الألوهة السَّارية في العَالَم

الله الواحد الكثير (1/2)

قبل أي شيء، علينا أن نأتي إلى عنوان المقال ونسأل: ما الذي أعنيه بهذا التعبير؛ الواحد الكثير؟ إنَّ الذي أريده من ورائه شيئين لا غير؛ أولًا: وجهة النَّظر التي تقول أنَّ الله واحدٌ في ذاته، كثيرٌ في مخلوقاته، وهو أحد تصوُّرات القائلين بمفهوم (وحدة الوجود)، ثانيًا: أن أعرض رأي القائلين بفكرة الدين العالَمي، وأنَّ الله حقيقة واحدة تدور حولها تصورات متعددة وتفسيرات مختلفة في صورة الأديان والمذاهب الدينية الموجودة في العالَم. وعلى هذا يكون الله هو الواحد الكثير بهذا المعنى. وما بين يديك هو المقال الأول الذي أتناول فيه الفكرة الأولى؛ فكرة كثرته تعالى في مخلوقاته وموجوداته، وسمَّيتُه الألوهة السارية في العالَم، يتبعه مقال آخر عن الفكرة الثانية التي تعالجُ القول بأنَّنا نعبد إلهًا واحدًا، وإن كانتْ تَصَوُّراتُنا عنه مختلفة.

وَحْدَة أم كَثْرَة؟

قبل أن نبدأ في أصل موضوعنا علينا أن نُحَلِّق فوق مشكلة الوَحْدَة والكَثْرة وأن نعرض لها بشكلٍ موجز. شَغَلَتْ تلك المشكلةُ عددًا كبيرًا من المفكرين والفلاسفة، وهي من أكثر المشكلات التي اهتمَّ الفلاسفةُ بها قديمًا وحديثًا. لقد كانوا يتساءلون: هل علينا أن نقول بالوَحدة ونُنْكِر الكثرة؟ أم علينا أن نقول بالكثرة وننفي الوَحدة؟ أم نحاول التوفيق بينهما مع التركيز على إحداهما أكثر من الأخرى؟ أم علينا أنْ نجعلهما بنفس المستوى؟. إنَّ المقصود بالوحدة بإيجاز هو محاولة تفسير كثرة الموجودات عن طريق ردِّها أو إرجاعها إلى شيءٍ واحد، أما الكثرة فالمقصود بها: بيانُ كثرة الموجودات وعدم إمكانيَّة إرجاعها إلى مصدرٍ واحد.  إنَّ الفلاسفةَ قديمًا تأرجحوا بين القول بالوَحدة والكثرة؛ فأنكر بعضُهم الكثرةَ وقال بالوحدة مثل بارمنيدس “Parmenides”، وأنكر أمثال إمبدوكليز “Empedocles” الوَحدة وقالوا بالكثرة حتى جاء أفلاطون “Plato” وحاول الجمع بين المذاهب الفلسفيَّة السابقة في نظرية أسماها: المُثُل، ورأى أن الحلَّ يكمن في تلك النظرية التي تدور عليها فلسفتُه كلُّها. يرى أفلاطون “Plato” أنَّ الأشكال التي نراها في العالَم ما هي إلا مجرد أشباح للمُثُل التي تُعبِّر عن حقائقِها. لقد حاول أفلاطونُ “Plato” أنْ يجمع بين الوَحدة والكثرة إلا أنه أَوْلى الوَحدة أهميةً أكبر، ومع ذلك لم يُؤدِّه هذا القولُ إلى وَحْدَة الوجود.

مُباين أم مُحَايِث؟

يمكننا حصر وجهات النظر عن الله في تأويلات ثلاثة مختلفة، ولا يختلفُ أهلُ هذه التأويلاتِ في أنَّ العالَم مصدرُه الإله، ولكنهم يختلفون في العلاقة بين الإله الواحد والعالَم الكثير، يرى أصحابُ التَّأويل الأول أنَّ العالَم فيض من الإله الذي يعتمد عليه مثلما يفيض الضوءُ عن الشمس، أما أصحاب التأويل الثاني فيرونَ الله هو العِلَّة الفاعِلَة للعالَم؛ لذا يتصوَّرون الله متميِّزًا ومُختلِفًا تمامَ الاختلاف عن مخلوقاته مثلما يختلف النَّحَّات عن التمثال الذي صنَعه وأنتَجَه، أما أهل التأويل الثَّالِث فيرون الله كمبدأ مُحايِث مُباطِن، وقوة داخليّة تشكِّل المواد والصُوَر وتصنع قِوَامَها من الدَّاخِل؛ لذا يرون الله لا ينفك عن العالَم ولا عن مخلوقاته. تأرجحتِ البشرية منذ القِدم بين هذه الأقول الثلاثة، وسأحاول الآن أن أعرض لكل وِجهة نظر بشكل موجَز وسريع، ثم سأخصُّ وجهة النظر الثالثة بشيء من التَّفصيل.

الله يفيض

فاضَ الماء والدمع ونحوهما يفيض فيضًا، وفيوضة وفيوضًا وفيضانًا، أي كَثُرَ حتى سال على ضفّةِ الوادي. وفاضتْ عينُه إذا سالتْ، وفاض الماءُ والمطر والخير يعني كَثُر، ويُقَال نهر فيَّاض أي كثير الماء، هذا معنى الفيض في اللغة، أما معناه في اصطلاح الفلاسفة فيُطلَق ويُراد به فِعلُ فاعلٍ دائمِ الفِعْلِ، ولا يكون فعلُه بسببٍ دعاه إلى ذلك.

أشباح وحقائق

حيَّرتِ العلاقةُ بين الإله الواحد والعالَم المُتَكَثِّر  عقولَ الفلاسفة؛ كيف هي تلك العلاقة بين الثَّابت والمتغير، بين القديم والحادث، بين اللامادي والمادي، بين الله والعالم؟! ولتفسير هذه العلاقة حاوَلَ البعضُ اللجوءَ إلى فكرة سُمِّيَتْ بالفيض، ويُعْتَبَر أفلاطون “Plato” هو البداية الحقيقيَّة للقول بها؛ لأنَّ المثل هي عالَم الوجود الحقيقي في رأيه، وهي أصل الموجودات الكثيرة في هذا العالَم. ورغم ذلك، لم يستطع أفلاطونُ “Plato” أن يحلّ مشكلة انبثاق عالَم الخيالات والأشباحِ عن عالَم المُثُل والحقائق.

إعلان

عقلُ اللهِ ذاتَه

جاء أفلوطين “Plotinus” بنظرية الفيض، وقدَّمها كَحَلٍّ لمشكلة انبثاق الكثرة عن الواحد، تقول هذه النظرية أنَّ الله يعقل ذاته، وعَقْلُه لذاته عِلَّةُ صُدورِ العالَم عنه، فهو إذن لا يحتاج في صدور العالم عنه إلى شيء غير ذاته؛ فالعالَم يفيض عنه لذاته وبذاته. وفيض الموجودات عن الواحد فيض ضروري، وما يأتي من الواحد يأتي منه دون حركة، ودون مَيل، ودون إرادة، كإشعاع يأتي منه وهو ساكن، كما يتَولَّدُ من الشَّمس الضوءُ الساطعُ المحيطُ بها وهي ساكنة دائمًا، لا تملك حجبَ ضيائها، كذلك لا يمكن لله إلا أن يفيض كالشَّمس بالنسبة إلى ضوئها، والنَّار بالنسبة إلى حرارتها، والنَّبع بالنسبة إلى مائه، والثلج بالنسبة إلى بَرْدِه. عارض الغزاليّ وابن رشد هذه النظرية معارضة شديدة في حين قبلها فلاسفة آخرون مثل ابن سينا والفارابي، ورأوا فيها حلًّا مُقنِعًا يمكن للكثرة أن تُفَسَّر عن طريقها، كما أنَّ فيها حلًّا وسطًا بين المباينة والمباطَنة؛ لأنها تجمع بين الرؤيتين إلى حدٍّ بعيد.

بائن عن خلقه

إنَّ القول بمُبايَنَة الله للمخلوقات ومخالفته لهم قول قديم، ارتضاه المتكلِّمون قولًا على اختلاف تَوَجُّهاتِهم، فمن فكَّر في الله فكَّر في ذات، ومن آمن بالله آمن بذات. يرى العقَّادُ أنَّ اللهَ ذاتٌ واعيَة؛ فلا يجوز في العقل ولا في الدين أن تكون له حقيقة غير هذه الحقيقة، ولا يُمكِن أن يُوصَف بأنه معنى فقط لا ذاتَ له، أو قوة لا وعيَ لها. يُتابعُ العقادُ قائلًا أنَّه لم يُرَ أحد من المفكرين يقول بأنَّ الله معنى إلا ليجعلَه أكبرَ من ذات، لا ليجعله أقلَّ من ذات، ولكنه لا يكون أكبرَ مِن ذات بالتَّجَرُّد من صفات الذَّاتيَّة بل بالزيادة عليها، فينتهون بالتَّنزيه إلى ذات أكبر  من جميع الذوات. يُعبِّرُ ابن تيميَّة عن هذه العقيدة بلغة صريحة فيقول أنَّ السلف اتَّفقُوا على أنَّ الخالقَ بائِنٌ من مخلوقاته، ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته، ثم يذكر أنَّ الأئمة كفَّرُوا الجهميَّة لقولهم أنَّ الله في كل مكان.

إيجاد وخلق

إنَّ القول بذاتيَّة الله ينافي بالضرورة القولَ بمُحَايثته للعالم أو مُبَاطنتِه له، فجوهر العلاقة -طِبْقًا لهذه الرؤية- بين الله والعالَم هي علاقة إيجاد وخلق لا علاقة عِلم وإدراك فحسب مثلما تقول الرؤية الفَيْضِيَّة. انتقدَ الغزاليُّ نظرية الفيض في كتابه (تهافت الفلاسفة)، واعترف ابن رشد في (تهافت التهافت) بصحَّة نقدِه هذا، بل قام بنقدها أيضا وبيان أنَّها لا تُمَثِّل الحكمة الحقيقيَّة، ورأى أنَّ البديل الحقيقيَّ عن هذه النظرية هو القول بالخلق المباشر أو الصدور عن الله في فعل إلهي واحد هو الذي أوجد الكائنات كلها، وهو الذي يسري فيها، ويمسكها جميعا أن تزول، ويربط بين أجزائها. ومن الجدير بالذكر أنَّ ابن رشد عارض هذه النظرية ضمن محاولاته تحرير مذهب أرسطوطاليس “Aristotle” وتخليصه من شوائب الأفلاطونيَّة المُحْدَثة على حد قول حسن الشافعي.

مُخالِف للحوادث؟

والوجود عند القائلين بالمباينة صِفة ذاتيَّة نَفْسِيَّة، ومعناها أن وجود ذاته تعالى لا لعلَّة، وأن الغير ليس مؤثرًا في وجوده تعالى. ورغم القول بذاتيَّة الإله وأنه ذات مُنْفَصِلة مُبَايِنَة للمخلوقات إلا أنَّ فريقًا من القائلين بهذه الرؤية يرَوْنَهُ في نفس الوقت مخالفًا للحوادث؛ بمعنى أنه ليس مماثِلًا لها، فهو ليس بجِرم ولا عرض، ولا كُلِّيّ ولا جزئيّ، وهو مُنَزَّه عما تستلزمه هذه الصفات أيضًا من الأحوال والأعراض، ويرى آخرون أنَّ الله جسم لا يخالف الحوادِث في الجِسميَّة؛ فالعالَم والخالِق لا شك موجودان لا محالة، ولا بد أن يكون أحدُهما حالًّا في الآخر، أو مُبايِنًا عنه، مُختَصًّا بجهة من الجهات الستِّ المُحيطَة به، والقول بالحُلُول عندهم مُحال، فتعيَّن كونه مُبايِنًا للعالَم بالجِهة، وبهذا الطريق احتجُّوا بكونه تعالى مُخْتصًّا بالحيِّز والجهة.

لا غيرَ

إنَّ القول بوجود شيء واحد وأنْ لا وجود غيره مذهب قديم، ونِحْلَة غارقة في الزمن البعيد. يرى مراد وهبة أنَّ الهنودَ هم أوّلُ شعب ظهر فيهم هذا المذهب، ثم تأثَّر بهم أقطابُ الطبقة الأولى في الفلسفة اليونانية؛ ففلاسفة ملطيَّة -الذين ردُّوا الوجود كلّه إلى مادَّة واحدة- قائلون بوَحدة الوجود؛ لأنهم آمنوا أنَّ الموجودَ شيء واحد لا غير. وهيراقليتوس “Heraclitus” قائل بها كذلك؛ لإيمانه بوجود شيء واحد فحسب، وأنَّ ما عداه مظاهر وظواهر، وأنْ ليس التَّغيُّر إلا نقطة تتلاقى عندها الأضداد وتتنازعها، بل إنَّ إكزينوفانيس “Xenophanes” كان مُوحِّدًا، يؤمن بإله واحد. اختلف المؤرخون أشدَّ الاختلاف في معنى توحيده، إلا أنَّ خلاصة الرأي أنه كان يقول بوَحْدة الوجود؛ لأنه جمع بين الطبيعة وبين الله، وتحدَّث عن الله بوصفه الطبيعة، وتحدث عن الطبيعة بوصفها الله.

نفيُ المَعِيَّة

يقول ابن الفارض:

وَمَا زِلْتُ إيَّاهَا، وَإِيَّايَ لَمْ تَزَلْ، .:. وَلَا فَرْقَ؛ بَلْ ذَاتِي لِذَاتِي أَحَبَّتِ

يشرح القاشانيّ هذا البيتَ فيقول أنَّ ابن الفارض هنا ينفي المعية مع المحبوب، فالمحبوب هو، وهو المحبوب؛ فالمعية لم تكن لتخطر أبدًا على ذهنه أو خاطره، ولا فرق بين المُحِبِّ والمحبوب بالمَحَبِّيَّةِ والمَحْبُوبِيَّة. ويصف إكهَرت “Eckhart” الله قائلا أنَّه ما داخل إلا وفارق، وأنَّه ما اتَّصَلَ إلا وانفصل، فلا يمكن في نظره أن نتصوَّر اللهَ بائنًا عن خلقه رغم تفرُّده عن غيره، ولعلَّ هذا يشابه إلى حد كبير رؤية الشِّبليّ للتصوُّف على أنَّه نوع من الشِّرْك؛ لأنَّه صيانة القلب عن رؤية الغير ولا غير؛ فالصوفيُّ -في رأي الشِّبلي- لا يرى في الدّارَين مع الله غير الله”. يشرحُ ابن سبعين فكرة لا غير  بلغته الصوفيَّة فيقول: “وجودك حجابك، ورؤيتُك إياك سرابُك، وقوفُكَ مع الأشكال حَجَبَكَ وتُهْتَ حتى لا تدري مَطْلَبَك… فكم محجوب بعَيْنِه عن رؤيةِ عَيْنِه… الحجابُ أنتَ لو أزلتَه، والنور ظاهر فيك لو شَهِدتَه”، فابنُ سبعين هنا يرى أنَّ رؤية الأغيار حجاب عن رؤية الواحد الحق، وأنَّ الإنسان عليه أن يتخلَّص من رؤية الأشكال والصور أو رؤية عينِه كما قال؛ حتى يرى الحقَّ الأحدَ ولا يرى معه غيرَه. إنَّ فكرةَ لا غير تدفعنا دفعًا إلى سؤالٍ بعينه؛ ماذا يعني أهل التَّصوف بالتوحيد؟

توحيد المُتَصَوِّفة

لأهل التصوُّف فهم خاصٌّ لمفهوم التَّوحيد يخالف ما عليه المتكلمون والفقهاء وعوامِّ الخلق، ولعلَّ هذا يفسِّر شيئًا من عداء المتكلمين لأهل التصوف، ويجعلنا نقاربُ قول الزَّمخشري فيهم؛ أنَّهم أجهل الناس وأعداهم للعلم وأهله، وأمقتهم للشرع، وأسوأهم طريقة، وإن كانتْ طريقتُهم عند أمثالهم من الجهلة والسفهاء شيئًا، وهم الفرقة المُتَفَعِّلَة المُفْتَعَلَة من الصوف. إنَّ أهل الورع من المسلمين لم يكونوا جميعا ليجدوا في علم الكلام ما تطمئنُّ به نفوسُهم؛ فالتَّوحيد بمعناه البسيط؛ أعني إفراد المعبود بالعبادة مع اعتقاد وحدته، قد يُرْضِي عُقُولَ العامَّة وبعض المسلمين، إلا أنَّه لم يُرضِ عقول آخرين؛ فبحثوا فيه وأضْفَوا عليه معانيَ جديدة تُرْضي نَهَمهم العقليّ أو الرُّوحي؛ ففهم المعتزلة أنْ لا إله إلا الله بمعنى أنه المُنَزَّه تنزيهًا مطلقًا عن كلِّ ما يمكن للعقل والوهم أنْ يتصوره، أما أهل التصوف فانقسموا على أنفسهم؛ فتصوَّر بعضُهم أنْ لا إله إلا الله بمعنى أن لا فاعل ولا مريد على الحقيقة إلا الله، ورأى آخرون أنَّ التوحيد معناه أنْ لا مشهود في الحقيقة إلا الله، ورأى فريقٌ أنْ لا موجود في الحقيقة إلا الله، وهم أصحاب وَحْدَة الوجود من الصوفية. فمن أثبتَ تمييزًا بين القديم والمُحْدَث لم يعرف التَّوحيد حقًا؛ فالتوحيد ليس فيه فرق بين الرب والعبد، ولا يميِّز بين القديم والمُحدَث إلا من ليس بِقَدِيمِ وَلَا مُحْدَثٍ، وهذا مُحَال.

الوَحْدَة بينَ التَّأويلِ وَعَدَمِه

يصور ابنُ تيمية حقيقة مذهب القائلين بالوَحدة من أهل التَّصوف فيقول أنهم يرون أنَّ وجودَ الكائنات هو عين وجود الله، ليس وجودُها غيره ولا شيء سواه البتّة، وهم لا يقولون بالحلول في رأيه؛ لأنَّ الحلول معناه إثبات وجودين، وجود الحقِّ الحالّ، ووجود المخلوق المَحَلّ، وهم لا يقولون بوجودَين. يرى ابنُ تيمية أنَّ القائلين بالوَحدة من أهل التصوف يقولون بها قطعًا إلا من غلب عليهم الحال من أهل المحبة والإرادة، ولكن جنح آخرون -وأكثرهم مُتَكَلِّمَة يميلون إلى التَّصوُّف- تأويلَ مقالاتهم وصرفها عن ظاهرها؛ فيرى البيجوريُّ مثلا أنَّ بعض الأولياء وقع منهم ما يُوهِم القول بوحدة الوجود أو الاتِّحاد والحلول، كقول الحلاج: أنا الله، وقوله: ما في الجُبَّة إلا الله، ورأى أن هذا اللفظ لا يجوز شرعًا، وينبغي صرفه عن ظاهره وتأويله؛ لأنَّ القوم تارة تغلبهم الأحوال والمقامات، ومقام الاتِّحاد هو أعلى مقامات النفس ومعه يصبح الواصل كأنَّه والباري شيء واحد، فيخترق الحُجُب ويرى ما لا عين رأتْ ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. نحن إذن أمام قراءتين لفكرة وحدة الوجود عند المتصوفة؛ يرى أصحاب القراءة الأولى أنَّ القائلين بوحدة الوجود ما قالوا بها إلا لغلبة الحال عليهم، ويرى أصحاب القراءة الثانية نِسبة القول بوحدة الوجود إلى أصحابها دون النُّزوع إلى تأويلها.

مدرستانِ أو مَذْهَبَانِ

وأصحاب الوحدة ليسوا جميعًا على مذهبٍ واحد، ولنا أن نقسمهم بشكل عام إلى مدرستَين أو مذهبَين، يرى أصحاب المذهب الأول أنَّ الوجود الحق هو الوجود الإلهي، وما العالَم إلا مجموع المظاهر التي تُعلِن عن ذات الله دون أن يكون لها وجود قائم بذاتها، ويرى أصحاب المذهب الثاني أنَّ العالَم وَحْدَه هو الوجود الحق، وهذا النحو يُسَمَّى وحدة الوجود الماديَّة. يشرح حسين مروة الوَحدة بمعناها الثاني فيقول أنَّ تعبير وحدة الوجود إذا أُطْلِق الآن في عصرنا هذا، عصر المادية الدياليكتيكيَّة، نفهم بنحو من البداهة وحدة الوجود المادي، أو الوحدة المادية للعالَم، بناء على أنَّ الوحدة الحقيقيَّة لهذا العالَم قائمة في مادِّيَّتِه، وبهذا المعنى يكون الكون هو الله، والله هو الكون، ولا يكون هناك ثمَّة فرق بين الخلق والخالق، ولا بين المظاهر المادية والحقائق الإلهية. يرى شوبنهاور “Schopenhauer” أنَّ أصحاب هذا المذهب لم يصنعوا شيئًا سوى أنهم أضافوا مرادفًا آخر لاسم الكون؛ فما الله؟ هو الكون كله، وما الكون كله؟ هو الله. أما عن وَحْدة الوجود المثاليَّة فمعناها أنَّ العالَم كله ما هو إلا تجلِّيات ومظاهر مختلفة لحقيقة واحدة هي الله، أو الذات بلام التعريف. ويرى حسين مروة أن الفلسفات المثالية القائلة بوحدة الوجود تعطي المفهوم مدلولًا آخر ليس ماديًّا، وإن اختلفتْ بتصوراتِ كلٍّ منها لهذا المدلول الآخر، فهي تتفق على أن هناك عالمًا غير العالم الواقعي المادي، قد يكون عالَم الأرواح أو عالم المُثُل (أفلاطون “Plato”)، أو عالم العقل الكلِّي (أفلوطين “Plotinus”)، أو عالم الأنوار الإشراقية (السُّهروردي)، أو عالم الفكرة المطلقة (هيجل “Hegel”).

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: عبدالعاطي طُلْبَة

تدقيق لغوي: أفنان سعادة

تدقيق علمي: راجي يوسف

الصورة: نهى محمود

اترك تعليقا