سلسلة الوعي: مقاربات فلسفية ونظرة تطورية لأصل الوعي

مقاربات فلسفية ونظرة تطورية لأصل الوعي (1-5)

يُعتبر الوعي أعقد قضية تواجه العلم والفلسفة في هذا العصر، لذلك نستعرض في مقالنا هذا -أولًا- آراء بعض الفلاسفة في القضية، والذي سيكون سلسلة من عدة حلقات نحاول فيها قدر المستطاع إلقاء الضوء على الجوانب المهمة في هذا العرَض.

أولًا: الوعي

هو إدراك النفس لأحوالها وأفعالها، أو هو حضور العقل أمام ذاته في فعل الإدراك والحكم. والوعي يفترض القدرة على التمييز بين القوة المفكِّرة وبين الموضوعات المفكَّر فيها. ويقول إرنست كاسيرر في كتاب “فلسفة الأشكال الرمزية”: “إن الوعي هو حرباء الفلسفة حقًا؛ إذ هو يدخل فى مختلف ميادينها ولكنه لا يتخذ نفس الشكل في كلٍ منها بل هو فى تغير مستمر”.

1- تطور معنى الوعي:

تطوَّر معنى الوعي في اتجاهيين يمكن نعت أولهما بأنه وظيفي والثاني بأنه مادي، وفي المعنى الأول (الوظيفي) الوعي يعني شكلًا أو تركيبًا في الإنسان مؤسَسًا في تركيبه الذاتي، وتطور هذا المعنى عند المذهب العقلي ثم عند كانط ثم أخيرًا في مذهب الظاهريات والفلسفة الوجودية. أما المعنى الثاني فإن الوعي فيه يشمل كل ما هو مُعطى في ذات الإنسان، ومن هنا قيل معطيات الوعي وتياره ومجال الوعي.

ومن حيث المعنى الأول نجد أن لبينتز قد وضع التمييزات التالية فقال: “من الجيد أن يُميَّز بين كلمة “perception” (وهي الحالة الباطنة “للمونادmonade” التي تمثل الأشياء الخارجية) وبين كلمة “apperception” التي تعني “الوعي conscience” أو المعرفة التأملية لتلك الحالة الباطنة”، وبسبب انعدام هذا التمييز فإن الديكارتيين قد أخفقوا حين اعتبروا أن ال “perceptions” ليست شيئًا إذا لم ينتبه إليها المفكر مثلما أن العامة لا يعدون الأجسام غير المحسوسة أشياءً.

وعرَّفه لوك بأنه “إدراك الإنسان لما يحدث في عقله”.
ويرى هيوم أن الوعي هو الشعور الداخلي.
وبينما يفترض ديكارت ولبينتز جوهرًا في النفس يقوم بالوعي، لا نجد هذا عند لوك وهيوم فهما يقولان أنه فقط  ما يحدث في عقل الإنسان أي مجموع أفكاره وخواطره.

إعلان

وميَّز كانط بين الوعي التجريبي (النفسي) وبين الوعي المتعالي (الترتسندنتالي)، فالأول ينتسب إلى عالم الظواهر، ووحدته يمكن أن تتم بحسب التركيب الذي يتم بواسطة عيانات المكان والزمان وتصورات الذهن.

أما الثاني فهو إمكان توحيد كل وعي تجريبي وإمكان المعرفة. وهُوية الشخص ليست أمرًا تجريبيًا بل هي أمر متعالٍ.

وعند فتشه وهيجل نجد نقلة من فكرة الوعي الترنسندنتالي إلى فكرة الوعي الميتافيزيقي؛ لقد جعل فتشه من الوعي الأساس للتجربة الكلية ويرى أنها هي “الأنا” الذي يصنع نفسه لنفسه.

وهيجل يصف درجات أو أشكال الوعي في عملية ديالكتية في مجراها يكون تطور الوعي هو تطور الواقع. وفي كتابه “ظاهريات العقل” يُظهر لنا الوعي على أنه هو العلة الأولى، والوعي الذاتي هو المرحلة الثانية والعقل (أو الروح) من حيث هو حر وعيني هو المرحلة الثالثة. لكن يمكن أيضًا تصور الوعي على أنه شمول لحظاته. والوعي يشمل الحقيقة الواقعية التي تقصد ذاتها لذاتها متعاليةً على نفسها ومتجاوزةً ذاتها باستمرار. وفي هذه العملية الديالكتيكية يحدث الوعي الشقي. وكتاب “ظاهريات العقل” يصف المراحل التي يمر بها الوعي من الوعي الشقي حتى المعرفة المطلقة.

أما برنتانو فيُصور الوعي على أنه إحالة وقصدية‘ فليس الوعي عنده حاويًا ومحويًا بل هو إحالة وقصد. وتحت تأثيره جاء هسرل في كتابه “أفكار في ظاهريات محضة وفلسفة ظاهرتية” فجعل الوعي الترنسندنتالي هو الأساس الأصيل في كل تقرير للوجود.

وعند برجسون الوعي يعني التذكر الحاضر؛ لأن اللاوعي يمكن أن يُعرَّف بأنه الوعي الذي لا يحتفظ بشيء من ماضيه. والوعي هو أيضًا التوقع للمستقبل. ومن هنا جاءت الثنائية بين المادة والوعي وهي ثنائية يعبر عنها في العبارة التي تقول: “المادة ضرورة أما الوعي فحرية”. ولكن الثنائية لا تبقى هكذا أبدًا؛ يقول برجسون: “أما هذان الوجوديان (المادة والوعي) يصدران عن ينبوع مشترك، وهذا أمر لا يبدو لي قابلًا للشك”.

الاتجاهات الفلسفية المعاصرة في دراسة الوعي:

يقسم د/ صلاح إسماعيل في كتابه فلسفة العقل الوعي إلى خمسة اتجاهات أساسية وهم:

1. النزعة الاستبعادية:

يقول أنصار النزعة الاستبعادية إن مشكلة الوعي لا وجود لها ولا توجد فجوة تفسيرية تتطلب منا الاجتهاد في سدها، وعبَّر عن الشك في وجود الوعي واستبعاده مجموعة من الفلاسفة مثل: “باتريشيا تشرتشلاند”، و”دانيال دينيت” في كتاباته المبكرة، ويشك هؤلاء في تماسك المفهوم الفعلي للوعي وفي ملاءمة الوعي للبحث الفلسفي والعلمي، وينكرون بصفة عامة وجود الأحاسيس والأفكار ويقولون إن التسليم بهذه الأمور كان سابقًا على العلم مثل التسليم بوجود الأشباح، أما الآن فإنها تدخل في إطار اللغو الفارغ؛ إذ لا يوجد سوى المخ المادي. وتقارن باتريشيا تشرتشلاند مفهوم الوعي بمفاهيم ميتة ذهب أوانها مثل الأثير واللاهوب، وهي مفاهيم تفقد سلامتها ومكانتها عند الاقتناع بمجموعة من القوى النظرية والتجريبية. ومن الشكوك حول الوعي أيضًا مَن يقول إن الوعي ربما لا يكون أكثر واقعية من النفس البسيطة التي تخلص منها هيوم. والمعروف أن هيوم نظر إلى النفس -في الاستخدام الفلسفي القديم- أو العقل -في الاستخدام المعاصر- على أنها لا تزيد عن أن تكون مجموعة من الإدراكات أو التجارب التي يرتبط بعضها مع بعض عن طريق التداعي.

ومن أنصار النزعة الاستبعادية أيضًا من يزعم أن العلم يستطيع الاستغناء عن مفهوم الوعي ولا يفقد شيئًا من شموليته وقوته التفسيرية، ليس هذا وحسب، بل إن اللغة العادية تستطيع أن تستغني عن مفهوم الوعي أيضًا. ولا عجب أن ينظر الاستبعاديون إلى كلمة الوعي باعتبارها كلمة زائفة.

ولا تحظى النزعة الاستبعادية بشيء من تأييد الفلاسفة على أساس أنها وجهة نظر متطرفة، ويمكن الرد عليها ببساطة عن طريق النظر في وظيفة الوعي وأن بقاء الكائن البشري على قيد الحياة يتطلب الوعي؛ فأنت لا تستطيع قراءة جريدة الصباح وتدبر حاجاتك الخاصة وممارسة عملك، والتعامل مع غيرك من الناس إذا لم يكن هناك وعي.

وهل كان في مقدور أصحاب النزعة الاستبعادية أن يكتبوا المقالات والكتب التي يفهمها غيرهم من دون وعي!
ولو قيل أن الوعي خرافة ولا شيء هناك سوى السلوك، لقلنا وهل تستوي حركة اليد عن وعي وقصد في يقظة تامة وحركتها إثر حادثة يغيب معها الإدراك!

إن هذه النزعة الاستبعادية للوعي تفند ذاتها فهي تنكر وجود الحالات القصدية والاعتقادات والرغبات والمقاصد وأسباب الأفعال والانفعالات. وإذا كان المرء لا يفكر ولا يملك أسبابًا للفعل فكيف يستطيع الاستبعاديون أن يتوقعوا منا قبول حجتهم؟! فقبول حجتهم معناه قبول عبارات معينة بوصفها تقدم أسبابًا جيدة للاعتقاد في نتيجة معينة، ولكن لا يبدو أن أيًا من هذا يفيد معنى إذا كانت النزعة الاستبعادية صحيحة.

2. التصور الإعجازي:

ويأتي التصور الإعجازي للوعي معارضًا للنزعة الاستبعادية معارضةً كاملة في الاتجاه والهدف؛ إذ يعتقد أصحابه أن رؤيتنا الحالية للعالم هي بالفعل رؤية ضيقة تنطوي على قصور شديد، ولكي نتجاوز هذا القصور لا بد لنا من الاعتراف بالحضور الشامل لإرادة الله -تعالى-، أو على الأقل علامة على أن هناك حقيقة تفوق القوى الطبيعية. فالوعي هو تجلي الروح الخالدة، وبالتالي هناك شيء ما في العالم ليس في متناول العقل والعلم، إنه معجزة. وعندما يقدم المخ الوعي فإن هذا يشبه معجزة المعجزات التي ليس لها تفسيرطبيعي من حيث المبدأ.

3. نزعة اللغز الجديدة:

أما صاحب نزعة اللغز الجديدة (وهذا المصطلح وضعه أووين فلانجان في مقابل أصحاب اللغز القدماء ويُقصد بهم أصحاب الثنائية) فلها صورتان إحداهما متطرفة والأخرى أقل تطرفًا. فأما الصورة المتطرفة فتتمثل في النزعة المتعالية ومفادها أن الوعي ببساطة ظاهرة طبيعية ولكنها لا تقبل التفسير في حدود العلم على الإطلاق، وأما الصورة الأقل تطرفًا فتسلَّم بأن الوعي ظاهرة طبيعية غير أنها تؤكد على مشكلتنا في الفهم الفيزيائي للوعي. ذلك أن هناك خصائص فيزيائية في أمخاخنا تفسر الوعي بالفعل ولكن باب هذا التفسير مُوصد في وجوهنا من الناحية الإدراكية.

قد يعجبك أيضًا

4.النزعة الردية:

ويؤكد أنصار النزعة الردية على أن الوعي ليس ظاهرة غريبة ولا شاذة، وبالتالي لا يوجد مجال للقول بفجوة تفسيرية فريدة. وتتجلى النزعة الردية في عدة صور أبرزها السلوكية والوظيفية والنزعة الفيزيائية. تقول النزعة الفيزيائية أن الحالات العقلية لا تزيد على أن تكون حالات للمخ. وإذا شئت عبارة موجزة تجمع لك لب لباب السلوكية فقل إنها الدعوى القائلة إن الحالات العقلية يمكن تفسيرها تفسيرًا كاملًا في حدود السلوك أو الاستعدادات السلوكية. والوظيفية هي وجهة النظر القائلة إن الحالات العقلية تعرف عن طريق أسبابها ونتائجها.

وإذا نظرنا إلى الوظيفية باعتبارها دعوة ميتافيزيقية حول طبيعة الحالات العقلية، وجدنا أنها تتمسك بأن ما يجعل الحالة الداخلية عقلية ليس الخاصية الجوهرية للحالة، وإنما بالأحرى علاقتها بالمثير الحسي (المدخل) وحالات داخلية أخرى، والسلوك(المخرج). على سبيل المثال إن ما يجعل الحالة الداخلي ((ألمًا)) هو كونها نوعًا لحالة تحدث بصورة نموذجية عن طريق أشياء مزعجة مثل لسعة الزنبور، ونوعًا يحدث سلوكًا مثل قول: “أه”.

ويمكن أن نضرب مثالًا آخر يزيد المسألة وضوحًا ويكشف عن التباين بين الوظيفية والسلوكية، هب أنك تعاني من صداع، تبعًا للوظيفية فإن المرء الذي يعاني من صداع يكوِّن حالة ذات علاقات بالمدخلات والمخرجات، فالصداع يسببه قلة النوم أو الإجهاد البصري أو الضوضاء الشديدة وغير ذلك مما يدخل في باب المدخلات، كما أن حالة الصداع لها مخرجات تتجلى في سلوك علني مثل الإمساك بالرأس والأنين أو السلوك اللفظي مثل قول “عندي صداع”، بالإضافة إلى السلوك الذي يشترك في القول به السلوكيين والوظيفيين فإن الصداع يسبب حالات عقلية أخرى، وهنا يقع التباين بين المذهبين لأن هذا الأمر الأخير لا يقول به السلوكيون. فصداعك في رأي الوظيفيين يفضي بك على الأرجح إلى الاعتقاد بأنك تعاني من صداع كما يؤدي بك إلى الرغبة في تناول الإسبرين.

وهناك صورة متنوعة من الوظيفية أشهرها وأكثرها إثارة للجدل هى”وظيفية الإله” التي تنسب إلى الفيلسوف الأمريكي هيلاري بتنام في المقام الأول والتي انتقدها بتنام نفسه وجيري فودر ونيد بلوك. ولقد نظر بتنام إلى الحالات العقلية على أنها تشبه الحالات الوظيفية أو المنطقية للكمبيوتر. ومثلما يمكن تحقيق برنامج الكمبيوتر عن طريق أيّة مجموعة من الأجهزة المختلفة فيزيائيًّا، فكذلك يمكن تحقيق برنامج نفسي عن طريق كائنات حية مختلفة وهذا السبب في الحالة الفسيولوجية المختلفة لكائنات حية من أنواع مختلفة يمكن أن تحقق حالة عقلية من نوع واحد.

يقول بتنام في صورة مصغرة يرسمها بنفسه لإسهامه في فلسفة العقل:” في سنة 1960 نشرت مقالة بعنوان”العقول والآلات” التي اقترحت اختيارًا جديدًا ممكنًا في فلسفة العقل. وفي سنة 1967 نُشرَت مقالتان “طبيعة الحالات العقلية” و”الحياة العقلية لبعض الالات”.. وأصبحت الفترة تمثل البيانات الرسمية للاتجاه الوظيفي والوظيفية تعتقد بأننا نشبه أجهزة الكمبيوتر وأن حالاتنا النفسية هى ببساطة “حالات وظيفية” أعني أنها حالات تبرز في الوصف المثالي لبرنامجنا”.. وتبعًا لوظيفة الآلة فإن كون المرء يعاني من ألم معناه أنه ينجز برنامج كمبيوتر عن الألم.

ونظرًا لإخفاق الوظيفة في الكشف عن الطبيعة الحقيقية لحالاتنا العقلية فقد تخلى عنها بتنام فيما بعد، وقال في مقدمة كتابه “التمثيل والواقع” 1988:”سوف أحاول البرهنة في هذا الكتاب على أن تمثيل الكمبيوتر المسمى باسم “وجهة النظر الحسابية في العقل” أو الوظيفية أو ما شئت من أسماء، لا يجيب برغم كل شيء عن السؤال الذي نود الإجابة عنه نحن الفلاسفة (بالإضافة اإلى كثير من العلماء المشتغلين بالإدراك) ألا وهو: ما هى طبيعة الحالات العقلية؟”

وأنت تلاحظ إذًا أن كل الصور الردية تعالج الحالات العقلية وعلى رأسها حالات الوعي مثل الألم من خلال ردها إلى ظواهر فيزيائية مادية فتراها مرة ترد إلى حالة المخ كما هو الحال مع النزعة الفيزيائية وتراها ترد مرة أخرى إلى السلوك كما هو الشأن مع السلوكية، وترد مرة ثالثة إلى الحالات الحسابية كما هو الحال مع الوظيفية وبخاصة وظيفة الإله.

5. المذهب الطبيعي:

لقد أدرك بعض الفلاسفة المعاصرين أن كل الاتجاهات السابقة أخفقت في أن تجد للوعي مكانًا مقنعًا مرضيًا في العالم الرحب، واعتقد هؤلاء أن الوعي ظاهرة طبيعية تمامًا وأننا لا بد من أن نسعى إلى تفسيرها طبيعيًا. ومن أبرز الفلاسفة الطبيعيين الذين يؤيدون هذا الاتجاة نجد بول تشرتشلاند في كتابه “المادة والوعي” 1984، ودانيال دينيت في كتابه الوعي مفسرًا 1991 واووين فلاناجان في كتابه “إعادة النظر في الوعي” 1992 وفريد درتسكي في كتابه “تطبيع العقل” وغيرهم. يقول فلاناجان:”الوعي يوجد ومن الخطأ أن نستبعد الكلام عنه لأنه يسمى هذه الكثرة من الأشياء والموقف الصحيح هو أن نحرر المفهوم من ماضيه الروحي ونزوده بتحليل طبيعي معقول وموثوق.. وسيكون إنجازًا ضخمًا إذا استطعنا أن نفك لغز الوعي”.

ويقول الطبيعيون إنه برغم وجود اختلافات مهمة بين التفسير الطبيعي للوعي والتفسير الطبيعي للظواهر الأخرى، فإنه لا يوجد سبب مقنع يجعلنا ننظر إلى الوعي على أنه مسألة غير طبيعية يتعذر تفسيرها في حدود طبيعة ويقولون أيضًا إنه حالما يتقدم البحث في علم الأعصاب والعلم المعرفي ويتخلص الفلاسفة من بعض الأخطاء القديمة المتوارثة فإننا نستطيع أن نصل إلى تفسير معقول للوعي. وكثيرًا ما يشير الطبيعيون إلى ملاحظة “توماس ناجل” التي يقول إننا في موقف يشبه موقف الناس في العصر الحجري الذين كانوا يجهلون نظرية النسبية ولكنهم أخبروا بأن المادة صورة من الطاقة، ومع أنهم قد أدركوا ذلك إلا أنهم لم يُكوّنوا أبدًا التصورات التي تجعل هذا الزعم صادقًا، والسبب هو افتقارهم إلى الإطار النظري.

والسؤال الآن: أين يقف سيرل من كل هذه الاتجاهات؟ والجواب الذي نطمئن إليه هو أن سيرل يمكن ضمه إلى أنصار الاتجاه الطبيعي في دراسة العقل بعامة والوعي بخاصة وحجتنا في ذلك أن سيرل يسمي وجهة نظره الأساسية باسم “المذهب الطبيعي البيولوجي”

 ما هو أصل وعينا من وجهة نظر تطورية؟

من المرجح أن يكون وعينا كمنتج للتطور عن طريق الانتخاب الطبيعي، ربما نشأت من عدة ملايين من السنين وتسلسل خطوات لا حصر لها التي تشكل معًا نوعًا من التدرج من الوعي، إذًا ما هي الخطوة الأولى على هذا الطريق من غير الوعي إلى الوعي الأساسي الذي أدى في النهاية إلى الوعي المُعقد الذي نتمتع به نحن البشر اليوم؟

على سبيل المثال خذ حجر فبالإجماع الحجر ليس بواعٍ ومع ذلك لا يتفق الجميع حتى على هذا الشيء، ادّعى بعض panpschics
أن كتلة من الصخور قد يكون لها حياة داخلية.. ومع ذلك لا توجد أسباب حقيقية لأي افتراض من هذا القبيل لأن الأحجار لا تظهر أي سلوك مطلقًا، لا يمكن إثبات حياتهم الداخلية أو دحضها، من هنا نقطة الانطلاق الأكثر شيوعًا هي الكائنات الحية، فالشيء الحي أو الذات هو جزء من الكون الذي يحافظ على نفسه ويجعل عددًا كبيرًا من نوعه وللقيام بذلك فيحتاج إلى طاقة، وهنا يكمن الوعي بالعالم.
ربما كانت الوظيفة الأصلية للوعي هي توجيه الذات المتنقلة التي كانت تعاني من نقص الطاقة إلى امدادات جديدة من المواد الغذائية.

فعلى نطاقات الحياة الأصغر لا تحتاج إلى أن تكون مدركًا للعثور على الطعام، فالتريكوباكس آدرينز مثلًا وهي أحد أبسط الحيوانات يتحرك بشكل عشوائي يتباطأ في وجود الطعام ويسرع في غيابه، هذا فعال للغاية ويجعل المخلوق الصغير يقضي وقتًا أطول حيث يوجد طعام أكثر من المكان الذي لا يوجد فيه طعام، لكنه لا يتحرك أبدًا في اتجاه معين نحو هدف معين وليس هناك حاجة لأن يكون على وعي ببيئته.

ربما اتخذت الخطوة الرئيسية نحو الوعي عندما بدأت الأنفس المتنقلة في التحرك بأنفسهم بشكل مباشر، التحرك نحو ما كان جيدًا بالنسبة لهم، ويقول الطعام وبعيد عن ما كان أقل عن شيء آخر مثل شخص آخر يعتقد أنه كان طعامًا.

مثال آخر
dugesia tigrina وهى دودة صغيرة معروفة بوجهها المُضحك، أحيانًا تكون الدودة جائعة وأحيانًا لا، هذا يعني أنه عندما يتحرك، هذا يعني أن الدودة لا تنتج ببساطة استجابة تلقائية لحافز خارجي، لكن أفعالها تعتمد على حالتها الفيسيولوجية الداخلية سواء كان جائعًا أو لا، عندما تأكل فقط تكون الدودة أقل نشاطًا ولكن عندما تتضور جوعًا لفترة من الوقت سوف تتحرك نفسها في اتجاه أشياء لذيذة، يستخدم هذا النوع مستقبلات كميائية على رأسه لتشخيص بيئته وتوجيهه في الاتجاه ما إذا كانت رائحة الطعام أقوى بعد العثور على وجبة وتناولها، يعود لمكان مُظلم محمي لهضم الطعام بأمان حتى يجوع مرة أخرى، ولكن الحيوانات التي تتبع حاسة الشم كرائحة عمياء ليس لها هدف ملموس في الرؤية، مازالوا يفتقرون إلى أي معنى للمكان الذي يتوجهون إليه، وبالتالي فإن الخطوة التالية على سلم الوعي هي إضافة بعض التصورات من بعيد مثل الرؤية، فالرؤية تضيف السياق والعمق إلى عالمنا، مع الرؤية يأتي شعور بالمكان الذي نحن وطعامانا موجودين فيه، إنها تضيف بُعدًا جديدًا بالكامل إلى الوعي وهي خطوة هائلة نحو الوعي الأكثر دراية.

جهاز بصري مثل العين يتيح لنا تصور هدفنا والالتصاق به، لكن حتى في هذه المرحلة لا تستطيع النفس سوى متابعة طعامها طالما تراه لذا فإن الخطة المنطقية التالية يجب أن تحدث في الداخل، لتصور الغذاء في غيابه على سبيل المثال تحتاج الذات “النفس” إلى خلق نوع من التمثيل الداخلي للعالم، والآن فقط يمكن للحيوان مواصلة البحث عن الطعام حتى عندما يهرب من مداولاته الحسية، بسبب هذا التمثيل الداخلي لما هو مهم في العالم يمكن أن يظل يركز على طعامه ورغبته في الحصول عليه، هنا توجد ذاتك في عالم يمكن أن تتعرف عليه، لقد ظهرت القدرة على تذكر الأشياء، بفضل الذاكر يمكن صرف انتباه الحيوانات عن السعي لبضع ثوانٍ ولكن سرعان ما تستمر في مسيرتها بعد ذلك وتسمى هذه الظاهرة ذات الصلة الدوام الكائن، يصف هذا إدراكنا أن الأمور تستمر في الوجود حتى عندما لا نستطيع رؤيتها، تتمتع بهذه المهارة المعرفية بعضُ الثدييات والطيور الأخرى أيضًا.

أيضًا يميل الأطفال من البشر إلى تطوير هذه القدرة في وقت بلوغهم ثمانية أشهر بينما تظهر صغار الدجاج هذه القدرة خلال يوم أو يومين فقط، تشير القدرة على تذكر شيء ما في غيابه إلى شعور أساسي بالوقت على الاقل، فالشعور بالوقت هو خطوة كبيرة على سلم الوعي، قد يمكن نفسه أيضًا من التطلع من اللحظة الحالية وتوقع المستقبل.

على سبيل المثال يستطيع الدجاج البالغ أن يقاوم الوجبة المعروضة أمامه إذا كان يتوقع أن يحصل على وجبة أكبر كجائزة لفترة من الوقت في الانتظار، هذا النوع من الإرضاء المتأخر يعني أن هناك قدرة على تصور مكافأة موجودة فقط في المستقبل، والتي بالطبع تكون تحدٍ كبير بالنسبة للبشر البالغين حيث يفضلون الحصول على الأشياء اللحظية الصغيرة بدلًا من الانتظار والحصول على أشياء أكبر وأثمن..

western scrub jay نوع من الطيور يعتبر من الخبراء في تأخير الإشباع اللحظي حيث يظهرون إحساسًا أكثر تفصيلًا بالمستقبل عندما يخبئون الطعام في ذاكرة تخزين مؤقتة لاسترجاعه في وقت لاحق ويعيدون إخفاء الطعام أيضًا في حالة علموا بوجود لص محتمل يراقبهم، هذا يعني أنهم يعرفون أن هناك ذوات جائعة أخرى، يدركون ويرون العالم من وجهة نظرهم الخاصة المختلفة، يمكن لهذا الطائر بشكل ما أن يتوقع أو يقرأ عقل غيره من الطيور ولذا يخبأ طعامه إذا أحس بخطر أو أنه مراقب من آخرين، هذه القدرة على قراءة العقل ضرورية لمستويات الوعي المُعقدة. بوضع نفسك في موقف الآخرين يمكنك التغلب على منافس آخر آو تتعاطف مع صديق جائع.

وبذلك تأخذ اللغة القدرة على قراءة العقول وتمثيل ما هو غائب لمستوى جديد تمامًا، الكلمات تمكننا من بناء فرضيات حول العالم ووضع خطط مفصلة والتواصل مع بعضنا، الكلمات تمكننا من التفكير في أنفسنا ومكانتنا في الكون وحتى حول وعينا الخاص.

إذًا ما هو أصل وعينا؟
ربما بدأت كحركة موجهة لذات الكائنات الجائعة نحو مصدر الغذاء مع فوائد البقاء على قيد الحياة وأعطاها ذلك منافسين انتقلوا بشكل عشوائي أو لم يتحركوا على الإطلاق، ربما بدأ كل شيء مع الرغبة في المزيد من الطعام.

==============
المصادر
1. موسوعة الفلسفة ل د.عبد الرحمن بدوي
2.فلسفة العقل لدكتور صلاح اسماعيل
3. https://www.youtube.com/watch?v=H6u0VBqNBQ8&fbclid=IwAR1l-RzPln_I6hBCuQuik1E92RPfAHNljpM8jDUQdbjNFg6tdySyFkMFM_0

4. https://sites.google.com/view/sources-consciousness?fbclid=IwAR3I7P-zIXiARKwYzsb4bTkVwDOjQBIJbFHLiBSG2r22_F5dzpEdUaKRLX4
5.What Is Consciousness?, 2018
https://www.scientificamerican.com/article/what-is-consciousness/

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: دعاء شلبي & ندى حمدي

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا