علم نفس الحيوان: هل نحن أذكياء بما يكفي لفهم درجة ذكاء الحيوانات؟

في أوائلِ القرن العشرين لفت عالم الأحياء وخبير علم نفس الحيوان (Jakob Von Uexküll) الأنظار إلى فكرةِ أنّ للحيواناتِ أيضًا منظورها الخاص الذي تَرى العالم من خلاله، مصطلِحًا على تسمية هذا المنظور umwelt، وأن كل نوع من الحيواناتِ يرى نفس البيئة بشكلٍ مختلف. وإذا كانت نتائج التجارب التي أجراها بعض العلماء تشير -حسبما يقولون- إلى أن الحيوانات تفتقر إلى مهارات معرفية معينة، وأن البشر فقط هم القادرون على ممارسة هذه المهارات، فإنه علينا أن نسأل أنفُسنا في البداية: هل تجاربنا تناسب نوع الحيوان الذي نجري عليه التجربة؟

وكانت هذه هي بداية الثورة العلمية في علم نفس الحيوان، خاصة في مجالِ المعرفة والإدراك، والتي قادها دكتور فرانس  Frans de Waal عالم الرئيسيات الهولندي والمتخصص في علم النفس الحيواني، ومؤلف عدة كتب شديدة الأهمية مثل “السياسة عند الشمبانزي” و”القرد بداخلنا”. ولقد اختارت مجلة التايم الدكتور فرانس ضمن قائمة المائة شخصية الأكثر تأثيرًا في العالم. ولقد بيّن دكتور “وآل” من خلال تجاربه مدى خطأ النظرة التقليدية للمدرسة السلوكية التقليدية -المتأثرة بآراء كبير السلوكيين وعالم نفس الحيوان “بي سكينر”- التي ترى أنّ الأمر كله حافز وعقاب وهما اللذان يقفان خلف سلوك الحيوان دون أن يمتلك أيّ قدرات فكرية أو عقلية.

وبيّن دكتور فرانس أنّ افتراض وجود هرمٍ للقدرات المعرفية يضمّ جميع الحيوانات ويضع البشر على قمّته ليس بالضرورة أن يكون صحيحًا، حيث تتخذ القدرات العقلية أشكالًا متباينة لا يمكن أن نقارن بينها، فهل تفترض مثلًا أنك أغبى من السنجاب لأنك أقل مهارة في تذكر الأماكن التي خبأت فيها الذرة؟ وهل يمكنك أيضًا أن تحكم على أنّ إدراكك للمكان من حولك أكثر تقدمًا وتعقيدًا وتفصيلاً من الخفاش الذي يرى من حوله باستخدام صدى الصوت (كأنه جهاز سونار).

ويمثّل كتاب (?Are we smart Enough to Know how smart Animals Are)، أحد أهم كُتب دكتور “فرانس دي وآل”، والتي تدعو إلى إعادة النظر في كل ما كنّا نعتقده من قبل بخصوص علم نفس سلوك الحيوان، خاصة القدرات المعرفية والفكرية. بيد أنه بناءً على العديد من الأبحاث التي شملت الدلافين والبقر والببغاوات والأغنام والخفافيش والحيتان وبكل تأكيد الشمبانزي والبونوبو، مدى عمق ونطاق الذكاء الحيواني. وفيما يلي استعراض لأهم الخطوط العريضة التي اشتمل عليها هذا الكتاب:

١- علم نفس الحيوان

اقذف أيّ كرة صغيرة إلى كلب صغير، ستجده يعدو ورائها بكل حماس وعزم دون حتى أن تقدم له أي حافز لهذه المطاردة.. إنها غريزة الصيد. حاول هذه التجربة هذه المرة مع أرنب، وسوف تلاحظ أنه مهما أُلقيت مرات إليه لن يعدو وراء الكرة ولن يتعلم أبدًا مهارة القنص والمطاردة لأنه يفتقر إلى هذه الغريزة من الأصل.

إعلان

يتجاهل علم نفس السلوك الحيواني الحالي والمتأثر بأبحاث دكتور بي سكينر هذا الفكرة البسيطة الموضحة أعلاه لأن علماءه يَرَوْن أن التعلم ممكن للجميع، وذلك من خلال إيجاد الحوافز والعقوبات المناسبة، متجاهلين بذلك البيئة المحيطة، ووسائل التكيف، وذلك على الرغم من توافر الكثير من الأدلة في الوقت الحالي على أنّ الحيوانات تولد بتخصصات معينة وقابلية محددة للتعلم.

ولكن ما هو علم نفس الحيوان ؟

علم نفس الحيوان هو الدراسة العلمية لسلوك الحيوانات كفرع من علم الحيوان، ومن أهم فروعه علم السلوك الوصفي Ethology، ويُعنى بالأنماط السلوكية للحيوان في ظل المتغيرات البيئية والاجتماعية المختلفة من منظور تطوري ، وعلم النفس المقارن، وعلم السلوك البيئي، وعلم التشوهات السلوكية، وعلم النفس الصيدلاني، وعلم نفسه البيولوجي.

وتوجد في الوقت الحالي مدرستان كبيرتين تهتمّان بسلوك الحيوان؛ الأولى هو الإثيولويجا “ethology” وهي معنية بالدراسة البيولوجية والاجتماعية للسلوك الحيواني، الأخرى هي المدرسة السلوكية والتي تقصر سلوك الحيوان على تاريخ من الحوافز لا غير. لكن المنهج الأمثل لدراسة الحيوان من وجهة نظر المؤلف، هو المزج بين المدرستين في إطار تطوري موسع يأخذ الأفضل من كلا المدرستين. ويستخدم داخل هذا الإطار التطوّريّ المذكور منهجية التجربة الضابطة controlled التي تستخدمها المدرسة السلوكية، وأساليب الملاحظة التي تستخدمها مدرسة الإثيولوجيا. يضاف إلى هذا مدرسة علماء الرئيسات اليابانيين الذي يعطون لكل حيوان اسمًا معينًا ويتابعون مساره الاجتماعي جيلًا وراء جيل.

٢- الاختبار المناسب

(أ) اعتقد العلماء لفترة طويلة أن الفيلة من بين الأنواع القليلة التي لا تستطيع التعرف على وجوهها في المرآة، وذلك من خلال تجاربهم التي تتكون من وضع علامة زرقاء من صبغة تزول بالغسيل، على جسد الحيوان، ثم إيقاف الحيوان أمام مرآة، فإن أظهر اهتمامًا بالعلامة الزرقاء، فإن هذا يشير إلى أنه تعرف على وجهه. ولقد استطاعت السعادين والقردة العليا وأنواع أخرى النجاح في هذه الاختبار إلا الفيل. بعد فترة اكتشف الباحثون أنهم لم يأخذوا عنصر الحجم بعناية كافية عند اختيار المرآة حيث لم تكن المرآة تظهر جسم الفيل كله، أحيانًا تظهر الأقدام أو جزء من الوجه. وبمجرد تدارك هذا العيب واستخدام مرآة تُظهر الفيل كاملًا تمكنت الفيلة من التعرف على نفسها.

(ب) اختبر الباحثون في مجال علم نفس الحيوان “الرئيسات primate” في مهارات إضافية غير التعرف على وجوهها وهي القدرة على التمييز بين الأشياء والأشخاص، واكتشفوا أن هذه الحيوانات ضعيفة في مقدرتها على التمييز بين الأشياء. بعد فترة اكتشف العلماء أنهم كانوا يختبرون هذا النوع من الحيوانات في القدرة على تفرقة بين والتعرف على الأشخاص المختلفين، فقرروا اختيارها فقط في التعرف على الرئيسات أمثالهم، فأظهروا تفوقًا كبيرًا. يعني هذا أنهم مثل البشر، وأن الرئيسات تكون على مستوى عالٍ من المهارة عند التفرقة بين أفراد نوعها مقارنة بالأنواع الأخرى.

٣- اعرف حيوانك

أجرى الباحثون في مجال علم نفس الحيوان تجربة حول القدرة على استعمال الأدوات عند السعادين Monkeys والشامبنزي والجيبون gibbons، حيث وضعوا موزة خارج القفص بعيدة بعض الشيء، وعصا قريبة في متناول يديهم، وكان كلّ ما عليهم هو التقاط العصا واستخدامها في تحريك الموزة قريبًا من أيديهم ليمسكوها. نجح السعدان والشمبانزي في القيام بذلك بسهولة ويسر ودون أي تردد، ما عدا الجيبون. هل يعني هذا أنهما أذكى من الجيبون؟ لا.. الشمبانزي والسعدان ليسا أذكى من الجيبون، حيث لاحظ عالم الرئيسيات الأمريكي بنجامين بيك أن إبهام الجيبون صغير بينما بقية أصابعه طويلة جد، أي أنها لا تناسب عملية الإمساك بالأشياء من على سطح مستوي. ومن ثم قام بنجامين بوضع العصا على سطح مرتفع بشكل يسهّل أمام الجيبون القدرة على إمساكها. وفِي هذه المرة استخدم الجيبون العصا لتقريب الموزة والتقاطها بسرعة وكفاءة.

وعند تحديد التجارب في نطاق علم نفس الحيوان التي تناسب أنواع الحيوانات المختلفة، فإن أشياء بسيطة مثل الحجم تعتبر شديدة الأهمية، فجميع الحيوانات لا يمكن اختبارها مثلاً بأدوات صُنعت خصيصًا لتناسب الحجم البشري، ويجب أن تتناسب التجربة مع مزاج الحيوان وصفاته التشريحية واهتماماته وقدرات حواسه. هناك بالفعل حاجة إلى النظر إلى الحيوانات في صورة كلية ومعايشتها لفترة لمعرفة أنماط سلوكها قبل أي تجربة، ومن ثم إعادة صياغة علم نفس الحيوان.

٤- هل تستطيع الحيوانات التفكير؟

قام ولفجانج، أستاذ علم نفس الحيوان، في دراساته للقدرات المعرفية للحيوان، بتعريض الحيوانات لتحديات بسيطة دون تقييدهم بقيود تجريبة معينة، ومراقبة استجابتها لها. وأشارت النتائج كلها إلى وجود “ردود أفعال أو فعل قام بها الحيوانات عن قصد تام”، وليست عشوائية أو نتيجة عن محاولات التجربة والخطأ، ويعني هذا بكل وضوح أن هناك لدى هذه الحيوانات نشاطًا عقليًا يمكننا تسميته “تفكيرًا”. ولقد ثبت أن العديد من أنواع الحيوانات تتشارك في قدرات معرفية معينة، وأنها ليست حكرًا على البشر، وتنتشر من الرئيسات إلى الدلافين والفيلة ثم الطيور والزواحف وأحيانًا اللافقاريات. وكشفت التجارب على سبيل المثال أنّ مهارة التعرف على الوجوه face recognition، والتي كان يعتقد لفترة طويلة أنها قدرة بشرية متفردة، تتوافر أيضًا لدى البقر والأغنام بل أحيانًا بعض الدبابير.

٥- ذكاء الغراب

بمجرد أن ترى القرود شيئًا جذابًا، لكن بعيدًا عن متناول يديها، لا تبحث فقط عن الأداة المناسبة لتلتقطه، ولكن قد تصنع الأداة أيضًا. ولقد ابتكر الغربان لهذا أسلوبًا مثيرًا جديدًا حيث استخدمت أداة مساعدة قصيرة “عصا لاجتذاب عصا أطول” ثم استخدام الطويلة في الحصول على ما تبتغيه.
وأخذًا في الاعتبار الفجوة التطورية بين “الغرابيات” والرئيسات primates، فإننا هنا مع مثال نموذجي لخطوط التطور المتقاربة convergent evolution: لابدّ أن المجموعتين قد واجهتا احتياجًا بشكل منفصل، لاستخدامات معقدة أو تحديات أدت لتحفيز نموّ المخ لديها، مما ترتب عليه نشأة مهارات معرفية متشابهة. وهناك مبدأ معروف يلخّص حالة التقارب هذه وهو أنّ كل قدرة عقلية نكتشفها تكون أقدم وأكثر انتشارًا مما ظننا من قبل. اليوم أصبح لدينا أدلة على وجود استخدام للآلات خارج نطاق الثدييات والطيور مثل التماسيح حيث تقوم بحفظ توازن عصا على بداية فمها وأنوفها بالعرض لاجتذاب الطيور إليها في وقت التزاوج وبناء الأعشاش.

٦- هل تستطيع الحيوانات التكلم؟

قامت الدكتورة إيرين بيبربورج، أستاذة علم نفس الحيوان، بدراسة استغرقت ٣٠ عامًا على ببغاء أفريقي أسمته أليكس، والتي مهدت الطريق أمام العديد من الدراسات السلوكية على القدرات المعرفية لدى الطيور. أثبت أليكس خلال هذه التجربة أن الببغاوات أذكى مما نظن بكثير، فلم ينجح أليكس في تقليد وإعادة العديد من الكلمات والأصوات بل استطاع نقل بعض الأفكار المعقدة وإيصالها للباحثين. وكانت حصيلة الببغاء اللغوية ١٥٠ كلمة يميز بها بين ٥٠ قطعة من أشياء مختلفة، وبين ٧ ألوان، و٥ أشكال، واستيعاب فكرة “الحجم” حيث كان يتعرف على المفتاح مثلاً مهما اختلف لونه وحجمه، أي أنّه أصبح قادر على “التفكير المكاني”.

الخاتمة

يمكنك أن تستنتج بعد أن تفرغ من قراءة هذا الكتاب الجميل في علم نفس الحيوان أنّ الإجابة على السؤال الذي طرحه دكتور فرانك “هل نحن أذكياء بما يكفي لنفهم مقدار ذكاء الحيوانات؟” هي “لا”. نحن فعلاً لسنا أذكياء بشكل كافٍ، أو حتى اقتربنا من ذلك، لفهم مقدار ذكاء الحيوانات. كما أنّ النظرية الحالية التي ترى أنّ الحيوانات جميعًا تقودها الغريزة وليس لديها أي قدرات فكرية وإدراكية بعيدة كلّ البعد عن الحقيقة. وإذا كانت الحيوانات تتأثر فعلاً بالغريزة فتدريب مجموعة من الدلافين على قفز سويًا في توقيت واحد ليس غريبًا لأنها تفعل ذلك في البرية، لكن الغريزة لا يمكن أن تفسر الأدلة الدامغة على وجود قدرات فكرية ومعرفية. وعلينا حتى نصل إلى نتائج تتمتع بالمصداقية ألا نجعل أنفسنا -كبشر- مقياس كل شيء، وعلينا أن نقيّم الأنواع الأخرى بما هي عليه من صفات تلائم البيئة من حولهم.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: سمير الشناوي

تدقيق لغوي: ضحى حمد

اترك تعليقا