بين الطريقة المولويَّة لِجلال الدّين الرُّوميّ والباليه

يرى العالَمٌ الآنيّ الشرقَ والغربَ في ثنائياتٍ متضادة، فيبني بينهما جدرانًا من ناحية السلوك الاجتماعيّ والأخلاقيّ بما في ذلك من ذهنياتٍ وجماليات. حيث تصوّر الذات الآخر دومًا على نقيضها، فالشرق عند الغربيّين هو الآخر الذي يتخفَّى بالماضي البعيد، ويُلقي عنه رداء التحضُّر بل يمزّقه ويعترف فقط بقيمٍ بالية وخرافاتٍ اعتقاديّة حسبهم، أمّا الغرب بالنسبة إلى الشرقيّين، فهو الآخر الذي يلبس لباسَ الحداثةِ، ويتدثّر بمعطف التقدّم، لكن كل هذا يفعله من دون قيم وفضائل حقيقيّة، بل سلوكات تنشد الماديّة البحتة حسبنا.

إنّ الفنون والثقافات وأضف إليها العادات والتقاليد يمكن لها هدم كل المتخيَّل السابق في عرضٍْ واحدٍ، فهي تضع الشرق والغرب في عناقٍ طويلٍ يعود إلى ما قبل التاريخ، قبل تأسيس السلطات السياسيّة مع اللّغويّة وكل التسميات المختَرعَة التي جُعلت ماهيةً لهما.
فالشرق تخلُّف لأننا دعوناه بذلك، والغرب انحلال لأنَّنا سميناه هكذا، إلا أنَّ الحقيقة غير ذلك، فالشرق ليس شرق والغرب ليس غرب، أما الفنون، وتحديدًا فنّ الرقص، فهي لا تسمّي، ولا تثرثر، ولا تتّهمُ أحدًا، بل تدع كلَّ شيءٍ لأمورِ القلب والفهم، وتجمعُ كلَّ التجارب داخلَ الأكوان الجسديّة والنفسيّة.

الرقص

يُوصَف الرقصُ على أنّه حركاتٌ إيقاعيّة للجسد، تُمثَّل في العادة مع الموسيقى، وفي فضاءٍ محدّدٍ، بَغيّة التعبير عن الأفكار أو المشاعر، وتحرير الطاقات، أو ببساطة الاستمتاع بهذه الحركات نفسها (1). وبوسعنا وصف الرقص كذلك على أنه تعبيرٌ جسديّ يعتمد على انسيابيّة جسم الراقص وحركاته الرقيقة والعنيفة معًا لدواعٍ دينية ونفسية وفنيّة.

ويعود فن الرقص إلى ما قبل التاريخ، وهو تصوّر بديهيّ ومنطقي، أما إذا أردنا دليلّا ماديًا على هذا الزعم فيمكننا معرفة ذلك في تأمّلِ ما حملته لنا جداريات العصر الحجري القديم حول المجتمع البدائي، وإلى الآن لا تزال عدة قبائل في عدة مناطق بالعالم تمارِس الرقص البدائيّ القديم المليء بالعفوية كنوعٍ من الرقص الشعبيّ أو الفولكلور لدواعٍ سنذكرها لاحقًا، أو لاستحضار ذلك الزمن والمشاركة في الاحتفالات المختلفة.

فالرقص البدائيّ الذي يتعلّق غالبًا بالطقوس المتصلِّة بالولادة والموت والزواج أو تقليد الحيوانات -كانوا يقدّسون بعضها- أو محاكاة قوى الطبيعة، وقد تدوم هذه الرقصات ساعات أو أيام -خاصةً إذا ما تعلّقت بالاحتفالات والطقوس- وقد كان يصاحبه أيضًا موسيقى تُفتَعَل ربما عن طريق الطَرْق على العِظَام والطبول الجلديّة مع الغناء.

إعلان

يتميّز الرقص البدائيّ بعلاقته مع السحر والشامانيّة والأساطير مع الروحانيات، كما أنّ أكثر ما يتسّم به هو في جماعيته، أيّ الرقص الجماعيّ الذي يؤديه رجالٌ أو نساء، و يمكن أن نجده مختلطًا كذلك، ويتبع أحيانًا هذا الرقص ارتداء أقنعةٍ وأزياء خاصة به، وأحيانًا يكون الراقصين عُراة. كما يختلف الرقص في كلِّ طقسٍ -دينيّ كان أو اجتماعيّ أو سحريّ- كطقوس الصيد أو التضحية الحيوانيّة مع احتفالات معيّنة، وقد تُحمَل فيه أحيانًا أدواتٌ معيّنة، مثل الرُمح والعصا، كما يمكن ألّا يكون الرقص في العراء فقط وسط الطبيعة، بل داخل الكهوف أيضًا التي وصلتنا منها عدة جداريات تجسّد صورًا لرقصاتٍ واحتفالاتٍ وسلوكاتٍ بشريّة وحيوانيّة.

أما في العصور الحضارية فقد وصلتنا العديد من النصوص والرسوم التي كانت تُصوِّر الرقصَ؛ حيث نذكر منها بلاد الرافدين، فقد كان الرقص فيها يرتبط كذلك بالطقوس والأساطير، ويؤدَّى أيضًا في الاحتفالات والمواكب. كما كان الرقصُ مصحوبًا في العادة بالموسيقى التي يؤديها كهنة متخصِّصون يُدعون بـ“الكالو”، يعزفون على الغيتار والآلات الوتريّة والطبول في العروض المسؤول عنها الكهنة بالشكل العام، وقد كان الإله الذي علّم الفنونَ للبشر هو الإله “انكي”، إله السحر والماء.

اهتم المصريون أيضًا بالرقص بصفةٍ بالغة، وقد وصلَتنا رسومات ونقوش غزيرة عن عازفين مع عدة راقصين وراقصات. ومن الآلهة الّتي كانت تُعتَبر من رعاةِ الفنون، الإله “تحوت”، مع الإله “بتاح” الذي حظي بلقب “عظيم الفنانين”، وكذلك “إيزيس” في عصر البطالمة، دون أن ننسى الإله القزم “بس” الذي كانت تُؤدَّى له طقوسُ الرقصِ من ضمن عباداته، وكان بنفسه محبًا للرقص والمرح.

وقد حظي الفنّانون من عازفين وراقصين ونحّاتين ورسّامين بأهميةٍ بالغةٍ من المَلِك، رغم انتمائهم للطبقة الدنيا، مثل الملك امنحتب الأول الذي اهتم بهم، كما كان يُمارَس الرقص في احتفالات المصريّين القدماء والأعياد، مثل عيد “سد” الذي يقوم بعد سنوات من اعتلاء الملك للعرش، أو عيد “الوادي” المُتعلِّق بالإله آمون، وقد أعطت الأسر المصريّة -ولاسيما الطبقة العليا في مصر- أهميةً بالغةً للرقص والاحتفالات في قصورها.

أمّا الإغريق فقد بلغ عندهم الفنُّ مكانةً عظيمة، فاهتموا بالفنون، ومنها الرقص بكافة أنواعه، وكانت لهم ربّات الفنون التسع المكلّّفات بها، كما كانت تؤدَّى الرقصاتُ مع الغناء الجماعيّ والموسيقى والتمثيل كذلك، وعرف الإغريق الرقص المصاحب للطقوس الدينية والعروض الأسطوريّة والمسرحيّة، مثلما نرى في طقوس عبادة ديونسيوس، والنساء اللواتي ترقصن بعنفٍ ونشوةٍ بملابسٍ واسعة على نغمات موسيقى المزمار.

لقد حضر الرقص في كلّ مكان حتى في أكثر المجتمعات أرثوذوكسية مثل الحضارة الاسلامية، فٕـ وجود منظومة كاملة تخلق سوقًا للجواري وملك اليمين وتؤطِّره قد سمح لهؤلاء بالمساهمة في الحفاظ على هذه الثقافة الشعبية.

لم نرَ أيّ شطرنج ومع ذلك متنا
لم نشرب رشفةً واحدة ومع ذلك ثملون
-جلال الدّين الروميّ (2).

جلال الدّين الرُّوميّ

ولد الفيلسوف والصوفيّ جلال الدّين محمد البلخي [1207-1273] المعروف بجلال الدّين الرُّوميّ في بلخ بافغانستان سنة 1207م.

كان والده محمد بن الحسين بهاء الدين [1148-1231] عالمًا وصوفيًّا ذائع الصيت، كما أنّ نسَبَ عائلته مجهول؛ حيث يقال بغير وجه دقة أنّ أسرة والده تنتسب إلى الرسول محمد، أما والدته فإلى أسرة خوارزمشاه. أما تلقيبه بالروميّ فيعود إلى سُكناه في الأناضول التي كانت تُسمَّى بالروم. ونتيجة ظروف قاهرة، ربما تعود إلى غزو المغول، سافرت العائلة متنقلةً إلى عدة مدن، منها نيسابور وبغداد ومكة.

رحَلَت العائلة الى الأناضول بعد ذلك، وهناك توفيت والدته في مدينة قرمان سنة 1226م، كما تزوج جلال الدّين من فتاة من سمرقند وأنجب منها ولدين. وبعد أن استقرّت الأسرةُ في مدينة ڨونية تُوفي والد جلال الدّين الرُّوميّ سنة 1231م، وأثناء ذلك تعلّم الابنُ عند عالِم آخر غير والده الراحل، إلى أن غادر إلى سوريا ليواصل دراسته، ويُقال أنه التقى الشيخ محي الدّين بن عربي هناك.

رجع جلال الدّين الرُّوميّ إلى ڨونية مجددًا وهو مُحمَّل بزادٍ معرفيّ وصوفيّ وفقهيّ كبير، وقد علا شأنه أكثر فأكثر، واستقبله طلبة العلم والمعلّمين. وفي سنة 1244م التقى جلال الدين بشمش التبريزي [1185-1248]، ونتيجةً ذلك كان أن صرف كل وقته مع شمس غير مهتم بتلاميذه وعائلته، ويشكّ بعض الباحثين في حقيقة وجود شمس تبريز؛ فالبعضُ يقول أنّه كان رجلًا أميًّا عكس البعض الآخر الذين يرفضون ذلك ويذكرون علاقته بالإسماعيليِّين. ويُسرَد حول لقاء الروميّ مع التبريزيّ عدة روايات مختلفة لا يمكن الوثوق منها بشكلٍ يقينيّ، مع وجود من يرّجح واحدة على أخرى.

ونتيجة سطوة شمس الروحيّة والصوفيّة على جلال الدّين والأثر البالغ الذي أحدثه له، حنق تلاميذه على هذا الوافد الجديد، كما قيل أنّهم تعرضوا له بالأذى؛ ما جعل شمس التبريزي يغادر إلى دمشق. وهناك بدأت أحزان جلال الدّين الرُّوميّ تتمخض على ضوء فقدان صديقه ومرشده، فنزف حبرُه ألمًا على فراقه، وكتب عنه أشعارًا كثيرةً، ومنها هذه الرسالة التي ربما قام بإرسالها أو إرسال رسائل عديدة له، حيث يقول: “أرسلتُ مئة رسالة، حددتُ مئة طريق، فإما أنّك لا تعرف الطريق، وإما أنّك لا تقرأ الرسالة” (3).
عاد شمس تبريز من جديد إلى ڨونية، وقد زوّجه جلال الدّين الرُّوميّ إحدى الفتيات اللاتي ربّاهنّ؛ حتى يبقى بجانبه، حيث عاشا في منزل جلال الدّين، وفي أثناء تلك الفترة شعر أحد ولَديّ جلال الدّين بالغيرة من شمس التبريزي، ونفر منه للمكانة التي احتلها عند والده.

وما بين سنة 1247 و1248م تُوفي شمس تبريز مفارقًا ليس جلال الدّين الرُّوميّ فقط بل الحياة، ويقال أنّه توفي بعد ذهابه إلى سوريا، غير أنّ تحقيق القصة المذكورة كانت على صحتها كما يزعم مدير متحف جلال الدين الرومي بڨونية بعد بحثه، وهي أنّ شمس تبريز قد مات مطعونًا وهو في ڨونية، وأُلقيَ في إحدى الآبار، فتم إخفاء الأمر على جلال الدّين لبعض الوقت.

وأيًّا كانت تفاصيل القصة، فإنّ شمس تبريز قد قُتِل، وألّم مرةً ثانية قلبَ رفيقه، أما ولد جلال الدّين الرُّوميّ، علاء الدّين* [1260] الذي كان يسيء إلى شمس، فقد نال غضبًا من والده، وقد توفي سنة 1260، حيث يُقال أنّ جلال الدّين لم يحضر جنازته.

لزَمَ جلالُ الدّين بيتَه، كما تعرّف على بعض الأشخاص والأصدقاء، فظلَّ مع تلميذه حسن حسام الدين [1226-1285] الذي كان يكتب له مؤلفاته، كما واصل تأليف أعماله العديدة والمتميّزة حتى وافته المنية سنة 1273م مع أعمالٍ ومصنفات عديدة مثل: المثنوي، وديوان شمس تبريز، والرباعيّات.

المعشوق يشعُّ كالشمس، والعشّاق يدورون حوله كالذرات، وعندما يهب نسيم ربيع العشق يبدأ كلُّ غصنٍ رطيبٍ الرقصَ
– جلال الدّين الرُّوميّ (4).

المولويَّة

رسم توضيحي

 

يعود رقص المولويَّة إلى جلال الدّين الرُّوميّ، ولقد رقصَ الرُّوميّ كما يُذكَرُ عنه مع مريديه وأحيانًا لوحده (5). كما كان مهتمًا بالموسيقى التي آمَن بتأثيرِها على النفس، كما كان مُجيدًا لعزفها، وقد تحدَّث عن عدة آلات، منها الناي بالأخص، الذي يرمز إلى الإنسان الكامل* مع الطنبور والطبل والبوق، كما نظَّمَ أشعارًا وقصائدًا بقوافٍ ومقاماتٍ وأصواتٍ موسيقيّة تُعزَفُ (6).

لقد كان قلب جلال الدين الرومي يميل بشدّة إلى الرقص، ولاسيّما الرقص الدورانيّ الذي يدور في حقل المولويَّة، وهو من تأسيسِه، وقد ذكر جلال الدّين الرُّوميّ هذا الرقص في عدة أشعارٍ نظَّمَها (7).

تقوم رمزية الطريقة المولويَّة عند جلال الدّين على دوراتِ العاشق على المعشوق والحضور الإلهيّ في هذا الدوران، كما أنّه يعبِّرُ عن الفراق والوصال والتقارب والتنافر، وأنّ كلَّ الكون يرقصُ رقصًا دورانيًّا حسب جلال الدّين بمخلوقاته ومظاهره وأشكال الحياة فيه، حتى جبل سيناء الذي دكه الله فقد دار من شدة الوجد، أما الأنبياء فقد كانوا كذلك يرقصون وحتى الحلاج قبل صلبه(8).
يقول جلال الدّين “جبريل يرقص في عشق جمال الحق والعفريت يرقص في جمال شيطانه” .(9) وأنّ هذا الدوران ينتج عن حالة من العشق حيث يدور الشخص فيه مثلما تدورُ الكواكب والأفلاك (10).

أما فيما يخص راقص المولويّة، فالتابع الذي ينتسب إلى الطريقة يسّمى بالدرويش، والدرويش هو الشخص الزاهد والمتواضع والبسيط والفقير، حيث يعيش مع الدراويش الآخرين في أمكنةٍ مثل أديرة القساوسة، ويقول جلال الدّين عن الدرويش: “الدرويش من يوزِّع الأسرار الخفية يمنُّ علينا بملكوت، ليس الدرويش من يستعطي خبزًا، الدرويش من يعطي الحياة” (11).

تتألف رقصة المولويَّة من مجموعةِ دراويشٍ قد يصلون إلى خمسة وعشرين شخصًا، كما يرتدون عباءاتٍ سوداء تركِّز على ظلمة القبر، مع رداءٍ أبيض يرمز إلى الكَفَن مفتوحًا من النصف، وقبعات طويلة على شكلٍ مخروطيّ يرمز إلى شاهدة القبر، وكل هذه الرموز حتى تُظهِرُ محدوديّة وتناهي الإنسان الفاني في الحياة، أما رئيس الدراويش الذي يمثل جلال الدّين فيرتدي طربوشًا به عمامة أو منديل أسود يُدعى “الدستار” يرمز إلى السّر الوجديّ الجامع بين الأرض والسماء، وكل هذا والفرقة الموسيقيّة حاضرة مع آلاتها الموسيقيّة (12).

يبدأ الدروايش بالصلاة على النبي، وتكريمه بترانيمٍ كتبها جلال الدين، كما يؤدّون أشعارًا نظمها، ويبدأ الناي بالنشدان المعبِّر عن الحنين والشوق، حتى يبدأ الرقص بأمرٍ من شيخ الدراويش مع عزف الآلات الموسيقيّة الأخرى، وهناك يشرع الدراويش بالدوران عكس اتجاه عقارب الساعة، وعند نهاية الدورة الثالثة يخلعون عباءاتهم السوداء ليبقى البياض فقط والولادة الجديدة المنسلخة عن كلِّ شيء، ثم يقبّلون يد الشيخ الذي ينهض هو بدوره بحيث يمكنه تقبيل قبعاتهم كتقديرٍ لهم إلى أن يعودوا إلى الرقص (13).

أمّا عن حركات الصوفية الجسديّة وهم يرقصون، فهم يضمُّون أيديهم إلى صدورهم ورؤوسهم مُنحنية مائلة على الكتف، ثم ترتفع اليد اليمنى إلى فوق وكأنّها تأخذ البركة من السماء وتمرّرها لليدِ اليسرى التي تكون بالأسفل حيث تعبِّر عن الأرض (14).

يدور الدرويش إذن في المولويَّة ويقلّد حركة الكواكب وكل ذرة من ذات الكون وهو يحاول الوصول إلى المطلق اللامتناهيّ بجسده المتناهي إلى أن تأخذه حالة من الوجد.

فن الباليه هو الفن الأرستقراطي الذي تحبه طبقة الملوك والأمراء، وتجلّى حبّهم في هذا الفن بمشاركتهم في الأداء، بما في ذلك الملك والملكة.
-راجية عاشور (15).

الباليه

رسم توضيحي

 

يعود مسقط رأس الباليه إلى إيطاليا منذ عصر النهضة، وقد كان وليد القصور والاحتفالات المَلَكيّة والبرجوازيّة، ويعني اسم الباليه وهو بالإيطالية: الرقص. وقد مُورِسَ في البداية بشكلٍ جماعيّ غير متقَن (16).

ويعتمد الباليه على حركاتِ السّاقيْن والذراعين، خاصةً في عقوده الأولى قبل تطور حركاته، كما ينبغي على الراقص التمتّع بمرونةٍ جسديّة فائقة وقدرة على التمثيل؛ لكي يعبر عن موضوع ما يقدمه، كما يدور العرض على “الباليرينا” التي هي الراقصة الرئيسية في العرض، وقد اتَّسمَ الباليه في إيطاليا بالدوران الصعب  وحركات اليد العنيفة، مع إلهامه الذي يعتمد على الرقص الشعبيّ (17).

كما يستقي الباليه أعمالَه من الروايات والشعر والأعمال الأدبيّة وكذلك الموسيقى -بالأخصّ البيانو- كما يتكوّن عرضه من ثلاثة أسسٍ، هي: الليبرتو أي السيناريو، والموسيقى، ثم مصمّم الرقصَات (18).

وإلى جانب المدرسة الإيطالية في هذا النوع من الفنّ، هناك المدرسة الفرنسيّة، والتي هي عكس الإيطالية، تتميّز برقصٍ هادئ وجامد بعض الشيء (19)، فبعد صعود الملك فرنسوا الأول [1494-1547] -الذي كان مهتم بالباليه- على العرش، نَقَل فنَّ الباليه إلى بلده، فنظَّمَ له حفلاتٍ راقصة، وبعد قدوم الإيطالية كاترين دي ميديشي [1519-1589] زوجة الملك هنري الثاني [1519-1559] التي كانت تجيده، أقيم أوّل عرض رسمي للباليه سنة 1581م، بدون غض النظر عن لويس الرابع عشر [1638-1715] الذي اعتنى به وأسس أول اكاديمية للرقص (20).

وبعد الثورة الفرنسية لم يعد الباليه رقص الأمراء والملوك والبلاط فقط؛ حيث تغيّر مع تغيُّر أحوال المجتمع، وتطورت حركاته، وامتزج مع الرقص الشعبيّ، وصارت من موضوعاته تجسيد مقاومة الشعب، فكان يُعرَض على المسرح، ويجسّد مسرحيات بأبطال وقصص (21).

لقد كان يُلبَس للباليه في بادئ الأمر ملابس واسعة أو عادية مع إكسسوارات وأحذية عالية، وبذلك فقد كان الراقصون يعانون صعوبةً في الرقص إلى أن تخلّوا عن ارتداء مثل هذه الملابس، فصُمِّمت ألبسة خاصة بهذا الفنّ صارت لصيقة بالجسد، كما ارتدت الراقصاتُ تنورةً قصيرةً بقماشٍ خفيفٍ، ويمكن التخلّي عنها (22).

وكان من بين مؤسّسي الباليه الدرامي -التمثيلي- الذي يعبِّر عن المشاعر والأبطال بالتعبير الصامت وتعابير الوجه كوميديًّا أو تراجيديًّا أو ميلودراميًّا جان جورج نوفير [1727-1810]، وهو بنفسه مصمم الألبسة والرقصات، والذي طالب بتجديد الباليه وجعله فنًّا لوحده من دون إلصاقه دائمًا بالأوبرا والمسرح وتجديده (23)، كما أدخلت ماري كامارغو [1710-1770] قبله القفزات العالية (24).
أما مؤسّس الباليه الرومانسيّ فهو شارل لوي ديلدلو [1767-1837]، حيث رقص أوَّلَ مرةٍ على أصابع القدمين سنة 1814م (25).
ومنذ القرن السابع عشر دخل الباليه إلى روسيا، كما أنشأ بطرس الأول [1672-1725] في القرن الثامن عشر أول مدرسةٍ تخصُّ هذا الرقص، وقد اهتمَّ الروس بالقصص الحربيّة ضد أعداء البلاد، فكان رقص الباليه يجسّد التاريخ الروسيّ والقوميّ أكثر، وقد ازدهر في روسيا، خاصةً مع دخول الموسيقيّ والملّحن تشايكوفوسكي [1840-1893] هذا الفن (26).

انتقل الباليه إلى أمريكا في القرن التاسع عشر، وقد ازدهر بفضلِ عدّة راقصين ومصممين، مثل ايزادورا دينكن [1878-1927] التي تأثرت بالطبيعة وعالم الأزهار والحشرات، وصرّحت قائلةً: “أسمى مراحل الوعي في أكثر الأجسام حريّة” (27)، وكذلك روث دنيس [1879-1968] التي تأثرت بالرقص المصريّ القديم والرقص الهندي، وصممت وأدت بذلك رقصات مثل: رقصة النيل، وأقنعة ايزيس، والابتهال إلى النيل، ورقصة عشتار.
كما أسسّت مع زوجها الراقص تيد شون [1891-1982]  والمصمم الذي صمَّم بنفسه رقصة المولوي المستوحاة من طريقة جلال الدين الرومي (28).

أما الدنمارك فقد ازدهر الباليه فيها منذ القرن التاسع عشر، فاهتمَّ بها الراقصون والمصممون والموسيقيُّون مع الجمهور، كما عرف الباليه الدنماركي تركيزًا على الأدوار الرئيسيّة للرجال أكثر من النساء، كما عرفت إنجلترا هذا الفن وعاش أيامه الذهبية خلال القرن العشرين (29).

يتميَّز الباليه إذن بتنوّعه؛ فهو يعتمد على مطاطيّة الجسد وخفته، كما يمكن تأديته بعدّة أشكال، منها الهادئ والخفيف، ومنها السريع، وبحدةٍ أقوى، مع تحريك الرأس والعضلات وأطراف الجسد بكل حريّة.

إنّ الفنَّ ديانةٌ بلا كهنوت، ومن الخير ألا تودَع الروح الجديدة في أيدي الكهنة، فالروح الجديدة في أيدي الفنانين ذلك خير.
-كلايف بِل (30).

تناغم المولويَّة والباليه

إنّ الفنَّ لا يعترف بشيء يُدعى “تضارب أو تضاد”؛ فحتى حين نجد اختلافات في الفنون، نُلبِسُها ثيابَ الثنائيات، فلا تكون في الحقيقة كما نلمس إلّا تنوعًا أخاذًا يُكمل بعضه البعض، ويجمع الإنسان والكون من كلِّ صوب.

 

يعتمدُ الرقصُ الشرقيّ على الجسّد وحركاته حول نفسه، أو هزه مع ضيق المساحة والتمسك بنقطة معينة أو نُقَط أقل، أما الرقص الغربيّ فيعتمد على تحريك الجسد بكل حريّة في المسافات الواسعة (31).

فالرقص الشرقيّ إذن يعتمد على تحريك أعضاء الراقص وبقائه في مساحةٍ محددة وعدم انتقاله وتحوّله إلى مساحات أخرى يسبح فيها، أما الرقص الغربيّ فيتّخذ مساحات واسعة ويسمح للجسد بالقفز أو الانتقال من نقطةٍ لأخرى، حيث يتحرك كلّه بحريّة مطلقة. وهذا ما نراه في الباليه والمولويَّة، فالأول يكمل الثاني، والثاني يكمل الآخر في فنون الرقص، كما أن جسد الدرويش يدور حول نفسه لفترة طويلة بشكل هادئ أو متسارع قليلًا، كما تكون حركات ذراعيه ورأسه هادئة، طويلة في بقائها، وقليلة جدًا في تغيّرها، أما راقص الباليه فيمكن العثور عليه وهو يدور بجسده بشكلٍ سريعٍ جدًّا وعنيفٍ في الهواء، ويقوم بحركاتٍ غزيرةٍ ومختلفةٍ حتى في رقصه الهادئ والانسيابيّ مقارنةً بالمولويّة، مع تعابير وجهه المتغيّرة والتعبيرية أيضًا.

 

يتّحد الجسد المولويّ حول نفسه ليتحرّر مع الطبيعة والكون، ويتّحد بالمطلق عشقًا، أما راقص الباليه فيستخدم الفضاء الذي يلهو معه بجسده وحركاته ساردًا قصصه المختلفة ومشاعره.

أما ملابس الدرويش الثابتة التي تجسّد رمزَي الموت -كما أسلفنا الذكر- فتعتمد على ابتعادها عن الالتصاق بالجسد وطول تنورته الواسعة التي تصبح في فعل الدوران مثل حلقة بحيث نراها ترقص مثله، حيث تشاركه في الرقص المولويّ، كما كل شيء يدورُ من كواكبٍ ومخلوقاتٍ وأزهار، عكس راقص الباليه الذي يرتدي لباسًا خفيفًا لصيقًا بجسده يتغير لونه أو تفاصيله حسب كل موضوع؛ حتى يغدو حرًّا في تأدية حركاته وقفزاته وكذلك إظهار جسده الذي يحكي لنا في كلِّ حركةٍ ملاحمَ وأفكارًا، كما يمكن أن يتضمن الباليه مؤثرات رقص شرقيّة كما رأينا؛ كونه جامع للإيحاءات ومستَلهِم من الثقافات الأخرى.
إنّ سيد الموسيقى في المولويَّة هو الناي، لكن في الباليه تعود القيادة إلى البيانو، كما كان هذا الفنّ الأخير في بداياته رقص الأمراء والمترفين، عكس المولويَّة التي يتخصص فيها المتصوف الزاهد، وقد صار الآن الباليه كما ذكرنا يخص الجميع.

 

غير أنّ المولويَّة في هذه الأيام نراها متحرّرة من ماضيها و طرق تأديتها، فالكثيرون الآن يتعلّمونها من دون الإنتساب لطريقتها وإنما كعمل وربما نوع من أنواع الفنون والهوايات واحتفالات تُنشِّط ذاكرة التصوّف.
و لقد كان دروايش هذه الطريقة فيما مضى ومنذ بدايات رقصهم رجالًا، مع وجود حالات استثناء إذا وُجِدت حاليًا، وبذلك فإنّ التقليد المولويّ عرف الذكر فقط لا الأنثى، رغم أنّه لا يوجد ما يمنع المرأة من رقصه ربما، مع توخي الصوفيّة الحذر بشأن المريدات المتصوّفات وأجسادهن الأنثويّة التي تُعامَل بحذر أكثر من الرجل.
أما الباليه فكلا الجنسين يؤديّانه معًا بشكلٍ فرديّ كان أو زوجيّ أو جماعيّ، غير أنّ ما نلاحظه في هذا الفنّ الأخير هو التواجد النسائيّ الواضح فيه بكثرة بما فيه أسماء الراقصات اللامعات قديمًا وحديثًا، وتدرُّب الفتيات منذ نعومة أظافرهن عليه أكثر، مقارنة بالرجال، رغم وجود عدد كبير من الرجال يزداد كلما تقدّم الوقت.

 

تعود الطريقة المولويّة لمؤسسها جلال الدّين الرُّوميّ -كما أسلفنا الذكر- بينما لا نجدُ في الباليه مؤسّسًا فعليًّا له؛ فهو مولود من روح الجماعة، غير أنه قد شارك في تشذيبه وتجديده عدة أساتذة رقص لا يزال اسمهم لامعًا في سمائها، وسواءً عرَفَ فنٌّ ما طلوعَه على يد فنّان واحد أم على يد عدة فنانيين وجماعة من الناس، فالاثنان يلتقيان في مسيرةِ الفنون، فجلال الدين الرومي الواحد في الكل إذا صح تعبيرنا الرمزيّ قد أثر على كافة دراويشه، أما جماعة الباليه الذين يمثلون الكل في الواحد فهم الذين نحتوا بما جادوا به من تقنيات وتجديد وتصميم قدرة كل راقصِ باليه.

خاتمة..

يتحرّر الدرويش من جسده وهو يقوم بدورانه وطقوسه الفنيّة التي تنشد الاتحاد بالمعشوق حتى يصل إلى سكره الروحي، أما راقص الباليه فتحررّه حركاته الانسيابيّة الرشيقة أو تحليقه في الهواء أحيانًا مع تعابير وجهه وجسده المتّحد في الكون، والذي يروي لنا تاريخَ الأحاسيس وقصصَ الشعوب والبشر.

كما يقوم الدرويش على الثبات في حركاته رغم دورانها، وما يضعه على جسده فهو المُتغيّر الذي يحاول البحث عن الثبات حتى يصل إلى المطلق الثابت الذي لا يزول، أمّا راقص الباليه فيُغيّر من جلده الاصطناعيّ ولونه حسب كل قصة، مع خفته ورشاقته وهو يحاول سكب أشكال الحياة لنا ومشاعر البشر المتغيّرة، فهو الإنسان الذي يُنشد التغيّر، ولا يمكنه الثبات أيضًا.
إنّ الفن يجمع بين الهدوء والصخب وما يتوسطهما فيغرق في الخطوات المحتشمة والجريئة معًا، ويوفِّق بين الثنائيات المتآلفة التي تخدم الواحدة الأخرى، وهكذا رأيتُ المولويَّة والباليه.

شرح المصطلحات و المفاهيم : 
علاء الدين شلبي تاريخ ميلاده غير دقيق و يقال أنه قبل ميلاد شقيقه 1226م. كما يؤرخ الأفلاكي أنّه يتحمل مقتل شمس تبريز.
الإنسان الكامل : و هو الإنسان الذي يتحرر و يكتمل بالعشق و الفناء ثم الاتحاد مع الله، فروح الله فيه و عليه كذلك أن يفنى في النبي محمد و حقيقة النبوة المحمدية، و هو الشيخ الذي له مريدين يقودهم بروح الله.
عصر النهضة: و هي فترة و حالة شهدت ازدهارا في الفنون و الآداب و الاكتشافات و العلوم من القرن الرابع عشر حتى السابع عشر م. و تعتبر فلورنسا قلب و بذرة عصر النهضة.
مصادر:
1 - https://www.britannica.com/art/dance
2 - الشمس المنتصرة، التكوين، آنا ماري شيمل، ص: 298.
3 - الشمس المنتصرة، مصدر سابق، ص:64.
4 - الشمس المنتصرة، التكوين، مصدر سابق، ص:369.
5 - صفحات من تاريخ فن الرقص في العالم، دار علاء الدين، فائق شعبان، ص:24.
   - الشمس المنتصرة، التكوين، آنا ماري شيمل ص:368.
   - الرمزية التجاوزية في مفهوم الرقص عند مولانا جلال الدين، ص:05. من مجلة الدراسات الأدبية في الثقافتين العربية و الفارسية، العدد 7-8، 2003، ص:115- 132.
6 - صفحات من تاريخ فن الرقص في العالم، مصدر سابق، ص:27.
   - الرقص الصوفي و رمزيات الحركات الراقصة، المولوية نموذجا، مركز بابل للدراسات الحضارية و  التاريخية، جامعة الكوفة، اياد محمد حسين و عامر محمد حسين، المجلد 4، العدد 3، ص: 84.
   - الشمس المنتصرة، التكوين، آنا ماري، شيمل، ص:359، 361، 364، 365، 366، 367.
7 - نفس المصدر السابق، ص:368، 369.
8 - نفس المصدر السابق، ص:369، 370, 371، 372، 374. 
9 - نفس المصدر السابق، ص:371.
10 -الرمزية التجاوزية في مفهوم الرقص عند مولانا جلال الدين، ص:09، 10. من مجلة الدراسات الأدبية في الثقافتين العربية و الفارسية، العدد 7-8، 2003، ص:115- 132.
11 - نفس المصدر السابق، ص:02، 03.
12 - نفس المصدر السابق: ص: 05، 06.
     - صفحات من تاريخ فن الرقص في العالم، مصدر سابق، ص:26.
13 - الرمزية التجاوزية في مفهوم الرقص عند مولانا جلال الدين، ص:06، 07. من مجلة الدراسات الأدبية في الثقافتين العربية و الفارسية، العدد 7-8، 2003، ص:115، 132.
14 - صفحات من تاريخ فن الرقص في العالم، مصدر سابق، ص:26.
15 - تذوق فن الباليه، دار الشروق، د.راجية عاشور، ص:15.
16 - نفس المصدر السابق، ص:13.
17 - صفحات من تاريخ فن الرقص في العالم، مصدر سابق ص:45، 47، 48. 
18 - نفس المصدر السابق، ص:45، 46.
   - تذوق فن الباليه، دار الشروق، د.راجية عاشور ص:47، 48.
19 - صفحات من تاريخ فن الرقص، ص: 48.
20 - تذوق فن الباليه، مصدر سابق ص:14، 15.
21 - نفس المصدر السابق، ص:15 
   - صفحات من تاريخ فن الرقص في العالم، مصدر سابق، ص:48.
22 - نفس المصدر السابق، ص:48.
   - تذوق فنّ الباليه، مصدر سابق، ص:34، 35.
23 - نفس المصدر السابق، ص: 16، 29.
   - صفحات من تاريخ فن الرقص في العالم، مصدر سابق، ص:48.
24 - مجلّة الحياة الموسيقيّة، الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الثقافة، العدد 50 سنة 2009.
25 - نفس المصدر السابق، ص:101
   - صفحات من تاريخ فن الرقص في العالم، مصدر سابق، ص:48، 49.
26 - نفس المصدر السابق، ص: 49 ، 50.
27 - نفس المصدر السابق، ص: 33، 34.
28 - نفس المصدر السابق، ص:35.
     - https://dance.washington.edu/people/ted-shawn 
29 -  تذوق فن الباليه، مصدر سابق، ص:22.
   - مجلّة الحياة الموسيقيّة، الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الثقافة، ص:104.
30 - الفن، رؤية للنشر و التوزيع، كلايف بل، ص: 280.
31 - صفحات من تاريخ فن الرقص في العالم، مصدر سابق، ص: 14، 15.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: سارة عمري

تدقيق لغوي: سلمى عصام الدين

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا