حقل الطبيعة والنزعة الصوفية.. في ديوان “رقصة شغف للموت”

تُعدُّ نظريةُ الحقول الدلالية إحدى النظريات الدلالية الحديثة التي بدأت في الظهور في عشرينيات القرن العشرين تقريبًا، وكما يذكر د.حسام البهنساوي أنَّها قد تأصلت أُسُسُها وتبلورت أفكارُها في مطلع الثلاثينيات وبخاصةٍ عند علماء اللغة السويسريين والألمان، ومنهم العالم “جيسبن” في سنة 1924، والعالم “جوليز” سنة 1934، وقد قام علماءُ الأنثروبولوجيا(علم الإنسان\دراسة البشر وسلوك الإنسان والمجتمعات الماضية والحاضرة) بعمل دراسات حول الحقول الدلالية وقد ركزوا في مجال دراستهم على مجال القرابة، النبات، الحيوان، الألوان والأمراض(1)، من خلال هذا المقتطف نستخلص أن نظرية الحقول الدلالية ظهرت حديثا عند الغرب، وتحديدًا عند علماء اللغة بسويسرا وألمانيا كما سلفَ ذكرُه.

أما مفهومُها فسندرجُه عند العالم “ستيفن أولمان”، إذ يقول :”هو قطاعٌ متكاملٌ من المادة اللغوية يُعبِّرُ عن مجال معين من الخبرة”(2)، ومقصده من ذلك أن الحقل الدلاليَّ يتكوَّنُ من مفردات اللغة التي تكوّن معجمًا دلاليًّا.

ويُعرِّفُ “خليفة بوجادي” في كتابه المعنون بـ “محاضرات في علم الدلالة” الحقلَ الدلاليَّ فيقول هو “كل مجموعة مرتبطة بالدلالة، وتقع تحت مصطلح عام، أو هو مجموعة من المفاهيم تُبنَى على علائق لسانية مشتركة، ويمكن لها أن تكون بنية من بِنَى النظام اللسانيّ كحقل الألوان، وحقل مفهوم المكان والزمان”(3).

إذن فالحقلُ الدلاليُّ هو المجال العام الذي يجمع الكلماتِ التي ترتبط في نفس الدلالة، وتسهمُ الحقولُ الدلاليّةُ في الكشف عن طبيعة الألفاظ وهذا ما نجده عند “أماني سليمان” في دراستها الأسلوبيّة والصوفيّة في شعر الحسين بن منصور الحلاج إذ تقول :”يمكن أن تُسهِمَ الحقولُ الدلاليّةُ في الكشف عن طبيعة الألفاظ عند الشاعر، والدلالاتِ التي تقترنُ بها، فضلًا عن علاقاتِ مكوناتِ كلِ حقلٍ مما يُفضِي إلى جوهر المعنى”(4).

وقد تعدَّدت المعاجم في ديوان “رقصة شغف للموت” للشاعرة “منى رؤوف” وقد اخترتُ بعضَ المعاجم البارزة والتي لفتت انتباهي عند قراءة الديوان وهي كالتالي:

  • حقل الطبيعة. ( وده هنتكلم عنه تحت بالتفصيل)
  • حقل الحجاب. (الوهم/ الغيوم/ الظلام/ تيه/ غمامه/ سراب/ وهكذا)
  • حقل الخمرة. (يسكر/ سكراتي/ صحوتى/ خمرتي)
  • حقل الإحساس والوجدان: وده في الغالب ممكن نلاقيه عند معظم الشعراء واللى هو عبارة عن مفردات من نوعية أو على شاكلة (الحزن/الأوجاع/ الحنين/ الهوى/ الحيرة/ الجرح/ الألم/ الفرح/ الضياع/ اليقين/ الضيق/ وهكذا).

ورغمَ وجودِ ثلاثةِ حقولٍ تُمثِّلُ ركيزةً أساسيّةً في الديوان إلا أنَّني سأتحدّثُ بالتفصيل عن الحقل الأول والذي أظنُ أنَّه الأهمُ والأبرزُ في المعجم اللغويّ للشاعرة وهو حقل الطبيعة حتى أنَّ جميعَ نصوصِ الديوان ومقاطعه المنفصلة لم تخلوَ من معجم هذا الحقل باستثناء نصٍ وحيدٍ هو نص “قطيفه” ومقطع وحيد أيضًا هو المقطع الختاميّ في الديوان والجدول التالي يمثل حصرًا لبعض الألفاظ الدالة على ذلك الحقل – حقل الطبيعة-:

إعلان

القصيدة الألفاظ الدالة على الطبيعة الصفحة
مُفتتَّح الديوان السما 13
مقطع سماوات، ورد ونخل 14
مقطع الطيور، الفراشات 16
الروح وردة لافندر، الأرض والسماوات، شجرة الجميز 17-18
كان فعلا صدق القمح،العصفورة، البوم، السما، بالقمح تاني 20
شباك قديم العنكبوت، تراب، سموات، وش السما 21-22
لو يبوح البحر بحرك، المايه، الملح، للبحر، والبحر، التراب والملح 23-25
أول مكان للرب الطريق، المطره، المايه، البحر، الموج، الطير، تهديه الطبيعه، عيون السما، قطرات المطر 26-29
عفاريت بتجسد المشهد العصفورة، للبلابل، للزرع، الغيطان، حقول الرز, الترعه، للمحصول، قتيله للغربان، وكعادة الغربان، الزرع، م السما ع الأرض، التوته 30-32
ماهيش قرابة دم ضهر أرض، قمح وورود، الأرض 35-36
ثم استوت ع العزف ع الارض، غابات البوص، شجر التوت، عصفور في بحري وحب عصفورة جنوب، تراث الأرض، والشمس، شق الغيوم، ورده 37-39
شمس فبراير اهز الأرض، لليمامات، بالضي، وسط عتمه، الضلمه، للسماوات، الفراشات، شمس فبراير، العصافير، سيب اليمام، النعناع 40-45
ونس الغلابة المحرومين م الرقص للكون، ع الارض، غبار، ساعة رمل، كساها الرمل، الكروان، شجرة توت، الارصفه 46-50
رقصة أخيرة ع الارض، ورد، كسوة شتوى، أصل النخل، قهر النخل، رطب، ليل 51-53
دولت الصبح، طحن القمح، لون النجوم، والصبح هحلم، ليل 54-56
مقطع البرد، الورد 58
جينا الحياة متأخرين اليمامه، طريق، السمك للصيادين، ملح البحر، السمك يتحملك، صدف أو ريش 59-61
روحى كسر فـ ناي جدر الزرعه، الشمس، شوك، مطر وغيوم، ريحة البرد، تحت المطره، الليالي البرد، سكّرلـ أكل النمل، درة وغلّه لـ طيور الحي، السقعه 62-64
زهرة لافندر جوا بلكونه عصفورة، م الحر برد، ورد، حقول، يا ورد مين، وردايه، زهرة لافندر، عود ريحان، نعناع، قرنفل، بنفسج 65-67
أول ما تسمح للبشر تقراك للنور، وردات، طيات الظلام، للطير، الدعوه فـ السموات، المجذوبين ع الأرض، الورد رزق أمي 68-70
خمس مفارق للحياة والدمع الفجر، مع كل صبحيه، تجلجل في السما، فـ اليم، م الفل يطرح، ضل القمر، تنور الأرض، الليل، أبعد م السما، حتى السما، توشوش الأرض، شجرة الحب، مزروع بوردات القرنفل 71-79
الحب وحده ملاذ الليل 80-81
بنوته بتشاور لسرب حمام تشوف النور، لسرب حمام 82-84
قطّعِى قلبك حِتت كات السما، على العصافير، للقطط، تضم الأرض، في الليل، شجرة لقلب، كانت بتحلم بالربيع، تحن الأرض، تحن السما، بالليل، بورد، مطره، دموع السما، شوك 85-87
بيت جدّها النمل الأبيض، ربيع، غبار، الأرض مالت حبتين 88-91
هتكمّل الرقصه بنَدم فضا، في الضلمه، ضل، ضلين سوا 92-94
رَقَصِة شغف للموت الارصفه، الطرق، نور، في السما، الشمس، النبيذ، في الأرض 95-100
مشهد خلاص الروح في النور، في الليل، الدود يآنس جتتي، الدود بيخرج م العينين، ع السما، والنبته لسه صغيره، كل الحقايق كلها في الأرض، والأرض أم الأنبيا، ضل يمامه، الميتين ع الارض 101-106
ديسمبر للضلمه، الليل، برد الشتا فـ ديسمبر، لفجر جديد، ف عز المطرة، فـ تصبح طين، بعفار الذكرى، يمامه مكسورة الجناح، غاوي الضلمة، يزعّق في العصافير ويسكّتهم، صوت الشتا والرعد رددها، تهد ضهر الليل، عشمان في صبح..، والمطر نازل 107-111
طَرْح الجسد الجناين للفراق، الفواكه للوجع والقهر، الثمار الطيبه للطيبين، وان العَطَب للمعتدّين، ناهبين الخضرا غصب، سابوا النخيل يزئر في وش اللي جنى، ف يقوي عود الارض، الأرض هذا الوقت.. مش خضرا، الأرض موت..والورد متلطّخ وَسَخ، والشمس.. زيف على عتبة الذكرى، وسلّمت طينها الخصيب للمغتصب، رمان خلاص انفرط، ف ضل ال مفيش، في الدم عنب والتوت، رمان وتين متحمّلين في اقفاص حديد، إتعلموا إن الشوك سند، وان الجناين قطْفَهَا للمشتري، طعم البنات صبار 112-114
بيستبيحوا حُرمة النايمين الجو فاضي، تحت التراب، ف سرقة الورد، سرب من دبّان.. 115-116
عزه أول يمامه، عصفور كناريا، مجبور يزقزق، حدود الضلمه، الدعوه في السماوات، بتنور دروب الضلمه، تطرح ورد، ثمار البهجه، شطوط للقرب، خيوط الشمس، مداين زهرها إحنا، طيورها بنات، وشجرة توت 117-121
ربنا عارف إننا بنحب المزيكا طرف النهر، ف قُرب الشمس، إن كنّا ف صبح او ليل، صوت الكروان، غنوة الكروان، كل يوم في الفجر، لا حصى ولا طوب، ف نهر خمر، قاعدين تحت شجر التوت، والأرض تعشق ضمّها للخير، شفتك فوق غيمه على طرف النهر، مش كدا يا بقايا النور ع الارض؟، والله بتطرح روحك ورد لكل حزين، بيبل الروح اليائسه ندي 122-134
مقطع شق صدر الليل 136
لما تجلّى في النخل والورده، جوّا براح النور، لما اليمام يكتر، رَيحَان وأورجانيا 137-139
الرعشه سر ورماد، يبقى عشوة دود، هنكون سحابه، على قلب عصفور م الشَمال.. بيحب عصفورة جنوب، ف نعلّم الكون، والضي..بيّاع الورود 140-143
قطيفه ———– 144-146
بقايا التوت في الليل، أكْل التوت، وتحدف توته في العالي، تصحّي الصبح.. شجر وبيوت، تيجي الشمس تتسحّب، شفايفنا بقايا التوت 147-148
أهديك بسِرِّ العزف بلبل في فصل خريف عِشِقْ شجره، اتلضمِت الاغصان وغزلوا جناح، تخلق ظلال القرب سكتنا، وان كَلْنَا م التفاح 149-150
زي الهوا الساقع على الكورنيش زي الفراش وسط الريحان، وعيال صغار بيعاكسوا جناحات الهوا، بالطيارات الغاب وقلبات الحمام، ويلاعبوا حبات المطر، طعم الهوا بعد امتزاج نَفَسك.. قرنفل، حَر الشوارع جنب ضلّك جنه مزروعه ب نعيم، القهوه كانت زي طعم الشهد متحلّي بشفايفك، زي الهوا الساقع على الكورنيش، في جسم الضي 151-154
جاذبيه لفوق واوصل للأرض 155-156
اعتراف سكن التراب والامكنه، يشاهد م السما، ذرات الندي، نور ربنا، حضن السما، قلبي كقلبك طير مهاجر في الخيال، ولا خطوه باقيه على الثرى، نوره ف قلبنا 157-159
عشتار نيران القسوه بميزاتها، صدور الصخور الورد، يجمعوا الرمان، إجْمع فواكه جنتك بحنان، كل الجناين، أقطف ثمار الجنه بشفايفك، كل اما تقطف تلقى نَبْت جديد 160-161
نوّاره شق قلب الفجر غنوة، اتعلم الليل العنيد، يطرح خَضَار، خصر الورود، نوّاره ضل المغرمين على أرض مزروعه بنهود، بنوته طارح جوا عودها فل وفواكه، تحن الشمس ع الفقرا، الطبيعه الِبكر في النوبه 162-163
تعالى نكمّل الرقصه على الكورنيش.. يهيج البحر بالمقسوم وبالبهجه، ترد المطره مزيكا، لآخر موسم السقعه 164-165
هنرقص زي عصفورتين هنرقص زي عصفورتين، ريحان وورود، في أبواب السما عمداً، ب أول توته في الموسم، بقايا النور بتحضنّا 166-170
جسمين في آخر شبر م الدنيا وعصرت لك من نن عيني نبيت، الدفا والنور، ف رسمت منها طريق وضل وورد، هَيَاج الموج، الأرض ثابته 171-174
ترانيم آدم والضلع قطمه م التفاح، حر الرغبه، فرد حمام، زَهْر اللافندر، عصافير كناريا وكوخ وشجرة تين 175-180
مقطع ختامي ———– 181

 

إذن فالمتمعنُ في قراءة “رقصة شغف للموت” للشاعرة “منى رؤوف”  وملاحظةِ ما جاء فيه من معجمٍ شعريٍّ يُلاحِظُ أنَّه ينتمي إلى المذهب الرومانسيِّ لأنَّ الشاعرَ الرومانسيَّ يلجأ إلى توظيفه للكثير من عناصر الطبيعة التي تحمل في طياتها دلالاتٍ تختلف عن دلالاتِ الأشياء المحسوسة فالشاعرة تعتبر الطبيعةَ خلاصها أو خلاصًا لها من ظروفها، فلجأت إليها حتى أنَّها ذكرت لفظ “الطبيعة” كما هو شاملًا هكذا “الطبيعة” في نصين هما “أول مكان للرب” و”نوّاره”، فالشاعرة في كثير من الأحيان اعتمدت على الطبيعة  لكي تُخفِّفَ من آلامها وأحزانها واعتبرت الطبيعةَ مصدرَ إلهامِها ومشاعرِها وأحاسيسِها، كما أنَّها حملت في طياتها دلالاتٍ صوفيّةٍ وهي النزعة التي أشرنا إليها منذ الحديث عن الغلاف الخلفيِّ للديوان.

شجرة التين

فمثلًا توظيف الشاعرة بعض الأزهار والأشجار مثل “شجرة التين” في قصيدة “طرح الجسد”ص112 تقول “رمان وتين” وفي قصيدة “ترانيم آدم والضلع”ص175 تقول ” عصافير كناريا وكوخ وشجرة تين”، استخدام شجرة التين هنا لأنَّها تُمثِّلُ رمزًا للسلام والأمان، كما جاء في قوله تعالى في سورة التين: “وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَٰذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ(3)”، أيضًا استخدام الشاعرة للضوء والنور والطير والفجر والشمس والسماء والأرض كلها رموز للطبيعة، فقد وظّفت الشاعرة عناصر الطبيعة للتعبير عن حبها وعن ألم الفراق بينها وبين الحبيب.

الطير

(سيب اليمام يبعت لي فاله الحلو)ص44.

(هتبَدّل الجلد ب صَدَف أو ريش

يا تطير بعيد عن حضن هذي البنت)ص61.

عندنا عنوان نص بيقول (بنوته بتشاور لسرب حمام)ص82.

(بتوزع الضحكات على العصافير)ص85.

(أو قص ريش جناحاتهم الغامضه)ص95.

(خطّيت بكل رشاقه ع النوته

وكإني ضل يمامه ما اعرفهاش)ص106.

(على قلب عصفور م الشَمال

بيحب عصفورة جنوب)ص141.

في كتابة الشاعرة عن الطبيعة استخدمت في معجمها اللغويِّ بشكلٍ واضحٍ وصريحٍ لفظَ “الطير” فتقولُ الشاعرة مثلًا في توطئتها للرقصة الأولى “رقصة وجود” ص16: (دلوقتي ينفع للطيور تنضم للكورس.. وتكمّل الفراشات رغبتها هيَّ كمان)، وتقولُ أيضًا في قصيدة “عزه” ص121: (مداين زهرها إحنا، طيورها بنات) وفي قصيدة “اعتراف” ص159: (قلبي كقلبك طير مهاجر في الخيال).

تكرار اللعب على لفظ “الطير” أو الطائر أو حتى البحث عن بديل له أو نوع من أنواع الطيور أو ما يدل عليه فتشير إليه الشاعرة حتى لو لم يأتي لفظُ “الطير” صراحةً هكذا “الطير”، وإنما يأتي مرتديًا زيًّا آخرَ مثل قول الشاعرة (سرب حمام/ عصفورة/ طيارات الغاب/ جناحاتهم/ ريش/ كناريا/ الكروان/ وهكذا) فاستخدامُ لفظِ “الطير” يشير إلى الخلود والبعث وذلك كما في قوله تعالى: {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.. (آل عمران :49).

وبالتالي فالطير أو ما يشير إليه هو رمزًا للخلود والبعث وهو في عُرفِ المتصوفة -كما ذكر الباحث الجزائري علجية مودع في كتابه عن “النص الصوفي وفضاءات التأويل”- أنَّ الطير في عُرفِ المتصوِّفة هو “رمزٌ للروح استنادًا إلى تلك النظرة الميثيولوجية (والميثيولوجية للتوضيح: هي علم الأساطير، فهي  تشير إلى مجموعة من الفلكلور/الأساطير الخاصة بالثقافات التي يعتقد أنها صحيحة وخارقة، تستخدم لتفسير الأحداث الطبيعية وشرح الطبيعة والإنسانية) القديمة التي تُعبِّرُ خروجَ الروح من الجسد بعد الموت وتحليقها في الفضاء كالطير الذي يبحث عن مأواه الأول”، وبالتالي فإنَّ تكرار الطير عند الشاعرة أو ما هو على شاكلته من (عصفورة/ كناريا/ حمام) وما إلى ذلك ربما جاء كرغبةٍ في الاختباء عن الدنيا وملذاتها ورغبةً في التحليق مع الذات العليا إلى روح الحق والجمال والطبيعة وهو ما لا يبتعد عن النزعة الصوفية في شىء.

فالشاعرة تحاول هنا بمكر أن تجعل للتكرار وظيفةً جماليّةً وهو ما جاء موفقًا للغاية خصوصًا عند استخدام الطير والتي عَدَّدت من أنواعه حتى تُحيلَ القارئَ إلى دلالاتٍ وإيحاءاتٍ جديدةٍ في كل مرة، فكما ذكرت سلفًا قد يُعبِّرُ الطيرُ مرةً عن التحليق مع الذات العليا إلى روح الحق ومرة أخرى يعبر عن التحليق بعيدًا عن أجواء الأرض بمعنى البعد عن ملذات الحياة ورغبتها.

البحر

ومن بين تلك الألفاظ الدالة على الطبيعة نجد مثلًا استخدام لفظ “البحر” في العديد من القصائد مثل “لو يبوح البحر/ أول مكان للرب/تعالى نكمّل الرقصه” حتى أنَّها ظهرت في نص واحد ثلاثَ مرات وهو نص “لو يبوح البحر”ص23، ولفظة البحر هنا تدل على السر الذي لا يستطيع أحدٌ الغوصَ فيه والوصول إلى مَكمنِ عمقه، ولفظ “البحر” أيضًا هى تصويرٌ لمشاعر الشاعرة النفسيّة، وفي لفظ “البحر” أيضا لم تَغِب النزعةُ الصوفيّةُ عن الشاعرة لأنَّ البحرَ دليلٌ على اتساع ذلك العالم المتعلق بالله الخالق، ويشير لفظ “البحر” أيضًا إلى غموض ما، هذا الغموض يعود بنا إلى النزعة الصوفيّة في الديوان، فالآن هذا الغموض قد يتسّمُ به الصوفيُ أحيانًا، وأيضًا كل ما تستخدمُه الشاعرةُ من معجم الطبيعة دليلٌ على وجود النزعة الصوفيّة داخل النص ودليلٌ على سر جمال الذات العليا، فالله جميل يحبُّ الجمالَ، والجمالُ الخَصْبُ يأتي من الطبيعة، وحتى في تعبير الشاعرة عن معاناتها الكبيرة والصعوبات التي تواجهها في الحياة استخدمت الطبيعةَ وتحديدًا من خلال التناقض أو التضاد ما بين “الأرض والسماء” التي اعتمدت عليهما الشاعرة بشكلٍ كبيرٍ، ومن تلك الصعوبات التي تواجه الشاعرة وتواجه الإنسان بشكل عام هي الوصول إلى الحقيقة الوجوديّة التي ترتبط بالذات الإلهية، فالإنسان يسعى دوما للوصول إلى الذات العليا.

البحثُ الدائمُ عن الذاتِ العليا

فالشاعرُ الصوفيُّ دائمًا يبحثُ في الطبيعة عن مدى تجلّي الذات الإلهية، لأنَّ الطبيعةَ ترتبطا ارتباطًا كبيرًا ومباشرًا بموجدها وخالقها وهو الله عز وجل .فتجربةُ الشاعرةِ تتشابهُ مع تجربة الصوفيّا في ارتباطها بالطبيعة والوجود، وفي سعي كل منهما إلى الاندماج في الكون، وبحث كل منهما عن الذات العليا، فالشاعرة تقول في بداية قصيدة “لما تجلّى” (إنّي رأيت الله..لَمْعَه في عيون “محمود”.. أول ما يضحك لي) ثم تقول في نفس الصفحة 137 (إني رأيت الله..متجلّى في حنانه..وفي الإيمان بيا، وفنظرته ليا، ورغبته في الحب..خوفه م الفُرْقَه..وف لهفته الفَارقه عن أي روح بتحب..أول ما يحضنني..) وتعود لتبحث عن الذات العليا مرة أخرى وليست أخيرة فتقول (إنّي رأيت الله.. معنى الدفا والخير في الصدق والتفاصيل..في النخل والورده..في الأفئدة الفارده جناحاتها للأحباب..والأمنيات الخُضر..في الذِكر والترانيم..وف صوت “عبيرنعمه”..وف ضِل آل البيت..وف ريحة الماضى لما يكون حاضر..) ثم تبحث من جديد في محاولة الوصول إلى الذات العليا كما يبحث الصوفيُّ أيضًا فتقولُ (إنّى رأيتُ الله..جوّا براح النور..وف صِدْق صوت “عزه”..لحظة م يحضنّى.. أول م اعرّى الروح للحزن وأغنّي) ومن جديد تقول (إنّى رأيتُ الله..لما اليمام يكتر.. والنبته في البلاكون توهبنى بهجتها.. رَيحَان وأورجانيا) وتقول أيضًا (إني رأيتُ الله..آخر نَفَس ل “أمي”.. لما سمع ليها ووهب لها جناحين.. بعد الإبر والزغد ما استهلكوا دراعها) وتبحث من جديد عن الذات العليا فتقول (إني رأيت الله..في كل شيء مبهج.. فى كل شيء موجع.. في كل شيء بيمس) فالشاعرة والصوفيُّ كلامهما كما أشرت في محاولةِ سعيٍ دائمةٍ للوصول أو البحث عن الذات العليا وحين أرادت الشاعرة أنْ تخفِّفَ عنها وعن قارئها من محاولةِ هذا البحث انتهت كما ينتهي الصوفيُّ أيضًا بأنَّ الذاتَ العليا موجودةٌ في كل مكان وفي كل روح تشعر ،فأنهت الشاعرةُ القصيدةَ ولم تُنهِي محاولاتِ البحثِ عن الذات العليا لكنَّها أجملت الذاتَ العليا في كل ما هو جميل وفي كل ما هو يشعر ويحس فقالت في نهاية قصيدتها ( إني رأيت الله.. في كل روح بتحس).

الخلاصة

إنَّ ما يُميِّزُ أيَّ تجربةٍ شعريّةٍ هو محاولةُ الشاعرِ وسعيه الدائم لإغناء تجربته بقيمٍ فنيّةٍ جديدةٍ يكونُ فيها تجاوزٌ للواقع وتجاوزٌ للوعي نفسه، ذلك الواقع الذي تتكاتف فيه ظلمات المادة والأوضاع المتردية والعجز عن مسايرة العصر، وقد حاولت الشاعرة “منى رؤوف” أن تتجاوز ذلك الواقع إلى رؤية فنيّةٍ جديدةٍ منتقاةٍ من التراث العربيّ الإسلاميّ كبدليلٍ لما افتقدته الشاعرةُ من رقةٍ وحبٍّ، وأمانٍ وطمأنينةٍ، فلجأت إلى استخدام حقل الطبيعة الدلاليِّ في كتابةٍ لا تخلوُ من نزعةِ التصوُّفِ التي وَجدَت في رحابه أمنًا وأمانًا.

آمنت الشاعرة أنَّ عالمَ التصوف هو عالمُ الإشراق والسمو الذي تنطلق منه الروح الإنسانية إلى عالم المثل العليا مبتعِدةً فيه عن الدنيا وملذاتها، وآملةً في الوصول إلى الطبيعة البِكرِ كما ذكرت في قصيدة “نواره”ص162، والخلاص وأنوار الحق، فالنزعةُ الصوفيّةُ هنا نتاجُ الروحِ التي تعالت على بقيّة الأحوال، وعبارةٌ عن وجهة نظر أرادت أن تزيلَ الحواجزَ لتعلنَ تصالحَ وتوحدَ الذات البشريّة، وهي أيضًا تجربةٌ لغويّةٌ فريدةٌ لأنَّ اللغةَ تَمُدُّ الدينَ بوصالٍ وثيقٍ واللغةُ هي أساسُ علاقةِ المخلوقِ بخالقه والآدميين فيما بينهم، وربما تمسَّكت الشاعرةُ باللغةِ الصوفيّةِ لما تتميزُ به عن اللغة العادية في أنَّ اللغةَ الصوفيّةَ لغةٌ رمزيّةٌ تحملُ في طياتها دلالاتٍ جديدةٍ مختلفةٍ عن دلالاتِ اللغةِ العاديّةِ المألوفةِ.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: بشري محمد

تدقيق لغوي: أحمد المسيري

اترك تعليقا