المُقترَب الفكري للظهور الفلسفيّ عند اليونان

اليونان والشرق

لعلَّ من الأهمية بمكان أن نحاول الحديث عن المقترَب الذي كان قد ساهم في انبعاث التفلسف في بلاد اليونان وهو الفكر اليوناني المتفاعِل مع الفكر الشرقيّ، فمن الصعب في إطار التطور الفكريّ للمجتمعات ومع ازدياد الدراسات والبحوث الاجتماعيّة والنفسيّة والإنثروبولوجية، أن نبقى في إطار النظرة القديمة المرتبطة بالمركزيّة الأوربيّة التي تحاول أن تصوّر الظهور الفلسفيّ اليونانيّ بأنه معجزة ظهرت فجأة في تلك البلاد مقطوعة الصلة بما سبقها من مخاضٍ فكريّ محليًا أو عالميًا.

فحين نتحدث عن الفكر و الفلسفة اليونانية، فإننا نتحدث عن واسطة العقد بين الشرق والغرب. فالفكر اليونانيّ كان المنفذ الذي دخل منه الفكر الشرقي إلى أوروبا القديمة، مثلما صار تفلسفهم -لاحقًا- المصدر الذي استمد منه الفلاسفة العرب المسلمون بواكير تفلسفهم ليكونوا الجسر الذي تعبر عليه إلى أوروبا الحديثة.

لا يخفى أن الشرق الأدنى القديم كان ومنذ بواكير الألف الثانية قبل الميلاد يمور بأسس الحضارة والفكر، في الوقت الذي كانت فيه ما تسمى ببلاد اليونان ليست سوى مستنقعات تشغل يابسها قرى بائسة، وهي الصورة التي نراها واضحة من خلال الكتابات التاريخيّة وكذلك في الحكايات الشعبيّة اليونانيّة، مثلما هو الحال بالحكايات المتعلقة بهرقل مثلًا. فلو عدنا إلى صور المهام التي تم تكليف هرقل بها من قبل الملك اوجياس لانكشف لنا مدى التخلّف والبؤس وانتشار المستنقعات وما تشكله من أخطار بيئية على سكانها، بالإضافة إلى الوحوش التي تصول وتجول في أنحائها، والتي لم يجد كاتب الحكايات مخرجًا لتحقيق أمنيته بالتخلص منها، إلا أن يتصدى لها ابن إله تعبيرًا عن صعوبتها.

ازدهرت حضارة العراق القديم منذ نهايات الألفية الثالثة قبل الميلاد، مترافقة مع حضارة وادي النيل في مصر، ليشع نورهما على ما حولهما، فبدأت تظهر بأثر منهما أو باحتكاك الحضارة الفينيقية ضمن ما يسمى الآن بلاد الشام والحضارة الحيثية في الأناضول (أو تركيا الحديثة)، واللتان كانتا الأقرب جغرافيًّا إلى اليونان، وهو ما ساهم بنقل أسس الحضارة والفكر إلى هناك. ولهذا نلاحظ أن بواكير الازدهار الفكريّ كان ضمن هذا الجوار والذي لم يكن ضمن اليونان الكبرى وبقي كذلك.

إن والآثار المكتشفة في قبرص وكريت تؤشر مصادر استمدادها، وتبيّن بوضوح الإسهام الشرقيّ هناك. كان الفينيقيون آنذاك سادة البحر المتوسط الذين نقلوا إليه منتجات الحضارة الشرقيّة وكذلك الفكر، مما ساهم بانبعاث أقدم مانعرف هناك من حضارات وهي الحضارة المسينية أو الموكينية في كريت وقبرص خلال منتصف الألف الثانية قبل الميلاد والتي تعد الخلفية الفكريّة للثقافة والفكر اليوناني الذي ستبدأ بواكيره بعد ما يقرب من نصف قرن، فلو أننا قرأنا الإلياذة والأوديسة لهوميروس لوجدنا صدى تلك الحضارة يثوي بين سطورها، وهكذا نلاحظ أن البحر المتوسط بات يتقدّم رويدًا رويدًا للارتقاء إلى مستوى حضاريّ عالٍ في الأجزاء المحاددة أو القريبة لذلك الشرق.

إعلان

كان البدء انتقالًا لنمط التفكير الشرقيّ الذي اعتاد الباحثون على تسميته بالفكر الأسطوريّ، مع تحفظنا هنا على النظرة القاصرة لهذه التسميّة والتي ربما تشي ببدائية التفكير وفجاجته. فواقع الحال أن الأسطورة لم تكن سوى الثوب الذي ارتداه الفكر إبان تلك الفترة، فمثلما يتوسل الكتاب في عصرنا وسائلهم المختلفة من مقالة أو رواية أو قصة أو مسرحية لإيصال أفكارهم فإن الإنسان القديم في الشرق الأدنى اعتمد أسلوب التفكير المتاح لإيصال أفكاره وهو الأسطورة، ولهذا نلاحظ أن المحتوى الفكري العالي سرعان ما يستبين حين ننزع هذا الثوب والذي لا يختلف كثيرًا عن نمط تفكيرنا، مع الأخذ بالاعتبار مستوى التقدم الفكريّ والثقافيّ. ولهذا نلاحظ اشتراك العالم القديم بشرقه وغربه بذات النمط الأسلوبي وهو ما أتاح للفكر الشرقي أن يجد له حاضنة في بلاد اليونان.

وعليه فإن دراسة الأساطير بين الشرق الأدنى وبلاد اليونان تعد مفتاحًا مهمًا لفهم التنافذ والتثاقف بين الجانبين.

وإذا كان هوميروس بالإضافة إلى هزيود سدنة الثقافة اليونانية حينما صارت أعمال الأول تحديدًا أشبه ما تكون بالكتاب المقدس هناك، فإن هذه الأعمال لم تعكس فقط أثر الحضارة المسينية المتناثرة بالشرق فقط، بل وانطوت على شفرات فكريّة لا يمكن فهمها بوضوح إلا حين نفتش عنها في فكر الشرق كما سنرى.

فالفينيقيون بعد ارتقائهم في سلّم الحضارة وامتلاكهم القوة المؤهلة لهم للهيمنة على البحر المتوسط، تذرعوا بأكذوبة تسمح لهم بغزو البحر وهي الادعاء باختطاف (اوربا) ابنة ملكهم، وأنهم اقتحموا البحر بحثًا عنها، والغريب أن اليونانيين حين استكملوا قوتهم واستمدوا أسس حضارتهم من الشرق لم يهملوا استعارة هذه الأكذوبة بل اتخذوها ذريعة أيضا للحرب حين حاربوا طروادة الشرقيّة وتجييش الجيوش ضدها، بدعوى اختطاف (باريس) ابن ملكها لـ (هيلين) زوجة منيلاوس وهو أخ اجاممنون الذي سيكون قائد تلك الجيوش في الحرب.

هوميروس والشرق

إن أي قارئ لإلياذة هوميروس وأوديسيته لا يمكنه إلا أن يلاحظ الكم الهائل من الاستعارات لأفكار الشرق، العراق القديم تحديدًا، بدءًا من استهلال الإلياذة وليس انتهاءً بالصور المتعددة التي تتناثر بين سطور ملحمتيه. ولعل ما يلفت النظر أن الإلياذة تستعرض مجريات الحرب اليونانية الطروادية التي حدثت نهايات الألفية الثانية قبل الميلاد، وكان المفترض أن تكون كالسياق المعتمد في الأساطير القديمة بالتغني بالموضوعة التي يريد المنشد أن يركز عليها وهي الحرب، إلا أننا نلاحظ أن هوميروس يستهل ملحمته بالتغني بحدث لا قيمة كبرى له تضارع الموضوعة التي يريد الحديث عنها، فهو يتحدث عن نزاع جرى بين قائد الجيوش اليونانية (اجاممنون) وبين أحد قواده (أخيل) حول سبية من سبايا الحرب التي صارت حصة (أخيل) وأعجب بها ذلك القائد وأرادها له، لينطلق من هذه (الثيمة) ليعرض لنا صورًا شتى عن البطولة ومسلك البطل وعلاقاته بأقرانه من الأبطال وصداقاته وعواطفه، ومن خلال استقرائها نجدها لا تبتعد عما يتردد في أذبيات العراق القديم، بل لعل صلة (أخيل) بـ (باتروكلس) صديقه الحميم لا تبتعد في تصوير علاقتهما عن علاقة (جلجامش وانكيدو)، وكأن المنشد ابتدع هذه (الثيمة) لينهل مما وصل إليه من صور أبطال الشرق وعلى رأسهم جلجامش، والتي ستسيطر بظلالها على مجريات الحدث حتى ختامه.

إن استهلال الأوديسة أكثر كشفا لمصادر الاستمداد، فنحن نقرأ: (حدثيني أيتها الربة عن الرجل الكثير الحيل الذي اخذ يجول في كثير من مناكب الارض، فقد شاهد بلاد رجال كثيرين وتعلّم أراءهم، وكثيرة هي الويلات التي عاناها في قلبه وسط البحار)، وهي لا تختلف كثيرًا عن استهلال المنشد العراقي، قبله بما يقرب الألف سنة وهو يتغنى بـ (جلجامش) إذ يقول: (هو الذي رأى كل شيء فغني بذكره يا بلادي، وهو الذي عرف جميع الاشياء وأفاد من عبرها، وهو الحكيم العارف بكل شيء، لقد أبصر الأسرار وكشف الخبايا، لقد سلك أسفارًا بعيدة متقلبًا ما بين الراحة والتعب) . إن الوقوف عند الاستمداد الأسطوري لبيان الصلة بين الشرق والغرب تعد ركنًا أساسيًا لفهم الأثر الشرقي في انبعاث التفكير الفلسفي إيمانًا منا بأن الفلسفة اليونانية في بواكيرها لم تبتعد عن محيطها الثقافيّ بل سعى الفلاسفة الأول لإزالة الثوب الأسطوري أو جزءًا منه.

هزيود والشرق

ولكي نقترب قليلًا من الاستمداد الأسطوري اليوناني على مستوى التفكير الذي سيصير فاعلًا منذ بواكير التفلسف الأولى، يمكننا أن نستهدي بهزيود وهو ثاني أعمدة الثقافة والفكر اليوناني بعد هوميروس وتعاطيه مع القضية التي ستصبح الشغل الشاغل للفلاسفة الأول وهي مشكلة الوجود، فالمعروف أن هزيود قد وضع عملًا أسماه (ثيوغونيا) الذي يترجّم عادةً بـ (أنساب الآلهة)، وبعيدًا عن فكرة المشروع الذي تبناه هزيود وهو تنظيم مجلس الآلهة اليوناني (البانثيون) بالشكل الذي سيستقر عليه لاحقًا، والذي كان الرادة فيه العراقيون القدامى وحاكاه الشرقيون وانتقل منهم إلى اليونان، فإننا نجد أن الفكرة الأساس التي اعتمدها هزيود في تنظيمه هي علاقة الأبوة والبنوة بين الآلهة المتعددة، مما سمح لليونانيين بالتعرف على آلهتهم وعلاقاتها، كما يرى هيرودوت.

والمعروف تاريخيًا بأن العراقيين القدامى هم أول من نظم مجلس الآلهة بالصورة التي سوف ينسخها هزيود، وهي تستند إلى معطيات واقعيّة لم تتوفر له، فبعد أن هيمنت بابل على دول المدن العراقية المتنازعة وفرضت سيادتها عليها، كان لا بدَّ من تثبيت الوحدة السياسية في هذه الإمبراطورية بوحدة روحيّة وحيث أن دول المدن تلك كان لها آلهتها أيضًا، فإن معلم الهيمنة الرئيسي في الفكر الشرقي كان الهيمنة على الآلهة تثبيتا للهيمنة على دول المدن التي تعبدها وهكذا تم رفع منزلة إله بابل (مردوخ) الذي كان إلهًا من الدرجة الثانية إلى مقام السيادة على أقرانه من الآلهة،ولا جلَّ تعزيز هذه الوحدة تم وضع رابطة نسبية بين الآلهة المتعددة تلك لكي تحققها، ولم تتوفر في بلاد اليونان زمن هزيود ولا بعده مثل هذه الظروف التي تدفع لما قام به.

والذي يعزّز هذا الأمر قراءة متمعنة لبرنامج هزيود بالتقابل مع البرنامج العراقي القديم، كما يتبدى في ملحمة الخليقة البابلية (الاينوما ايليش) أو كما تترجم ( عندما في العلى ) حيث نلاحظ أن هناك ثغرات في برنامج الأول (أنساب الالهة) تفضح مصدر استمداده مثلما تكشف عن أثر فعل الانتقال للبرنامج العراقي والذي يبدو انه لم يكن مباشرًا، بل عبر حضارة شرقية أخرى هي الحضارة (الحيثية):

برنامج هزيود

يتكون برنامج هزيود من عناصر أساسيّة، هي:

1. أنساب الآلهة.

2. تشكيل النظام الكوني.

3.سيادة الآلهة على جبل اولمبوس وسيادة زوس عليهم.

لو قابلنا هذه العناصر عند هزيود بمثيلتها عند العراقي القديم، ونحن هنا نستند بشكل رئيس على (الإينوما اليش)، مع نتف أخرى من ذلك الأدب لتوضيح الصورة، لوجدنا أنهما لا يختلفان إلا بالترتيب حيث تكون سيادة الآلهة (3) سابقة لتشكيل النظام الكوني(2) عند العراقي القديم، وسوف نبين السبب لاحقًا، كما أن الأنشودتين يتسمان بأنهما ترتيلة لتمجيد زوس عند هزيود ومردوخ عند العراقي، وهما يستعرضان الصراع العنيف الذي دخله الإلهان لإدخال النظام في الفوضى الكونية العامة حين واجها أنواعًا متعددة من (التنانين) و(التيتان) و(الوحوش)، وهما يعبران عن قوة الصراع بإسهاب، والذي تسبب بإسقاط أجيال من الآلهة حيث نجد (أنو) و(أيا) يخران راكعين أمام ابنهما مردوخ، تمامًا مثلما ستخر آلهة هزيود أمام زوس، كما يتفقان في مبررات تلك الحرب حين يؤشران (الحقد) و(الكره) الذي اعتمل في صدور الآلهة كون الأبناء قد بزوهما عظمةً وجلالًا .

إن العنصر الطبيعي يشف كثيرًا حتى يكشف عما تحته على الرغم من ستار الألوهية الفضفاض، فليس (اورانوس) جد الآلهة الإغريقية إلا (انو) جد الآلهة العراقية، وليس هما سوى السماء التي كانت مع الأرض رتقًا ولا بد من فتقهما، وهو ما حتّم اشتداد الصراع ليذهب ضحيته أورانوس حين يتم إخصائه من قبل ابنه (كرونوس)، وهو ذروة ما يتصعد إليه الحدث تعبيرًا عن إسقاط العظمة في مجتمع زراعي يحركه دافع (الخصب) مثله مثل المجتمع العراقي القديم، إلا أن الملحمة العراقية تكتفي بالإعلان أن (انو) قد خبت سطوته منذ أمد بعيد.

وإذ تتساوق الأنشودتان في مجراهما، فإن المنشد الإغريقي يحاول أن يستكمل بعض الثغرات، وفي عمله هذا يكشف عن حقيقة استمداده، فالذي يبدو أن هذا المنشد قد استمد برنامجه بشكل غير مباشر، وهو السبب فيما يعانيه من بعض الأرباك كما سنرى، وإذا شئنا معرفة مصدر الاستمداد فيمكننا هنا بالذات الاستدلال عليه.

إن سيادة الثقافة والفكر العراقي القديم في أنحاء الشرق الأدنى القديم أمر يحظى بإجماع الباحثين، إلا أنه لا يعني أن الشعوب التي ساد فيها لا تمتلك ثقافتها الخاصة بها، وعليه فان مرور هذا الفكر بها يمكن أن يعدل أو يغيّر بعضًا من معالمه، وهكذا يمكننا أن نستدل على أن المنشد الإغريقي القديم كان لديه أمشاج لصور متعددة وصلته من محيطه حاول أن يسد الثغرات من خلالها، فنجد في قصة الخليقة الحيثية أن الآله (كوماربي) يقوم بإخصاء الإله (اوليكومي) بأن ينشب أسنانه في أعضائه التناسلية، وإذا كان كوماربي قد حقت عليه اللعنة بأن تنبت في أحشائه أنسال اوليكومي الذي يسعى جاهدًا للتخلص منها، فإن الإغريقي وهو يستفيد من الإستعارة يسعى لتوظيفها لخدمة إلهه وعليه فهو يستبعد الأسنان ليستعيض عنها بالمنجل ليحقق (كرونوس) من عمله ذات النتيجة التي حصل عليها (ايا) العراقي وهي السيادة. إن دور (ايا) في المداخلة بين جيلين من الآلهة، جيل غاب وانتهى (انو) وجيل حاز السيادة (مردوخ) يبدو محاولة لتصعيد الحدث الدرامي لبيان بطولة الآله الذي انتصر.

كما نلاحظ أن القصتين الإغريقية والعراقية تتساوقان في تأشير دور الأم بصفتها محركة للصراع باستخدام أدوات مختلفة تمثلت بجمهرة واسعة من الوحوش، فـالإلهتان (جيا) ومقابلتها العراقية (تيامت) تفعلان، من وراء الكواليس، بأعنف ما يكون الفعل، تحرضان أبناءهما وتهيئان لهما أدوات الجريمة وأخيرًا تفشلان، وهما إذ يمثلان الفوضى فإن النظام لا يقوم على أكتافهما.

إن التساوق على مستوى الشخوص والدوافع والأهداف والنتائج الذي مر بنا بقدر ما يكشف احتمالية تأثير القصة الأقدم بالأحدث، بقدر ما يكشف عند الدخول بالتفاصيل مدى التشويه الذي عانته القصة القديمة في رحلة العبور من العراق القديم إلى الثقافة الإغريقية مرورًا بالحيثية.

ارتباك برنامج هزيود

قلنا أن ترتيب الأحداث الكونيّة عند هزيود يختل فيقدم ما تأخر في الملحمة العراقيّة ويؤخر ما تقدم ومثل هذا الفعل ينتهي إلى اختلال التماسك المنطقي عنده، وتصبح الأحداث مشوشة بل وعبثية. لنعود إلى الملحمة العراقية، نجد أن مردوخ يقوم بعد انتصاره على تيامت بأن يشطر جسدها ليكون الأعلى سماء والأسفل أرضًا، إذن فهو هنا يهييء المسرح للقادم الجديد الإنسان على الارض، مثلما يهييء موطنًا للآلهة في السماء. إذن نلاحظ هنا فجوة انفتحت بين السماء والأرض وهي شرط ظهور الإنسان، وهزيود من جانبه لا يغفل هذه الفجوة، إلا أنه يستبق أو يشوه الحدث ليجعلها أمرًا قديمًا لا نعلم شيئًا عن من فعله، في البدء كان (الكاوس) أو الفجوة، هنا يسحب هزيود البساط من تحت أقدام البطل، وإن مسارًا صعبًا وظّفه الكاتب العراقي لأجل الوصول إلى هذه النتيجة بوصفها فعلًا اجترحه إله فائق البطولة (مردوخ)، سرعان ما يضيع عند هزيود، وهو ما يدفعه لأن يبحث عن نهاية مناسبة يمجد بها (زوس) الذي قامت الترتيلة لأجله، فلا يجد. وبدلا من انتصار مردوخ على الوحوش التي تألبت عليه، نجد زوس مشلولًا عاجزًا لا يدري ما يفعل حتى ينقذه (هرقل) الإنسان مما هو به، فيضيع الهدف ولاندري هل أراد هزيود تمجيد زوس أم تمجيد الإنسان. ولكن كيف هيأ زوس مكانًا لهذا الإنسان؟ كان تمهيد الأرض ورفع السماء عملًا بطوليًا لمردوخ، في حين نجد هزيود يسلب زوس هذا الإنجاز ليتحدث عن ظهور الفجوة (الكاوس)، ثم ظهرت الأرض الرحيبة (صدر جيا)، فالأرض ظهرت والسماء ارتفعت ابتداء لتأتي الأحداث بعدها مما يجعل هزيود يتيه في سرد أحداث لا قيمة لها من ناحية الأهداف التي كان سلفه العراقي قد رسمها وسار بها إلى نهايتها التي حددها بدقة.

يمضي هزيود في سرد احداثه فيقول بأن الأرض ولدت ابنًا بهيًا هو إله السماء (اورانوس) ليكتنفها ويلبث للإلهة مقرًا وطيدًا، هنا تبدو الفجوة سابقة لفعل ولادة السماء، فمن أين جاء بها؟ إن قراءتنا لملحمة الخليقة البابلية تشير إلى ما يمكن أن يوضح الصورة، فـ (الكاوس) أو الفجوة إذا ما تم فهمها بصفتها العماء الكوني البدئي والاختلاط فمن الممكن أن يكون هزيود قد استنتج من الملحمة العراقية ما لم تصرح به ولكن يمكن فهمه ضمنًا، ذلك أن (تيامت) تُفهم بأنها الاختلاط والمزيج من المياه المالحة والعذبة، وهي صورة طبيعية حين يتم شطرها نصفين، السماء المانحة للمياه العذبة والأرض بمياهها المالحة، إلا أن هزيود يصرح بأن ولادة الأرض للسماء التي أشار اليها هي محض كناية، فكيف قامت السماء إذن؟

يواكب هزيود أحداث الملحمة العراقية التي نجد فيها (ابسو) وهو يهم بإهلاك نسله من الآلهة كونهم أقضوا مضجعه وحرموه من النوم حيث تبقى تيامت على الحياد، إلا أن مقتل (ابسو) يغير موقفها فتحرض أحد ابنائها (كنغو) على التمرد والأخذ بالثأر، وتسلحه بكل ما لديها من أسلحة رهيبة يتهاوى أمامها (ايا) وجميع من معه من الآلهة، مما يتطلب ظهور (مردوخ)، وهو البطل الذي يهزم الآلهة المتمردة، بل ويمسك تيامت ليشطرها شطرين فتكون السماء والأرض، إذن فمن أقام السماء فوق الأرض هو بطل يستحق أن تترنم الملحمة بإنجازه، في حين نجد عند هزيود يظهر (اورانوس) مثالًا للأب السيء كذلك، الفاقد للعقل حين يبتلع ابناءه ليس لشيء إلا القول بأنهم هائلون لم يعرف الكون لهم مثيلًا، أما (جيا) فقد أثار فعله بغضها وحفيظة ابنائه، لماذا ؟ في الملحمة العراقية نجد الأم (تيامت) حريصة على ابنائها، بل تنهر ابسو حين يسعى لإهلاكهم، فهم في جوفها، إما هزيود فيختل عنده الحدث حين ينتقل من ابتلاع (اورانوس) لابنائه إلى الحديث عن أن (جيا) ضاقت ذرعًا بابنائها في جوفها مما دفعها للانتقام من زوجها. من الطبيعي أن يختل السياق هنا، فهزيود المعروف بعقده النفسية اتجاه المرأة، لا يمكن أن يتقبل عواطف الأم العراقية وحنانها على ابنائها وغضبتها على زوجها كونه يريد إهلاكهم، فالمرأة عند هزيود هي (باندورا) حاملة الشرور إلى الأرض حين أرسلها (زوس) عقابًا على سرقة (بروميثيوس) النار وخدع الآلهة، وهكذا فهي إذ تآمرت على اورانوس وأعانت كرونوس لإخصائه، فهي هنا أيضًا تثبت عدم وفائها حين تخدع كرونوس وتتذرع الأمومة للإبقاء على (زوس) لإسقاطه. تدخل جيا المسرح ابتداء وهي تحمل أنانيتها وحقدها لتهييء المنجل أداة الجريمة ضد زوجها (اورانوس) لإخصائه مثلما تخدع (كرونوس) وهو مقبل على ابتلاع ابنه الاخير (زوس) لتخدعه بقطعة حجارة ملفوفة يبتلعها ظنًا منه أنها ابنه، والذي سيكون سببا بإسقاطه.

إن إخصاء اورانوس تسبب بسقوط قطرات من دمه على جيا فولدت أبناءً منه جعلتهم سلاحها الذي عادت وشهرته ضد (زيوس)، ليتحول المسرح الكوني إلى حرب لاهوادة فيها بين زوس رب الآلهة وأبناء جيا من زوجها السابق، حرب لا موجب لها ولا مبرر إلا تحقيق ما يحمله هزيود من الحقد على المراة، إن اعتساف الأحداث هنا واضح، فصراع مردوخ انتهى إلى إقرار النظام الكوني وتأكيد معقوليته، و بعد إقرار النظام الكوني يحثه قلبه على أن يخلق أشياء عجيبة كان الإنسان أحدها لكي يفرض عليه عبادة الآلهة لكي تستريح، في حين أنه عند هزيود ينتهي إلى فوضى لم يخلصه منها إلا الإنسان حين قام هرقل بدوره بالدفاع عن السماء ضد (العماليق)، فهل الإنسان قبل الآلهة؟

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: د.محمد حسين النجم

تدقيق لغوي: بيسان صلاح

اترك تعليقا