عقد مخيب للآمال بالنسبة لدراسة تطور الإنسان

كان العقد الأخير سيئًا بالنّسبة لدراسة تطور الإنسان، وقد نشرت مجلة سميثسونيان Smithsonian Magazine مؤخّرًا مقالًا عنوانه “هذه هي أكبر اكتشافات العقد في مجال تطوّر الإنسان” وجاءت افتتاحية المقال تقول:

إنّ تطوّر الإنسان واحدٌ من أكثر المجالات تأرجحًا في التحقيقات العلمية، ففي العقد الماضي، شاهدنا عدّة اكتشافات أضافت لمعرفتنا الكثير عن أصلنا البشريّ، ولكي نجعل السّنويّة العاشرة لافتتاح “قاعة أصل الإنسان لديفيد كوخ” مميّزة، فإليكم بعض أكبر اكتشافات العقد الأخير في هذا المجال.

فما هي أكبر اكتشافات العقد الأخير؟ وهل استطاعت تلك الاكتشافات أن تقدّم دليلًا  ملزمًا على تطوّر الإنسان من كائنات أدنى؟ في حقيقة الأمر، شكّلت بعض هذه الاكتشافات أمثلةً أصبح فيها الدّليل على تطوّر الإنسان أكثر تضعضعًا، بينما مثّلت بقيّة الاكتشافات مراجعات طفيفة لنظريّات سابقة لا تقدّم الكثير لجوهر أدبيات علم أصول الإنسان.

الـ DNA القديم

أوّل إنجاز علمي كبير قدّمته مجلة سميثسونيان هو اكتشاف الـ DNA القديم. في الواقع، يعدّ هذا الاكتشاف تطوّرًا مذهلًا  في مجال علم وراثيات الإنسان القديم المزدهر حديثًا، فقد أظهر أنّ هناك سلالات فرعيّة لمجموعات أشباه البشر الحديثة جدًا كإنسان دينيسوفا الذّي وُجِدَ قبل ما يقرب المليون سنة. وعلى الرّغم من أنّه شكلٌ جديدٌ ومثيرٌ من الأدلّة، إلّا أنّ الـ DNA القديم يبقى في الوقـت الحالي صامتًا فيما يتعلّق بالمبدأين الحاسمين لعلم وراثيّات الإنسان القديم: المبدأ الأوّل هو: افتراض أنّ الإنسان الحديث منحدر من أنواع لا بشريّة أو أنواع تحت بشرية أو حتى أنواع بدائية، والثاني هو: الادّعاء القائل بأنّ هذه “الأنواع من الإنسان القديم” المكتشفة حديثًا تختلف بشكـلٍ جوهريّ عنّا. نعم، نحن نملك الحمض النّووي لإنسان دينيسوفا، لكن حالياً وحسب كل ما نعرفه فإنّ إنسان دينيسوفا يمتلك من الإنسانية ما نمتلكه نحن تمامًا.

ثاني أكبر اكتشاف في العقد كان الهوموناليدي Homo naledi “سلف للإنسان” المهم باعتباره مخبأ ضخمًا للحفريات البشرية، يضيف الكثير لمعرفتنا عن السّجل الأحفوري. بدايةً، أطلقت تقارير الأخبار على الهوموناليدي اسم “سلف الإنسان”، لكن في 2017م وُجِدَ أنّ هذا النّوع قد عاش منذ بضع مئات الآلاف من السنين -أيْ أنّه أصغر بعشر مرّات من أن يعدّ سلفًا تطوّريًا للإنسان- كان هذا فشلًا بالنّسبة لأنصار التطوّر، كما أشرنا هنا 

اجلبوا موتاكم

يقرُّ ادّعاءٌ رئيسيّ آخر بشأن الهوموناليدي بأنّه كان يدفن موتاه، استُنتِجَ من هذا أنّ نوع الهوموناليدي ذو الدّماغ الصّغيرة بدأ بإظهار ومضاتٍ من سلوك أشباه البشر وذكائهم، لكن يوجد بعض الشّكوك حول هذا، ولمراجعة الأمر إليكم هذا الرابط.

إعلان

يعدّ الهوموناليدي اكتشافًا حفريًا مدهشًا، لكنّ الدّليل على أنّه نوعٌ ذكيّ من أسلاف البشر وذو دماغ صغيرة ببساطة لم يفلح.

في حقيقةِ الأمر، إذا كان هناك أيّ حدثٍ رئيسيّ في علم أصول البشر بالعقد الماضي، فهو أنّ الاكتشافات والتّحليلات الجديدة للعصور الأحفورية تتعارض مع القصّة التطوّرية المفضلة.

عمر صغير غير متوقّع

ثالـثُ اكتشافٍ كبيرٍ فـي قائمة سميثسونيان Smithsonian هو جمجمة كاملة تقـريبًا للأسترالوبيثيكوس أنامينيسيس Australopithecus anamensis يعود تاريخها إلى حـوالي 3.8 مليون سنة اكتشفَت في 2019م. كتب غانتر بيتشلي مراجعًة ممتازًة لهـذه الحفريّة هنا في موقع Evolution  News، أشار فيه إلى أنّ هذه الجمجمة سمحت للعلماء لأوّل مرّة بأن يعرفوا كيف يبدو شكل نوع الأسترالوبيثيكوس أنامينيسيس A. anamensis. ومع ذلك، فعُمْرُ تلك الحفريّة الصغير وغير المتوقّع يشير إلى أنّها توافقت في الزّمن مع نسلها المُفترض، كالنّوع أسترالوبيثيكوس أفارينسيس. استشهدت Science Daily بالقول الآتي لأحد العلماء المشاركين في اكتشاف الحفريّة: “اعتدنا على اعتقاد أنّ الأسترالوبيثيكوس أنامينيسيس تحوّل تدريجيًا إلى الأسترالوبيثيكوس أفارينسيس عبر الزّمن”، لكنْ بسبب عمر الأحفوريّة، لم يعد العلماء يؤمنون بذلك. وضّح بيتشلي هذه الحال بقوله:

“لقد تكهّنت نظرية داروين في الواقع بهذه الآليّة للتطوّر المسمّاة “التخلق التجددي” أيْ التّحول التّدريجي من نوع لنوع آخر. وبالتّالي وجب علينا توقّع إيجاد بعض الأدلة الحفريّة لهذه العمليّة الأساسيّة، لكنْ تبيّن أنّ تلك الأدلّة صعبة المنال (انظر للأسفل). لقد كانت حالة التّحول المفترض من أ. أنامينيسيس إلى أ. أفارينسيس “واحدةً من أوثق حالات التّخلق التّجددي في السّجل الحفريّ” (اقتبسها Melillo في Marshal 2019, Kimble et al 2006, Haile-selassie 2010). هذه الحالة المتينة التّي تلاشت الآن، لم تكن أكثـر الحالات رسوخًا فقط، بل كانت آخرها.”

لِنُعدْ روايةَ قصّةٍ قديمةٍ، ففي 2000م كان هناك اكتشاف لحفريّة من نوع أ. أنامينيسيس سبقت نوع أ. أفارينسيس زمنيًا، ممّا أثار ضجةً هائلًة، وقرّر علماء أصول البشر أنّ الحفرية تمثّل علاقًة مباشرًة لنسل وسلف بين النّوعين. في ذلك الوقت، كتـب تيم وايت وآخرون في مجلّة نيتشر الآتي: “أقدم أنواع الأسترالوبيثيكوس الموصوفة هو أ. أنامينيسيس, السّلف المُحتمل لـ أ. أفارينسيس”. تلقّى الإعلام الخبر واعتبره دليلًا قويًا على التّطور. على سبيل المثال، نُشِرَ تقريرٌ في مجلّة Associated Press كُتِب فيه:

أحدث حفريّة تمّ استخراجها من بقعة ساخنة في أفريقيا تسمح للعلماء بربط تسلسل كامل من تاريخ تطوّر البشر حتّى الآن. “لقد وجدنا التّسلسل التّطوّري الذّي استمرّ عبر الزّمن”. هذا ما قاله عالم أصول الإنسان والمؤلّف المساعـد للدّراسة الأُثيوبيّ بيرهان أسفاو خلال محادثةٍ هاتفيّةٍ من أديس أبادا. “تحوّل من شكلٍ لآخرَ”. هذا دليل على التّطوّر عبر الزّمن في بقعةٍ واحدةٍ.

هذا المثال المفترض في التّطوّر التّدريجي لعلاقةٍ مباشرةٍ بين السّلف والحفيد لم يكن مهمًا للإعلاميين المؤيّدين للدّاروينية فقط، بل كان مهمًا لعلماء أصول البشر أيضًا؛ لأنّه من النّادر جدًا لهم أن يصدِّقوا بوجود مثالٍ لهذا الشّيء، اعترف بيرنارد وود ومارك غرابوفسكي في كتاب التّطوّر الكبروي: شروحات، تفسيرات وأدلة بأنّ الأمثلة السّليمة لسلاسل الحفيد سلف في حفريّات أشباه البشر نادرة للغاية:

إنّ أغلب تصنيفات أشباه البشر، خصوصًا أِشباه البشر الأوائل، ليس لها أيّ سلفٍ واضح، وفي معظم الحالات لا يمكننا إنشاء تسلسل موثوق لأحفاد سلف ما (سلالة زمنية أحفورية)، يرد أدناه استثناءان محتملان.

خمِّنوا ما الذّي كان وحداً من استثنائهما  المحتملين؟ لقد كان أ. أنامينيسيس المتطوّر تدريجيًا إلى أ. أفارينسيس:

في وقت أو في آخرَ، عرضنا كلًا من أشباه البشر الأوائل المذكورة أعـلاه باعتبارها أسلافًا لأشباه البشر اللّاحقة، لكنْ وبرأينا هناك زوجين معقولين فقط يمثّلان علاقات سلف/نسل حقيقيّة (أيْ أمثلة على التّخلق التّجدديّ)، هما أ. أنامينيسيس/ أ. أفارينسيس (Kimbel et al. 2006)، وإنسان أثيوبيا/ إنسان بويزي (Wood and Schroer 2013). في حالة الزّوج المذكور آنفًا، يعتبر أ. أفارينسيس وأ. أنامينيسيس تصنيفين ناجحين زمنيًا ضمن سلالة مفردة، ويقع laetoli hypodigm  وسيطًا بين التصنيف أ. أنامينيسيس و Hadar Hypodigm للتصنيف أ. أفارينسيس. تلـقّت هذه الفرضيّة الدّعـم بسبب اكتشاف دلـيلٍ حفـريّ في منطقة Woranso-Mille بأثيوبيا يخبرنا بأنّهما وسيطان شكليًا وزمنيًا بين أ. أفارينسيس وأ. أنامينيسيس (Haile-Selassie et al. 2010).

على أيّ حال، هذا المثال على تسلسل السّلف/النسل لا يمكن أن يستعملَ مجددًا لأنّ جمجمة أسترالوبيثيكوس أنامينيسيس المُكتَشفة العام الماضي عمرها 3.8 مليون سنة، أيْ بعد مئة ألف سنة من ظهور حفريّات أسترالوبيثيكوس أفارينسيس؛ لذلك لم تعـد فكرة التحوّل التّدريجي صالحة بعد الآن.

لماذا قد يهمّنا هذا؟

حسنًا، مثلما نعلم، يفضّل علماء الأحياء التّطوريّين أن يُبرزوا التطوّر التدريجي المباشر بدلًا من إبراز نظريّة التّوازن النّقطيّ؛ لأنّ ذلك يماثل ما تنبّأ به داروين. وصفـت ورقة White et al. 2006م تطوّر أ. أنامينيسيس إلى أ. أفارينسيس بأنّه ربّما يكـون مثالًا رائعًا عن “التّدرّج” أو “التّخلق التّجدديّ” يتخطّى نظريّة “التّوازن النّقطيّ”.

شكّك غولد بِنُدْرة “التّدرّج النّقطيّ”، على عكس ذلك، اعتقد أنّ التّوازن النّقطيّ (مع الانتواع عن طريق تكاثر الفروع) أكـثر شيوعًا، ولكنّ إثبات ذلك يتطلّب وجـود معاصرة ثابـتة ومستمرة لكـلّ من الأسلاف والأحفاد. كما بيّن غولد أنّه “يُمكننا تمييز النّقاط التّي حصل عندها تخلّق تجدديّ سريع عن تلك النّقاط المُتفرّعة بالانتواع من خلال التّذرّع بمعيار -قابلٍ للاختبار بسهولةٍ- بقاء الأجداد بعد نشوءِ الأنواع المُنحدرة منها. فإذا صمد السلف ستظهر منه الأنواع الجديدة من خلال التّفرُّع، وإذا لم يصمد فيمكننا عدُّ الحالة غير حاسمةٍ أو عدّها كدليلٍ جيّد على التّخلّق التّجدديّ السّريع. ولكنْ في كلّ الحالاتِ لا نعدّها دليلًا على التّوازن النّقطي (795). ونادرًا ما تمّ استيفاء هذه المتطلبات في حفريات أشباه البشر.

بالنّسبة لأصل الأسترالوبيثيكوس، فإنّ التّطوّر النّمطيّ المترافق مع انفجار سريع في التّغيُّر الموجّه خلال فترة مئتيّ ألف سنة بين 4.4 و4.2 مليون سنة في الماضي لا يزال معقولًا بالنّسبة للموقع الجغرافيّ، والعلاقات الزّمنيّة والشّكليّة للأسترالوبيثيكوس راميدوس والأسترالوبيثيكوس أنامينيسيس، بالإضافةِ إلى معرفتنا بالتّشريح الأوّليّ للأسنانِ وتطوُّرها. في الحقيقة، بناءً على الأدلّة المتاحة، يمكن لأصل الأسترالوبيثيكوس أنْ يمثّل حالةً للتدرُّجِ النّقطيّ أو التّخلّق التّجدديّ النّقطيّ بدلًا من “التّطوّر الاستطاليّ

إذًا فقـد اعترفوا بأنّ متطلّبات التّطوّر التّدريجيّ “لا توجد إلا نادرًا في حفريّات أشباه البشر” لكن دراسة White et al. 2006 تكهّنت بأنّ هذه حالة من حالات “التّدرّج”، حيث نوّهوا بأن هذا سهل الاختبار: “إذا استطاع السّلف أن يصمدَ، ثمّ تفرّعت منه الأنواع الجديدة…إلخ”، بواسطة التّوازن النّقطيّ.

حسنًا، مثّلت الجمجمة المُكتشفة عام 2019م هذا السّلف الصّامد المُفترض، حيث يبدو أن أ. أنامينيسيس قد كان موجودًا قبل 3.8 مليون سنة، أيْ بعد مئة ألف سنة من وجود نسله المفترض أ. أفارينسيس. إذْ صرّح بحثُ مجلّة نيتشر في عام 2019م حول هذا المُكتَشف بما يأتي:

“لقد برهنّا بأنّ أ. أنامينيسيس مختلفٌ عن الأسترالوبيثيكوس أكثر ممّا كنّا نعتقد، وأنّ هذين النّوعين قد تزامنا لأكثـرَ من مئـة ألف سنةٍ، الأمرُ الذّي يناقِضُ فرضيّة التّخلّق التّجددي المقبولة بشكلٍ واسعٍ، لكنّ الأكثرَ أهميًة، هـو ما أظهره MRD بصرف النّظـر عن فرضـيّة التّخلّق التّجدّدي واسعةِ القُبول، فقد بيّن أن أ. أفارينسيس لم ينبثق كنتيجةٍ للتّحوّل من شعبةٍ لشعبةٍ، كما بيّن وجود نوعين مرتبطين على الأقل من أشباه البشر وُجِدَا في أفريقيا قبل 3.8 مليون سنة. ممّا زاد من تنوّع أشباه البشر في حقبةِ مُنتصف العصر الباليوسي” .006سةet al بأن متطلبات التّطوّر التّدريجيّ “لم توجدْ إلّا نادراً في حفريّات أشباه البشر”، لكنْ

على الرّغم من أنّهم مازالوا يعتقدون بوجود علاقة سلف/نسل بين الأنامينسيس  والأفارينسيس، يجبُ علينا الآن شطب هذا المثال من قائمة “التّدرّج الشّعبويّ” أو ما دعاه وود وغرابوفسكي “أمثـلةً واضحًة على العلاقات بين السلف والنسل(أي أمثلة على النّشوء)” أو كما قال موقع مجلة Science Daily:

“يتحدّى هذا التّداخُل الزّمنيّ فكرة الانتقال الخطيّ بين سلفَيّ البشر الأوائل هذين والتّي تحظى بقبولٍ واسعٍ. لقد اعتدنا على اعتقاد أنّ أ. أنامينيسيس تحوّل عبر الزّمن بشكلٍ تدريجيّ إلى أ. أفارينسيس. لا زلنا نؤمن بوجود علاقة سلف/نسل بين هذين النّوعين، لكنّ الكـشفَ الجديد يُوحِي بأنّ هذين النّوعين قد عاشا سويًا في عفر بأفريقيا لبرهة من الزمن.”

مثالٌ ثالث

بالمناسبة، يوجد مثالٌ ثالثٌ من عام 2010م إضافًة إلى الهوموناليدي، أ. أنامينيسيس و أ. أفارينسيس، حيث شكَّلت أعمار حفريات أشباه البشر مشكلًة أمام النّموذج المعياريّ للتّطوّر. في العام الفائت كتبنا تقريرًا عن دراسةٍ للسّجلِ الحفريّ لأشباه البشر والأسترالوبيثيكوس سيديبا نشرت في Science Advance، وخلصَت نتائجها إلى أنّ احتمال كون أ. سيديبا سلفٌ للإنسان يقلّ عن 0.1 %. بسببِ تأخُّره زمنيًا عن ظهور نسله المفترض ضمن جنس الهومو بحوالي مئة ألف سنة. لسبب ما، فشلت هذه الدراسة في دخول قائمة سميثسونيان لأفضل اكتشافاتِ العقد.

يوجد ثلاثة اكتشافات كبيرة إضافيّة في قائمة سميثسونيان تعلّقت بمراجعة صغيرة لأعمار لا تؤثّر في أدلة تطور البشر بشكل كبير:

(1) أنّ نوعَنا “الهوموسابيان” أصبح الآن بعمر 300000 سنة.

(2) أصبح عمر الأدوات الحجرية الآن قرابة 3.3 مليون سنة.

(3) وأنّ الإنسان الحديث قد هاجر من أفريقيا أبكر ممّا كنا نعتقد، ذلك بسبب اكتشاف عظمة فكّ في إسرائيل يتراوح عمرها بين 174000 و 185000 سنة. يعدّ الاكتشاف الأوّل مجرّد تعديلٍ طفيف لتواريخَ كان يؤمن بها سابقًا. أمّا الثّاني، فربّما يكـون على درجةٍ كبيرة من الصّحة على الرّغم منْ صعوبة تحديد الأعمار الدّقيقة للأدوات. وبالنّسبة للاكتشاف الثالث، فتعتبره مجلّة سميثسونيان كما الآتي:

في 2018م، أعلن الباحثون اكتشاف فـكٍ علويّ يشبه فـكنا العلوي في إسرائيل، انتهى عمر هذا الفك إلى ما بين 17400 و 185000 سنة. أوحى هـذا الاكتشاف –بالإضافة لغيره من الصين واليـونان– بأنّ جنس الهوموسابيان قد تجـوّل على مـدى قصير في يوراسـيا قبل الهجرة العالميّة التّي بدأت قبل 70000 عام مضى.

كتب غانتر بيتشلي تعليقًا على 2018 والتي كانت “سنة مريعة” بالنسبة لعلم أصول البشر ما يأتي:

“يقوم مؤلفو هذه الدراسة الجديدة بإعـادة تأريـخٍ لفـك الإنسان الحديث المكتشف في 2001 م في كهف ميسليا بجبل الكرمل في إسرائيل، حيث أكّد فريقٌ كبيرٌ من الباحثين بعد عمليّات إعادة حساب دقيقة جدًا واستخدام طرق تقنيّة مُكلِفة، نسبتها لجنس الهوموسابيان. مع ذلك، فقـد توصّلوا إلى عمرٍ مدهش جديد ووثيق لهذه العينة يتراوح بين 174000 و194000 عام، ممّا يجعلها أقدم دليـلٍ حفـريّ لإنسانٍ حديثٍ وُجِدَ خارج أفريقيا. تكمُن المشكلة في أنّ القصة النّموذجيّة للتطوّر تؤكّد أنّ الإنسان الحديث قد نشأ قبل 200000 عام في شمال شرق أفريقيا وبعد ذلك (منذ حوالي 60000 إلى 70000 عام) غادر أفريقيا لينتشرَ حول العالم (Callaway 2018b). اعتُبِرت الاكتشافات الفرديّة للإنسانِ الحديث في بلاد الشام قبل هذا الوقت “كبقايا مغارة السّخول وكهف قفزة في إسرائيل” التّي يتراوح عمرها بين 80000 و120000 عام، محاولاتٍ مُبكّـرة فشلـت في مغادرة أفريقـيا ولم تترك أي سليـل ورائها. تُظهِر النّتائـج الجديدة والكشـوف الأخيرة أنّ مثل هذه الفرضيّات المُتخصّصة لتفسير الأدلة المتضاربة لا يمكنُ الدّفـاع عنها بعـد الآن. هذا ما دعا استشهاد مجلة التايمز الاسرائيلية بقول البروفيسور اسرائيل هيرشكوفيتز: “لقـد غيّـر هـذا كلّ مفاهيمنا عن تطـوّر الإنسان الحديث، ويجب الآن إرجاع كامل قصة تطوّر الهوموسابيان مئة أو مئتي ألف سنة إلى الوراء على الأقل.” وعلق كاتب المقال بقوله “مع عظم الفك الخاصّة بكهف ميسليا سوف يُعاد كتابة تاريخ تطوّر الإنسان”(Borchel-Dan 2018).

أين سمعنا ذلك من قبل؟ يشير داينيكس بونتيكوس (2018م) -مدير واحدة من أشهر مدوّنات علم أصول البشر– إلى النّتائـج الجديدة في العنوان “خارج أفريقيا: نظريّة في أزمة”، وقد عـلّق بقوله أنّ تلك النّتائـج يجـب أن تجعلنا نعيدُ التفكـير في معتقداتنا التقليـدية بشأن المناطق القابعة خارج أفريقيا. “اسمعوا اسمعوا!”

أوّل زوج؟

لسوءِ الحظِّ، فشلت قائمةُ مجلّة سميثسونيان لأهمّ اكتشافاتِ العـقد الماضي في ملاحظة قصّةٍ كبيرةٍ جدًا تُجِـيب على سؤالٍ يهـمّ شريحًـة واسعًة من السُّكان: هل انحدر البشر من زوجٍ واحدٍ أوّليّ؟

بين 2016م و2019م طوّر علماء مؤهّلون نموذجًا صارمًا لاختبار وجهة نظرٍ مُفترضةٍ لفترة طويلة، هي “انحدار الإنسـان الحديـث من جمهرة ضخمة مكوّنةٍ من آلاف الأفراد”، وأسفرت هذه الدّراسة عن ثلاثة منشورات وجدت في النّهايـة أنّ أصل الإنسان الحديـث لا يعود لمجموعة كبيرة من الأفراد، بل يعود إلى زوجٍ أصليّ واحـدٍ عاش منذ 500000 سنة مضت (وإذا قلّلنا عدد الفرضيّات المعتبرة فلربّما قد عاش هذا الزوج منذ مدّة أقلّ من ذلك).

وفقًا للورقة البحثيّة الأخيرة لهذه الدراسة التّي نُشرت من قبل عالمة الأحياء آن غوغر والرّياضي أولا هوسير عام 2019م في مجلة BIO-Complexity، ضمن البحث عن أصل البشر “تم تفسير بعض الافتراضات الشائعة المستخدمة للتسهيل كما لو كانت استنتاجات قائمة على البيانات، دون اختبار فرضية الزوج الواحد الأصلي علمياً”. حاول نموذجهما أن يختبر إمكانية نشوء البشرية من زوج بدئي واحد، وسعى لفعل ذلك بتقليل الفرضيات إلى أدنى حدّ ممكن:

يختلف نموذج فرضية الزوج الأصلي الواحد الذي نناقشه هنا عن التفسير السائد لأصل الإنسان في افتراضين فقط: الأول هو أننا تطورنا تدريجيًا بدءًا من تجمع لأفراد غير بشريين، والثاني أن التنوع الجيني يُعزى دائمًا إلى طفرات في الخط الجنسي الوراثي.

دعمت دراستهم إمكانية وجود زوج أصليّ واحدٍ ذو “تنوّع جيني بدئي” بدلًا من إخضاع التفسير النموذجي لافتراض أنّ التّنوع الجيني لا يُشتقُّ إلّا من طفرات في الخط الجنسي، وأنّ حجم التّجمّع يجب أن يكون كبيرًا دائمًا.

هذه الدّراسة مثالٌ رائعٌ يبيّن كيف يتوجّب علينا أن نختبر معاييرنا عند تطبيق ظروفها المتطرفة بشكل عادل، وتظهر بشكل دقيق خطأ استخدام الاستدلال الدائري في أن نفترض أولًا أن تلك الظروف المتطرفة للتطور غير الموجه هي خيارنا الوحيد، ومن ثمّ نستنتج أنّ المعايير والنّماذج التّفسيريّة الأُخرى خاطئة. بعد تطبيق الظروف المتطرفة ورياضيات علم الوراثة السّكانيّ، استنتج كتّاب الدراسة أنّه وحسب المعرفة العلمية عن البيانات الوراثية لدينا، فيمكن للنّوع البشريّ أنْ يأتي من نسلِ زوجٍ واحدٍ بحيث ينتمي كل البشر الأحياء اليوم لهذا الزوج الذي قد عاش منذ أقل من 500000 عام مضى.

لمزيد من التفاصيل بشأن هذه الدراسة انظر.

بطبيعة الحال، فإنّ مؤسسة سميثسونيان مرتبطةٌ تمامًا برؤية تطوّريّة غير موجّهة بشكلٍ فعّال للأصول البشرية، كما أوضحت قاعة أصل الإنسان في واشنطن ومعرض الأصل البشري المُتنقّل الخاص بهذه المؤسسة في السّنوات الأخيرة. وبالتّالي ليس من المستغرب أن يتجاهلوا الدّراسات التّي تتحدّى الرواية التطوريّة السّائدة، وينسجوا بإيجابية قائمة لاكتشافات العقد الأخير التّي هي في حقيقتها تُضعِف الأدلّة على تطوّر الإنسان. إذا حدث شيءٌ ما، فهو أنّ هذه الاكتشافات توضّح بعد كلّ شيء لم لا يعتبر العقد الماضي رائعًا بالنسبة لأدلة علم أصول البشر على تطور الإنسان الحديث.

ربما سنعيد هذا الكلام مرةً أُخرى بعد عشر سنوات، وربّما ستقدّم لنا مؤسسة سميثسونيان في ذلك الوقت تحاليل موضوعية لأدلتها. من يعلم ما الذي سيجلبه لنا العقد القادم؟

نرشح لك: كيف يساهم الجينوم في كتابة تاريخ تطور الإنسان

المصدر

 

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: سلمى عصام الدين

تدقيق علمي: ريهام عطية

ترجمة: حمزة الفيل

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا