من ممفيس إلى أثينا: كيف أثرت الفلسفة المصرية القديمة على الفلسفة اليونانية

  ( إنَّ اليونانيّين ما زالوا أطفالًا  في مضمار الحضارة)
حوارٌ بين سولون وأحد الكهنة المصريّين أورده أفلاطون في ( محاورة طيماوس)

لمحاتٌ من الأوضاع الثقافيّة والفكريّة في مصر.

لقد كان للبيئة المصرية بعواملها المختلفة من مناخ معتدل، وتربة خصبة ومياه النيل، ومظاهر وعادات المصريّ القديم ومشاركاته مع بيئته من الجانب الثقافيّ والتفكير المنطقيّ التأمليّ دورٌ كبيرٌ في تطور تفكيره وأسلوبه العلميّ الفلسفيّ، فقد كان المصريّ القديم يعي أهمية مجالات البحث والعلم والمعرفة محبًا مقبلًا عليها، وشاعرًا بدوره وقدرته فيها، فساعده هذا التفكير المنطقيّ على تجاوز المظاهر المجرِّدة لتلك البيئة والتي كان يعتقد أنّها قد خلقت له وحده وهذا الكون الذي يحيط به من أطرافه، الأمر الذي كان له بالغ التأثير في ذاتية تفكيره، نقول أن تلك البيئة وتفكيره الممنطق بها ساعده على إدراك مشكلاتٍ أكبرَ تختفي وراء المشاهدات الحسيّة والملموسات، فخلَصَ من ذلك إلى أفكارٍ فلسفيّة وماورائية جعلته يجثو حثيثًا ويقرن المحسوسات والمدركات البصرية بالغير بصرية ويتساءل عن كنه الوجود وغايته وأصل الأشياء، وأخذ يتساءل: عن خلق الكون؟ ومم خُلِق؟ ومن الذي قام بخلقه؟
كل ذلك جعله يدرك أنّ هناك نظامًا عادلًا  يسير بقبضته تلك المشاهدات الحسيّة وراء ستار خفيّ.
فكانت قصة الخلق في برديات أون القديمة تنص على:
كان الكون فضاء أزليًا يغمره الضوء وتنعدم فيه الحركة، حتى خلق الإله رع نفسه بنفسه، فسارت الحركة الدائمة وغمر نوره الكون كله، ومن أنفاسه أنجب ( شو ) الهواء والفضاء، و( تفنوت) الماء أبا الكون وأمه، وأنجب ( نوت وجب ) الذي أنجب أربعة أبناء ( إيزيس وأوزوريس وست ونفتيس ) التي تعبر عن الخصب والخير والشر والضمير، وانتشرت نظريات الكوزومولوجيا و خلق الكون في مدن عديدة كمنف، وهرموبوليس وهليوبوليس والتي جاءت بها النصوص المقدسة تؤكد أن الماء هو أصل جميع الموجودات كما جاء: إن إله الخلق رع خرج من الماء الأزلي نون.
  والتي أخذ عنها طاليس قوله: (إن أصل الأشياء هي الماء).
أما مدينة بتاح فكانت تمثل ذروة ما وصل إليه المصريون من آراء وفلسفات بشأن الإلهيات والكوزومولوجيا والفلسفة المصرية، وجد كل ذلك  منقوشًا على حجر محفوظ بالمتحف البريطاني فيما يعرف بفقه إلهيات ممفيس، وهو أول بحث فلسفي يصل إلينا من العالم القديم، رغم زعم فلاسفة اليونان تأليفهم إياه أمثال طاليس وأفلاطون.
ويجيء في الجزء الأول منه ذكر أن المبادئ المتضادة تحكم حياة الكون، وأن عناصر الخلق هي: آتوم ( النار ) نون ( الماء ) بتاح ( التراب والهواء ) الأمر الذي جاء به بعد ذلك كل من إمبيدوكليس وأرسطو.
أما عن عبادة الحيوانات، فقد أوضح الفيلسوف والمؤرخ فلطوخرس في مقالته عن إيزيس وأوزوريس:
 أن عبادة الحيوانات عند المصريين ما هي إلا صورة رمزية، فقد رسم الصورة العامة للديانة المصرية، فعبادة الحيوانات وما يقربه من خرافات إنما كانت مجرد صور لتقديمها في أشكال ذهنية للعامة وقشرة خارجية لتقريب الأمور للجماهير أما الكهنة العارفون بدخائل ومكنونات الديانة المصرية فكانوا يدركون أن عبادة الحيوانات وغيرها من الأساطير تخفي وراءها فهما أعمق ومجردات عميقة للعالم.
فمن تلك المقالة نعرف أن الذي كانت تعني به الفلسفة الدينية في مصر لم يكن العالم العابر المادي وصيرورته  وبما يشتمل عليه من أعراض النمو والتلاشي، وإنما العالم الخالد الذي يدور حول الخلود الذي كان يتجلى في الأعداد والهندسة والفلك وهذا يشبه أفكار الفيثاغورثيين والأورفيين وأفلاطون بشكل يلفت النظر من حيث المضمون وحتى الألفاظ التي تعبر عن ذلك المضمون وتلك الأفكار. ( الفلسفة المصرية القديمة وأثرها على الفلسفة اليونانية .د/عفاف فوزي نصر)
ولا شك حول شهرة المصريون القدماء باعتقاداتهم وأفكارهم في البعث والخلود والحياة بعد الموت والروح، فاعتقد المصريون أن هناك كيانًا آخر غير محسوس يأوي إلى جسم الإنسان وهو الروح وسموه (البا)،
واهتموا بإعداد الميت وتحنيطه لملاقاة حسابه في العالم الآخر، واعتقدوا في تناسخ الأرواح والتي كان يؤمن فيها فلاسفة عدة مثل فيثاغورث وأفلاطون.
وننتبه إلى أن كل اعتقادات المصريين من الخلود والبعث والروح والحياة بعد الموت حرص علماء اليونان عندما كانوا يفدون  لطلب الحكمة في الانتباه إليها ونقلوها لبلادهم ( الأديان القديمة في الشرق .د/رؤوف شلبي).
بذلك نجد أن الحياة والفكر والدين قد امتزجوا وكونوا كتلة واحدة وكينونة متكاملة، تستمدّ أنفاسها من المؤثرات الخارجية وملاحظات القوى الإنسانية النفسية.

اليونانيون في مصر، البحث عن المعرفة:

 تميزت الفترة ما بين القرنين السادس قبل الميلاد والثاني بعد الميلاد بزيارة عدد كبير من الإغريق لمصر، من مؤرخين وفلاسفة ومشرعين ورحالة، وشجعهم على ذلك أن مصر بدأت منذ الأسرة  26 في استخدام الأيونيين والكاريين والإغريق في جيشها كمرتزقة
هذا فضلًا  عمّا سمعوه عن حكمة مصر وثرائها وآثارها، وأن حكمتها هى الملهمة للمشرع سولون والفلاسفة طاليس وبيتاجوراس وأفلاطون ويودكسوس، كما أجمع المؤرخون الكبار على أن كبار فلاسفة اليونان وعلمائهم عبروا البحر ليتلقوا الحكمة والمعرفة المقدسة على أيدي الكهنة الفراعنة وعادوا لبلادهم ليخلدوا أسماءهم، فكما ذكر ديودور الصقلي أن علماء الإغريق وفلاسفتهم كانوا يعتبرون رحلتهم عبر المتوسط من الرحلات التقليدية لكشف أسرار الحكمة والمعرفة المقدسة التي يحتفظ بها الكهنة في المكتبات ومعاهد الجماعات.
فكان الفلاسفة والمؤرخين يفدون إلى مصر لتلقي أنواع العلوم المختلفة في جامعات مصر القديمة مثل هرموبوليس جامعة أبيدوس ( العرابة المدفونة) ممفيس ( منف) طيبة ( الأقصر)
وجامعة الإسكندرية التي أنشئت في عهد بطليموس لتكون حلقة الوصل بين مكتبات المعابد الفرعونية وخزائن أسرارها وانفتاح علوم المصريين على العالم الخارجي، وكانت نقطة الجامعة تحتوي على نص مليون لفافة وبردية وموسوعة في مختلف العلوم والآداب والفنون والعقائد، وعندما أراد بطليموس الأول أن يكتشف أسرار الحكمة المصرية أمر منيتون كبير كهنة معبد إيزيس أن يكتب فلسفة المصريين وتاريخ ديانتهم، وبناءً على ذلك نشر مانيتون عديد من المجلدات عن ذلك الموضوعين، وأمر بطليموس بحظر ترجمة تلك الكتب للاحتفاظ بها في المكتبة لتعليم اليونانيين على أيدي الكهنة المصريين، ويتضح من ذلك أن أول أساتذة مكتبة الإسكندرية هم الكهنة المصريون وأن الباحثون وتلامذة أرسطو تلقوا تثقفيهم العلمي على أيدي الكهنة المصريين ودراستهم مجلدات مانيتون.

تأثير الفكر المصري القديم على اليونان: بين الإقرار والإنكار

ويقول المؤرخ والفيلسوف يوسف كرم في كتابه ( تاريخ الفلسفة اليونانية): (أما الفلسفة فالشرقيون فيها متفاوتون، فيمكن القول أن البابليين والمصريين والعبرانيين  جهلوا الفلسفة بالرغم مما بلغ علماؤهم من ثقافة عالية، ولم يحصلوا فيما يلوح سوى بضعة معارف عامة مختلطة بالدين الأولهية والنفس والعالم الآخر مشوبة بالخرافة والخيال).
وفي هذه الحدود يمكن القول أن الشرق لم  يعلم اليونان أي لم يلقنهم منهجًا أو مذهبًا؛ ولكن حفزهم على التفكير فقاموا إلى معالجة مواد بطريقة علمية على مدى قرون طويلة.
وإن البديهة التي تفيد أن الديانة والفلسفة المصرية كانتا تتسمان بالضحالة وعدم النضج، هذه البديهة يرفضها العديد من الرجال ذوي الشأن مثل يودوكسوس الذي تروي لنا الأخبار أنه عاش مع الكهنة وتعلم اللغة المصرية القديمة ومن ثم فإنه يكن بالاحترام للثقافة المصرية القديمة.
 وحتى لو كانت تلك الفلسفة ضحلة غير ناضجة فهي تمثل الأصول والقواعد الأساسية للبناء الفلسفي الذي أقام عليه اليونانييون صرحهم بعد ذلك وهو ما يؤكده بلوطرخس الذي كان يعتقد بأن الفلسفة الإغريقية قد جاءت من مصر.

نجد أن هيرودوت هو أول من أعلن أن أسماء جميع الآلهة الإغريقية أصلها مصري بقوله :

في الواقع نجد أن معظم أسماء آلهة الإغريق جاءت بلاد الإغريق من مصر.
وهذا القول عرض هيرودوت للهجوم الشديد ووصفوه بأنه محب للأجانب
وقد تخرج في جامعة الإسكندرية الكثير من علماء الإغريق والرومان ممن حملوا شعلة المعرفة لبلادهم حيث تلقوا تعليمهم على أيدي كهنة مصريين ثبت أنهم أوائل المعلمين بالجامعة، كما أسهمت الجامعة في قيام جامعات الإغريق والرومان وتزويدها بالمخطوطات والعلماء والمؤلفات بالإضافة إلى وجود بعض الاقتباسات الفنية التي اقتبسها اليونانيين عن مصر وأبرزها: أبو الهول الإغريقي
ويعترف هيرودوت بأنه يعرف أسماء العلماء اليونانيين الذين أخذوا من مصر خاصة نظريتي خلود الروح وتناسخ الأرواح، وقد علق ليجران مترجم هيرودت إن هؤلاء الذين أبى هيرودوت أن يذكرهم هم الأورفيون وفيريسيد ( فيلسوف يوناني أول من علم في اليونان خلود الروح وكان فيثاغورث أحد تلاميذه)
( الفلسفة المصرية القديمة وأثرها على الفلسفة اليونانية .د/عفاف فوزي نصر) فلاسفة اليونان ومؤرخيها تلامذة عند كهنة المصريين القدماء.

وكان كثير من اليونايين المشهورين يفتخرون بأنهم ساحوا في مصر ويرونه شرفًا تلقيهم العلم والمعرفة بها ومن هؤلاء:

أورفيوس: أول من زار مصر من علماء الإغريق وتعرف إلى الكثير من أهل الكهنة، وأشار إلى غزارة علومهم.
طاليس: وقد تلقى أثناء إقامته في مصر علوم الفلك والمساحة والهندسة وفقه الإلهيات المصري، ولقد قال عنه أرسطو ومجده بتلقيبه بأبو الفلسفة اليونانية، وقال عنه: في كتاب ما بعد الطبيعة أنه مؤسس الفلسفة و أنه من قام بإدخالها من مصر إلى اليونان، وقد تعلم الهندسة من المصريين هو وخلفائه وكانوا تلامذة لهم وللكلدانيين.
أنيوبيديس: الذي نقل عن كهنة عين شمس كروية الأرض.
سقراط: زار مصر وتحاور مع كهنة معبد زايس فكان لذلك أثر على فكره وعقيدته وفلسفته، وقد تعلم طريقة الحوار في مصر وآمن بخلود الروح البشرية وأن الكون يسيره إله واحد، وقد سما سقراط بتعاليمه في الأخلاق والتي لا تختلف عن تعاليم ماعت الفرعونية الحق والعدالة.
أفلاطون: ذهب إلى مصر بعد موت سقراط وقضى بها اثنتى عشرة سنة متنقلًا  بين معابدها، وقد تمكن من الالتحاق بمعبد أون هليوبوليس واعتنق الديانة المصرية، وقد أثنى على الفن المصري وكذلك الموسيقا وهو يحاول أن يثبت أن بلاده أخذتهما عن مصر.
ديوجين: الذي لم يعرف عن رحلته إلا عن طريق المؤرخ جاميلتوس عندما غادر بلاد الإغريق ليبحث عن الحقيقة التي وجدها في مصر، ووجدها في (علاقة الانسان بنفسه وعلاقة نفسه بعالم السماء مصدر الحقيقة، وعلاقة عالم السماء بعالم الارض والتي تضيع فيها الحقيقة).
أرسطو : قام المعلم الأول الذي كان لفلسفته تاثير كبير على فلسفات الشرق والغرب برحلات لمصر، وزار معابدها وتتلمذ على يد كهنتها وأصبح معلم الإسكندر الأكبر.
سولون: أقدم من زار مصر من مؤرخي الإغريق، تلقى درس التشريع والعقيدة والفلسفة في معبد زايس وأول من نقل قصة أطلنطس وتعد وثائقه ومؤلفاته عن مصر أهم ما جمعه سقراط ومن بعده أفلاطون والذي شجع العلماء والفلاسفة على زيارة مصر لتلقى الحكمة والمعرفة.
من ثمّ يتضح لنا تطايق نظم الأسرار المصرية مع طبيعة الفلسفة اليونانية وأن الثانية قد انبثقت عن الأولى؛ أي أن الفلسفة بكل ما تحويه من معانٍ  مختلفة تأصلت ونبتت جذورها في أرض مصر.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: أدهم حمدي

تدقيق لغوي: أحمد المسيري

الصورة: مريم

اترك تعليقا