تحت راية الصليب – كيف صنع الصِّراع الإسلامي المسيحي حضارة الغرب – ج 2

قد ننظر في أيامنا للتعايش السلمي بين المسلمين والمسيحيين واليهود في الأندلس بكثيرٍ من الإعجاب؛ ولكن بالنسبة لرجال الكنيسة في ذلك العصر لم يكن هذا التعايش إلا خلطةٍ بين النور والظلمة، وفسادٍ استشرى فطغى على عقيدة الناس القويمة؛ ولهذا فسرعان ما بدء رجال الكنيسة في محاولة إفساد العلاقة بين المسلمين والمسيحيين، وإثارة الضغناء في المجتمع الأندلسي بشتّى الطرق، وعلى رأسهم الكاهن القرطبي يوليوجيوس؛ الذي دعا للاستشهاد في قرطبة بدفع المسلمين لقتل رجال الدين لاستثارة الحمية الدينية التي فترت عند المسيحيين.

وفي يونيو 851 م قام أحد أتباعه بادِّعاء أنه يريد إشهار إسلامه، وعند وقوفه أمام القاضي جاهر بسبِّ النبي والمسلمين، ورغم محاولة القاضي إفساد قصده باتهامه بالجنون أو السُّكْر، إلا أنه أصرَّ على إهاناته حتى تمَّ إعدامه، وبعدها بيومين قام آخرٌ بتكرار فعلته ثم ستُّ رهبانٍ في حالة انتحارٍ جماعي، ثم اقتحم راهبان المسجد الكبير بقرطبة أثناء صلاة الجمعة صائحين بالشتائم ضد المسلمين، وفي خلال 9 أعوام أعدم 48 مسيحيًّا في قرطبة أعلنوا فيما بعد قديسين، وإن كانت الظاهرة انتهت بعد إعدام يوليوجيوس؛ إلا أنه كان قد حقق غرضه بدرجةٍ كبيرة وبثَّ بذور العصبية الدينية لتكون أساسًا للصِّراع لقرونٍ تالية.

وسرعان ما برزت الهوية المسيحية المشتركة كأساسٍ للحراك ضدَّ المسلمين، وأصبحت المماليك المسيحية الصغيرة لا تعبِّر عن حكامها؛ وإنِّما عن العقيدة الكاثوليكية، ولم تعد الحروب محاولات لتعظيم أراضي تلك الدويلات وثرواتها؛ وإنَّما لاسترداد الأراضي المسيحية من غاصبيها المسلمين، وكانت هذه الهوية المشتركة أساس توحد الممالك المسيحية التي كوَّنت إسبانيا في النهاية.

وكان سقوط الدولة الأموية وبداية عصر ملوك الطوائف المتنازعين فرصة ذهبية، وسرعان ما سقطت طليطلة على يد ألفونسوا ملك قشتالة 1085م، وكانت طليطلة مركز إشعاعٍ حضاريٍّ كبير؛ حيث كان بها العديد من العلماء المسلمين واليهود، وسرعان ما تحوَّلت لمركزٍ لترجمة العلوم من العربية إلى اللاتينية، رغم مقاومة رجال الدين لهذا واتِّهام العديد من العلماء المسيحيين بممارسة السحر لمحاولتهم التعرُّف على العلوم العربية.

واتَّحدت مملكتي ليون وقشتالة 1230م؛ لتبدأ الحرب التي عرفت بحرب الاسترداد، فانتزعت قرطبة ثم اشبيلية؛ التي لم يكن يدرك الإسبان أنّ مئذنة الجامع الكبير بها كانت أيضًا أول مرصدٍ فلكيٍّ بأوروبا فحوَّلوه إلى برج حراسة!

إعلان

ولصدِّ غزوات القشتاليين، قامت مشيخة الغزاة المغربية بقيادة سلاطين بني مرين، وهزمت جيش قشتالة في معركة الدونونية هزيمة ساحقة 1279 م، فأوقفت تقدُّمهم نحو غرناطة التي أصبحت ملجئًا للمسلمين المهاجرين من مدن الأندلس، التي انتزعها القشتاليين طويلًا إلى أنْ تصادم السلطان أبو الحسن -سلطان بني مرين- مع جيشي البرتغال وقشتالة في معركة طريف 1340 م، التي انتهت بمأساة؛ حيث تسللت قوة مسيحية من جزيرة طريف وضربت مؤخرة الجيش واقتحموا معسكر السلطان، وذبحوا نسائه وأطفاله ودبَّت الفوضى في الجيش الذي انسحبت فلوله بالسلطان إلى المغرب ولم تعد للأندلس ثانية.

ولكن الصراع بين الممالك المسيحية ظهر على السطح بسبب أزمات وراثة العرش، فقامت حربٌ أهلية في مملكة قشتالة وأخرى في البرتغال ثم ثالثة بين قشتالة والبرتغال، وعند نهاية تلك الأزمات عادت قضية الاسترداد للصدارة، خاصة بعد نهاية الإمبراطورية البيزنطية بسقوط القسطنطينية 1453 م على يد محمد الفاتح، وظهور الدولة العثمانية كأقوى دولة في العالم؛ لتصعد من جديد النبرة العدائية للمسلمين، وبزواج فيرناندو الثاني ملك أراغون وإيزابيلا ملكة قشتالة وتوحد المملكتين 1469 م بدأت مرحلة جديدة من الصراع.

فسرعان ما اشتدت الحملة على المسلمين حتى من كان منهم يعيش تحت السيطرة الإسبانية، وعرفوا بالمدجنين ونظمت محاكم التفتيش الإسبانية لتفتش في الضمائر وتضمن الإيمان بالعقيدة الكاثوليكية في كافة أنحاء المملكة الإسبانية.

وتبدأ حرب استنزافٍ طويلةٍ مريرة اشترك فيها مع جنود الإسبان متطوعين ومرتزقة من جميع أنحاء أوروبا؛ يدفعهم الوعد بالغفران من البابا والمطامع في المغانم الضخمة، أحرقوا فيها الأخضر واليابس وقاموا بحرب تجويعٍ وحصارٍ على المدن الإسلامية، حتى سقطت غرناطة 1492 م بعد حصارٍ طويلٍ سلَّم بعده المدينة عبد الله الصغير ليلًا لقوات الإسبان وأدخلهم قصر الحمراء ليستيقظ الناس في الصباح ورايات الإسبان فوق رؤوسهم والصليب مرفوع على برج الرياح أطول بروج المدينة. ودقَّت أجراس الكنائس في ألمانيا والنمسا ابتهاجًا، بعدما كانت تدقُّ ثلاث مرات يوميًّا تحذيرًا من خطر الأتراك، وأقيمت صلاة خاصة في كنيسة القدِّيس بول بإنجلترا بحضرة الملك وحاشيته؛ لتكريم ملكي إسبانيا، ولكن هذه لم تكن النهاية.

فسرعان ما سقطت وعود ترك المسلمون لما يدينون به مقابل أداء الجزية ودفع الضرائب وتقديم الولاء للدولة الإسبانية، وظهرت سياسة إسبانيا الحقيقة في الإبادة الثقافية والجسدية لشعب الأندلس؛ ففي قشتالة أصدرت ايزابيلا قانونًا يخيِّر المسلمين بين اعتناق المسيحية أو النفي، على أن يتركوا أبنائهم دون الرابعة عشر وبناتهم دون الثانية عشر ليوزعوا على عائلاتٍ مسيحيةٍ لينشئوا مسيحيين متبعين نصيحة رجال الدين، وعلى رأسهم ثيسنيروس رئيس أساقفة طليطلة الذي لخَّص سياسته تجاه المسلمين بقوله: “إذا تعذَّر جذب الكفار إلى طريق الخلاص وجب جرُّهم إليه جرًّا”.

وكانت البداية باليهود الذين تمَّ تجربة الإبادة عليهم، فقد تعالت الأصوات أنهم السبب في إغواء اليهود الذين تنصَّروا وردَّتهم، وعندما وجدت جثة طفلٍ مسيحيٍّ وقد مورست عليها طقوس وثنية بشعة اتجهت أصابع الاتهام إلى اليهود فيما عُرف بقضية طفل لاغوارديا المقدَّس، فبدأت حملة تعذيبٍ لانتزاع الاعترافات أعقبها إعدامات ميدانية بأبشع الوسائل وفي النهاية كان إجبار اليهود على الرحيل من كامل إسبانيا ليجد أغلبهم ملاذًا في أراضي الإمبراطورية العثمانية 1492 م.

وقابل الإسبان ثورة البشرات التي قام بها سكان الريف المسلمون بحملة إبادةٍ دموية، ولم ينج من المصير المروِّع إلا من قبل التنصر صادقًا أو كاذبًا أو النفي الذي لم يكن أغلب المسلمين قادرين على دفع نفقاته وهي عشر دوبلات ذهبية يتقاضاها الإسبان عن كلِّ فردٍ ليسمحوا له بالرحيل، وبنهاية 1501 م كان سكَّان غرناطة كلهم قد جري تعميدهم جماعيًا وعلقت الأجراس في مساجدها وحولت لكنائس وأصبحوا مسيحيين جدد، وبدء ظهور تسمية الموريسكيين أو المورو.

وكان الموريسكيون يعيشون حياةً مزدوجةً يظهرون المسيحية ويبطنون الإسلام، مستندين لفتاوى متعدِّدة من الفقهاء الذين سمحوا لهم بارتكاب المحرمات وإخفاء العبادات حتى تنفرج الغمة، في ظلِّ أمل أن تعود شبه الجزيرة لحكم المسلمين.

وما بين عامي 1511 م و1526 م، أصدرت العديد من المراسيم المناهضة للثقافة العربية الإسلامية ككل، وكانت الملابس الإسلامية وخاصة الملحفة التي كانت ترتديها النساء المسلمات وغطاء الوجه النسائي هدفًا للاضطهاد، ومنعت اللغة العربية وحرقت الكتب والمخطوطات العربية، وأغلقت الحمامات ومنعت الموسيقى والرقصات الأندلسية، وحتى مُنع الموريسكيون من غلق أبواب ديارهم ظهر أيام الجمعة؛ حتى لا يتمكنون من صلاتها.

وتعرَّض المسلمون في أرغوان وبلنسيه للمذابح و التنصير القسري، ورغم التهديدات لم يقم المماليك بشيءٍ واكتفى العثمانيون بدعم القراصنة الجزائريين؛ حيث استطاع الأتراك أن يؤسِّسوا سيطرة مباشرة أو غير مباشرة على شمال إفريقيا، مهددين بشكلٍ دائمٍ الإمبراطورية الإسبانية خاصة من خلال الأخوين خير الدين بربروسا وعروج، الذين أسسا قاعدة للقراصنة في الجزائر وتمكنا من فرض سيطرتهم البحرية على البحر المتوسط بكامله، وتكبَّد الأسطول الإسباني خسائر فادحةً متواصلة، وتحوَّلت الجزائر -التي أصبحت إيالة عثمانية- إلى إحدى أقوى الدُّول في حوض المتوسط طوال ثلاث قرون، وتمكَّن الأخوَان ببطولاتٍ أسطوريةٍ من إنقاذ الآلاف من الموريسكيين وتهريبهم من إسبانيا إلى شمال إفريقيا.

وقد كانت السيطرة الإسلامية على البحر المتوسط الدافع الأساسي للإسبان والبرتغاليين -الذين استفادوا كثيرًا من معارف العرب البحرية والفلكية والجغرافية- في رحلاتهم الاستكشافية والتي لم يكن مقصدها علميًا أو تجاريًا؛ وإنِّما لجلب الثروات واكتشاف طرق لتطويق المسلمين ومهاجمتهم من الخلف.

وكانت بداية العصر الاستعماري جزءًا من الحروب الصليبية؛ ففي عام 1454 م منح البابا نيكولاس الخامس تفويضًا لملك البرتغال بممارسة العبودية ما دام يبشر الزنوج بالمسيحية، وبعد سنتين صدر قرارٌ بابوي من البابا كاليكستو الثالث يعتبر الاستيلاء على إفريقيا حربًا صليبية للمسيحية.

وصعدت في إسبانيا الكاثوليكية المتعصبة فكرة أنها إسرائيل الجديدة التي اختارها الرَّب، وإن استعادة القدس ستتم على أيديهم، وكان بحث كولومبوس عن طريقٍ جديدٍ إلى جزر الهند الشرقية يقصد به أيضًا إيجاد وسيلة لمحاصرة المسلمين، وفي رسالته إلى فيرناندو وإيزابيلا 1493 م بعد وصوله إلى أمريكا قال: “في خلال سبعة أعوام من اليوم سيمكنني أن أُزود جلالتكم بخمسة آلاف فارس وخمسين ألف جندي مشاة للحرب وغزو أورشليم الذي من أجله بدئنا هذا العمل”.

وافتتح السفاحون الإسبان الذين أبادوا حضارة الأزتيك عصر الاستعمار؛ حيث فتحت أكوام الذهب والفضة الواردة من العالم الجديد شهية الملوك الأوروبيين على الغزو واستعباد الشعوب والاستيلاء على ثرواتها، وامتدَّ النهم الاستعماري من الأمريكيتين إلى إفريقيا وآسيا والسفن الإسبانية والبرتغالية تجوب البحار لتبحث عن شعوبٍ ضعيفةٍ تستعبدها وتسترق أبنائها.

وبوصول فيليب الثاني إلى السلطة 1559 م، بدأت مرحلة جديدة من العنف الديني على يد الملك المتعصب الذي دخل حروبًا ضارية ضدَّ الإنجليز والفرنسيين والهولنديين دفاعًا عن العقيدة الكاثوليكية، وفي إطار الهوَس بنقاء الدم ونقاء العقيدة أقرَّ فيليب قوانين تفتش عن مَن كان أسلافهم يهودًا أو مسلمين وتضعهم في منزلةٍ أدنى من المسيحي العادي وإن كانوا نبلاء وأثرياء.

وتصادم فيليب مع السلطان العثماني سليمان القانوني، الذي أوقعت أساطيله هزائم ثقيلة بالإسبان، حتى خشوا من غزوٍ تركيٍّ شاملٍ لهم، ولم يكن القراصنة الجزائريين والمغاربة بأقل وطأة عليهم.

وكان الوجود العثماني في المتوسط ونشاط القراصنة في الجزائر وشمال إفريقيا -الذين كانوا يعدُّون نوَّابًا عن السلطان العثماني ويدينون له بالولاء- باعثًا للأمل في نفوس الموريسكيين أنَّهم سينقذون وسيستعيدون بلادهم؛ ولكنّ هذا الأمل كان سببًا في زيادة الاضطهاد ضدَّهم بإزاء موجةٍ جارفةٍ من عدم التسامح الديني، امتدت لطائفة البروتستنت التي واجهت الاضطهاد منذ بدء مارتن لوثر حركته الإصلاحية 1517 م بتعليق لائحة الاعتراضات على البابوية على باب كاتدرائية ويتمبرنج بألمانيا، لتتصاعد الأمور سريعًا لحروبٍ أهليَّةٍ مروِّعة، بدأت بثورة الفلاحين في ألمانيا 1524 م، ثم اقتحام روما 1526 م، لتستمر الحرب الدينية المخيفة أكثر من 130 عام، حتى وقع صلح وستيفاليا لإنهاء حرب الثلاثين عام  في الإمبراطورية الرومانية المقدسة 1648 م ، لتقرر أخيرًا الحرية الدينية للطوائف المسيحية المتصارعة وتقرر أيضًا مبدأ سيادة الدول ويبدأ بها عصر القانون الدولي.

ويعود الفضل في انتشار التعليم ومحو الأمية في أوروبا إلى الثورة الدينية البروتستانتية؛ فقناعة البروتستنت بأن لا وساطة بين الله والناس، جعلت تعلم القراءة ونشرها ضرورة لكسر احتكار رجال الدين الكاثوليك المعرفة الدينية؛ حيث أنها مدونة باللاتينية والتي معرفتها تكاد تكون حكرًا على رجال الدين بدايةً من قيام مارتن لوثر بترجمة الإنجيل للألمانية ونشره لعامة الناس، ثم توجيه الآباء لتعليم أبنائهم الإنجيل بأنفسهم وألّا يتركوا تلك المهمة للكهنة فقط، وفي مطلع القرن السابع عشر أطلقت الكنيسة اللوثرية حملاتٍ واسعةٍ لمحو الأمية، وفي أقل من قرنٍ كانت السويد قد حققت رقمًا قياسيًّا بلغ 80% من السكان أصبحوا متعلمين، وذلك في الوقت الذي كانت الكنيسة الكاثوليكية تعتبر اقتناء نسخة مطبوعة من الكتاب المقدَّس هرطقة وأنه يجب أن يكون منسوخًا باليد وليس بالآلات.

ولكن وضع الموريسكيين كان أسوء، فحتى من لم يكن منهم مسلمًا كان محل اضطهاد بسبب لون بشرته ولكنته وثقافته وملابسه وأصناف الطعام التي يتناولها وحتى طرقهم في الغناء والرقص، فكان اضطهادهم ثقافيًا شاملًا وليس دينيًّا فحسب، فكان مجرد الاغتسال أو ارتداء ملابس نظيفة يوم الجمعة أو عدم وضع صليب في المنزل أو رفض دعوة للغداء في رمضان تهمًا كافيةً لسحب المتهم إلى محكمة التفتيش وتعذيبه حتى يعترف، ثم السجن أو النفي أو تشويه الأعضاء أو الإعدام حرقًا على الخازوق.

وفي 1566 م، أصدر فيليب حزمة قوانين لاستئصال الثقافة الموريسكية تمامًا بالتأكيد على حظر كل مظاهرها، وعلى رأسها اللغة العربية التي حظر التحدث بها أو كتابتها والارغام على تعلم القشتالية، وحظر ارتداء الملابس الأندلسية خاصة النسائية، وحتى الأسماء تستبدل بأسماء مسيحية واضحة.

واشتعلت ثورة البشرات الثانية وبرغم صمود مسلمي الأندلس وانضمام متطوعين من المغاربة والأتراك إليهم؛ إلا أنّ الغلبة كانت للجيوش الإسبانية والمرتزقة، فاجتيحت مناطق الثوار وأبيدت قراهم، بينما تمكَّن الجزائريون على الجانب الآخر من تحرير تونس، وبرغم المناشدات إلا أن السلطان العثماني سليم تخوَّف من القيام بهجومٍ على إسبانيا متخوِّفًا من الفشل وفضَّل أن يوجه جهده لضم قبرص.

وفي شتاء  1570 م، بدء ترحيل كافة الموريسكيين من غرناطة إلى قشتالة في رحلة مهلكة مات فيها الكثيرين جوعًا و بردًا وإرهاقًا؛ بينما حوصرت المناطق الجبلية حصارًا محكمًا لتجويع المعتصمين بها وإرغامهم على الاستسلام، وأخمدت الثورة بعدما أغرقت البلاد بالدماء.

وفي 1571 م، توجَّه الأسطول الإسباني للمشاركة في الحلف المقدَّس الذي ضمَّ الدويلات الإيطالية وفرسان مالطا وقبرص والبابوية ضدَّ الأسطول العثماني في معركة ليبانت، ليتمكنوا من إلحاق أول هزيمة بالأسطول العثماني ليدفع السلطان سليم فيما يبدو ثمن تردده في المبادرة بالهجوم على إسبانيا.

وفي سبتمبر 1609 م، نودي في مدينة بلنسية بما كان الملوك الإسبان يريدونه من مائة عام؛ مرسوم الطرد لكافة الموريسكيين متهمًا إياهم بالكفر والهرطقة والخيانة، ورغم التخوّف من اشتعال ثورة؛ إلا أنّ الموريسكيين قد قابلوا هذا المرسوم بالمبادرة ببيع ما يمتلكون والاستعداد للرحيل لشمال إفريقيا، وبدء بعضهم في ممارسة الشعائر الدينية الإسلامية علانيةً؛ بينما حاول المسيحيون الصادقين منهم التوسل بصدق تحولهم إلى الكاثوليكية دون جدوى، وسرعان ما نقل الجميع إلى ميناء بلنسية ثم إلى شمال إفريقيا في رحلةٍ شاقةٍ تكالب عليهم فيها سوء الطقس مع هجمات قُطّاع الطرق ثم استغلال أصحاب السفن الذين لم يتورعوا عن قتل ركابها وإلقاء جثثهم في البحر بعد سلبهم واغتصاب نسائهم وبيع أطفالهم رقيق، أما القلة التي قاومت وأثرت القتال على الترحيل القسري فقد توجَّهت إليهم قوات الجيش الإسباني والميليشيات لتقوم بمذابحها المعتادة فيهم وللقضاء على الفارين الهاربين في الجبال وانتهى الوجود الموريسكي من بلنسية بترحيل قرابة 124 ألف منهم إلى الشاطئ الآخر، وفي النهاية طرد سائر الموريسكيين من كافة أنحاء إسبانيا ليجدوا ملاذهم أخيرًا مرحب بهم تحت رعاية السلطان المغربي مولاي زيدان، وفي تونس والجزائر تحت رعاية السلطان العثماني وانتهى الوجود الإسلامي في شبه الجزيرة الأيبرية في 1614 م بطرد قرابة ثلاثمائة ألف موريسكي إلى شمال إفريقيا أو قبور البر والبحر.

ولكن تلك المأساة التي جعلتها الكراهية والتعصب الديني ممكنة الوقوع لم تكن نهاية سموم العنصرية؛ فالأدب الإسباني الذي يزخر بخطابات الكراهية للموريسكيين ويكيل لهم الاتهامات المختلفة من الإباحية الجنسية إلى الغدر والتآمر وعدم الإنتماء للبلاد وكنز الأموال، وأنّهم يتكاثرون كالأرانب مخططين لتدمير الإمبراطورية الإسبانية، وصورة المسيح المحارب التي ابتكرتها دعاية الحروب الصليبية، تم إعادة إنتاجهم وتكرارهم في خطاب النازيين في القرن العشرين؛ فنجد هتلر في 1922 م يقول: “شعوري كمسيحي يوجهني نحو إلهي ومخلصي كمحارب، وبحب لا متناهٍ كمسيحي وكرجل أقرأ من خلال العبارات التي تقول لنا كيف انتصب الإله في قدرته أخيرًا، وأخذ السوط بيده لطرد ذرية الأفاعي من المعبد. كانت حربه مثالًا مثاليًا للعالم ضدَّ السم اليهودي، واليوم بعد ألفي عام، وبأعمق العواطف، أعرف بثقةٍ لم أعرفها قبلًا بأنه من أجل ذلك قد بذل دمائه على الصليب” ويبدوا الحل النهائي الذي قام به هتلر بإبادة اليهود تكرارًا لتجربة الإسبان في إبادة الموريسكيين.

وأكثر من ذلك فالإسبان مدفوعين بتعصبهم الديني أسَّسوا للعنصرية العرقية؛ حيث ظهر في المجتمع الإسباني مفهوم نقاء الدم العنصري الذي كان عبارة عن تعديل لفكرة الدم الأزرق النبيل الذي ادعته الطبقة الأرستقراطية، فكان ذلك يعني أنه بينما المسيحيين الأصلاء ينتمون برابطة الدم إلى القوط واللاتين في إسبانيا ما قبل الفتح الإسلامي، فإن المسلمين واليهود والمسيحيين الجدد ومن اختلط بهم دمائهم ملوثة ونجسة وغير نقية مثلهم، وإن هذه الدماء النجسة لا تطهرها المعمودية ولا الزواج من المسيحيين الأصلاء، وصنف المسيحيين إلى نصف مسيحيين جدد وربع مسيحيين جدد، واستمر هذا المفهوم العنصري في إقامة تراتبية طبقية للدماء والأعراق، وأطلق تجار الرقيق الإسبان مصطلح الدم الأسود على الأفارقة ثم سكان الأمريكيتين الأصليين، وقسمت المجموعات العرقية حسب درجة نقاء الدم إلى أكثر من 120 مجموعة، وذلك قبل دعاوي تفوق الجنس الاري النازية بقرون.

وتجد القوميات الشوفينية أساسها النموذجي في الإمبراطورية الإسبانية التي قامت على أساس المزج بين العقيدة الدينية والثقافة والقومية مع كراهية الآخر لحدِّ الهوَس التطهيري؛ فالمواطن الإسباني كان هو المسيحي الكاثوليكي الذي لم يخالط دمائه آثار من المسلمين أو اليهود وهو الإنسان المعتبر الجدير بالاحترام، بينما الآخرين أقل منه منزلة بحسب درجتهم في سلَّم الأعراق، وبهذا بدء ظهور الدول القومية الأوروبية على أساس وحدة الدين والعرق وبرر هذا التعالي والعنصرية الحراك الاستعماري الأوروبي وما كان التذرع بأنَّ الاستعمار كان إهداء لقيم التحضُّر للشعوب المستعمرة إلا تكرارًا لذريعة التبشير ولكن بصياغةٍ علمانية.

ومع اتساع التجارة وتنوعها وتدفق السلع إلى أوروبا بدأت الرأسمالية في الظهور وساهمت رؤوس الأموال المتكدسة والقوى البشرية في تحقيق مشاريع عملاقة لم يكن يحلم بها سابقًا، وبدأت الأرستقراطية الأوروبية في اكتساب المزيد من القوة بالخروج من ضيق أراضيها المتنازع عليها إلى رحابة المستعمرات، وتضخمت ثرواتها فاستطاعت ممارسة وظيفتها كمحركٍ وداعمٍ للثقافة والحضارة من خلال دعم الفنانين والمبدعين والعلماء والمفكرين فبدأ عصر النهضة على أيديهم، وقد لاحظ الباحثون تزامن عصر النهضة الإيطالية مع توسُّع العائلات الكبرى في التجارة مع الدولة العثمانية فكوَّنت ثروات ضخمة مكنتها من التنافس على دعم الفنانيين والحرفيين، ولقدرتها المالية التي مكنتها من الترف وتطلب التميز دعمت الأرستقراطية الأوروبية الصناعات الدقيقة المكلفة حتى تحصل على منتجات متميزة مرتفعة الجودة وإن كانت مكلفة للغاية؛ ولكنها ضربت مثلًا للطبقات الأقل حظًا تحتذي به فتحسَّن الذوق الأوروبي وارتفعت معايير الجودة التي يتطلبها الأوروبي في مطعمه وملبسه ومشربه وظهرت الشركات التجارية الضخمة التي تستثمر المستعمرات مستعينةً بجيوش وأساطيل خاصة بها لحماية تجارتها ومكتسبات مستعمراتها، فظهرت شركة الهند الشرقية الهولندية التي حكمت العديد من المناطق التجارية، وبعدها شركة الهند الغربية الإنجليزية التي تفوَّقت عليها نجاحًا وإجرامًا.

ولمّا أصبحت الأساطيل وسيلة السيطرة على البحار ومن ثم تكوين المستعمرات وإدارتها فقد بدأت الأساطيل الأوروبية في التضخم، وسرعان ما دخلت على الساحة أساطيل جديدة تنافس الإسبان والبرتغاليين وعلى رأسها الأسطول البريطاني.

وبدء البرتغاليون استخدام الرقيق في زراعة قصب السكر وإنتاج السكر بغرب إفريقيا، ثم البرازيل لتبدأ حمي خطف واسترقاق الأفارقة الوحشية ليكونوا الأيدي العاملة الزراعية في الأراضي الشاسعة الجديدة، وعندما انتقلت المحاصيل من الأمريكيتين إلى أوروبا كان على رأسها البطاطس، وتحول المحصول الذي رفضه الأوروبيون في البداية إلى مصدر غذاءٍ أساسي، خاصة للطبقة العاملة التي تضخمت وزاد السكان بسرعةٍ فائقةٍ مما كان عاملًا هامًا في الثورة الصناعية التي بدأت في بريطانيا التي تضافرت عوامل وجود الفحم كوقودٍ مع الاستقرار السياسي وموارد المستعمرات وكثافة السكان في كونها البوتقة التي خرجت منها الثورة الصناعية التي امتدت لسائر أوروبا، وأدّى تضخم القوى العاملة واتساع المستعمرات إلى ظهور الجيوش النظامية الضخمة.

ومع بداية القرن الثامن عشر بدأت الاختراعات الحديثة في الظهور فظهر دولاب الغزل الذي غيَّر وجه صناعة الغزل والنسيج تمامًا، وتصبح أولى الصناعات المعتمدة على الميكنة، ثم المحرك البخاري الذي منح الصناعة انطلاقتها الكبرى واعتمدت عليه وسائل المواصلات الحديثة من قطارات وسفن بخارية.

ومع بزوغ الرأسمالية بدأت تظهر أخلاق المجتمع الصناعي والتجاري، فأكسبت الحقبة الصناعية المجتمع الأوروبي النظام والترتيب واحترام المواعيد ودقتها في المعاملات،  وتقدَّم الطب بسرعةٍ فائقةٍ معتمدًا على التجارب على البشر والتشريح الذي جرى على الأحياء حتى من الشعوب المستعمرة والطبقات الأكثر فقرًا؛ الأمر الذي لم يكن الأطباء المسلمون يجترئون عليه لتصادمه مع المعايير الأخلاقية والقيم الدينية.

ومع عالمية التجارة وانتشارها ذاعت الأخلاق التجارية حيث أن الالتزام بالأعراف التجارية من الصدق والتعامل بحسن نيةٍ وعدم الغش والأمانة والالتزام بالوعود هو ما يعطي التاجر الائتمان الذي يحتاج للاستمرار في السوق،  فإن لم يلتزم بهذه الأخلاقيات انهارت سمعته التجارية، ويطرده السوق ومجتمع التجار، وكذلك تضامن العمال والحرفيين في نقابات لها أعرافها ومعاييرها الأخلاقية، فأصبحت هناك حزمة من الأخلاقيات المستمدة من العلاقات الاقتصادية والتجارية وليس من الدين؛ لتمثل دفعةً قويةً في اتجاه العلمانية.

ومع الثورة الصناعية تغيرت أوروبا وأعيد تشكيلها ثقافيًا وطبقيًا، وأصبح رجال المال والأعمال فرسان هذا العالم الجديد، والذي وإن كان نصيب القوى الإسلامية منه ضئيلًا للغاية؛ فقد كان دورها في تكوينه أكبر بكثير مما يعترف به.

محتوى هذا المقال مستقى من كتاب (المسكوت عنه في التاريخ الإسلامي)

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: أحمد فتحي سليمان

تدقيق لغوي: مرح عقل

اترك تعليقا