سيرة يزيد بن معاوية

في نظري:

 تتضح كُل المسائل بموت السائِل!

أي كلما قضيت عمرك تُعاصر حدثًا ما، تتفاعل معه، وتميل إلى رأيٍ فيه، كلما حلَّلت هذا الحدث بشكلٍ سيء، ولذلك برجوعنا إلى التاريخ، تتبدّى لنا بوادر الحقيقة، وتتبلور إن فصلناها جيدًا عمّا نُعاصِر، وعن توجُهاتنا التي تهوى قراءة الأحداث بشكلٍ انتقائي، وتحول قراءة التاريخ لسرد شاعري بين مديح وتنزيه لأحبابنا واستجلاب اللعنات على من نكره؛ فللقلوب جاه وسُلطان، بإمكانه قمع وتكميم أدهى العقول…

  سيرة يزيد بن معاوية في سطور

إعلان

تحليل نسبه:

هو يزيد بن معاوية بن أبي سفيان بن صخر بن حرب بن أمية، يكنّى بأبي خالد الأموي، جاء ميلاده في 26 للهجرة. (1)

 كان الأب من الصحابة الفاتحين، ومن الأمراء المُخضرمين، استعمله الفاروق على الأردن وظلت تمتد في إمرته على مختلف بقاع الشام حتى كان أميرها في خلافة عثمان بن عفان. أما الأم كانت من نُبلاء قبيلة كلب(1) ، القبيلة اليمانية التي ظلت بعد تلك الزيجة، مَخلب بني أمية الأعظم، فبصرف النظر عن مدى صلاح وفساد الحاكم الأموي، ظل ظهره دافئًا بأخواله اليمانية، وظل صدره منيعًا بأعمامه الأمويين ورعيته من أهل الشام. فاستعصت عليه غدرات أصحاب الفتن والخوارج. وكان لأسيادنا من بني الإمام علي بن أبي طالب النصيب الأكبر من تلك الغدرات.

تحليل في الشخصية:

في كنف أم لم تحتمل الحياة الدمشقية، نشأ يزيد في البادية بعيدًا عن دمشق، واشتهر بفصاحة الشعر (2) وحب الصيد، وفي البادية، صُنِعت معادن قادة الإسلام -وأكبر خيبات أملها على حدٍ سواء-، ففي البادية تكتسب الجَلد والخشونة، ولكن فيها الحرمان من التشبب بين دوائر السياسة وذكاء أبناء الحضر في إدارة الدول، الشيء الذي افتقر إليه يزيد إلى حد كبير، لم يتوان الأب وهو من يُضرَب به المثل في دهاء الملوك، عن دفع يزيد على تحمل المسؤلية، فقد وصف المؤرخين استراتيجية معاوية بأنه كان شيخًا للعرب أكثر من كونه ملكًا، فأوصاه أباه بالعدل و التحلي مكارم الأخلاق، ودفعه خليفةً لإمارة الحج (3)، وقيادة الجيش الرديف لحصار القسطنطينية، وفي فصله الأخير من الدُنيا، أهداه وصيته الأعظم (4)، في تنبؤ عبقري للأحداث:

“انظر أهل الحجاز فهم أصلك، فأكرم من قدم عليك منهم”

أما الحسين بن علي فرجل خفيف، وأرجو أن يكفيكه الله بمن قتل أباه، وخذل أخاهأ وأن له رحما ماسّة، وحقًا عظيما، وقرابة من محمد -صلى الله عليه وسلم- ولا أظن أهل العراق تاركيه حتى يُخرجوه، فإن قدرت عليه فاصفح عنه، فإني لو كنت صاحبه عفوت عنه.

وأما ابن الزبير  فإنه خبٌ ضبٌ، فإذا شَخَص لك فالبدُّ له، إلا أن يلتمس منك صلحًا، فإن فعل فاقبل، واحقن دماء قومك ما استطعت”.(4)

ثلاث من أهم وصايا معاوية بن أبي سفيان، كانت خلاصة عشرات السنين له أميرًا وملكًا، وجمعت مشاعره أبًا وخليفة، ووصايا أضاعها المُلك من ذهن يزيد.

تحليل في إمارته على المسلمين:

“وَلِي حُزْنُ يَعْقوبٍ وَوَحْشَةُ يُونُسٍ

وآلاَمِ أَيُّوبٍ، وحَسْرةُ آدَمِ

وَعَيْشِكَ مَا هَذَا خِضَابًا عَرَفْتُهُ

فَلا تَكُ بالبُهْتانِ وَالزُّورِ مُتْهِمِي”(5)

تلك أبيات نُسِبت ليزيد، وكانت قبل أن اقتطعها في سياق شعر الغزل، لكن حين مسستها تفكيرًا، كانت كأنما كتبها هو في رثاء نفسه، وكأنما سطرها ليلخص سيرتهُ لكافة الأُمة، فبعد كل ما أحدثت يدا يزيدٍ من مآسي… كان هو مأساته الكُبرى، فظُلمهُ نزّه ورفع جميع من ظلم، إنما ظلمهُ لنفسه ما زاده إلا حسرات، ولم يكفي كارهيه ما افتعل ليتذكره التاريخ بالندم والإنكار، فزوروا عليهِ الكثير.

بتولي يزيد للخلافة، رخّت على الأمة المصائب..

 مأساة كربلاء في سطور

فور اشتمام أهل الكوفة لرفض الحسين لبيعة يزيد، تعالت الهمهمات الكوفية إلى صرخات ثورية، ووسط تغاضي النعمان بن بشير (6)، الوالي الأموي على الكوفة، تم تشكيل جبهة معارضة لكل ما يمثله يزيد من توريث وحُكم، وأتى أول كتاب من قبل سليمان بن صرد (7) واصفًا فيه الأوضاع السياسية للمدينة، واستخدم مصطلحات الإمامة والخلافة والمهدية مما يُظهِر تطور تلك الجبهة من حب آل البيت إلى التشيُّع الذي نعرفه، ثم جاء خمسون كاتبًا من أشراف الكوفة.. ثم أتى إثنا عشر ألفا أقسموا على إخلاصهم للحسين بين يدي رسول الحسين الذي بعثه ليتأكد من صدقهم، ثم جاء الرد الأموي، فعزل يزيد واليَ الكوفة، وولّى عبيد الله بن زياد، واليًا ظلومًا مُستحقًا اللَّعنة، وهو في حالة نادرة في التاريخ؛ الوالي الذي اجتمعت الأمة الإسلامية كلها على احتقاره، فتتبع مسلم بن عقيل رسول الحسين، وأسره ثم قتله وقتل من احتمى بداره(8)، وخوّف أهل الكوفة حتى حنثوا بعهدهِم للحسين، وبلغ يزيد بن معاوية ذلك، فبعث للوالي الظلوم موّجهًا:

“بلغني أن الحسين بن علي قد توجه نحو العراق، فضع المناظر والمسالح، واحترس على الظن، وخذ على التهمة، لا تقتل إلا من قاتلك”. (9)

ومع أن الرسالة تحوي موافقة يزيد على قتل مسلم بن عقيل، ولكن احتوت تبرِئته إداريًا من دم الحسين، وأن يزيد ظل لهذة اللحظة ملتزمًا بوصية والده، وأن دولته لم تتبنى توجه قتل الحسين، وتسربت للحسين رسالة تحذير من مسلم قبل أن يُقتل، ثم تلقى رسالة تحذيرية من أحد قادة عبيد الله بن زياد، وفي وقت إدرك الحسين أن لا جدوى من مواصلة الطريق، حنث أهل الكوفة واستمالوه نحو التهلكة ولكن أبى عليه بنو مسلم بن عقيل بن أبي طالب، حتى يدركوا الدم الذي سُفِك ظُلمًا، فنزل على رأيهم مطالبًا القصاص، وحينما التقى الحسين بالشرفاء وفد عبيد الله بكربلاء، قطع الحسين  الحُجة على كل ما رآه خارجيًا بلا هدف أو انتحاريًا، فطلب منه أن يأتي يزيدًا ليعرض عليه قضيته، أو يجاهد بأحد الثغور، أو أن يعود أدراجه؛ حقنًا للدماء، فأبى كلاهما عليه إلا أن يبايع يزيدًا (10)، ما لم يعطه إليهم أبداً، لم يحقن الحسين الدماء بقبول الباطل وإقصاء صوت الأم، واستشهد الحسين ممثلًا المعارضة الواضحة والجليّة لمبدأ التوريث، الذي وإن استطاع مناصرو هذا المبدأ في امتصاص هذة المعارضة من بقية الصحابة والأمة، ولكن ظل هذا المبدأ يحزّ في نفس المسلمين.

قد يعجبك أيضًا

وتأججت سوئات هذا المبدأ بتولية يزيد بن معاوية الذي يعد مثالًا واضحًا لما كان عليه من فتيان الأسرة الحاكمة من غطرسة وبُعد عن كل ما يشغل حياة المسلمين، وضعف للأهليّة في كثير من الأحيان، ويظهر ذلك قويًا في مقتل الحسين -رضي الله عنه-.

لم تحدث معركة كانت ندمًا على منتصريها وانتصارًا وتخليدًا لخاسريها مثل كربلاء، حيث استعرت الدولة الإسلامية نارًا بثارات الحسين السنية والشيعية بعد كربلاء، وانتفض بعدها العراق الذي خذل آل البيت في أكثر من مرة تكفيرًا عما فعلوه، تأججت القضية الإسلامية بعد ضعفها بموت الحسين الذي ربما كان هو الشيء الوحيد المخوّل لإعطاء قبلة الحياة لقضية التوريث وإنهاء الشورى. وظلت جملة ثارات الحسين هي الصرخة المدوية باتجاه أي أموي من قوى الشيعة والسنة وحتى قوى سياسية لا تعبأ بالدين أكثر منها بالسلطة.

موقف يزيد من مقتل الحسين:

ورد لنا أن يزيدًا بكى حينما بعث إليه آل الحسين وابنه الصغير علي، ولعن عبيد الله حينما رأى رأس الحسين، ولكن بما يفيد البكاء واللعنات وقد اصطبغت يدا يزيدٍ بالدم المُحمدي.. فلم يقتص يزيد من قتلة الحسين، ربما لأنه على حزنه،  أحس أنه استراح من منافس هاشمي شرس على السلطة، الشيء الذي ينم عن سطحية شديدة.

هناك عامل مهم يغفله البعض، وهو أن عبيد الله بن زياد قد ورث ولاية العراق عن أبيه، الذي تحدث بعض الباحثون عن كونه صاحب سلطة شبه مستقلة على العراق، فربما انتقلت تلك الاستقلالية من الأب للإبن، فصعُب على يزيد استئصاله، حتى جائت قبيلة نخع  ومخلصي آل علي وحتى الشيعة مثل المختار الثقفي، بإيعازٍ خفي من الأخ الموتور، محمد بن علي بن أبي طالب، فأهلكوا القتلة بعد موت يزيد، الذي مات جائرًا ظالمًا، وإن لم تكن كربلاء دليلًا كافيًا على ظُلمه، فبعد ضربه مكة بالمجانيق، وفعله ما فعل بأهل المدينة

الخلط بين معاوية ويزيد:

البعض يروا معاوية علّامًا للغيب! فرموه بمسؤولية كربلاء كاملة، متغافلين وصيته ليزيد بعد موته، مغفِلين بلائه في الفتح والإسلام، منذ حارب مع المسلمين في اليمامة حتى موته خليفة مبايعًا من أشراف الأمة بما فيهم الحسن والحسين، الذين لا يرتضون مبايعة جائرٍ وإن أخذ المسلمين عليه اصطفائه ليزيد، يستحيل غض النظر عن عشرات السنين من التاريخ الإسلامي، كان فيها محرّك الفتوح والعاكف على استقرار الدين بين الناس.

مصادر:

1– الطبري: ج5، ابن كثير: ج8

2- الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية، ابن الطقطقي

3- الطبري: ج5، ص226

 4- الطبري ج5 ، ص322 -323

https://www.goodreads.com/quotes/8140654-64992– 5 –  

6– الدولة الأموية، محمد سهيل طقوش

7- الحزبية السياسية منذ قيام الإسلام حتى سقوط الدولة الأموية

8- الدولة الأموية، محمد سهيل طقوش

9 – الأخبار الطوال، الدينوري

10– الطبري، ص 409، عمر بن سعد بن أبي وقاص

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: محمد مجدي غانم

تدقيق لغوي: رنا داود

اترك تعليقا