تهافت فكرة الخلافة من منظور علي عبد الرازق

قراءة في كتاب: (الإسلام وأصول الحكم)

في ماهية الخلافة

يُعَرِّف عبد الرازق الخلافة بأنها رياسة عامة في أمور الدين والدنيا نيابةً عن النبيِّ؛ فهي “حمل الكافة على مُقْتَضَى النظر الشرعيِّ في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها”[1] كما يرى ابنُ خلدون.

ولأنَّ الخلافةَ رياسة في أمور الدين والدنيا؛ فإنَّ الخليفة يقوم في منصبه مقام الرسول، وعندهم أنَّ الله كما اختارَ محمدًا لدعوته؛ فإنه قد اختار الخليفة كذلك لحفظ الدين وسياسة الدنيا به، وأن النبي لما لحق بالرفيق الأعلى قام الخلفاء من بعده مقامه في حفظ الدين وسياسة الدنيا بهذا الدين. ولذلك سُمِّي الخليفةُ خليفةً وإمامًا؛ لأنه يخلف النبي في هذه الأمور، وتشبيهًا بإمام الصلاة في وجوب اتباعه والاقتداء به.

إن الخلافة من وجهة نظرهم منصب ديني يُوجِب على المؤمنين بالله ورسوله الطاعةَ التامة له ظاهرًا وباطنًا؛ لأنَّ طاعة الأئمة من طاعة الله، وعصيانهم من عصيان الله، وعليهم نصحه كذلك إنِ اعوجَّ أو مَالَ.

ولأنَّ الخليفة ينزل من أمته منزلة الرسول من المؤمنين؛ فله الولاية العامة، والطاعة التامة والسلطان الشامل؛ فليس له شريك في ولايته إلا عن طريق الوكالة، و”كل وظيفة تحته فهي مندرجة في سلطانه، وكل خطة دينية أو دنيوية فهي مُتَفَرِّعَة عن منصبه”[2].

ويُفْهَمُ من كلامهم عن الخليفة أنه لا بد أن يكون مُنضَبِطًا بالشريعة، مُقَيَّدًا في سلطانه بحدودها؛ فلا يتخطاها أبدًا. ولذلك تراهم يُفَرِّقُون بين الخلافة والمُلك؛ فـ “المُلك الطبيعي هو حمل الكافة على مُقتضى الغرض والشهوة”[3]، “والخلافة هي حمل الكافة على مُقْتَضَى النظر الشرعي”[4]. وكانتِ الخلافة خالصة حتى عهد عليٍّ، ثم صار الأمر من بعده إلى مُلْكٍ محض أو خلافة تلتبس بالملك وتَتَردَّدُ بينهما.

إعلان

يتساءل عبد الرازق من أين يستمد الخليفة ولايته؟ ويرى أنَّ المسلمين قد أهملوا هذا المبحث، ومع ذلك يمكن الوقوف على مذهبينِ اثنَيْنِ؛ الأول يرى أن الخليفة يستمد سلطانه من سلطان الله تعالى وقوته، وهو مذهب جَارٍ وفاشٍ بين المسلمين، والثاني يرى أنَّ الخليفة يستمد سلطانه من الأمة؛ فهي مصدر قوته.

لا دليل على وجوب الخلافة لا من قرآن، أو سنة، أو إجماع

ينتقل عبد الرازق بعد ذلك إلى الكلام عن حُكم الخلافة عند المسلمين؛ فيرى أنَّ نصبَ الخليفة عند أكثرهم واجبة وجوبًا عقليًّا أو شرعيًّا درجة أنْ زعم ابنُ خلدون أن ذلك مما انعقد عليه الإجماع.

وليس الإجماع مُتَحَقِّقًا من وجهة نظر عبد الرازق؛ فقد خالف البعض ولم يروا وجوبها لا بالشرع ولا بالعقل كالأصمِّ من المعتزلة وبعض الخواراج ورأوا أنَّ الأمة إذا تَواطَأَتْ على العدل وتنفيذ أحكام الله تعالى لم تَحْتَجْ إلى إمام.

القرآن

إنه لا يوجد دليل واحد صريح من القرآن على وجوب الخلافة في رأي عبد الرازق، ولو وُجِد دليل أو ما يشبه دليل لاعتمد عليه المُوجِبون وَلَتَكَلَّفُوهُ كلَّ تكلف، ولكن، أعجزهم ذلك؛ فانصرفوا إلى دعوى الإجماع تارة، أو الاحتكام إلى أقيسة عقلية تدور حول أنَّ إظهار الشعائر الدينية وصلاح الرعية لا يمكن أن يتحقَّقَا إلا بنصب إمام، وهذا فرض لا خلاف عليه، وما يتوقف عليه الفرضُ كان فرضًا؛ فنصب الإمام واجب لذلك.

يرد عبد الرازق بعد ذلك ما يمكن أن يكون في القرآن دليلًا على وجوب نصب الخليفة؛ فيورد مثلًا قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ”، ويفرغ إلى أنَّ المراد منها أمراء المسلمين في عهد الرسول، أو علماء الشرع لا من سموه هؤلاء بالخلفاء. كما يرى أن أولي الأمر الواردين في قوله تعالى: “وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ”، هم كبراء الصحابة البصراء بالأمور.

ولو قمنا بإرهاق أمثال تلك النصوص؛ فإنها لن تدل على شيء أكثر من أنَّ للمسلمين قومًا منهم ترجع إليهم الأمور، وذلك معنى أعمّ من فكرة كالخلافة.

السنة

يرى عبد الرازق أنَّ السنة تخلو كذلك من دليل على وجوب الخلافة، بل يراها أهملتْ هذا الأمر كالقرآن تمامًا، ويرى أن العلماء لم يستطيعوا أن يستدلوا في هذا الباب بشيء من الحديث.

ماذا نفعل إذًا بتلك الأحاديث التي تذكر الإمامة والخلافة ذكرًا صريحًا كمن مات وليس في عنقه بيعة، وأن نلزم جماعة المسلمين وعامتهم، وأنَّ الأئمة من قريش، وغير ذلك من النصوص الحديثيَّة التي يمكن إيرادها في هذا الباب؟ إن  تَتَبُّع مثل هذه الأحاديث -في رأي عبد الرازق- لا يُثْبِتُ شيئًا غير أنَّ الرسول قد ذكر الإمامة والبيعة وغير ذلك من ألفاظ تتعلق بالخلافة.

لا يحاول عبد الرازق أن يجادل في صحة مثل هذه الأحاديث، ولا أن ينازع القائلين بالخلافة في فهمها، بل يرى أن هذه النصوص لا يمكن أن تنهض دليلًا على اتِّخاذ الخلافة عقيدة وشريعة وحكمًا من أحكام الدين.

إنَّ أمثال هذه النصوص تشبه كلام عيسى بن مريم عن حكومة القياصره، وأمره بأنْ يُعْطَى ما لقيصر لقيصر وما لله لله، وليس هذا اعترافًا منه لا من قريب أو بعيد بأنَّ الحكومة القيصرية من شريعة الله.

إننا أُمرْنا بالوفاء بعهد المشرك إذا عاهدناه، وأمرنا بطاعة البغاة والعصاة إن غلبوا علينا بالسيف، وأمرنا بالإنفاق على الفقراء والمساكين، ولنا أحكام تتعلق بالرق والعبودية، وأحكام متعلقة بالطلاق وغير ذلك، ولا يعد هذا دليلًا على مشروعية الشرك أو البغي أو وجوب إيجاد فقراء بيننا، أو وجوب الرق والطلاق! وعلى ذلك فَقِس ذِكْرَ الشارع البيعة والحكم وما يتعلق بهما في نصوصه.

دعوى الإجماع وسيف السلطان

ادَّعى القائلون بالخلافة تواتُرَ الإجماع عليها، وعلى امتناع خُلُوِّ الوقت من إمام. يرى عبد الرازق أنَّ الإجماع لا يسلم لهم، وهو لا يحاول التشكيك في إمكان الإجماع في ذاته، بل يرى أن دعوى الإجماع هنا ليست صحيحة، ولكنه قبل إثبات ذلك يحاول التمهيد ببعض الأمور.

من الأمور التي حاول عبد الرازق التمهيد بها هي أن حظ المسلمين من علم السياسة قليل وضعيف. يقول: “فلسنا نعرف [للمسلمين] مُؤلَّفًا في السياسة ولا مُتَرْجَمًا، ولا نعرف لهم بحثًا في شيء من أنظمة الحكم ولا أصول السياسة، اللهم إلا قليلًا”[5]. نرى هذا الضعف عند المسلمين رغم احتفائهم بعلوم اليونان التي كانت السياسةُ جزءًا أصيلًا من علومهم؛ فما سبب ذلك؟!

يعود سببُ كون المسلمين في جهالة مطبقة بعلم السياسة -كما يرى عبد الرازق- ارتكاز الخلافة عند المسلمين على أساسٍ من القوة الرهيبة؛ فلم ترتكز في معظم أطوارها إلا على قوة مادية من سلاح؛ “فلم يكن للخليفة ما يحوط مقامه إلا الرماح والسيوف”[6]، “وذلك الذي يُسَمَّى عرشًا لم يرتفع إلا على رؤوس البشر”[7].

وبما أنَّ الخلافة قد ارتكزت على مثل ذلك القهر، وانطبع في ذهنِ المسلمين وعقولهم مبادئ من الحرية والمساواة التي كفلها لهم الدين الإسلامي؛ فإنهم أنفوا من الانصياع لهؤلاء الحكام والخضوع لهم؛ فلا يكاد يخلو تاريخُ الخلافة من خارج عليها، كافر بها، أو مُتَّخِذٍ شكلَ قوة منظمة تعمل في العلن كالخوارج، أو تسير تحت ستار الأنظمة الباطنية كجماعة الاتحاد والترقي مثلا.

كان من الطبيعي إذًا أن يكون الخليفةُ عدوًّا لدودًا لكل علم من شأنه أن يُقَوِّض سلطانَه أو يهدد قواعدَ ملكه. و”من هنا نشأ الضغط المُلُوكِيُّ على حرية العلم، واستبداد الملوك بالتعليم… ولا شك أن علم السياسة هو من أخطر العلوم على الملك، بما يكشف من أنواع الحكم وخصائصه وأنظمته إلى آخره؛ لذلك كان حتمًا على الملوك أن يعادوه وأن يسدوا سبيله على الناس”[8].

نعود إذًا إلى دعوى الإجماع، كيف يُدَّعَى الإجماعُ على أمر قد أعمل ملوكُ المسلمين فيه سيف القهر في رقاب المسلمين، وفرضوا وجودهُم بقوة السلاح لا ببيعة أو انتخاب؟ كيف يُدَّعَى الإجماع وقد علمتَ ما علمتَ من ضعف المسلمين وقصورهم في علوم السياسة والحكم والإدارة؟ كيف يُدَّعَى الإجماعُ وقد خالفَ هذا الإجماعَ الخوارجُ وبعضُ المعتزلة؟ ينتهي عبد الرازق إلى نتيجة مفادُها أنَّ دعوى الإجماع ساقطة لا وجود له.

بل ولا تقوم على أساس من العقل سليم

بقي للقائلين بالخلافة دليل واحد ليس من القرآن أو السنة أو الإجماع، وهو دليل عقليٌّ يعده عبد الرازق أضعفَ ما جاؤوا به من دليل رغم احتفائهم به، ومفادُه أنَّ الخلافة تتوقف عليها إقامة الشعائرالدينية وصلاح الرعيَّة، ويرون أنَّ استقامة الأمر في أيِّ أمة مُتَمَدْيِنَة -مهما كان دينُها- يُحَتِّم عليها أن يكون لها حكومة تُبَاشِر شئونها.

يرى عبد الرازق صحة تلك الدعوى بوجه عام، ولكنه يعترضُ أن يكون هذا النوع من الحكم وحده هو الصحيح الذي ينبغي وجوده، يقول: “إنْ يكن الفقهاء أرادوا بالإمامة والخلافة ذلك الذي يريده علماء السياسة بالحكومة كان صحيحًا ما يقولون، من أنَّ إقامة الشعائر الدينية، وصالح الرعية، يتوقفان على الخلافة بمعنى الحكومة، في أي صورة كانت الحكومة، ومن أيِّ نوع”[9].

لكن، لا تتوقف مصالح الأمة الدينية والدنيوية على هذا النوع من الحكم في رأيه، بل يرى ما هو أكثر من ذلك من أن “الخلافة ولم تَزَل نكبة على الإسلام والمسلمين، وينبوع شر وفساد”[10]؛ فقد ضاع رسمُ الخلافة بمعناها الحسن فيما يرى ابنُ خلدون، وما بقي منها كان مُلْكًا بحتًا، صدع الدين، وأضاع مصلحة المسلمين.

هوتِ الخلافةُ في بغداد في منتصف القرن السابع الهجري، وبقي المسلمون بلا خليفة ثلاث سنوات، وانتقلت بشكل اسميٍّ إلى مصرَ إلى أن تلقَّفَتْها يدُ العثمانيِّين؛ فهل نقص من أمر المسلمين شيء من دينهم أو دنياهم في بقائهم دونها؟!

يقول عبد الرازق: “وعاشتِ [البلاد الإسلامية]، وما زال يعيش كثير منها بعيدًا عن ظلِّ الخلفاء، وعن الخضوع الوثنيِّ لجلالهم الدينيّ المزعوم؛ أرأيتَ شعائر الدين فيها دون غيرها أُهْمِلَتْ، وشئون الرعيةِ عُطِّلَتْ؟! معاذ الله، لا يريد الله أن يجعل عِزَّهُ وذُلَّه منوطين بنوع من الحكومة، ولا بصنف من الأمراء”[11].

هل كان هناك نظام للحكم في عصر النبوة؟

غموض أحوال القضاء

كان القضاء لا شك موجودًا أيام النبي بمعنى الحكم في المنازعات وفَضِّهَا، بل كان هذا النوعُ موجودًا عند العرب قبل النبي، ومع القول بوجوده إلا أن عبد الرازق يرى في الوقتِ ذاته استحالةَ معرفة صورة بيِّنَة لذلك القضاء؛ فحاله كان غامضًا ومُبْهَمًا من كل جانب.

يقول رفاعة رافع الطهطاوي: “وقد قلَّدَ رسول الله القضاء لعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، ومعاذ بن جبل”[12]، ويضيف عبد الرازق إليهم أبا موسى الأشعري.

يرى عبد الرازق أن البحث في نظام القضاء عند هؤلاء صعب المراس؛ لأنه لا تتيسر الإحاطة بشيء كثير من أحوال القضاء في زمن النبي، خاصة وقد اختلفتِ الروايةُ عن حادثة واحدة بعينها؛ فمثلًا بَعْثُ عليّ إلى اليمن كان من أجل القضاء في رواية، وفي رواية أخرى كان من أجل قبض الخمس من الزكاة.

هذا ما يخصُّ القضاء، أما إذا انتقلنا إلى ما يخص المُلْكَ ولوازمه؛ فإنه يرى خُلُوَّ العصر النبويّ من مَخَايِلِ المُلْك. يقول: “غير القضاء أيضًا من أعمال الحكومات ووظائفها الأساسيّة لم يكن في أيام الرسالة موجودًا على وجهٍ واضحٍ لا لَبْس فيه”[13].

هل كان رسولًا ملكًا؟!

يرى عبد الرازق أنَّ الحدَّ الأدنى مما يمكن أن يُسَمَّى نظامَ حكم لم يكن موجودًا أيامَ النبي كالعمالات التي تتصال بالأموال ومصارفها (المالية)، وحراسة الأنفس والأموال (البوليس). لم يصل إلينا شيء واضح يمكن أن نقول معه إنه كان نظام الحكومة النبوية.

والسؤال الذي يطرحه بعد ذلك: هل كان النبيُّ صاحبَ دولة سياسية ورئيس حكومة كما كان رسول دعوة دينية وزعيم وَحدة دينية أم لا؟ إنه يرى أولًا قبل أي شيء وقوعَ هذا المَبحث خارجَ دائرة العقائد الدينية؛ فلا حرج أن يرى باحث كونه رسولًا ملكًا، أو ملكًا فحسب.

يفصل عبد الرازق بين معنى الرسالة ومعنى المُلْك، ويرى عدم وجود تلازُم بينهما؛ فليس شرطًا أن يكون الرسولُ ملِكًا؛ لأنَّ الرسالة مقام والمُلك مقام آخر، ولقد كان عيسى بن مريم رسول الدعوة المسيحية وزعيم المسيحيين يدعو إلى الإذعان لقيصر، وكان يوسف بن يعقوب عاملًا من عُمَّال المَلِك.

لا يعرف عبد الرازق لأحد من العلماء رأيًا صريحًا في هذه المسألة، ومع ذلك يجنح المسلمُ العاميُّ غالبًا إلى الاعتقاد بكون النبي ملكًا رسولًا، هذا ما يتماشى مع الذوق العام للمسلمين، ولعله أيضًا رأي جمهور العلماء من المسلمين؛ فقد جعل ابنُ خلدون على سبيل المثال الخلافة نيابةً عن صاحب الشرع في حفظ الدين وسياسة الدنيا.

نعم، وُجِدَ ما يُشْبِه أن يكون مظهرًا من مظاهرِ الدولة والحكم أيام النبي كالجهاد الذي يراه البعضُ نوعًا من تثبيت الحكم وتوسيع المُلك، وكالأعمال المالية كجمع المال من جهاته العديدة (الزكاة والجزية والغنائم إلخ)، ومن ثَمَّ توزيعها، وكاستعماله بعض الأمراء على بعض المناطق، وغير ذلك مما يمكن اعتباره أثرًا من آثار الدولة، ومظهرًا من مظاهر الحكومة.

من نظر إلى مثل هذه المظاهر ساغ له اعتبار كون النبيِّ ملكًا رسولًا، ولكنَّ السؤال الذي يجابِه مَن يرى هذا الرأي هنا: هل كان تصرفه في ذلك الجانب شيئًا خارجًا عن حدود رسالته، أم كان جزءًا مما بعثه الله به وأوحاه إليه؟!

إن ما يمكن تسميته بالمملكة النبوية وما يُشبه أن يكون دولة في عهد النبي عمل منفصل عن دعوة الإسلام، بل وخارج عن حدود الرسالة، وأنها لم تكن إلا “وسيلة من الوسائل التي كان عليه أن يلجأ إليها تثبيتًا للدين، وتأييدًا للدعوة”[14].

يقول عبد الرازق: “إذا كان الرسولُ قد أسس دولة سياسية، أو شرع في تأسيسها؛ فلماذا خَلَتْ دولتُه إذن من كثير من أركان الدولة ودعائم الحُكم؟! ولماذا لم يُعْرَف نظامُه في تعيين القضاة والولاة؟! ولماذا لم يتحدث إلى رعيته في نظام الملك وفي قواعد الشورى؟! ولماذا ترك العلماء في حيرة واضطراب من أمر النظام الحكومي في زمنه؟!”[15].

يُورِدُ بعد ذلك رأيًا يقول: إنه لا شيء يمنع من الاعتقاد بوجود نظام للدولة أيام النبي غير أنَّنا لم نصل إلى تفاصيله، ولم نعرف دقائقه، ثم يناقشه قائلًا إنه من الممكن أن يكون صحيحًا، ولكنَّ هذا لا يدفعنا أبدًا إلى الاعتقاد بشيء نجهل تفاصيله ولا نعرف دقائقه.

ويتساءل كذلك: هل يمكن أن يكون نظام الدولة أيام النبي نظامَ البساطة الفطرية وسلامتها؟! إنه يرفض هذا الإمكانَ أيضًا، ويرى أن سلامة الفطرة وبساطة الطبع لا يستدعيانِ أبدًا أن لا يكون لدولة من الدول ميزانية تقيد مصروفاتها على سبيل المثال.

إذًا كيف نلتمس حلًّا لهذا الإشكال؟ إنه لا يجد حلًا غير “القول بأنَّ محمدًا ما كان إلا رسولًا لدعوة دينية خالصة للدين، لا تشوبها نزعة ملك، ولا دعوة لدولة”[16].

القرآن والسنة ينفيان المُلك عن محمد

ينفي القرآن نفسه أن يكون محمد حاكمًا، ويؤيد القول بأنه لم يكن له شأن في الملك السياسي، ولم يتجاوز حدود البلاغ المجرد من كل معاني السلطان؛ اقرأ قوله مثلًا: “فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ، لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ”.

يقول عبد الرازق: ” القرآن كما ترى يمنع صريحًا أن يكون النبيُّ حفيظًا على الناس، ولا وكيلًا، ولا جبَّارًا، ولا مسيطرًا، وأن يكون له حق إكراه الناس حتى يكونوا مؤمنين: ومن لم يكن حفيظًا ولا مسيطرًا؛ فليس بملك؛ لأن من لوازم الملك السيطرة العامة والجبروت، سلطانًا غير محدود”[17].

بل إذا انتقلنا إلى السنة؛ فإننا سنجد المعنى نفسه أكثر وضوحًا؛ فمن ذلك ما رواه صاحبُ السيرة النبوية: “أن رجلًا جاء إلى النبي لحاجة يذكرها؛ فقام بين يديه؛ فأخذته رعدة شديدة ومهابة؛ فقال له صلى الله عليه وسلم: هوِّنْ عليك؛ فإني لستُ بملك ولا جبار”[18].

الفرق بين زعامة الرسالة وزعامة المُلْك

لا شكَّ أن النبي كان زعيمًا في قومه مُطَاعًا، لكن لا يجوز الخلطُ أبدًا بين زعامة الرسالة وزعامة المُلك؛ فالفرق بينهما متباين ومتضادّ جدًا؛ لأنَّ الرسالة تستلزم لصاحبها شيئًا من التَّمَيُّزِ الاجتماعيِّ بين قوم الرسول، ونوعًا من القوة الروحية، وقد يتناول الرسولُ من سياسة الأمة ما يتناوله الملوك، ولا يعني هذا أن يكون ملكًا، بل رسولًا تناول من شؤون الملك ما يستقيم به أمر قومه.

ويُفَرِّق أخيرًا بين ولاية الرسول على قومه وولاية الملك؛ فيقول: “ولاية الرسول على قومه ولاية روحية، منشؤها إيمان القلب، وخضوعه خضوعًا صادقًا تامًّا يتبعه خضوع الجسم، وولاية الحاكم ولاية مادية، تعتمد إخضاع الجسم من غير أن يكون لها بالقلوب اتصال”[19].

إنه لمن المعقول أن يكون الإسلامُ دينًا عالميًّا، وأن تنتظم البشرية كلها في دين واحد لرب العالمين، ولكن، ليس من المعقول على أي حال أن يُؤْخَذَ العالَمُ كله بحكومة واحدة، وأن تُجمَع تحت وحدة سياسية واحدة؛ فذلك مما يوشك أن يكون خارجًا عن الطبيعة البشرية، ولا تتعلق به إرادة الله على حد تعبيره.

إنه ينتهي إلى نتيجة تقول إنَّ الملك والحكومة “غرض من الأغراض الدنيوية التي خَلَّى الله سبحانه وتعالى بينها وبين عقولنا، وترك الناس أحرارًا في تدبيرها على ما تهديهم إليه عقولهم، وعلومهم، ومصالحهم”[20].

الدولة العربية

وحدة دينية

لم تكن الوحدةُ العربية أيام النبي -في رأي عبد الرازق- وحدةً سياسية بأي وجهٍ من الوجوه، ولا كان فيها معنى من معاني الدولة والحكومة، بل كانتْ وحدة دينية خالصة من السياسة.

يدلك على هذا أن النبي لم يتعرَّض لشيء من سياسة الأمم، ولا سمعنا أنه عين واليًا أو عزله، أو وضع قواعد تسير عليها شئون التجارة والصناعة وغير ذلك، بل كان يقول لهم:” أنتم أعلم بشئون دنياكم”. وما شرعه الإسلام وأخذ به النبيُّ من أنظمة وقواعد وآداب لم يكن في شيء كثير أو قليل من أساليب الحكم السياسي، بل كان شرعًا دينيًّا خالصًا.

النبي لم يستخلف أحدًا من بعده

انتهى ما كان لدى النبي من زعامة دينية بموته ولم يُعَيِّن خليفة من بعده، بل لم يُشِر طول حياته إلى شيء يُسَمَّى دولة إسلامية. والنبي ما لحق بالرفيق الأعلى إلا وقد أدَّى رسالته عن الله كاملة؛ فإن كانت شئون الحكم والسياسة دينًا وشرعًا مُنَزَّلًا فكيف له أن يترك أمر ذلك مُبْهَمًا على المسلمين؟!

بل عندما اختلف المسلمون في تعيين الخليفة كانوا يعرفون أنهم يختلفون في أمر من أمور الدنيا لا أمر من أمور الدين، وأن نزاعهم شأن سياسي لا يمسُّ دينهم، “وما زعم أبو بكر ولا غيره [وهو الخليفة الأول] أن إمارة المسلمين كانت مقامًا دينيًّا، ولا أن الخروج عليها خروج على الدين”[21].

ينتقد عبد الرازق ما يقوله الشيعةُ بخصوص أن النبي لم يمُتْ إلا وقد عيَّن عليًّا خليفة من بعده بالنصِّ عليه، وينقل رأي ابن خلدون في ذلك: “إن النصوص التي ينقلونها ويُؤولونها على مقتضى مذهبهم لا يعرفها جهابذةُ السنة ولا نَقَلَةُ الشريعة، بل أكثرها موضوع، أو مطعون في طريقه، أو بعيد عن تأويلاتهم الفاسدة”[22].

وينتقد كذلك مذهب القائلين بالنصِّ على أبي بكر الصديق كما ذهب إلى ذلك ابن حزم؛ إذ يرى أن مجرد إجماع المهاجرين والأنصار على أن سموه خليفة رسول الله نصٌّ جليٌّ في استخلافه. يرى عبد الرازق نوعًا من التعسُّف في هذا الرأي، خاصة وقد اختلف الصحابة في بيعة أبي بكر، وامتنع أَجِلَّة منهم عنها كعلي بن أبي طالب، وسعد بن عبادة مثلًا.

إذًا ما سر هذا اللقب (خليفة رسول الله)؟ ولماذا ارتضاه أبو بكر؟ يحاول الإجابة عن هذا السؤال عن طريق القول إن النبيَّ كان زعيمًا للعرب ومناط وحدتهم، فإذا كان أبو بكر من بعده زعيمًا للعرب وإنْ كانت زعامة سياسية؛ فقد ساغ لُغَةً أن يقالَ خليفة رسول الله. هذا غير ما لهذا اللقب من روعة وقوة وجاذبية؛ فلا عجب حينئذٍ أن يرتضيه أولُ حاكم على العرب في دولة حادثة تريد النهوض بين أعاصير من الفتن تتجاذبها.

قيام الدولة العربية

كما أن زعامة النبي زعامة دينية؛ فإن زعامة من جاؤوا بعده كانت سياسية ليس غير؛ فما كان لأحد أن يخلفه في زعامته الدينية أبدًا.

إذًا كيف يفسِّر عبد الرازق قيام دولة بعد موت النبي؟ إنه يرى أنَّ شعبًا ناهضًا كالعرب، لم يكن له أن يرجع إلى ما كان عليه من بداوة وتَفَرُّق قَبَلِيّ إذا ما انحلت عنه رابطة النبوة. كان من الطبيعي لقوم هُيِّئَتْ لهم أسباب القوة والغلبة والوَحدة أن تأخذ حظها من الوجود كاملًا، وكان لا بد أن تقوم دولة ووَحدة سياسية للعرب.

يقول عبد الرازق: ” تلك دولة جديدة أنشأها العرب؛ فهي دولة عربية وحكم عربي؛ لأنَّ الإسلام دين البشرية كلها، لا هو عربي ولا هو أعجميّ. قامت على أساس دعوة دينية، وكان شعارُها حماية تلك الدعوة والقيام عليها… وهي دولة أيدت سلطان العرب، وروجت مصالح العرب، ومكنت لهم في أقطار الأرض؛ فاستعمروها استعمارًا”[23].

كانت حروبًا سياسية لا دينية

يُنَاقِش عبد الرازق في نهايات كتابه تلك الحروب التي أخذت طابعًا دينيًّا في عهد أبي بكر الصديق؛ فيرى أنَّ ما سُمِّي بحروب الردة كانت في معظمها حروبًا سياسيَّة لجماعات رفضت بيعة أبي بكر الصديق والانضمام إلى وحدته السياسية لسبب ما.

يقول عبد الرازق: “ولسنا نتردد في القطع بأن كثيرًا مما سموه حرب المرتدين في الأيام الأولى من خلافة أبي بكر لم يكن حربًا دينية، وإنما كان حربًا سياسية صرفة، حسبها العامة دينًا، وما كانتْ كلُّها للدين”[24].

إذًا لم يكن كل الخارجين على أبي بكر -في رأي عبد الرازق- من المرتدين حتى مَنْ منع الزكاة منهم؛ لأنهم رفضوا الإذعان لحكومة أبي بكر، وكان من الطبيعي أن يمنعوا الزكاة عنه؛ لأنهم لا يعترفون به، ولا يخضعون لسلطانه وحكومته.

ما السبب إذًا في تسميتها بهذا الاسم؟ لعل السبب يرجع إلى أنَّ أبا بكر كان قد ابتدأ حروبه من أجل تدعيم دولته بحربِ مجموعات عربية كانت قد ارتدَّت فعلًا عن الإسلام، بل ادَّعى بعضهم النبوة في حياة النبي وبعد وفاته، ومن هنا نشأ لقب المرتدين، وبقي لقبًا لكل من حاربهم أبو بكر؛ مما أدى إلى انطباع حروبه في جملتها بطابع الدين.

خاتمة

ينتهي عبد الرازق من بحثه إلى نتيجةِ “أنَّ الدين الإسلامي بريء من تلك الخلافة التي يتعارفها المسلمون، وبريء من كلِّ ما هيَّؤُوا حولها من رغبة ورهبة، ومن عز وقوة. و[أنَّ] الخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية، كلا ولا القضاء ولا غيرهما من وظائف الحكم ومراكز الدولة. وإنما تلك كلها خطط سياسية صرفة، لا شأن للدين بها؛ فهو لم يعرفها ولم ينكرها، ولا أمر بها ولا نهى عنها، وإنما تركها لنا؛ لنرجع إلى أحكام العقل، وتجارب الأمم، وقواعد السياسة”[25].

[1] الإسلام وأصول الحكم، علي عبد الرازق، تقديم: عمار علي حسن، دار الكتاب المصري – دار الكتاب اللبناني، 2012، ص 10.
[2] المصدر السابق، ص 13.
[3] المصدر السابق، ص14.
[4] المصدر السابق، ص 15.
[5] المصدر السابق، ص 34.
[6] المصدر السابق، ص 37.
[7] المصدر السابق، ص 38.
[8] المصدر السابق، ص 44.
[9] المصدر السابق، ص 50.
[10] المصدر السابق، ص 51.
[11] المصدر السابق، بتصرف بسيط بالحذف، ص 53.
[12] المصدر السابق، ص 58.
[13] المصدر السابق، ص 64.
[14] المصدر السابق، ص 103.
[15] المصدر السابق، ص 80.
[16] المصدر السابق، ص 88.
[17] المصدر السابق، ص 96.
[18] المصدر السابق، ص 100.
[19] المصدر السابق، ص 93.
[20] المصدر السابق، ص 102.
[21] المصدر السابق، ص 126.
[22] المصدر السابق، ص 117.
[23] المصدر السابق، بتصرف بسيط بالحذف، ص 124.
[24] المصدر السابق، ص 133.
[25] المصدر السابق، ص 137.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: عبد العاطي طلبة

اترك تعليقا