرحاً، كيف سيكون رد فعل “أم حسام” عندما أدلف إلى شقتي في حدائق الزتون محملًا بالفاكهة والخضار؟ ستتوثب كالأرنبة ومن ثم تنقض عليّ معانقة وتهتف: “يا دكري!” أكان رجلًا أم كانت امرأة؟ ومن ثم تشرع في السؤال عن أوصافه، عن شكل جسده وعن اتساع حدقة عينيه قبل أن أغطي رأسه بالقماش الأسود، ثم تسألني عن آخر كلماته، فإذا كانت كلمات ندمٍ مطت شفتيها وقالت : يعملوا العملة بعدين يرجعوا يندموا ولاد القحبة! أما إذا كانت كلمات إنكار اهتاجت وضُخت الدماء في عروقها، وأخذت تطلق السِبابَ واللعناتِ في كل اتجاه، كانت “تتعشم” فيّ فعلًا هذه المرأة. والأهم من ذلك كله، كانت تطلب مني أن أُمثِّلَ كيف أَزحتُ الطبلية من أسفله، فأقفُ في منتصف الصالة، أربط يديّ وراء ظهري وأنتفخ كالديك، ثم، وعلى حين فجأة، أركل الهواء عدة مرات وأنا أقهقه : هكذا، هكذا؛ وما تلبث أن تعانقني مرة أخرى ثم تعب أكياس الخضار والفاكهة من فوق المنضدة وتهرع إلى المطبخ وهي تصيح في الأولاد : يا حساام، يا يووسف، اصحوا أبوكوا شنق واحد جديد!

إعلان

أنا في هذه المهنة منذ أكثر من عشرين سنة، وكأيّ وظيفةٍ حكوميّة، لي مرتبي الثابت، ولكن ما يجعل يوم تنفيذ الحكم يوم عيدٍ هو أنني أنال على الرأس مائة جنيه! مائة جنيه، آآه، ما إن أفكرُ في هذه الورقة وما ستبعثه في البيت من حياةٍ حتى تعود ألحانُ منير إلى رأسي مرةً أخرى، فأعود أراقصُ المشنقة كالمجاذيب “الفرصاااه”.

كان البيت يحتاجُ إلى ما يبعث إليه الحياة باستمرار، كان متجهمًا، عابسًا، يمتلك وجهًا قبيحًا، يمتلك وجه الفقر؛ ولم يكُ ثمة ما يُعيد إليه الحياة سوى ورقةٍ واحدة. أتعجب أحيانًا كيف للورق أن يُميتَ ويُحيي، أن يرفعَ من قدر أحدهم أو يحط منه، أذكرُ جيدًا كلماتِ ذلك الرجل الذي كان يقف على الطبلية بشموخ الأسد، وعندما سأله ممثل النائب العام عن أي شيءٍ يُريدُ إضافته إلى المحضر، ابتسم ابتسامة هازئة، ثم قال : إن الله لم يتجسد يومًا في المسيح، بل إن تجسده الوحيد كان في المال وهذه الضبابير التي يحملها صديقك –أي المأمور- على كتفيه.

لم يكُ جميع مرتديّ البدلة الحمراء على هذا القدر من الحكمة، ولكنهم كانوا على القدر نفسه من الفجور. ثق فيّ، لا أحد تتنزل عليه حكمةٌ قبل الموت، بل رعبٌ .. مُضحك! بالتأكيد يجب أن يرتعدوا، ستلتهمهم جهنم ثم تصرخ : هل من مزيد!

هذا الحبل البالي يزعجني، قد ينفلت بالمحكوم عليه و “تبوظ الليلة كلها”، إن هذا كله سببه أمُ حسام، فهي التي أصرت أن تجعل الاثنين خميسًا، ولكن ماذا بوسع الشيب الهرم أن يفعلَ إزاءَ جموحِ امرأةٍ على مشارف الأربعين؟

بحكم خبرتي في النساء – والتي تقتصر على أم حسام ولكنني خبيرٌ بلا شك فقد ظللت أضاجعها خمسة عشر عامًا، تصير المرأة في أوج استعارها وهي على مشارف الأربعين، وكأنها تعزف لحنًا أخيرًا لجسدها قبل أن يأكلَه بق الشيخوخة، وإذا لم يفطن الزوج إلى الأمر فإن وقوع الخيانة أمرٌ لا مفر منه.

المهم أنني استجبت لها، وتملك مني الإنهاك فاستيقظت متأخراً، والطريق من حدائق الزيتون إلى باب الخلق طويلٌ بحق، فلم يسعفني الوقت أن أغير الحبل، وإذا طلبت تأخير الحكم حتى يتسنى لي تغييره اتهمت بالتقصير، وأنا أبدًا أبدًا لم أقصر في عملي! كل ما بوسعي الآن أن أدعو الله أن يجعل المحكوم عليه “قدمه خفيف علينا” فلا يتمزق الحبل وتتمزق معه المائة جنيه!

أحسست فجأة بألم حارق في عانتي – منك لله يا ام حسام، فنزلت من فوق الطبلية، وتذكرت أن حمام هذا المبنى كان مغلقاً للصيانة، مما يعني أنني سأضطر إلى التوجه للمبنى الآخر؛ نزلت من فوق الطبلية وتوجهت مسرعًا باتجاه الباب، فعلق بي بعض الطلاء الأحمر الذي كان قد دُهن به باب الغرفة الحديدي حديثًا؛ لم قد يدهنون باب غرفة الإعدام؟ ألست أنا أولى بهذا المال؟ ما علينا.

توجهت إلى الساحة الترابية ومنها إلى المبنى الآخر، كانت الساحة خالية من أي شيء، وكان منظرها للحق كئيباً، ولكن علم مصر كان يرفرف فوق المبنى بشكلٍ يدعو إلى الفخر.

كنت عائدًا أتمشى في الردهة وأنا أدندنُ، فترائى لي طيف أحدهم جالس على كرسي أمام غرفة الإعدام ويدخن، عندما اقتربت أكثر فطنت إلى أنه المأمور؛ ليس من عادته أن يأتي مبكرًا هكذا .. هل اكتشف أمر الحبل؟ هل “باظت الليلة” فعلًا؟ حاولت استعادة رباطة جأشي وتقدمت وأنا أُحسبن على أم حسام واليوم الذي عرفت فيه أم حسام.

-سيادة المأمور؟ ايه اللي جابك بدري؟

كان يبدو متوتراً، منكمشًا على ذاته كعجلٍ انزلق لتوه من رحم أمه، بشعره الأبيض المتناثر على ذقنه وصلعته المتعرقة .. ويده المرتجفة التي تنثر رماد السيجارة دون أن يدري. ساد الصمت لبرهة، ثم سأل :

-هل تعرف المحكوم عليه ياعزت؟

-لا أعرف سوى أنه أمين شرطة اسمه يحيى وأنه قتل امرأةً شابة.

-ولكنه لم يقتلها ياعزت.

أحسست بغصة كثيفة تصعد إلى حلقي، وأحسست قلبي يسقط إلى أحشائي بشكلٍ عمودي. سألت متوتراً :

-كيف؟

-في هذه الغرفة، ومنذ أكثر من ثلاثين عاماً، في نفس هذه الغرفة، أعدم محمد عبدالسلام فرج. هل تعرفه ياعزت؟

وفورًا أضاءت في ذهني رقعة ساطعة، هل يقصد محمد عبدالسلام الذي أفكر فيه؟ ولكنني لم أعرف أن اسم جده فرج .. هو أدرى .. هو الحكومة؛ وأحسست بطعمٍ لذيذٍ على طرف لساني، كان طعم “طعمية” محمد عبدالسلام الرهيبة، أفضل “بتاع طعمية” في حدائق الزيتون برمتها! ولكن، هل أُعدِمَ محمدٌ عبدالسلام؟ كيف؟ منذ ثلاثين عامًا؟ ما هذا الذي أفكر فيه! إنه التوتُّر وبلا شك. أَردفَ :

-قُتل السادات، وقالوا قتله محمد عبدالسلام، كان الجميع يعرف وقتها الانقسامات في الجيش، كنت في السادسة عشر وقتها، وكان الجميع يعرف .. كان الجميع يعرف ولكن أحدًا لم يجرؤ على الكلام.

رمى سيجارته ودهسها بتوتر، أشعلَ واحدةً أخرى وقال :

-أتعلم ما الشيء المشترك بين محمد عبدالسلام ويحيى أبو النجا؟

نظرت إليه بعدم فهم، فأكمل كمن لا ينتظر “ما هو؟” :

-أنَّ كليهما ابن زنا ومظلوم في نفس الوقت. وذلك أكثر ما يرهقني.

سحب نفسًا طويلًا من سيجارته، أَردفَ :

-كنتُ ملازمًا غضًا مُحمَّلًا بهتافات العدالة وخدمة البلد، وكنت أخدمُ في مكافحة المخدرات آنذاك، جائتنا إخباريةٌ عن سيارةٍ توقفت في حيٍّ سكنيٍّ مُظلِم، وأنّ أهلَ الحيّ يُجزمون أنهم يشربون الحشيش. انطلقنا في السيارة تجاه الموقع، ووجدنا المراهقين الأربعة “عميانين”، طلب مني أحدهم أن يحادثني على انفراد، وأخبرني أنه ابن “فلان” نائب مجلس الشعب، فكدت أصفعه على صفاقته لولا أن لمحت يحيى يستلم شيئًا من واحدٍ منهم، هرعت إليه وشدته من عضده، أخذته بعيدًا عن المراهقين وسألته بعصبية عما يفعل، فقال ببلاهة “هاخد الحرز وهنمشيهم سعادتك”، أهنته وصممت أن أقبض عليهم، فقال لي “براحتك سعادتك، بس الدنيا هنا مبتمشيش كده، ده غير إن الناس اللي فوق بتتبسط بالأحراز”.

دهس سيجارته الأخرى وأكمل ووجهُه لا يزداد إلا تعرُّقاً :

-وكان كلامُه صحيحًا ابن الزنا، لم ينقضي الليل إلا وكان الحرز في القسم، والمراهقين في بيوتهم. انكسر شيءٌ ما بداخلي آنذاك بعد أن واجهت تقريعاً ممن هم فوقي، وانهار هدف العدالة ليحل محله هدف الحصول على ترقيات أكثر .. على سلطة أكبر .. وتعاونت مع يحيى كثيرًا واعتاد أن يقضي لي الكثير من المصالح مقابل إكراميات، حتى بعد أن نُقلت إلى مصلحة السجون، كنت ما أزال على اتصالٍ به.

كان شعر ذقنه الأبيض قد انتصب كله، وكانت الغصة في حلقي تتكالب بشكل مروع؛ قال :

-تبدلت الأقاويل بين أفراد الشرطة حول هذه القضية بالذات، واطلعتُ على هذه القضية، وظني لم يخب .. يحيى لم يفعلها. الأمر ببساطة أنه نشب شجارٌ بين إحدى العاهرات وابن “فلان” آخر، فدبت النخوة في عروق يحيى وانقض على ابن “فلان” الملعون ذلك، لقد هرم يحيى .. واستطاع الشاب المخمور أن يسحب المسدس من جيب يحيى ويصوب باتجاه العاهرة .. والبقية معروفة؛ ثورةٌ قامت وثورةٌ قعدت، ولكن شيئًا لم يتغير .. شيئًا لم يتغير على الإطلاق.

أشعل سيجارة ثالثةً حتى ظننت صدره يحترق، وكانت الغصة قد شلت حنجرتي تمامًا، قال :

-والسؤال هو، هل يحق لنا أن نحاسبَ أولاد الزنا على ذنوب لم يقترفوها؟ هل في ذلك شيءٌ من العدالة؟ قاربت على الستين وها أنا أسأل : ما معنى العدالة؟ أربعون عامًا وأنا أدافع عن شيءٍ لا أعرف عنه قيد شعرة! والسؤال الأهم : هل سيظل النظام يضحي بأولاد الزنا الأقل أهمية من أجل أولاد زنا ولدهم دبرٌ نظيفٌ منتوف؟ هل سيأتي اليوم وأقف أمام هذا الباب بالبدلة الحمراء ولا يعتريني من سؤالٍ سوى : هل أنا مظلومٌ أم ابن زنا؟

سكت برهة ثم أردف :

-عشماوي، هل أنت مظلومٌ أم ابن زنا؟

كانت عضلاتي كلها قد بدأت في التراخي، وأحسست بدوارٍ شديدٍ يكتسحني، تلاشى من ذهني كل شيء، أم حسام، وألم العانة .. والمائة جنيه ..وقبل أن أسمح لصدى السؤال أن يتردد في ذهني، سمعت جرجرة أقدام في الردهة، كان الطبيب وممثل النائب العام يتقدمهم عسكريان يجرجران ابن زنا مظلوم.

مروا من أمامنا والمأمور منكس الرأس، ودلفوا جميعًا إلى الغرفة .. ولُطِّخت ثيابهم جميعًا بالطلاء الأحمر الجديد .. ودخلت أنا والمأمور .. الذي حَكّت ثيابه بشدةٍ في الباب حتى صار كمّه الأيمن أحمرًا.

أوقفت يحيى أمام الطبلية، ثم أخذ النائب العام يتلو الحكمَ بسرعةٍ، و سأل يحيى الذي ظل مطأطأً رأسه هذه المدة كلها : هل لديك أقوالٌ تريد إضافتها؟

رفع يحيى رأسه ببطء مهزومٍ، وما إن رأى المأمور حتى أخذ يتخبط بين أيدي العسكريين وهو ينشج، يبكي، ويصرخ :

-محمود بيه! قولهم إني مظلوم يا محمود بيه! عيالي يا محمود بيه! هيرفعوا راسهم ازاي؟ هيعيشوا ازاي وهياكلوا منين؟ متيتمش عيالي يا محمود بيه وحياة حبيبك النبي .. محمود بيه! قولهم إني بريء يامحمود بيه أبوس رجلك .. أبوس رجلك يا محمود بيه!

نكّس المأمور رأسه والدموع تترقرق في عينيه، وأشار إليّ أنْ أنفذَ .. تقدمت إلى يحيى بالغطاء الأسود وأنا أحسُّ أنّ شيئًا ما يدفعني .. أنني لست أنا .. أنني في كابوس والحل الوحيد لإنهائه، هو أن أنفذ. مضى ينتحب بين أذرع العسكريين حتى ألبستَه الغطاءَ، أوقفتُه على الطبلية ووضعت المشنقة في عنقه، وخرج العسكريين بحركة آلية مغلقين الباب ورائهما.

وقفت بمحاذاة الطبلية، أغمضت عينيّ، وأخذت نفسًا عميقًا، ثم، وبحركة واحدة، ركلت الطبلية. كنت ما أزال مُغمضًا عينيّ حينما سمعت صرخةً هزّت أوصالي .. هزّت أرجاء الغرفة .. بل هزّت السماء وربما عرش الله. بينما كانت الطبلية تنزلق من تحته، كان آخر صراخه : يااارب.

ظللت مغمضًا عيني حتى سمعت صوت فتح باب الغرفة ورحيل الأقدام، وما إن عمّ الصمت حتى جثوت وضممت قدميه بين ذراعيّ .. وظللت أبكي .. أبكي كأنني لم أشيب .. كأنني لم أرَ من الحياة إلَّا شذرًا .. ظللت أبكي وكأنّني فقدت الشيء الوحيد الذي كان يُبقيني قائمًا؛ وتساءلت، هل سيقبل الله دعوة ابن زنا مظلوم؟

كنت أعبرُ الساحةَ الترابية الخاوية مغادرًا بعد أن استلمت المائة جنيه، نظرت إلى العَلَمِ فإذا هو منكسٌ بالأسود .. حوّلت بصري مرارًا بين المائة جنيه وبين العلم .. وتذكرت قوله : إن تجسُّدَ الله الوحيدَ كان في المال والضبابير.

ملحوظة من الكاتب: القصة مستوحاة من حوارٍ صحفيٍّ نُشر على موقع مصراوي مع الجلاد “حسين قرني”.

 

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: أحمد المسيري

الصورة: مريم

اترك تعليقا