الهندسة الوراثية: هل هي أخلاقية (مترجم)

تعد الهندسة الوراثية واحدة من أكثر الموضوعات شيوعًا وإثارة للجدل في عصرنا الحالي. فما هي إيجابيات ومثالب الهندسة الوراثية؟ وهل تتعارض منجزاتها مع الأخلاق؟

في الوقت الحالي، تعتبر الهندسة الوراثية واحدة من أكثر التقنيات تقدمًا فيما يتعلق بالدراسات العلمية للكائنات الحية. حيث تمكننا من التدخل في الشفرة الجينية للكائنات العضوية (بما في ذلك البشر) و تغييرها. وبناءً عليه أصبحت مثارا للنقاشات المحتدمة بين المتخصصين في مختلف المجالات، وكذلك مثارا للنقاشات بين عامة الناس، والمنظمات الدولية، والمشرعين في مختلف البلدان.

فمن ناحية، يمكن للهندسة الوراثية إنقاذ البشرية من الأمراض الخطيرة، وخطر الجوع، وسوء التغذية المزمن. ولكن، من ناحية أخرى، قد تخلق العديد من المشكلات الأخلاقية والقيمية والفلسفية. ومن هنا ينشأ السؤال سالف الذكر: ماهي إيجابيات وسلبيات الهندسة الوراثية؟ وهل تتعارض مع الأخلاق؟

مناقب ومثالب الهندسة الوراثية:

يمكن تعريف الهندسة الوراثية على أنها عملية معالجة الجينات الخاصة بكائن حي لتغيير خصائصه. ويمكن القيام بذلك إما من خلال إدخال حمض نووي جديد إليه أو إزالة أو استبدال عدد من الجينات الموجودة، وذلك بهدف خلق كائنات عضوية ذات سمات مرغوبة، مثل مقاومة الأمراض، القدرة على تحمل الظروف البيئية المتطرفة، أو زيادة الإنتاج.

وتعتبر الهندسة الوراثية بمثابة تقنية حديثة نسبيًا، وعلى هذا النحو فهي لاتزال تتميز بالإتقان. فعلى سبيل المثال، تمكن العلماء حتى الآن من تحقيق نجاحات ملحوظة، مثل إنتاج الأرز الذهبي المُعَزز بفيتامين A للمساعدة على الوقاية من العمى في الدول النامية.

إعلان

ومع ذلك، حدثت بعض الاخفاقات المثيرة للجدل، مثل تلك المحاولات التي جرت لإدخال جينات بشرية في الحمض النووي لفأر.

مناقب الهندسة الوراثية للمحاصيل الزراعية والبشر:

تعتبر الهندسة الوراثية بمثابة أداة قوية يمكن من خلالها تحسين جودة إمداداتنا الغذائية. فمن خلال تعديل جينات المحاصيل يمكننا جعلها أكثر مقاومة للآفات والأمراض، كما يمكننا إنتاج أنواع جديدة من المحاصيل أكثر ملائمة لظروف المناخ والتربة لدينا.

علاوة على ذلك، يمكن استخدام الهندسة الوراثية في إنتاج أدوية وعلاجات جديدة للأمراض. كذلك يمكننا تعديل جينات الخلايا بحيث نجعلها أكثر قدرة على مقاومة ومنع انتشار، بل وعلاج، الكثير من الأمراض، مثل السرطان، على سبيل المثال، حيث لعبت الهندسة الوراثية دورا كبيرا وفعالا في علاجه من خلال هندسة الخلايا المناعية، بما أدى إلى حدوث تحسن كبير ونقلة نوعية في معدلات النجاة في عدة أنواع من السرطانات.

كذلك يستخدم العلماء الهندسة الوراثية في تطوير علاجات جديدة لفيروس نقص المناعة “الإيدز” والعديد من الفيروسات الأخرى.

وهكذا، من خلال فهم كيفية عمل الهندسة الوراثية، يمكننا إنتاج العديد من الأدوية الجديدة التي تستهدف أمراضا بعينها. كما يمكننا أيضا  استخدام الهندسة الوراثية في إنتاج اللقاحات والعديد من المنتجات الطبية.

مجمل القول، يمكن لهذه التقنية أن تسهم في إنقاذ حياة عدد لاحصر له من البشر و الكائنات الحية.

مفهوم “مابعد الإنسانية” كتحدٍ عميق للأفكار التقليدية عن الحالة الإنسانية:

مع التطور الكبير للهندسة الوراثية، اكتسب مفهوم «مابعد الإنسانية-Transhumanism» المزيد من الإهتمام في الثقافة الشعبية. ومع الوقت انتشر هذا المفهوم على نطاق واسع من خلال عمالقة التكنولوجيا مثل «إيلون ماسك-Elon Musk» و « مارك زوكربيرج-Mark Zuckerberg».

ولكن، ما الذي يعنيه مفهوم مابعد الإنسانية؟ وما الذي ينطوي عليه من مفاهيم فلسفية؟

«مابعد الإنسانية-Transhumanism» هو بالأساس حركة فلسفية واجتماعية تسعى إلى استخدام التكنولوجيا لتحسين القدرات الجسدية و الذهنية للبشر. حيث يرى مؤيدو هذا الاتجاه أنه باستخدام التكنولوجيا في رفع قدرات أجسادنا وعقولنا، يمكننا التغلب على الكثير من القيود المفروضة على الحالة البشرية، بما في ذلك المرض و الشيخوخة، وحتى الموت.

للوهلة الأولى، قد يبدو مفهوم مابعد الإنسانية أمرا بعيد المنال، ومع ذلك فهو متجذر إلى حد بعيد في تاريخ الطموح الإنساني نحو تحسين البشرية. ولقرون عدة، قمنا باستخدام التكنولوجيا لتعزيز قدراتنا الجسدية، بدءا من اختراع العجلة، وصولا إلى تطوير الأطراف الصناعية. وخلال السنوات الأخيرة، بدأنا أيضا في استخدام التكنولوجيا لتحسين قدراتنا العقلية، من خلال العديد من الأجهزة والوسائل التقنية مثل الهواتف الذكية والساعات الذكية.

ومع ذلك، فإن ” مابعد الإنسانية” تمثل تحديا عميقا لأفكارنا التقليدية حول الحالة الإنسانية. وبينما نواصل تطوير تقنيات جديدة تمكننا من تغيير حالتنا الإنسانية، سيكون علينا التعامل مع بعض التساؤلات الفلسفية الصعبة حول معنى أن نكون بشرا.

أطفال مُصمَّمون : البشر المعدلون وراثيا:

تعد فكرة الأطفال المُصمَّمون أو المعدلون وراثيا بمثابة موضوع شائك ومثير للجدل في عالم الهندسة الوراثية. حيث يرى البعض أن الآباء يجب أن يكون لهم القدرة على اختيار سمات أطفالهم، بينما يرى البعض الآخر أن هذا من شأنه أن يفضي إلى معضلات أخلاقية خطيرة.

ويشير مصطلح “الطفل المُصمَّم-Designer Baby” إلى الطفل الذي يتم انتقاء جيناته اصطناعيا لإنتاج سمات بعينها. ويمكن أن تتم تلك العملية باستخدام مجموعة متنوعة من الطرق، إلا أن الطريقة الأكثر شيوعًا هي التشخيص الوراثي ماقبل زراعة الجينات “PGD”.

ويعد التشخيص الوراثي ماقبل الزراعة عادة بمثابة إجراء يتم  لفحص وتحديد الأمراض الوراثية. ومع ذلك يمكن استخدام هذا الإجراء أيضا لاختيار سمات معينة للأجنة مثل لون عينين معين أو لون الشعر، أو غيرها من السمات الجسدية المرغوبة.

وهناك العديد من الطرق المختلفة التي يمكن للأبوين من خلالها تكوين طفل مُصمَّم. فعلى سبيل المثال يمكنهم استخدام الفحص الجيني إما لتكوين أجنة ذات سمات مرغوبة، أو لتغيير جينات أطفالهم بعد الولادة.

ومع ذلك، هناك أيضا مخاطر مرتبطة بهذه الطرق، منها على سبيل المثال إحتمال حدوث عواقب غير مقصودة نتيجة عملية التغييرات الجينية، أو اكتساب الطفل لسمات لايستطيع الأبوان السيطرة عليها.

علاوة على ذلك، يرى البعض أن التعديل الجيني للأطفال خطأ من الناحية الأخلاقية، نظرا لما ينطوي عليه من تلاعب في جينات الأجنة.

بينما يرى آخرون أن التعديل الجيني للأطفال من شأنه أن يكون له آثار إيجابية، مثل الحد من احتمالات الإصابة بالأمراض الوراثية.

ماهي الآثار الأخلاقية المترتبة على تكوين ” أطفال مُصمَّمين-Designer Babies “؟

مع انتقال تقنيات تكوين أطفال مصممين إلى مستويات أكثر تعقيدا، أصبحت العواقب الأخلاقية لمثل هذه الممارسة أكثر وضوحا على نحو مطرد. فبينما يرى بعض الآباء أن تكوين أطفال مصممين يعد بمثابة وسيلة لضمان اكتساب أطفالهم لأفضل الجينات الممكنة، يشعر آباء آخرون بالقلق بشأن الآثار المترتبة على لعب دور الرب في الحياة الإنسانية.

كذلك تولدت عن فكرة تصميم الأطفال العديد من الأسئلة الجوهرية تتعلق بعدم المساواة الإجتماعية؛ فإذا كان الآباء الأثرياء بإمكانهم توفير الأموال الكافية لتكوين طفل معدل وراثيا يتمتع بالضرورة بصحة أفضل ومستوى ذكاء أعلى من أقرانه، فما الذي يعنيه ذلك بالنسبة لمستقبل البشرية؟ ألن يؤدي ذلك إلى توسيع الهوة بين من يملكون المال ومن لايملكونه، مما يخلق مجتمعا غير متساوٍ؟

علاوة على ماسبق، توجد مخاوف من احتمالية استخدام هؤلاء الأطفال المصممين لخلق “بشر خارقين” أقوى وأسرع وأكثر ذكاءا من بقيتنا. وقد يفضي ذلك إلى إنتاج شكل جديد من تحسين النسل، حيث يستطيع الأثرياء دون غيرهم تحمل تكاليف تكوين أطفال معدلين وراثيا، بما قد يؤدي لمزيد من تفاقم عدم المساواة الإجتماعية.

في الواقع ، فإن التبعات الأخلاقية لتبني ممارسة تكوين أطفال مصممين معقدة وبعيدة المدى. ومع اقترابنا من جعل هذه التقنية حقيقة واقعة، ينبغي أن يتم فتح المجال أمام مناقشات مفتوحة وصادقة حول الآثار المترتبة على تكوين بشر معدلين وراثيا، وإلا فقد نجد أنفسنا وقد صرنا في مستقبل لايرغب أي منا في العيش فيه.

أخلاقيات الهندسة الوراثية للحيوانات والنباتات:

كذلك أدت تقنيات الهندسة الوراثية المستخدمة مع الحيوانات إلى ظهور عدد من الإشكاليات الأخلاقية. حيث يسعى العلماء دوما إلى تحقيق الربح عبر تكثيف عمليات الإنتاج بتطبيق أساليب الهندسة الوراثية لتحسين بعض سلالات الحيوانات. ومع ذلك فإن مثل هذه التجارب الجينية تنطوي على قسوة مفرطة؛ فعلى سبيل المثال، أدى جين النمو البشري الذي تم إدخاله على الحمض النووي للفئران إلى ظهور خلايا سرطانية بها، حيث يوجد تقارب بين “جين النمو” و “جين السرطان”، فهل تعد مثل تلك الأساليب مقبولة من المنظور الأخلاقي؟

أما فيما يتعلق بالهندسة الوراثية للنباتات، فهي، لحسن الحظ، تنطوي على إشكاليات أخلاقية أقل ،لكنها تظل موجودة. فالتجارب المتعلقة بخلق نباتات هجينة من كائنات حية أخرى تمثل إشكالية مثيرة للقلق من الناحية الدينية. فعلى سبيل المثال، هل من الجائز أخلاقيا تناول أطعمة نباتية تحتوي على جينات حيوانية أثناء الصيام؟ هل من المقبول تناول أطعمة معدلة وراثيا تحتوي على جينات بشرية؟ أم أن ذلك يدخل ضمن ممارسات “أكل لحوم البشر-Cannibalism”؟، هل يمكن اعتبار الأغذية التي تم نقل جينات من الخنازير  إليها بمثابة لحم خنزير؟ فإذا كان الأمر كذلك، ألا يعد تناولها محرما من منظور الأديان التي تحرم أكل لحم الخنزير؟

الدين في مواجهة الهندسة الوراثية:

يمثل الدين الأرضية الأقوى لرفض الهندسة الوراثية، ولهذا فلا عجب أن تأتي أغلب المقاومة والرفض لجميع تقنيات الإنجاب الحديثة من معتنقي الأفكار الدينية. بل إن هذه المقاومة متجذرة بعمق في الأعراف الدينية الأساسية.

فوفقا للتعاليم اليهودية المسيحية، خُلِق الإنسان على “صورة” الإله و “هيئته”  (سِفر التكوين 1:26-27)*. مما يعني، وفقا لبعض المفسرين، كل من الطبيعة الممنوحة للإنسان وكماله، أي الهدف الذي ينبغي عليه السعي لتحقيقه؛ ومن وجهة نظر مفسرين آخرين فإن “الصورة” و “الهيئة” مترادفان.

وبناءً عليه، فإن الإنسان يُشَبَّه بالإله في أنه، وقبل كل شيء، مُنِح سلطة على الطبيعة (مزمور 8)، وكذلك نال “نفحة الحياة”**. وبهذا صار الإنسان “نفْسًا حية”، أي شخصية حية تحمل وحدة القوى الحيوية و ال” أنا” الخاصة بالشخص. أي أن الروح والجسد تم تمييزهما كشخص في وحدة عضوية (على عكس الثنائية الفلسفية اليونانية التي فرقت بين النفس والجسد)

ويعتقد البعض أن الهندسة الوراثية خطأ من الناحية الأخلاقية لأنها تتعارض مع مشيئة الله للبشرية، ويرون أننا إنما نلعب بالنار من خلال تبديل وتغيير جينات الكائنات الحية وأن ذلك من شأنه أن يفضي إلى عواقب كارثية على كل من الإنسان والبيئة.

في حين يرى آخرون أن الهندسة الوراثية تعد أداة يمكن استخدامها لتحقيق صالح الإنسان وأنها قادرة على مساعدتنا في حل بعض المشكلات الأكثر إلحاحا في العالم، مثل الجوع والمرض.

الحكم النهائي: هل الهندسة الوراثية أخلاقية ؟

في الوقت الحالي، ترتبط مجموعة واسعة من المشكلات بتطبيق الهندسة الوراثية والتي باتت تغطي تقريبا كل المجالات الأساسية لحياة الإنسان ونشاطه. وهنا تظهر المعضلات الأخلاقية والمعنوية، مما يثير العديد من النقاشات المحتدمة داخل الأوساط العلمية وخارجها.

وبعد، هناك الكثير من الآراء المختلفة حول ما إذا كانت الهندسة الوراثية أخلاقية أم لا؛ حيث يرى البعض أنها أداة مفيدة يمكن استخدامها لتحسين حياة الأفراد الذين يعانون من أمراض وراثية، بينما يرى البعض الآخر أنه من الخطأ أخلاقياً محاولة “اللعب مع الإله” و إحداث تغيير في الحمض النووي للشخص .

ومع ذلك، فإن طائفة واسعة من تلك المعضلات الأخلاقية لاتزال تتطلب تكييفاً جديدا لها مع الواقع المحيط. حيث تتمثل المهمة الرئيسة للهندسة الوراثية في المقام الأول حتى الآن في توفير أقصى قدر ممكن من الفائدة، سواء في النمو العقلي أو الجسدي للإنسان، مع عدم الإضرار بالإنسانية.


ملاحظة من المترجم:

*”وقال الله: نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا، فيتسلطون على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى البهائم، وعلى كل الأرض، وعلى جميع الدبابات التي تدب على الأرض.

فخلق الله الإنسان على صورته. على صورة الله خلقه. ذكرا وأنثى خلقهم.

** سفر التكوين 2 الآية 7 ” وجبل الرب الإله آدم ترابا من الأرض، ونفخ في أنفه نفحة حياة. فصار آدم نفسا حية”


المصدر:

https://www.thecollector.com/pros-and-cons-genetic-engineering/

إعلان

فريق الإعداد

ترجمة: هبة الله الجَمَّاع

اترك تعليقا