الرعب الرعب!

بقلم: خوسه أنتونيو مارينا

هكذا تنتهي “قلب الظلام“، رواية جوزيف كونراد عن استغلال ليوبولد الثاني (1835م-1909م) ملك بلجيكا للكونغو. أمّا ملك البلجيكيين الحالي فقد انضمّ إلى حركة المُراجعة التاريخية مُظْهِراً “عميقَ ندمِهِ لجروح الماضي”، وهو يقترحُ التفكُّر في الفترة الكولونيالية/الاستعمارية لكي تكون “ذاكرتُنا في سلام لا ريب فيه”. هذه المُراجعات النقدية تكون باليةً إذا حاكمت وقائع ماضية بعقليّة راهنة، لكنَّ معرفة الأهوال المُرتكَبة يمكن أن تعلِّمنا الكثير عن السّلوك الإنسانيّ.

التاريخ هو تجربة البشريّة، وسيكون من السُّخفِ ازدراؤه، بل  يجب أن نعرفه ونفهمه ونتعلّم منه؛ كلُّ مستوًى يستند على سابقه: معرفته تقتضي امتلاك أقصى ما يمكن من المعلومات الموضوعية، وفهمه هو معرفة الأسباب التّي أنتجت الأحداث، والتَّعلُّم يعني استخلاص عِبَرٍ من ذلك الفهم قابلة للتّطبيق في سياقات أُخرى. يسمّي تودورف Tododrov  ذلك بـ “التاريخ المثالي“.

كان فولتير محقًّا: “التاريخ لا يتكرر أبدًا، أما الكائنات البشرية، فدائمًا”. هذا ما يفسّر الاختلاف والتّشابه في الأحداث الإنسانية. بعد دراسة الكفاح الطويل في سبيل الكرامة، أعمل الآن على الجانب السّفليّ: تاريخ عدم الحساسية البشرية، والقسوة، والانهيارات الأخلاقية، وإنّها لكثيرةٌ إلى درجة أنّه ظهر معها تخصّص نفسيّ-تاريخيّ يُسمّىatrocitología/atrocitology، يسعى لتفسير الفظاعات البشريّة.

أيقظ موت جورج فلويد مرةً أُخرى المراجعة التاريخية. حدثت على مدى التاريخ تصرّفات فظيعة، وفي بعض الأحيان، بعد سنوات كثيرة من حدوثها، طالب المنحدرون من ضحاياها بالاعتراف، وأحسّ  وارثو مرتكبيها بأنّهم مضطرون لطلب الصّفح. في عام 2015م، أثناء رحلة إلى بوليفيا، طلب البابا الصّفحليس فقط عن إساءات الكنيسة نفسها، بل عن الجرائم بحقّ الشّعوب الأصليّة التّي حدثت أثناء ما يُسمّى فتح (غزو) أمريكا“. في فرنسا، ولسنوات طويلة، صوّرت الرواية الرّسمية الاحتلال النازيّ على أنّه تاريخ مقاومة شجاعة، مخفيةً التّعاون القويّ  من قِبَلِ حكومة فيشي وآلاف من الفرنسيين، وهذا ما كان سببًا في طلب الرّئيس الفرنسي جاك شيراك في عام 1995م الصّفحَ من المواطنين اليهود عن السّلوك الفظيع للحكومة الفرنسية إبّان تلك السّنوات الرّهيبة، كما أنّ حكوماتٍ ألمانيّة مختلفة طلبت الصّفح عن فظائع الرايخ الثالث.

تمثال سيسيل رودس

إعلان

قبلت جامعة أكسفورد إزالة تمثال سيسيل رودس Cesil Rhodes مؤسّس روديسيا وشركة الألماس De Beers. ويعتقد الكثيرون أن شخصًا أو حكومة أو مؤسسة لا يجب أن تطلب الصّفح عن أفعالٍ لمْ تكن مسؤولةً عنها، وأنّ سحب التماثيل أو مظاهر التّكريم يعني تغييرًا للتّاريخ. في إسبانيا، توجد حالة نموذجية. هل ينبغي علينا أن نهدم وادي الشهداء؟ من وجهة نظر اجتماعيّة أعتقد أنّ الأهمّ سيكون معرفة الأحداث والمظالم والتّجاوزات، وفهمها، واستخلاص العِبَرِ. أتفق مع عميد أكسفورد كريس باتن Chris Patten، الذي أكد بعد قبوله إزالة تمثال رودس أنّ حركة المراجعة، اذا لم تُرِد أن تصبح مُمَارَسَةً للنّفاق، فإنها ينبغي أن تمضي متبوعة بـ “نقاشٍ حول مسائل أكثر جوهريّة تؤثّر على -حياة السّود مهمة Black Lives Matter-، كالتّعليم والصّحة. عندما نراجع تاريخ الاستعمار الأوروبيّ لأفريقيا، لا يتعلّق الأمر كثيراً بالتّعويض الماليّ عن عمليات النّهب، لأنّ تقييمها سيكون عسيرًا، بل يتعلّق بالاعتراف أنّ تاريخ قارَّتَيْنا كان مُتّحدًا خلال قرون، وأنّنا يجب أن نقدّم لأفريقيا المساعدة من أجل التّطور الذي لم توفّره في حينها الدّول المُستعمِرة.

إنّ التّاريخ هو تجربة البشريّة، وكما يحدث في التّجربة الفردية، لا ينتج آليًّا أيّة معرفة قابلة للاستفادة منها، ويلزم جهد كبير لفهمهِ. يُشير تزفيتان تودوروف Tzvetan Todorov إلى أنّ معرفة الحقيقة التّاريخية هي السّلاح الأكثر فعالية لمحاربة الفلسفة الشّمولية؛ لأنّ هذه تُبْنَى دائمًا انطلاقًا من إرادتها في تزييف الوقائع، وهو يدعو ب“التاريخ المثالي” استخدامَ المعرفة التاريخية بوصفها “مبدأ عمل” في الحاضر.

تقدّم لنا حالة ليوبولد الثّاني مثالًا  جيّدًا، فقد تمكّن عبر الخداع والحيل الدّبلوماسيّة وشتّى أنواع التّعاون، من الاستحواذ على أراضي الكونغو الشّاسعة. حتى عام 1908م لم تكن الكونغو مُستَعمرة بلجيكيّة، وإنّما مُلكِية شخصيّة للملك، وكان هاجسه هو استخراج أقصى فائدة مُمكنةٍ، ويُقَدَّرُ أنّ أكثر من عشرة ملايين إنسان ماتوا خلال السّنوات التّي أدار فيها الكونغو شخصيًا. أمّا  أسباب الموت فكانت ثلاثة: القتل المباشر، والموت جرَّاء سوء المعاملة، والأمراض. إنّها الأسباب نفسها التّي فعلت فعلها في الاستعمار الإسباني لأمريكا، كما كان قد لاحظ الرّاهب الفرانسيسكاني( fray Toribio de Motoliní 1482-1569).

وكذلك في إبادة الشّعوب الهنديّة في أمريكا الشّماليّة. التّاريخ يتكرّر.

يبدو مثبتًا أنّ الدّافع الأكبر لليوبولدو الثّاني كان الجشع المُتنكّر – بوصفه ثابتًا في جميع السّلوكيات الامبريالية- بالنّوايا الخيريّة والحضارية وحتّى الدّينية. من الواضح أنّ الجشع يجعل القلوب قاسية، لكن هناك في هذه الحالة عناصر مشتركة مع إبادات ومجازر وعمليّات قتلٍ جماعيّ أُخرى.  في المقام الأول: تجريد الضّحية من إنسانيتها، التّي تُحْرَم من أيّ شرط إنساني، بمساواتها مع الوحوش. ثانيًا: التّعوّد على الوحشية، وإخفاء الهوية، وطاعة السّلطة، والطّابع البيروقراطيّ للمَهمّة، كما أشار إلى ذلك بريمو ليفي “Primo levi” متحدّثًا عن المعسكرات النّازية، فالموظّف الذّي يَمتَثِلُ للوائحَ لا يشعر بأنّه متأثّر بعواقب عمله، فواجبه هو تنفيذُ الأوامر بكفاءة. هناك أيضًا ثابتان آخران صادمان يحدثان في جميع المجازر، أحدهما “توحّش – brutalization” المشاركين، والآخرُ هو عدم حساسيّة المجتمعات.

“التّوحش Brutalization: مفهوم تأريخيّ مهم صاغه المؤرخ الأمريكي-الألماني جورج موسه George L.Mosse، في عمله: من الحرب العظمى إلى الشمولية- توحّش المجتمعات الأوروبية، المنشور عام 1990م، لتفسير التّعوُّد على العدوانية والعنف.

جانب آخر مثير للقلق هو ما سمّاه ويليام جيمس  William James “العطلات الأخلاقية”. إنّها رغبة في الهروب من صرامة الأخلاق، وفي إطلاق العنان لوحشيّةٍ مقموعة. أمّا عالِم الأعصاب نورمان دويدج Norman Doidge، فيوجز الحالة ببلاغة:

الحضارة هي مجموعة من التقنيات يتعلم من خلالها دماغ الصياد-الجامع إعادة تنظيم نفسه. وهذا التوازن الهش بين الوظائف العقلية “العليا” و”الدنيا” يتحطّم عندما تنفجر حروب بين الأشقّاء تخرج إلى الضوء فيها الغرائز الأكثر وحشية وبدائية، وتتحول السرقة والعنف والقتل إلى شيء يومي. ونظرًا لأن الدماغ البلاستيكي يمكنه دائمًا أن يحملَ وظائف كان قد وحَّدَها على الانفصال، فإن العودة إلى البربرية ممكنة دائمًا، والحضارة ستكون على الدوام شيئًا هشًا وضعيفًا ينبغي تَعلّمَه في كل جيل، كما لو أنه شيء جديد.

(Doidge, N.: El Cerebro se cambia a sí mismo, Aguilar, Madrid, 2008, p.295).

هذه “العطلات الأخلاقية” كانت واحدة من عوامل الجذب لأولئك الذين ذهبوا إلى المستَعْمَرَات. عبَّر عن ذلك روديارد كبلينغ Rudyard Kipling في قصيدة له:

أرْكِبوني  في السفينة واحملوني إلى مكان

حيث يستوي الأفضل والأسوأ،

حيث لا توجد الوصايا العشر

ويمكن لرجل أن يوقظ عطشه.

لا ريب في أن ليوبولد الثاني كان مذنبًا في المذابح التي ارتُكِبَتْ بموافقته، لكن أيضًا كان هناك تعاون عامّ؛ فالاستعمار “باحتقاره لحقوق الإنسان” كان مقبولًا تمامًا. يكفي التفكير في الطريقة التّي وزّعت بها القوى الكبرى أفريقيا فيما بينها كما لو أنّها -(res nullius- الممتلكات المباحة)- أرض اللاأحد، وذلك في مؤتمر برلين، الذّي دعى إليه بسمارك عام 1894م. الشّيء نفسه حدث في غزو/فتح أمريكا أو في استعمار الغرب الأمريكي.

من واقع أنَّ تصرفات بغيضةً اعتُبِرتْ مرّة تلو أُخرى تصرّفات عادلة، يمكننا استخلاص عبرة بليغة: ينبغي علينا أن نُخضِع أدلّتنا الظّاهرة لنقدٍ صارم، للحيلولة دون السّقوط في سلوكيّات رهيبة وفي انهيارات أخلاقية.

أعتقد أنّها حجّة جيدة من أجل دراسة التّاريخ، وإن حركات المراجعة التاريخية لتجبرنا على فعل ذلك؛ ولهذا، على الرغم من التجاوزات، علينا أن نرحّب بها.

نرشح لك: حين يصبح القلم ثائرا ضد الاستعمار و العنصرية

*خوسه انتونيو مارينا: فيلسوف وكاتب وأستاذ جامعي من إسبانيا.
رابط الأصل الإسباني:
https://biografiadelahumanidad.com/genealogia-del-presente/el-horrorel-horror/

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: رنا داود

ترجمة: زياد الأتاسي

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا