بؤس الحضارة الغربية

الغرب كما رآه رينيه جينو (عبد الواحد يحيى)

توطئة

وُلِدَ رينيه جينو من رَحِمِ الحضارة الغربية، وتلقَّى علومَها وفلسفاتِها كما تلقَّاهَا غيرُه من أقرانه، ولكنَّه كان يعيشُ قَلِقًا خائفًا، يشعر أنه يعيش مجموعةً مُتَكَاثِرَةً من الأوهام المُتضادَّة، وكانَ يتساءل دائمًا عن إمكانية ردِّ كل هذه الحوادث إلى سِرٍّ واحد، وعن وجودِ مبدأٍ عُلْوِيٍّ واحد يُهَيْمِنُ على ما دونه؛ حتى توصَّلَ إلى أنَّ هذا التشظِّي تقفُ وراءَه وَحْدَةٌ كاملة، وبهذه الوَحْدةِ يمكن للحوادث أن تجتمع رغم تكاثُرِها.

لذا يمكن القولُ أنَّ المسألة التي كانت تشغلُ عقلَ رينيه جينو -منذ أن أدركَ حقيقةَ الموجودات، وأنها ليسَتْ شيئًا في ذاتها- هي مسألةُ الوَحدة والكثرة. هذه المسألة التي شغلَتْ عقلَ كثير من المفكرين والفلاسفة كانتْ شُغْلَ جينو الشاغل. ولكن، ماذا نعني بالوحدة والكثرة؟ إنَّ المقصودَ بالوَحْدَةِ: قيامُ الشيء بذاته واستقلاليَّتُه عن الغيرِ، والقول بها يُمَكِّنُنَا من تفسيرِ كثرةِ المَوْجُودَاتِ بإرجاعها إليه. أما الكثرة فالمقصود منها: بيان كثرةِ الموجوداتِ، وعدم إمكانيةِ إرجاعِها إلى مصدرٍ واحد؛ أي القول بجواهر عديدة.

نظرة على مفهوم الحقيقة عند رينيه جينو

كل ما عدا الله زيف

وحتى نفهم نقد رينيه جينو للحضارة الغربية علينا أن نعرف أولًا أنه كان ينتمي إلى التيار الفكري المدافع عن رؤية تراثيَّة باطنيَّة، هي أقرب إلى روح العرفان والتصوف الذي يستلهمُ عناصرَ يستقيها من مختلف الديانات والتيارات والمذاهب، خاصةً تلك التي أنتجتها ثقافات الشرق القديم منذ قرون خلت.

والسؤال: كيف كان ينظر جينو إلى الحقيقة؟ كان جينو يرى أنَّ حقيقة الحقائق هي الله، وما كلُّ ما في هذا العالَم من صوَر إلا تَجَلٍّ من تجلياته سبحانه؛ فهو الحق، وما عداه ظِلال؛ زيف ووهم. إنَّ طالبَ الحقيقةِ لا ينبغي أن يرسف في أغلالِ الصور؛ فالصورة مهما تكن فهي قيد ينافي الإطلاق، وليس بعد الحقِّ/الله إلا الضَّلال.

يقول ابن عطاء الله السكندريّ:

إعلان

فالكائناتُ مرايا الصفات.

وَحْدة الحقيقة

والحقيقة في عين جينو واحدةٌ لا يمكن أن تَتَعَدَّد أبدًا، وإن تعدَّدَتْ في ألفاظ الناطقين بها؛ فإنَّ جوهرها واحد. ذلك لأنَّ العين إن كانت مُتَّحِدَةً، فجوهر الماء واحد، وإنما تختلف الطعومُ باختلاف القوابل؛ لذا لا ينبغي أن يغترَّ عاقل باختلاف ألفاظ الناطقين.

بحقيقة من الحقائق أنَّ ذلك يستوجبُ اختلافًا في الحقيقة نفسِها. وحقائق الحقائق في نظره لا تعني غير المعارف الإلهية، ولا طريق إلى نَيْلها إلا من خلال الرياضة والمجاهدة والخلوة. وقد لا يحسنُ أن يُورِدَ العارفُ كلَّ حقيقة وقف عليها عن طريق عرفانه؛ جلبًا لمصلحة أو درءًا لمفسدة لو ظهر عليها العامَّة، أو لأنَّ اللغة لا يمكن أن تُحِيطَ بها أصلًا.

والآن، بعد هذه الإطلالة على فكر جينو، فلنشرع في موضوع المقال؛ وهو النقد الروحيّ -إن صحَّ التعبير- للحضارة الغربية كما ارتأى أسامة شفيع السيد أن يسمِّيَه.

نقد رينيه جينو للحضارة الغربية: جينو نقيضُ المادية الغربية

نقدُ مقاتل

كان جينو ناقمًا على الحضارة الغربية نقمةً ربما لا تجد مثلها عند غيره؛ فقد أقام حربًا شعواء ضدها، وتَمَثَّلَ صورةَ الفارسِ الذي لا يكادُ يهْدأ سيفُه أبدًا. إنه ذلك الفرنسي الذي كان يعصف بالحضارة الغربية عصفًا، ولا يبالي أن يصفها بالشذوذ، وبأنها لا تشغل في التاريخ مكانًا متميِّزًا. انبرى جينو للنقد الجذري والعنيف للحضارة الغربية الحديثة والمعاصرة، وكان جلُّ نقدِه يتمحور حول كونها حضارة ماديَّةً مفرطة في هذا التَّوَجُّه، يتجلَّى هذا النقد بوضوح في ثلاثيَّتِه الأساسيَّة المُتَكَوِّنَة من المؤلَّفَاتِ التَّالية: “أزمة العالَم الحديث“، “الميتافيزيقا الشرقيَّة“، “الشرق والغرب“.

كتاب “الشرق والغرب” بمثابة جمع وتلخيص لأفكار رينيه جينو

ولأنَّ كتاب “الشرق والغرب” أشبه بفهرس موضوعي إجمالي لأعمال رينيه جينو جميعها؛ فإنني سأعتمد عليه بشكل كُلِّيٍّ في عرضِ وجهة نظر هذا الميتافيزيقي حول الغرب وحضارتِه. ينقسمُ كتابُ الشَّرق والغربِ -بعد المقدمة- إلى قسمين كبيرين، يضمُّ كل واحد منهما أربعة فصول. وإذا أردنا أن نُجْمِلَ الخُطَّةَ العامَّةَ لصاحِبِهِ قُلْنا: إنَّ نهجَهُ في ترتيب فصوله أشبه بنهجِ الصوفية في تربيتهم المريد؛ فيبدأ في القسم الأول (أوهام غربية) بتخلية العقلية الغربية مما رسخ فيها من أباطيل، ثم يشرع في القسم الثاني (وسائل التقارب) في التَّحلية بذكر السبيل التي يراها إذا ما أُرِيدَ للغرب والشرق أنْ يَتَقَارَبَا، وهذا مُجْمَلُ الخطة العقلية من وراء تقسيم الكتاب كما رآها مترجمُه أسامة شفيع السيد.

أوهامُ الغربيِّينَ وأوثانهم

والحق أنَّ الكبرَ خصلة غربيَّة خالصة.

– جينو

يرى الغربيون أنَّه ما ثم إلا نمط واحد من البشر، وأنه ما ثم إلاحضارة واحدة هي الحضارة الغربية، وهي في ماديَّتِها وكبرها الزائف تُباينُ غيرها على نحو شاذ وغريب. تقبع تلك الحضارة تحت نَيْرِ الماديَّة لا تكاد تجاوزها، وهي إذْ تُحاوِلُ أنْ تسد احتياجًا بشريًّا، فهي تخلق مائة احتياج آخر مكانه. وهكذا يبقى الإنسان الذي يعيش في ظلِّها محتاجًا دائمًا؛ وهذا سر من أسرار تعاستها الخاصة وبؤسها العميق. إنها “تسعى إلى تكثير الحاجات المُصْطَنَعةِ، وهي لم تزل آخذةً في خلق حاجاتٍ جديدةٍ لن تستطيعَ إشباعها“. وهي بعدُ ترى بعض الآراء، وتعتقد بعض الاعتقادات وترى فيها الحقَّ المطلق، ولا تكتفي بالإيمان بها فحسب، ولكنها تُبَشّرُ بها وتحاول فرضها على الآخر بكل طريقة ممكنة.

يقول جينو: “وقد بدأ بعضُ الناس يدركون أن الأمور لا يمكن أن تجري على هذا النحو إلى أجل غير مُسَمّى، بل بدؤوا يَتَحَدَّثون عن إفلاس هذه الحضارة، كما لو كان أمرًا ممكنًا“.

وحَذَّرَ قائلًا: “ومن تأمَّلَ التَّطوُّرَ المستمر في وسائل الدمار، والدور الذي تؤديه في الحروب العالمية، وتأمل كذلك التوقُّعات المُقْلِقَة التي تبعثها في النفوس بعضُ المُخْتَرَعَاتِ، لم يُنكِرْ إمكانَ وقوعِ كارثة.. والحق أنَّ الحال التي انتهينا إليها لا تُعْوِزُ إلى كثير من الخيالِ لتصوُّرِ الغربِ وقد حَلَّ به الدمارُ، إما بسبب حرب هائلة، وإما بآثار غير متوقعة لمُنْتَجٍ -إذا أُسِيءَ استعماله- لا أقول: مصنعًا ولا مدينة، ولكن قارة بأكملها“.

قام جينو بِعَدِّ ثُلَّةٍ من الأوثان التي أقام الغربيُّون على عبادتها، وبعض الأباطيل التي اعتقدوا بها، وحاول حصرها في ثلاثةِ محاورَ: الحضارة والتَّقَدُّم، وَالاغترار بالعلوم الحِسِّيَّة والعقليَّة، وَطبيعة الحياةِ على النَّمِطِ الغربيِّ.

والآن، فَلْنتناول كلَّ واحدٍة منها على حِدَة.

وَهْمُ الحَضَارَةِ والتَّقَدُّم: شذوذ الحضارة الغربية وسلوكها مسلكًا ماديًّا مَحْضًا

حضارة أحادية

يرى جينو أنَّ الحضارة الغربية هي الحضارة الوحيدة التي تنفرد دون غيرها بأنها تسلك مسلكًا ماديًّا محضًا، وأنَّ هذا التَّقَدُّم الغربي في الجانب الماديِّ منه قد صاحبَه انحطاط روحي يقابلُه؛ فجهلوا معنى الفكر الخالص؛ ذلك الفكر العرفانيّ الذي يعلو فوق جميع معارفهم. ولم يكتفِ الغربيُّون بهذا الجهل، ولكنه لم يعد يساورهم شكٌّ في عدم وجوده أصلًا، وهذا سرٌّ من أسرارِ زرايتِهم على الحضارات الشرقية جميعِها، بل لم تقتصر هذه الزراية على الشرق فقط، ولكنها شملتْ عصورَهم الوسطى كذلك. من أجل ذلك يراها جينو حضارةً أحاديَّةً؛ تفتقد المعاني الروحيَّة، وينبغي عليها إن أرادتْ خلاصًا أن تتوق نفسُها إلى الميتافيزيقا الحقَّة التي ستُحقِّقُ نوعًا من التَّوازن المطلوب.

وَهمُ التَّقَدُّم

[إنَّ] جميع ما ينتسبُ إلى المنظومة الروحيَّة أَنْفَسُ من جميع ما ينتسبُ إلى المنظومةِ الماديَّة.

– جينو

إنَّ ما ينكره رينيه جينو على هذه الحضارة أنَّها أهملت الجانب الروحيَّ إهمالًا أدى إلى شقائها الخاصّ، ولا شكَّ أنه سيؤدي فيما بعد إلى وقوعها في أزمة تنذر بزوالها واندثارها. فالتَّقدُّم من المنظور الغربي لا يعني غيرَ التطور الحادث في جانبه المادي فحسب؛ هذا الأمر الذي جعلهم ينكرون كل معنى/تَجَلٍّ آخر للحضارة، ومن ثم التنكُّر لمن خالفها من أصحاب الحضارات الأخرى. وقد كان من الأجدر بها، وهي الحضارة الشابَّةُ، أن تجلس من الحضارت الشيخة الأخرى مجلسَ التلميذ من الأستاذ بدل أنْ تشيح عنها بوجهها.

إنَّ هذا الفهم التعيس للحضارة لم يؤدِّ إلى أزمة في العالم الغربي فقط، ولكنه كان وبالًا على العوالم والحضارات الأخرى التي لا ترى رأيَ الغربيين؛ إذْ حاول الغربيون فرضَ هذا الفهمِ الماديِّ عليهم وإنْ بالقوة! يفسِّر جينو هذا الأمر بأنهم “محمولون– على الرغم منهم- على أن يزِنُوا الآخرَ بميزان أنفسهم“.

حضارة شاذَّة

يقول جينو: “وإنْ تعجب، فعجب دعوى كونِ هذه الحضارة الشَّاذَّة نمطًا لجميع الحضارات، واعتدادُها النموذج الأمثل للحضارة، فضلًا عن كونها الوحيدة التي تستحق الاسم. وقد بلغ هذا الباطلُ غايتَه بإيمانِ أصحابِها بالتَّقَدُّم، بعد أن خلعوا عليه معنى مطلقًا؛ فبات من الطبيعيِّ أن يكون مرادفًا في حقيقتِه لذلك التَّطوُّر الماديّ الذي استغرق كل جهود الإنسان الغربي الحديث“.

إنَّ ما تجهله الحضارة الغربية أنَّ الحضاراتِ كثيرة ومتنوعة، وأنها يفيد بعضها بعضًا، وأنَّ كل حضارة لها مسارها الخاصُّ الذي تتخذه، وهي تتقدم تارةً وتتراجع أخرى، بل ربما وقع لها التقدم والتراجع في زمانين مختلفين.

إنَّ التقدم الغربي المزعوم لا يعني في حقيقته إلا التقدم المادي فقط، وهو تقدم غير ذي بالٍ إذا ما قورن بالمعارف الروحية أو الميتافيزيقا الحقة، بل إنه غير ذي بالٍ إذا ما قورنَ بما يريد هو أن يعرفه حول العالم الطبيعي؛ فهذا التقدم المادي ليس موجودًا في حقيقته إلا في نطاق الحدود التي أظهرنا عليها الواقع فقط! فلا هي وَفَّتْ روحَ الإنسان حقَّها، ولا هي أشبعتْ حاجاتِ جسده.

يقول جينو: “إن العالم الحديث دَيْدَنُه تَوهين المنطومة الروحية (أو حتى اندثار الفكر العرفاني جملةً) والمغالاة في شأن المنظومتنين المادية والشعورية، وهذا هو الذي أحال الحضارة الغربية الحالية حضارةً شاذَّة، إن لم نقل: مسخًا“.

إنَّ الحلَّ الوحيدَ من وجهة نظره حتى يقبلَهم الناسُ، وحتى يتخلَّصوا من بؤس مادِّيَّتِهم، أنْ يتخلَّوا عن فكرة الاستيعاب وفَرْض أنفسهم على أنهم الحضارة التي لا يأتيها باطل أبدًا، وأن يتحلوا بالمشاركة الحضارية في جميع المجالات، ويرى جينو أنَّ “إنجاز هذا يقتضي نوعَ تغيير في عقلية [الغربيِّين]“.

الاغترار بالعلوم العقلية والحسية: إنكارُها أيّ علم لا يقوم على العقل أو الحسّ

إنَّ العلمَ الغربيَّ علم جاهل!

– أحد الهندوس

يشرح جينو قولَ هذا الهندوسي بعدما أورده فيقول: “إنَّ علوم الغربِ تنطوي على بعضِ الحقائق؛ لأنها مفيدة ونافعة في بعض المجالات النسبية، ولكنها محدودة بما لا انفكاك لها عنه؛ إذ هي جاهلة بالجوهريِّ، مفتقرة إلى المبدأ“.

أنكرتِ الحضارةُ الغربيةُ كل علم صِرف يجاوز طورَ العقل والحسِّ؛ فلم يتجاوزوا الظاهر الخارجيَّ والبراني من هذه الحياة، وأضحوا يرفلون في المذاهب البشرية، ولم تُبارحْهم تلك النزعة العلموية التي تنكر الفكر الخالص إنكارًا تامًا. يرى جينو أنَّ كلمة العلم “Science” لا تكاد تصمدُ أمام البحث والتحقيق، وأنه إذا ما أُعْمِلَ فيها مِبْضَعُ الدرس من قريب، فإنها توشك أنْ تفقد مكانتَها؛ لأنها كلمة فخمة، ولكنها جوفاء.

رفع الغربيون شعار “البحث الحر” عاليًا، والذي يعني ضمن ما يعنيه إهدارَ كل مبدأ عَلِيٍّ يسمو على الآراء الشخصيَّة؛ مما أدَّى إلى نوع من الاضطراب الفكري، وإلى ظهور هذه الكثرة الكاثرة من المذاهب والفلسفات التي تعتمد على العقل أو الحس أو الشعور لا غير، وتَتَنَكَّرُ لما فوق ذلك أو دونه!

يقول جينو:

وإذا ما جهل [الغربي] ما وراء هذا العلم وهذا العقل، جاز أن يتوهم أن لهما الأفضلية المطلقة.

خُرَافَتَا العلم والعقل الغربيَّيْنِ

العقل وانحصار المعارف في النسبي

ما دام الفكرُ، فمن المُحَالِ أنْ يطمئنَّ العقلُ ويسكن.

-ابن عربي

يرى رينيه جينو أنَّ العقلانيَّة الحديثة بدأتْ مع ديكارت، ثم ظهر أثرُها في الفلسفة الحديثة كلها. نعم، أدركَ ديكارت وجود إلهٍ، ولكنه في نفس الوقتِ قام بتحديده، ولم يعترف بأداة تجاوز طور العقل؛ فليس وراء المعقول غير اللامعقول! ولأنَّ “ما أنتجه الفكرُ من معرفة الله لا يُعَوَّل عليه” كما يرى ابنُ عربي، فإن جينو يرى أنَّ الميتافيزيقا التي قال بها ديكارت ميتافيزيقا زائفة، وليست من الميتافيزيقا الحقة في شيء؛ لأنَّ الميتافيزيقا “هي المعرفة بمبادئ المنظومة الكليَّة التي يستندُ إليه جميع ما عداها ضرورة، مباشرة أو على نحو غير مباشر“.

يرى جينو إذن أنَّ العقل محدود ونسبي، ولكنه لا يجعله عِدْلًا للبصيرة، ولا يراه حتى واحدًا من مراتبها الدنيا، بل إنه يرى أنَّ لهذه البصيرة إمكانات أخرى تفوق تلك التي للعقل بما لا يتقارب!

إنَّ مشكلة الفلسفة -التي تعتبر العقلَ وتمنحه امتيازات كبيرة- أنها تحاول دائمًا أن تُعَيِّنَ الموجودَ، وأنْ تُحدِّدَ المعرفةَ وتضع لها إطارًا لا يُتَجَاوَز، بل حاول بعضُهم حصرَ المعارفِ في النِّسْبِيِّ، ككانط الذي تجرَّأ فأعلنَ صراحةً أنَّ “الفلسفة ليستْ أداة لإدراك المعارف، ولكنها مجال لتحديدها“.

النزعة العلموية والقصور العرفانيّ

إنَّ العلمَ -في رأيِ مُعَاصِرِينا -ليس إلا دراسة الظواهر المحسوسة فحسب، وهم يُجرون هذه الدراسة على نحو لا يمكن معه أن يصل ما بينها وبين أيِّ مبدأ من منظومة أعلى. إنَّ العلمويِّين يتخيلون أنَّ الإنسان لم تكن له قطّ غاية من المعرفة سوى شرح الظواهر الطبيعية. يرى جينو أنَّ سبب ذلك تحيُّزُهم بغير وعي وعجزهم التامّ عن إدراكِ إمكانِ المُضِيِّ أبعد من ذلك!

يُشَبِّه جينو إنكار الغربيِّين وجودَ علم يتجاوز طور الحسِّ، بالعِميان الذين أنكروا وجودَ النور؛ لأنهم لا يستطيعون رؤيَته. أما قولهم بوجود ما لا يمكن للعلم أن يبلغه؛ فهو في حقيقته إقرار بالجهل، وما كان عليهم إلا أن يقولوا أننا لا نعلم وكفى، لا أننا لا يمكن أن نعلم.

إنَّ جينو لا يرى أنَّ تطوُّرَ العلومِ الغربية شرٌّ في ذاته، ولكنه ينكر تلك المغالاة التي تُناطُ به؛ فهو لا يعدو أن يكون مجرَّدَ عِلْمٍ نسبيٍّ، ولكنه علم على أيِّ حال. إنَّ ما يُعابُ على العلمويِّين -في رأيه- تلك النزعة الحصرية التي هي ضرب من التعصب الأعمى الذي أسكر هؤلاء؛ فجعلهم ينكرون أن ثمة شيئًا وراءها.

العلم الغربي تحليل وتشتيت.

– جينو

إن العلوم الغربية -في رأي جينو- قد وقفتْ عند السطح لا تجاوزه؛ لذا فإنَّ خسارتها الحقيقيَّة تكون أشدَّ فدحًا في المضمون والعمق. وهي رغم تَشَظِّيها إلى هذه الكثرة التي لا حدَّ لها من المعارف الجزئيَّة، وفي استغراقها في تفاصيلَ لا تُحْصَى من الوقائعِ، لم تُدركْ حقائق الأشياء؛ فوصفت هذه الحقائق بالتَّأَبِّي على الإدراك والفهم؛ تبريرًا لعجزها في هذا الشأن. ويبدو أن أكثر فوائد هذه المعارف عملية، لا نظريَّة. وليستِ التَّخصُّصات العلمية الكثيرة التي يتغنَّى بها الغربيُّون إلا تعريفًا للقصور العرفاني الذي يعتري العقل العلمي الغربي.

يقول جينو: “وخلاصة القول أنَّ العلمَ – إِذ جَهِلَ المبادئ وأبي التَّعَلُّقَ بها- قد حُرِمَ أمنعَ حصن كان يمكنه اللياذُ به… ولم يَعُدْ يُعَوَّلُ عليهِ إلا في المعارفِ التَّفصيليَّة؛ فإذا أراد أن يرقي عن ذلك درجة داخله الشكُّ، وتعثرت خطاه“.

مراتب العلوم عند جينو

وقبل أن نغادر هذا القسمَ يجدرُ بنا أنْ نعرج على مراتب العلمِ ودرجاته كما فهمها جينو.

إنه يُقَسِّمُ العلومَ إلى ثلاثة أقسام: علم العقل، وعلم الأحوال، وعلم الأسرار. أما علم العقل؛ فهو كل علم يمكن تحصيله بالنظر في دليل، وهو المُعَبَّرُ عنه بالمنظومة العقلية، وإليها تُنْسَبُ جميع علوم المُحْدَثين ومذاهبهم الفلسفية والفكرية. وأما علم الأحوال؛ فهو العلمُ الذي يتحصل عن طريق الذوق، كالعلم بحلاوة العسل، ولذَّة الجماع، وهو ما دون علم العقل، ومجاله عالَم الطبيعة، أو جزء صغير منه. وعلم الأسرار: هو العلم الذي فوق طور العقل، وهو علم نَفْثِ رُوحِ القُدس في الرُّوع؛ أي القلب، وتُمَثِّلُهُ المنظومة الميتافيزيقية التي يصفها جينو بأنها جامعة وكلية. لذا لم يكن عجيبًا أن يَعُدَّ جينو علمَ الأحوال أدنى مراتب العلوم، وأن يكون علمُ الأسرار أعلاها، وأن يتوسط علمُ العقل بينهما.

ونختم هذا الجزء بقول جينو: “[إنَّ] العقلانيَّةَ، والحدسية، والوضعيَّةَ، والبراجماتيَّة، والماديَّة، أو المذهب الروحي، والنزعة العلموية أو الأخلاقية [لدى الغرب]، كل هذه المذاهب سواء عندنا، لا خير في الانتقال من واحد منها إلى آخر، ومن لم ينفض يديه منها جميعًا؛ فهيهات أن يخطو حتى الخطوة الأولى في مجالِ الفكر الحقيقيّ، وإنا لنجهرُ بذلك صراحة”.

ديمومة الحياة: انعدام المعنى والمَبْدَأ

بين الثبات والتَّغَيُّر: إِلْفُ الغربيِّ حالة اللاثبات

ولأن الحضارة الغربية لا تقوم على مبدأ يوحِّدُها، ولأنها أَلِفَتْ هذا التغيُّر والتَّشَظِّي؛ فإنَّها تعتقد أن الثَّباتَ يعني نبذَ كل تغيُّر، وأنه منافٍ للتطور والتقدم، بل وتعتقد أن ديمومة التغير الذي تعيشُه ضرب من ضروب التقدُّم، هذا الذي يراه جينو ضربًا من ضروب التَّخَبُّطِ وعدم الاهتداء إلى سبيل سواء! لذا تراه يرى أنَّ الثبات على مبدأ جامع لا يعني التخلُّف وعدم المُضيِّ قُدُمًا، ولكنه يعني قصر التغيُّرِ أبدًا على ما كان تكيُّفًا للظروف، ولا يؤثِّرُ على المبادئ العليَّة قطّ.

إنه يُفَرِّقُ بين الثبات والجمود، والعقل الغربي لا يستطيع أن يفرِّقَ هذا التفريق؛ لأنهم عاجزون في العموم عن الفصل بين الفهم والخيال، ولأن عقولهم لا تستطيع الانفكاك عن المادِّيَّاتِ أبدًا. يقول جينو: “ليس الثابتُ ما دابَرَ التَّغَيُّرَ، ولكن ما سَمَا فوقَه؛ كما أنَّ ما فوق العقل ليس هو اللامعقول“.

حركة لا تَتَوَقَّف: ديمومة التَّحرُّك دون جهة أو معنى

يصف جينو الحال التي يؤدِّي إليها هذا الاضطراب وعدم الثبات فيقول: “يبدو وكأنَّ التغيُّر والتَّقلُّب طبع [الغربيِّ] ودَيْدَنَهُ، فكأنَّه منذور للحركة التي لا تَتَوقَّف، وللاضطراب الذي لا قرارَ معه. وهو مع هذا لا يطمع أن يفارق هذه الحال، بل إنه عجز عن تحقيق توازنه في نفسه، فحمله العجزُ على إنكار إمكان التوازنِ نفسه، أو على إنكار كونه مما يُطْمَعُ في تَحَقُّقِهِ، ثم لا يزال كذلك حتى تملأَه الخُيلاء بهذا العجز!“.

إنَّ الغربي يرى أنَّ مجرد السير في أي اتجاه وإنْ كان خبطَ عشواء كافٍ لأنْ يبعث في النفس اليقين في التَّقدم؛ فأنا أتقدم وأتطور لأنني أسير وأمشي! ينعي جينو هذه الحال فيقول: “والحاجة إلى القيام بنشاطٍ خارجي، وبذل المجهود للمجهود، بقطع النظر عما يُجْتَنَى من ثماره، كل هذا غير معهود في الإنسان -أو في الإنسان الطبيعي على الأقل- وفقًا للمأثور عنه في كل زمان ومكان، ولكنه أصبح مألوفًا -بوجهٍ من الوجوه- عند الإنسان الغربي“.

إنَّ الغربي الآن يبحث لمجرد البحث؛ فالبحث عنده شهوة مُتَّخَذَة غاية في نفسها، دون الالتفات إلى أن يُفضي إلى غاية ما. فبينما يبحث الناس بغية الحصول على شيء، يبحث الغربيُّ في أيامنا هذه لمجرد البحث. يفسر جينو هذا الأمر بأن السبب وراءه أن الغربي يطلق لفظ الموت على كل ما ينتهي إلى غاية محددة، ويطلق لفظ الحياة على كل ما كان اضطرابًا عقيمًا. هذا الأرق العقلي أحال العقل الغربي إلى شيء تعيس ينكر فكرة الحقيقة جملة؛ لأنه لا معنى للحقيقة أصلًا.

ولم يمكث هذا الاضطرابُ إلا وقد ألقى بالإنسان الغربي في موج مُتلاطم؛ فلم يعد يعرف الثبات والهدوء، وأصبح انعدام اتِّزانِه قانونًا في نفسه، وأضحت أمواجُ الشقاء تعتوره من كلِّ مكان، وأمستْ الحياةُ في عينيه عبئًا عليه، وباتتْ لا معنى لها في أصلها؛ لأنه لا شيء ثابت البتة!

يقول جينو:

استغرق الولوع بهذا التَّقَدُّم -شيئًا فشيئًا- جميع ملكاتِ الإنسانِ؛ فجعل نورُ البصيرةِ يخفتُ تدريجيًّا، إلى أن بلغ الحالَ التي نراها اليوم، ولعلَّ الأمر يزداد سوءًا.

خاتمة:

هكذا صور رينيه جينو بؤس الحضارة الغربية وتعاستها، وهو لا يزدري من شأنها ويستخفُّ بها لمجرد الاستخفاف، ولكنه أراد أن يوقفها على أسباب بؤسها، ويحذرها من مغبة ذلك، ويمد إليها يد المساعد الخائف عليها؛ فهو في النهاية غربي وإن تنكَّر للغرب بسبب الحال التي وصل إليها. انظر ماذا يقول بلغة الشَّفُوقِ الخائف: “والذي نعنيه -في الجملة- تحقيق إصلاح كامل للروح الغربية، وهذه هي الغاية التي نسعى إليها“. إنَّ ما كان يسعى إليه صاحبُنا هوتجنيب الغرب الأخطار الحقيقية التي لا يلتفت هو إليها، والتي سيزيد تهديدها له مع الأيام“.

والآن، في رأيك أيها القارئ الكريم: هل كان جينو مُحِقًّا في نقده؟

المصادر:

1- موسوعة الفلسفة الإسلامية، المجلد التاسع، مقال: الوحدة والكثرة، ص 1034 2010، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية.
2- مجلة الدوحة، مقال: رينيه غينون: الافتتان بحكمة الشرق، ص 63، عدد أغسطس 2019.
3- الشرق والغرب، رينيه جينو (عبد الواحد يحيى)، ترجمة وتقديم وتعليق: د. أسامة شفيع السيد، ص 13، دار مدارات للبحث والنشر، 2018.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: عبدالعاطي طُلْبَة

تدقيق لغوي: تسنيم محمد

اترك تعليقا