المزرعة الأبويَّة تحرثُ آخر حقل أنثويّ، سقوط المزارع الأخير (2)

(جزء 2)

كان أمرًا اعتياديًّا لدى الرجال والنساء أن يمارسا الجنس معًا بطريقة طقوسيّة عندما يزرعون محاصيلهم إذ من شأن فعل الجماع هذا الذي هو فعل مقدّس أن ينشِّط طاقات التربة الخلّاقة، هذا يشبه تمامًا محراث المُزارع الذي هو بمثابة العضو الذي يفتح رحم الأرض ويملؤه بالبذور.
-كارين آرمسترونغ
(1)

لقراءة الجزء الأول: اضغط هنا

المرأة الحقل

يعتقد البعض أنّ القرآن الكريم هو الكتاب المقدَّس أو النّص الوحيد الذي انفرد بوصف المرأة على هذا النحو (المرأة كحرثٍ يُحرث أو أرضٍ وحقلٍ)، ما ولَّد للعديد من الأشخاص تخبطًا ونقدًا لهذه الآية الآتية، غير أنّه ولكي نفهم جيدًا علينا أن ندرك أنّ القرآن كغيره من النصوص يوجّه خطابا لمؤمني زمانه وما هو شائع لديهم، وخلافًا لما يظنّه الكثيرون، فإنّ المرأة قد وُصِفَت بالحرث أو الحقل في عدّة نصوص قديمة لما للأمر من إيحاءات جنسيّة وكذلك إنجابيّة، ما يشير الأمر إلى علاقتها بالتوصيفات المتعلّقة بالارتباط بالأرض والزرع منذ ما قبل التاريخ الحضاريّ ولنبدأ بالقرآن الذي يقول موجها الخطاب للرجل عن المرأة: «نساءكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم وقدّموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنّكم ملاقوه وبشّر المؤمنين».(2)

يمكن أن نفهم من هذه الآية على أنّها تصبُّ في معنى تنظيم العلاقة الجنسيّة بين الزوجين ولا تعنينا التفسيرات المتعدّدة حول ذلك بل جوهر الموضوع، إنّ الآية هنا لا تخاطب الجنسين بوصفهما البطلين الرئيسيّن لمؤسسة الزواج الجنسي أو العلاقة الحميميّة، بل هي توجه خطابًا للرجل حول المرأة، التي توصف بالحرث لدواعٍ وأسبابٍ معيّنة ذكرناها مسبقا، ولنذهب إلى مثل هذه التوصيفات في مناطق أخرى سواء كانت وراءها أهداف رمزيّة أم تفيد الجسد الأنثويّ وعلاقته بالرجل يمكننا أن نقرأ نصًا كهذا من مسرحية «أوديب ملكا» لسوفوكليس؛ القائل: «آه يا أوديب العزيز النبيل، أهكذا مخدع الزوجيّة شاهد الابن بعد الأب يدخلان في نفس المرفأ الرهيب والحقل الذي حرثه أبوك، كيف احتملك أنت لمدة طويلة ودون تمرد أيّها الشقي؟». (3)

وذهابًا إلى عصور أقدم سنجد مثل هذا القول مذكور في تعاليم «بتاح حتب» الذي يوجّه خطابا إلى الزوج فيما يجب فعله لزوجته: «املأ بطنها وأكسي ظهرها، وأدخل السرور على قلبها طول الوقت الذي تكون فيه لك، ذلك أنها حرث/حقل نافع لمن يملكه». (4)
أما في بلاد الرافدين فيخاطب الإله دوموزي الإلهة إنانا التي كانت تفضّل المزارع انكيمدو عليه هو الراعي، بأنّ صدرها حقل، كما تقول إنانا عن نفسها: «أما بالنسبة لي أنا، بالنسبة لي فرجي أنا التلة المنخفضة فرجي أنا الضبي من سيحرثه لي، فرجي أنا هذه الأرض الرطبة التي هي أنا، أنا الملكة من الذي سيضع فيا ثيرانه للحراثة؟»، ثم يجيبها دوموزي: أي اينين إنّه الملك الذي سوف يحرثك. (5) (هذه النصوص ذات ترجمات حرفية).

إنّ تشبيه المرأة بالحقل والحرث كان شائع في تلك الأيام التاريخيّة المطبوعة بالتشبيهات الزراعيّة والأرضيّة في عدّة نصوص وكذا السائل المنوي للرجل الذي كان يكنّى بالبذور. ناهيك عن مفهوم الإله الثور الذي يجسد القوة والخصوبة الذكريّة والزراعة حيث يمثله الإله فقط لا الإلهة، والذي شاع في ميثولوجيا بلاد الرافدين وكنعان وجزيرة العرب.

إنّ المرأة هنا هي الحقل والحرث، ما يحيلنا الى هذا التصور القديم لها، وبما أنّ القرآن وجميع هذه النصوص وليدة زمانها، تخاطب المخاطب بنفس الوعي الذي يملكه ناحية المرأة في كل فترة، قد أدرج ذلك في خطابه.

إعلان

من الحقل والحرث نذهب إلى الإناء أو الجرّة التي توحي بالماء والسقي والأرض كذلك، ورغم ما في هذه الاقتباسات الدينيّة من لينٍ وعطفٍ على المرأة، غير أنّنا سنركز على المعنى السابق، فها هو الرسول محمد يصف النساء بالقوارير موجهًا كلامه لأنجشة «رويدك يا أنجشة سوقك بالقوارير» (6)، أما الرسول بطرس فيخاطب الرجال أيضا: «كذلك أيها الرجال كونوا ساكنين بحسب الفطنة مع الإناء النسائي كالأضعف معطين إياهن كرامة كالوارثات أيضًا معكم نعمة الحياة لكي لا تعاق صلواتكم».(7)

نستطيع مجددا ملاحظة تحيّز اللغة سواء الترجمة العربيّة أو اليونانيّة أو تعبير بطرس من خلال جملة الوارثات معكم نعمة الحياة بدل من كلمة «معًا» أو أيُّ صيغةٍ أخرى أنسب، ما يحيلنا مرة أخرى إلى ملاحظة نصر حامد أبو زيد حول مشاركة المرأة الهامشيّة التي تتأتّى بعد أخذ الإذن من الرجل.

لا شك أنّ المرأة إذن كانت أشبه بإناء يضمُّ الحياة كما زعم ذلك الباحث السوري فراس السواح فهو يدّعي أنَّ شكل الجرة خاصة في الآثار الأولى التي وصلتنا من صناعتها شبيهة أكثر بشكل جسم المرأة، كما يقول: ومنذ أن تعلم الإنسان النيوليتي صناعة الجرار الفخارية، يُضمُّ الإناء الفخاري إلى جملة رموز الأم الكبرى ذلك أنّ الجسد الأنثوي هو أشبه بوعاء يحرث الذي يتحول في داخله الدم الى حليب يتفجر من فوتة الثدي وبالمستودع الذي تختمر في ظلماته بذور الحياة لتنطلق من بوابة الرحم، وجسد الأنثى الكونيّة هو الجرّة الفخارية التي تحتوي على نِعَم الحياة». (8)

إنّ المرأة إذن شبيهةٌ بالأرضِ والحقلِ وما يمكن أن ترتبط به من خصب وسقي من عدّة نواحٍ رمزيّةٍ وثقافيّةٍ، كما أنّها كذلك في هذه الحالة من وجه الشبه تُعتبر مِلكًا خاصًا بالرجل مثلها مثل الشيء الذي شُبّهت به.

إنّ القول بأنَّ عقل المرأة أقل في كفاءته من عقل الرجل وأنّ الأنثى ليس لديها القدرة على التفلسف يشطر العقل البشري شطرين أو يجعله نوعين منفصلين أو متمايزين، هو قولٌ ظاهرُ البطلان وهو يشبه القضية التي كثيرًا ما أثارها المستشرقون حول إمكانية العقل العربيّ على التفلسف.
-إمام عبد الفتاح إمام
(9)

الدين والنص والفلاسفة

لقد كان النمط الدينيّ الذي تقرُّه السلطة الكهنوتيّة مساهمًا في هذه المهمة التي جعلت المرأة تابعًا للرجل وخاضعةً له، ناهيك عن رعاية معابد الإله وطقوسه القائمة على دور الرجل، فالرجال قد قاموا بتذكير الإله رغم أنهم ينفون ذكورته، وحتى التوجهات الفلسفيّة التي رآها البعض أرقى من أيّ فكر، كذلك انتقصت منها، فها هو جان جاك روسو يجذل العطاء على المرأة الطيِّعة الهادئة التي تسمع كلام الرجل حيث يقول: كلّما كانت المرأة قليلة السلطة، طيِّعة السلوك كلّما كانت مثالًا للمرأة الصالحة. (10)

وها هو الفيلسوف الماديّ ما قبل سقراط بارميندس، يصنّف العالم إلى نوعين من الصفات الوجودية أولها النور؛ وهو المذكَّر والمؤثِّر والفاعل وهو بذلك يمثّل الصفات الإيجابية والوجود والأصل، والنوع الثاني الظلام؛ وهو المؤنث، المفعول به، السلب، المؤثَّر حيث يمثّل الصفات السلبية واللاوجود والفرع. (11)

وغوستاف لوبون، الذي يتحدّث عن مشاعر الجماعات عبر ضرب هذا المثال «،كثير من الصفات الخاصة بالجماعة كقابلية الاندفاع والغضب وعدم القدرة على التعقل، وفقدان الإدراك وملكة النقد والتطرف في المشاعر، يُشاهد أيضًا في الأفراد الذين لم يكمل تكوينهم كالمرأة والمتوحش والطفل». (12)
وأرسطو كذلك يقول: إن المرأة امراة لنقصٍ فيها وعليّها أن تلزم بيتها كتابعةٍ لزوجها. (13)
أما أفلاطون، فقد خلق جدالًا واسعًا لم ينتهي، ولتأصيل ذلك فإنّ عدّة باحثين انقسموا حول رؤية أفلاطون للمرأة فمنهم من اعتبره من أنصارها خاصةً في بيئةٍ تنتهك المرأة كتلك التي كان فيها، وهناك من اعتبره عكس ذلك، وكلّ طرفٍ كانت له منطلقاته وأسبابه في تفسير كلماته، لكن أهم أمرٍ هو في أنّ أفلاطون لم يكن وراء تقبّل المساواة بين الجنسين، كما أنه لم يتقبّل أنثويّة المرأة حتى تشارك في مدينته الفاضلة بل أن تتحول لمسترجلة مشابهة للرجل ثم تنحسر بعدها إلى ربّة بيت. (14)

ليس الأمر مؤامرة حيكت ضد المرأة من قِبلَ الفلاسفة بل حضور المرأة في الفلسفات بشكلٍ متنافرٍ وعنيفٍ ناتج عن ذهنيات تلك العصور غير البعيدة الشيء الذي خلق جدالًا واسعاً حول آراء العديد من الفلاسفة.
لا شكّ إذن في أنّ المرأة قد أُقحمت في معادلاتٍ بترت أطرافها، وهذا ما حاولت الصوفيّة ترميمه وذلك بإقحام الشق الأنثويّ على نحوٍ إلهي أو رؤية معينة للعالم والإنسان حتى تتسترد فيه ولو جزء من روحها المنهكة مع اختلاف الزوايا أو نسبية ذلك.

كذلك الهرطقات الدينيّة خاصة هرطقات القرن الثامن عشر التي أقيمت على أيدي عدة نساءٍ رأين أنفسهنَّ أنّهن نبياتٍ وتجسداتٍ للإله الأنثى على نحوٍ دينيّ تأسيسيّ أو صوفيّ مثل بدعة الراجفين (shakers) التي قامت على يد آنا لي ادّعت فيها أنّ الله كان مزدوج الجنس من أنثى وذكر وأنّ يسوع يمثل عنصر الذكورة أما هي فيسوع آخر يمثل عنصر الأنوثة (15). كذلك بدعة مصارعو الروح (doukhoborsty) والتي كانت تعتبر جميع الناس متساويين بمن فيهم الذكر والأنثى، و قد كان الأديب الروسي تولوستوي مشجعا لهم حيث راسلهم عدة مرات (16)، إضافة إلى بدعة الناكرين ( Otritsatéli ) الذي ينكرون النظام والمعايِّير الاجتماعيّة التي تفصل بين الجنسين وهذا الحوار التالي من محاكمة أحد الزوجين المنتسبين لها. (17)

يسأل القاضي الرجل: هل هذه امرأتك؟
– كلا ليست امرأتي
– تعيش معها؟
– أجل ولكنها ليست لي، إنها لنفسها
يسأل القاضي المرأة: هل هذا زوجك؟
كلا، ليس زوجي
لكن من يكون إذا؟
– أنا بحاجة إليه وهو بحاجة إلي، وهذا كل شيء، ولكن كل منا هو لنفسه
– وهل هذه الصغيرة لكما؟
– كلا، هي من دمنا، ولكنها ليست لنا، هي لنفسها.

إنّ الأمر ليس دعوة لتشتيت العالم، أو انتقاصًا من مفهوم الأسرة أو المجتمع بل لتمزيق كل ما من شأنه أن يكون ربحًا في يد الرجل فقط وخسارة عند المرأة، هنا حيث يُستغل فيه الخطاب المجتمعيّ والأسريّ والدينيّ مع الجسد الاستقوائيّ لجعل المرأة صنمًا تلعب به الأيادي، فأيُّ مجتمعٍ متماسكٍ ومحافظ ٍهذا الذي يريد الرجال الحفاظ عليه متخوفين من انحلاله لمجرّد احترام حريات المرأة وحقوقها، مجتمعٌ متماسكٌ كما يوهموننا ونصفه الثاني (النساء) مُنتَهك ومكبّل اليديّن، يقاد من النصف الأول الذي في المقدمة (الرجال).

إنّ الرجل هو السيد المسيطر في عصر البطولة والنموذج والمثل الأعلى لهذا الرجل: القوة والشجاعة والقدرة على مواجهة الأعداء وحماية بيته وأسرته من هجمات الآخرين لهذا كانت أسمى الفضائل الذكاء المقرونة بالشجاعة والقسوة.
-إمام عبد الفتاح إمام
(18)

عصر البطولة يتهاوى

لقد نظر القدماء فيما مضى سواء كانوا أشخاصًا عاديين أم فلاسفة خاصة في المجتمع الإغريقي إلى الأشخاص الذين يشكون من الأمراض الجسدية والعلل نظرة دونية محتقرة بوصف عقول هؤلاء عقولًا قاصرةً غير متساوية مع المعافين والأقوياء، بالتالي إنّ مقولة العقل السليم في الجسم السليم تنطبق على هذا الأمر الأخير، و لنا أن نتخيل ما محل المرأة من الإعراب في مجتمع يمجّد الجسد الفحوليّ القويّ للرجل ويرى المرأة مجرد جسدٍ مكوّن من العنصر الجماليّ والشهوة مع الضعف، كما لا يغيب عن نظرنا أسطورة باندورا، تلك المرأة التي خُلِقت للرجل والتي كانت سبب مجيء الأمراض والأسقام والشرور إلى البشرية.

إنّ عصر البطولة الذي ميّز الإغريق، كانت فضيلته هي الشجاعة، الشيء الذي وسّع الهوة أكثر بين الرجل والمرأة بوصف الرجل هو الحائز على ميداليات الشجاعة والقوة ورباطة الجأش، كما أنّ كلمة فضيلة Virtus مشتقة من لفظ الرجولة Arete أو Vir أي الرجل، ومن إله الحرب Ares ، آريس. (19)
فالمجتمع الإغريقي هنا استعمل الجسد البطولي والفحولة لربطه مع الفضيلة ما نتج عنه ظلم كبير للمرأة اليونانيّة ودفعها إلى الهامش.
أما عند سقراطبعد ذلكفالمعادلة هي «عقل = فضيلة = سعادة»، كما قال أفلاطون أنّ الفضيلة بنوعيها هي العقليّة، والأخلاقيّة المعتدلة. (20)
إنّ الفضيلة لم تعد تعني الشجاعة فحسب بل العقل والأخلاق الوسطيّة التي لا تصل حدّ التطرف أو المبالغة بل الأخلاق المتعقلة إذا جاز تسميتها بذلك، أما الفضيلة المسيحيّة التي سادت بعدها فلا الشجاعة ولا العقل لوحده ولا العقل مع الأخلاق هم رأس الفضيلة، بل هي الأخلاق التي وصّى بها المسيح من تسامح ومحبة.

أما الآن ونحن أمام عصر من التطورات يمكننا أن نلمس بسهولةٍ تعدّد وجوه الفضيلة لكن ما يهم هو أن دور القوة الجسّدية أو فضيلة الإغريق وتهميش المرأة انحسرت ولم تعد كما كانت باستثناء بعض المجتمعات التي لا تزال حبيسة هذا الشأن بشكل نسبيّ.

لم يعد يتسع للإنسان الحداثيّ وما بعد الحداثيّ أن ينظر لغيره على نحوٍ أنه فاضل لو رآه يسلك طريق القوّة لوحدها أو العقل من دون التحلي باحترام الآخر والمرأة، وأنّ الرجل النبيل الآن الذي كان يعبّر عن البرجوازيّة والقوّة في الماضي، صار وصفا يصفه الكثيرون ويلصقونه بالإنسان الذي يرى المرأة كإنسان.

وهذا الأمر لا نراه في المجتمعات التي لا تزال تعيش عصور ما قبل الحداثة كما تفضلت قبلا، فليس من الفضيلة أن يكون الرجل نبيل بذلك المفهوم ناحية المرأة، أي أن يحرّرها من تلك الأنساق المفروصة فرضا بوصفها كيان حرّ وليس تابع، لكن إذا ما تم ذلك في إطارٍ يسمح به ويدعو إليه الدين والخطاب الدينيّ سيكون فضيلة، فتطبيق النص الديني في معاملاته للمرأة سيغدو أمرًا فاضلًا يكرِّم المرأة كما يزعمون حتى بتجاهل أمور أخرى مناقضة للتكريم يقترفها الرجل ضدها، فالدين يقول كذا وكذا وعلى الرجل التنفيذ، أي أنّ ظلم المرأة أم عدمه يحدّده الدين، فالحداثي يرى أنّ حرمان المرأة من حريتها هو مجرد هيمنة وتعسّف أما المجتمعات الإسلاميّة فترى أنّ الأمر يدخل في نطاق طاعة الزوج أو وليّ الأمر وهذا عين الصواب.

فالفضيلة في المجتمعات الإسلاميّة هي الشجاعة الدينيّة، أي فضيلة العمل بما يمليه الدين من تحريم أو تحليل، لكن يكون أغلبه تطبيقًا يختصُّ في نطاق المرأة والجسّد وليس في الأمور الحياتية الأخرى التي يعيش فيها المؤمن مثل رجل علمانيّ، وحيث يصل هذا التناقض فيما يخص المرأة حد تجاوز مقولات الدين وجعل التقاليد والعادات نصًا واجب التطبيق على المرأة، يختلط فيه مع النص الدينيّ حتى لا نكاد نفرّق بينهما لشدّة العمل به؛ لكن رغم ذلك يوجد العديد من المتدينيين من يحيدون عن ذلك بكل عفويّة من دون حتى أن يتبنوا أيّ عقلانيّة أو نظريّات تنويريّة.

لقد استعملت النسويّة ما بعد الحداثيّة عبارة موت الرجل التي اشتقتها من العبارة النيتشوية عن موت الإله (21)، لا شك أنّ العبارة عميقة عمق هذه المعضلة، فموت الرجل هنا هو تحطيم وتفكيك لكل ما بناه الإنسان المتسلّط الذي استعمل المرأة وفرض عليها تحديداتٍ منتقصةٍ به لتصعد شمسه على ظهرها، كما أنّ النسويّة ما بعد حداثية سلّطت الضوء ليس على المرأة فقط بل حقوق الإنسان المنتهك، عبيد البرجوازية والسلطة والرأسمال، حقوق المغتربين وذوي الاحتياجات وأي إنسان مُغتَصب.

ما يهم كآخر شيء نود ذِكره هو أنّه ورغم كل هذا فالرجل كذلك قد عانى من هذه النظم الاجتماعية والثقافية التي تخلق نسخًا تصنع و تكرّر كل مرة فإذا كان هناك طرف قد انتهك لا شكّ أنّ النتائج كذلك سترتد إلى الطرف الآخر، غير أن معظمها قد حزّت رقبة المرأة أكثر من الجنس الآخر.

إنّ الرجل ذلك المزارع الذي يشقّ صدر الأرض بالمحراث عانى ولايزال يعاني عدة تصدعات ونقد، خصوصا بعد صعود النسويّة بمدارسها الفلسفيّة واللسانيّة والأنثروبولوجيّة والسياسيّة، حيث عالجت المشكل بعمق و بحث جاد في ما بعد الحداثة عكس النسويّة الحداثيّة، ورغم توظيف الإعلام أو بعض الأطراف التي تعطي لنفسها الحق في استهلاك المرأة أو تسليعها، ووجود من يريد تارة تغليفها وتارة أخرى تعريتها وذلك ليس من شأن الذكر في المقام الأول بل هو خاص بالأنثى، فهي نتائج بديهيّة نتجت عن صعود حقوق النساء ودورهن، والتي صارت فيها المرأة واضحة للعالم، يراها الجميع بمن فيهم المستغلين للأمر من أشخاص، مؤسسات وإعلام.

ولا يعني ذلك كما يتوهم البعض أنّ الذين يستغلون تحرّر المرأة ويستفيدون من خدماتها واستقلاليتها هم من جعلوها تصعد إلى مراكزها أومنحوها الحقوق حتى يستطيعوا استغلالها، فتلك مقولات ساذجة ونابعة عن عدم إلمام بتفاصيل مسيرة النساء الحقوقيّة والنسويّة الفلسفيّة.

خاتمة

إنّ الزجاجة التي كانت تحبس المرأة تتشقق يومًا بعد يوم رغم بقائها مغلقةً عليها ما جعل البعض يحاول تضميدها بوسائل ذات نزعات دينيّة، تم إضفاء طابع الحداثة أو العقلانيّة عليها حتى تحوز قناعة المؤمنين بمن فيهم النساء. أو الأبحاث التي يضفى عليها طابع العلم التي توصل الفروقات الجسدية والنفسية، بما هي تفاضلية وطبقيّة وتكرّس أحقية الرجل في التحكّم بالمرأة وانتقاء المقاسات لها في كل مجال. ناهيك عن شيطنة أيّ دعوى تهدف إلى تحرير المرأة ومناقشة هذا الأمر واليد تمسك فأسًا موجها للمعترض، من دون أن ننسى تجميد الدين الاسلاميّ والذي يتميّز بالصيرورة والتحرك في التاريخ بما يناسب وعي كل مرحلة تاريخية لكن تم بعد ذلك إبقاءه فكرًا جامدًا عند تعاطيه لقضية المرأة.

ولا يمكن تناسي الاتهامات بالتبعية للغرب والمؤامرات والإلحاد وتسطيح الفلسفة النسويّة، وعدم أخذها على محمل الجد عن جهل وتسرّع، وجعلها مقتصرة فقط على فئة مراهقة من الفتيات الشغوفات اللواتي يتبنين مبادئها من دون أن يتخصصنَّ في حقل الفلسفة النسويّة، حيث يبقى المعترض متجاهلًا أو غير عارف بالأساسات التي ينبغي أن ينهل منها الشيء الذي يزيد الطين بلّة ويوسّع الأمر أكثر.

إنّ مشكلة المزارع الآن ارتدت إليه، فالحقل الأنثويّ لم يعد ملكه بعد اليوم، لقد سُلِب منه هذا الحقل عن طريق الكرامة والحق، فتم إخباره أنّ الأنثى لم تكن حقلًا كما خُيِّل إليه على مر التاريخ، إنّها في الحقيقة تماثله في الجوهر شاء أو أبى، لقد اختفى الحقل بعيدا عنه من دون رجعة، ما يعني نهاية الرجل المزارع الوشيكة بالجوع الشهواني والامتعاض مكابرًا في عناده ورفضه للإنسان الذي هو الأنثى.

لكن هل ذلك يعني موت جميع المزارعين وعدم قدوم غيرهم؟ أم مجيء التعدد، أي ظهور مزارعة مع مزارع لا فرق بينهما سوى تاء التأنيث، يعملان معًا من جديد جنبٍ إلى جنبٍ ليس في أيّ حقل آخر بل العالم كله. فهل سيحدث ذلك والرجل لا يزال جائع بالكره والأنانيّة المفرطة اتّجاه تاء التأنيث هذه؟ أم علينا أن نرفع سقف التوقعات قليلا؟.

شرح المصطلحات والمفاهيم:

– سوفوكليس [ 496 – 405 ق م ] : كاتب اغريقي، من أعظم كتاب التراجيديا، أهم مؤلفاته: أوديب ملكا، الكترا، انتيجونا.
– بتاح حتب [ 2500 ، 2400 ق م ] : وزير وحكيم وكاتب من الدولة المصرية القديمة اشتهر بتعاليمه وحكمه.
– جان جاك روسو [ 1712 – 1778 ] : فيلسوف ومفكر وناقد اجتماعي فرنسي، يعد من أشهر المتنورين الذين عرفتهم أوروبا، عني بالأديان والسياسة والمجتمع، من أهم مؤلفاته: أصل التفاوت بين الناس، العقد الاجتماعي.
– بارميندس [540 – 480 ق م ] : فيلسوف وشاعر إغريقي من إيليا، مؤسس المدرسة الايلية على الأغلب ( هناك جدال حول ذلك ).
– غوستاف لوبون [ 1841 – 1931 ]: مؤرخ وكاتب وباحث فرنسي، اهتم بالاديان والحضارات وعلم النفس والمجتمعات
– أرسطو [ 384 – 322 ق م ] : فيلسوف إغريقي، كان تلميذا لأفلاطون تلميذ سقراط وأستاذا للإسكندر الأكبر ومؤسس مدرسة اللوسيوم، من أهم مؤلفاته وآخرها: الميتافيزيقيا.
– أفلاطون [ 427 – 347 ق م]: فيلسوف إغريقي، تلميذ سقراط وأستاذ أرسطو، من أشهر أعلام الفلسفة الاغريقية و المتافيزقيا، مؤسس مدرسة الأكاديمية معروف بمفاهيم مثل “عالم المثل”، “العقل و الفضيلة “، من أهم مؤلفاته: الجمهورية.
– ليو تولوستوي [ 1828 – 1910 ]: أديب وكاتب روسي من أبرز أعلام الوجه الأدبي الروسي، كان ينتسب لطبقة برجوازية من نبلاء روسيا كما كان ينتمي لطوائف المسيحية أعجب بالشرق ولغاته، أهم مؤلفاته: ملكوت الله بداخلك، الحرب والسلم، آنا كارنينا.

- المصادر: 
1 - تاريخ الأسطورة، الدار العربية للعلوم ناشرون، مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم، كارين آرمسترونغ، ص:43 .
2 - القرآن، سورة البقرة، 223 .
3 - تراجيديات سوفوكليس، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، سوفوكليس، ترجمها عن اليونانية الدكتور عبد الرحمن بدوي، ص:138
4 - قصة حضارة، الجزء الثاني، المجلد الأول، دار الجيل للطبع والنشر، المنظمة العربية للتربية والثقافة و العلوم، ويل ديورانت، ص:97 
  The stroy of civilisation 1 , our oriental heritage , Chapitre VIII , Simon And Schuster , will durant , p165
5 - ديوان الأساطير، دار الساقي، قاسم الشواف، ص:122 ،  123 ،124 .
6 -  مختصر صحيح البخاري، دار ابن حزم، باب المعاريض مندوحة عن الكذب،  621 .
7 - رسالة بطرس الأولى: [ 3 : 7 ]
8 - لغز عشتار، دار علاء الدين، فراس السواح، ص:48 ، 49 .
9 - نساء فلاسفة، مكتبة مدبولي، إمام عبد الفتاح إمام، ص:20
10 - جدل النسويّة فصول نقديّة في إزاحة الدوغمائيّات الأبويّة، منشورات الاختلاف، منشورات ضفاف، ص:60.
11 - نيتشه والإغريق، منشورات الاختلاف، الدار العربية للعلوم ناشرون، عبد الكريم عنيات ص:80 ، 81 .
12 - سيكولوجية الجماهير، عصير الكتب، غوستاف لوبون، ص 41 .
13 - الجنس الآخر، الدار الأهلية، سيمون دي بوفوار، ص:41 .
14 - يمكن الرجوع حول هذا الموضوع إلى:الجمهورية لأفلاطون و أفلاطون والمرأة، مكتبة مدبولي، إمام عبد الفتاح إمام.
15 -  الهرطقة في المسيحية، دار التنوير، ج ، ويلتر  ص:09 .
16 - نفس المصدر السابق ص:10 , 342 ، 343 .
17 - نفس المصدر السابق ص:358 ، 360 ، 361 .
18  - أفلاطون والمرأة، مكتبة مدبولي، إمام عبد الفتاح إمام، ص:20
19 - أفلاطون والمرأة، مكتبة مدبولي، مصدر سابق،ص:20  ، 21 .
 نيتشه و الإغريق، مصدر سابق، ص:278 .
20 - نفس المصدر السابق ص:112 ، ص 171 ، ص 172 .
21 - جدل النسويّة فصول نقديّة في إزاحة الدوغمائيّات الأبويّة، مصدر سابق، ص:28 ، 30

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: بيسان صلاح

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا