إشكالية التطرُّف الديني بين العصر والنص

قراءة تحليلية للتطرف الديني "العوامل والمسببات"

إنّ تبدّيات أحداث العنف الصّاعد والمنتشر في المنطقة العربيّة خلال العقود الماضية، وكلّ ما تشهده الحقبة من وطأة حدّة الصّراع السّياسي، وتصدر التيّارات الدينيّة للسّاحة السياسيّة خصوصًا مع نسيم الربيع العربيّ، والذي أدّى إلى اتّساع رقع العنف الراديكالي الدائر في مناطق بؤر صراع الربيع العربيّ، والذي أعطى مؤشّرًا أكثر وضوحًا لشكل منحنى الأزمة في الواقع العربي.

وتكمن الأزمة في طبيعة التساؤل الدّائر، حول جوهر وأصل الأزمة، الذي يؤطّر الرؤية على اقتصار الباعث إمّا على أيدولوجيا الإسلام السياسي وإشكاليات التراث والعصر أو في طبيعة صراع الواقع والاستبداد وعدم التمثيل السياسي.

ولتمهيد طريق الكشفِ عن العوامل -نشأة العنف الديني المنظّم- لتقديم فرصة لفهم موضوعي ومترابط للظاهرة، يقتضي البدء من تعريف العنف كظاهرة إنسانية مُركّبة عامة، وذلك لتنسيق وترتيب العوامل وربط المقدّمات بالنتائج وتفاديًا لمغالطة البَعدِية “حدث قبله إذًا هو سببه” ومن ثمّ نَسبُل لمحاولة توضيح مسبّبات نتائج الوضع الحالي ودوافعها، ويتسنّى لنا بعد ذلك تفكيك عوامل ظاهرة التطرّف الدّيني لبلورة صورة مترابطة تعبّر عن جوهر الأسباب الرئيسية لتكوين العنف الدّيني، ولذلك فقبل محاولة استقراء الوضع وجمع طلاسم المشهد العامّ، يجب أن نبدأ من تعريف سلوك العنف في العالم، ومن ثمّ الولوج منه إلى الجانب السياسيّ وتحديد أثر تبدّياته.

*العنف اختصارًا، كحركة تنمّ عن حالة عدم الاستقرار والتسبب بالأذى للغير، فهو فعل القسر والإجبار والتعسّف في استخدام القوّة سواء من “فرد/جماعة/دولة” على نظيرها، ونكتفي هنا بالتعريف العام دون عرض أشكال وصور العنف ودرجاته، ونقف من خلال مفهوم العنف لنسبل أغوار ظاهرة العنف في التاريخ.

*تاريخيًا: سلوك العنف والقوة، لازم البشرية منذ مطلع نشأتها- الانسان العاقل الأول “Homo sapian” – ونتناول هنا طرحين بارزين في علاقة العنف بالتاريخ، الأول: القول بأنّ “العنف مدشِّن التاريخ” وعبَّر عن ذَلِك توماس هوبز[١]، عندما ربط ظهور التاريخ بنشأة علم الاجتماع واعتبر حياة الإنسان قبل ذلك مجرد طبيعة حيوانية تسودها حالة العنف المعمَّم، فلا وجود لسلطة تكبح النوازع العدوانية وتقنِّن التنافس في صراع البقاء، ويشترك سيجموند فرويد[٢] في نفس طرح هوبز؛ حيث يرى الإنسان كائنًا عنيفًا وعدوانيًا بطبعه، وذلك على اعتبار أنه محكوم بغرائز فطرية وأهواء تُحتّم عليه القيام بسلوكٍ ذي نزعة عدوانية قصْدَ إشباع حاجته حتى إن العقل لا يكبح ذلك، ولذلك اعتبر هوبز العنف مؤسس الاجتماع والدولة التي تحتكر العنف وتملك سلطة تجعل من العنف مؤسسي، وتبنّى فرويد ذلك أيضًا في تحليل وجود المؤسسات الدينية.

إعلان

أمّا الطرح الثاني فيعرِض العنف كظاهرة داخل التاريخ وعبر عن ذلك كارل ماركس[٣]، بالتأكيد على أنّ العنف وليد الصراع الطبقي، فبعد مجتمعات المشاعة الأولى وانقسامها إلى طبقات تتمثل في الطبقة المستغِلة والطبقة والمستغَلة (أسياد ضدّ عبيد، إقطاعين ضدّ أقنان، وبرجوازية ضدّ بروليتاريا) ومن خلال التحليل الماركسي يتحدد العنف في شكلين “السياسي والاقتصادي”، ويكون العامل الاقتصادي صاحب الدّور الأساسي كمحرك لتطور المجتمعات، ومع الاختلاف في التحليل لدور العنف في التاريخ، إلا أنّ العامل الواضح لدينا في كون العنف ظاهرة إنسانية مركبة ومتعددة الجوانب والتغييرات، ولا يمكن تفسيرها بمتغيّر أو عامل واحد فقط، فالمؤكّد أنّ هناك مجموعة من العوامل تترابط بعضها على بعض شرطًا أو عرضًا، وتتفاعل وتتأثر بطبيعة المعطيات سواء بالإيجاب أو السلب.

العنف المُشرعَن

وكما أوضحنا أعلاه أنّ مع ظهور الدولة بدأ العنف المؤسسي، واحتكرت الدولة القوة واستخدام العنف، وسلبت الجماعات والأفراد الحقّ في استخدامه؛ وذلك بإضفاء عملية شرعنة من المجتمع لحقّ الدولة في الانفراد به، واستنادًا لتعريف ماكس ڤايبر[٤] للدولة- بأنها هي التي تدّعي احتكار العنف المادي المشروع، ويجب أن تتمّ عملية الاحتكار بإضفاء الشرعية والمبرّر لاستخدام العنف-وداخل الدولة يتصارع المجتمع حول السّلطة وتتنافس الطبقات، ومن ثمّ نجد أطروحات مثل الماركسية تشرعن العنف الثوري من قِبل البروليتاريا، والمقاومات للاحتلال والاستبداد تشرِّع في وقتٍ ما حقّ الاغتيال السياسي، على سبيل المثال، ومعظم الثورات تقوم على مظاهر العنف المندلع منها ،فإذًا، العنف هنا يمثل أداة رفض واعتراض ووسيلة للضغط لتحقيق أهداف معينة “سياسية أو اقتصادية …” ويأتي اللجوء للعنف كخيار نهائي وضروري في حالات الرفض المطلق والراديكالي، ويكون لروادها بالطبع رؤية وشرعنة لذلك.

عوامل تحليل العنف:-

ونؤكّد أنه لا يمكن إرجاع ظاهرة العنف إلى عامل محدَّد، ولذلك لا يمكن فهمها إلا في سياق تركيبها، وسنحاول قراءة وعرض الواقع من خلال ما تيسّر من النظر في العوامل بالترتيب والحركة التالية:
-العامل السياسي والاقتصادي
-العامل الاجتماعي “sociology”
-العامل النفسي “psychology”
-العامل الثقافي والديني(الهويّتي)

وقبل السّرد الاستقرائي للعوامل، ولتكوين قوام التطرّف الديني، يجب التنويه إلى أنّه من الهامّ التمييز بين الأسباب المباشرة الفاعلة لحدث التطرّف وبين تلك العوامل غير المباشرة، والتفريق بين أصل ومحور الأزمة وبين الأسباب والعوامل البنائية الكامنة والتي تعتبر بمثابة المظهر أو الحافز والشرارة، فواقعة تعذيب الشاب خالد سعيد قبل الثورة المصرية لا تعتبر سببًا مباشرًا لاندلاع الثورة ولا حتى بسبب ارتفاع الأسعار، ولكن يكمن ذلك في مجموعة من الأسباب المتراكمة والمترابطة بالواقع أدّت بالأزمة للانفجار من شدة الضغط، ويجب التنبيه إلى أنّ التأثير النسبي لهذه العوامل ليس واحدًا بل يختلف من دولة إلى أخرى طبقًا للاختلافات والتمايزات المرتبطة بالتركيب البنيوي.

الطبيعة السياسية والاقتصادية:-

‎ ويبدأ العرض التحليلي من المشهد العام والعالمي، عالم السياسة والنظم الاقتصادية، حيث هيمنة القوى العظمى والشركات والعولمة وفرض القوى للتبعية سياسيًا واقتصاديًا، والسعي الدائم للحفاظ على التوسع والهيمنة، وطبيعي أنّ السياسة التوسعية عبر التاريخ أخذت شكل تطوّر الواقع، من الغزو المباشر المعلن إلى السيطرة والتبعية غير المعلنة، من همجية وغوغائية العدوانية والبربرية إلى النظم الڤيبرية والعقل الأداتي.

‎في العصر الوسيط والتوسّع العربي الإسلامي ومن بعد السيطرة والغزو على أيدي الإسبان والبرتغال، ومن ثمّ عصر الثورة الصناعية وهيمنة الإنجليز والفرنسيين (الإمبريالية الجديدة) وما بعد الكولونيالية وعصر الذهب والدولار (مؤتمر بريتون وودز)، والسّطو الأمريكي، وكلّ ذلك من نزعات البشر من أجل السيطرة والتفوق لا بدّ أن يصاحبه الجشع في امتلاك القوة المادية والاقتصادية التي تمكّنه من فرض الهيمنة، وذلك عبر إخضاع أكبر قدر من مصادر الموارد تحت السيطرة والنفع سواء المباشر أو غير المباشر، وبما أن الاحتلال المباشر أصبح غير مناسب للعصر وحقوق الأمم وتقرير المصير، فيكون المناسب نزع الاستقلال الذاتي عن أحقال النشاط الاقتصادي ومصادر الموارد، والاستفادة من استمرار بؤر الصراع في بعض المناطق، والارتباط بمصالح مع طبقات حاكمة شمولية وفي الأغلب تكون عسكرية..

..الإدارة السياسية انعكاس للمصالح الإقتصادية..

الغزو من خلال المشاريع والشركات، والسيطرة بحجّة المساعدات الدولية وتخفيف الفقر والبؤس وكلّ هذه الشعارات من الإيثار، ما هي إلا أَثرة للذات، وهذا الشكل الإمبريالي الحديث في استعباد الشعوب من أجل الموارد والطاقة، و تحويل البلاد إلى عنقود من العنب يختار منها ما نفع (حليف وتابع وحقل موارد ومشاريع وربح)- هذا حكم الشركات الذي قسّم العالم إلى مناطق اقتصاد نوعية تخدم كل منها على حدة أغراض وأهداف الشركات الأمريكية- ( فنزويلا والخليح والمكسيك للنفط، أمريكا اللاتينية للعمالة الرخيصة، الصين للاستهلاك)، ولذلك تستخدم الإمبريالية منظمات كـ صندوق النقد والبنك الدولي كأداة تضغط من خلالها على دول العالم الثالث، لفتح أسواقها أمام الشركات متعددة الجنسية والعولمة التجارية، وكل ذلك من مظاهر استغلال البلاد التي أسموها “النامية” -موارد طبيعية وعمالة رخيصة- هي التي تزود مشروعات وأنشطة الشركات التجارية “حكم الشركات Corporatocracy” [٥] واستمرار تتابع السيطرة على الشرق الأوسط بالهيمنة الاقتصادية والتدخل السياسي والتجزئة والتفتيت والإغراق في المديونية، وتقسيم العالم لقطاع متقدم وقطاع نامي ومتخلف، وسيادة أنظمة ديكتاتورية تحكم بالقبضة الأمنية وفزاعة الخوف، كلّ ذلك يخلق حالات رفض اجتماعي وحالات للاحتقان داخل المجتمعات العربية (كنموذج)، وتتشكل من رحم الحالة والمعاناة حركات مقاومة بأيدولوجيات مختلفة ناقمة ورافضة للسطو والهيمنة والتبعية ومعارِضة لسلب الإرادة والاستقلال السياسي غير المباشر، وقهر وقمع الاستبداد السياسي العسكري، واحتجاجات أخرى تندلع من تبعات التراجع المعيشي والفشل الاقتصادي والتنموي. وقد جاءت رياح الربيع العربي تعبيرًا عن روح التغيير والتعبير عن الذات والتطلّع لأهداف كثيرة مفقودة، وظهور العنف مع الثورات بتفاوت نسبي، يكون ناتجًا بالأصل عن حالة اضطراب واحتقان من وضع ما.
ومن هنا ننطلق خلال الوضع الاجتماعي.

العامل الاجتماعي

يتحدد المنظور الاجتماعي على قدر سمات ملامح الشكل السياسي والاقتصادي الموجود، فيرتبط التوازن الاجتماعي باستقرار الأوضاع السياسية والاقتصادية، وتحقق حالة توازن داخلي، تجعل المجتمع في وضع سلم واستقرار، ويظهر ذلك بناءً على درجة الصراع ومعادلة القوى الداخلية وتأثير الهيمنة من الخارج، فكما سبق القول أنّ العنف يؤدي لوضع غير مستقر، ولكن ذلك لا يعني بالضرورة أن الوضع كان مستقرًا بالأساس، بل على العكس، يغلب أن يكون ناتجًا عن حالة غضب متراكم واحتقان كامن، ينفجر من شدة الضغط، وهذا ما شهدناه في حركات الربيع العربي -حالة غضب اندلعت كالنار في الهشيم وظهرت المطالب الاجتماعية والتعبير عن اللاعدل الاجتماعي والاستغلال الطبقي-وخروج جماعات وحركات سياسية إلى المشهد، والتي كانت تعاني من فقدان التمثيل السياسي، إلى جانب تأثير الفشل الاقتصادي والتنموي في حالة المجتمع، والذي أخرج بظلال كبت مرارة الفقر والمعاناة إلى السطح.

.. “الفقر لا يقود إلى الاستقرار والبطالة لا تؤدي إلى الأمن بل إنها الأرضية الاقتصادية والاجتماعية لبروز حالات التمرد والعنف [٦]” .

بيد أنّ وضع التقلّب الاجتماعي يُبرز محاولات تنحو لتحقيق أسس الديموقراطية والمواطنة والتنمية والعدالة، أي المشاركة المجتمعية والتمثيل لجميع فئات المجتمع، والذي يجعل مجال الصراع والتنافس داخل الأطر السياسية بالآليات المؤسسية والقانونية وبالتالي يؤدي إلى توازن اجتماعي واستقرار، ولكن مع تراجع بعض الأنظمة جرّاء الانتفاضات “مصر وتونس”، واستمرار الصراع “سوريا وليببا واليمن”، أدى لخلق سقف من الآمال والطموحات الجديدة للتغيير الجذري عمّا سبق، وبقي مكسب الهوية والتمثيل السياسي والطموح المعيشي حقًا غير قابل للتراجع عنه، ومن هنا يتشكل العامل النفسي مجتمعيًا.

العامل السيكولوجي ” نفسياً “

وتأتي خيبات جيل الربيع العربي من الحقبة الحالية، وذلك من جراء السير في الاتجاه المضاد لما كان متوقعًا من الثورات لصالح أهداف التغيير، والحد الأدنى منها وهو التمثيل السياسي والمجال المفتوح. أما الأثر الأقدم في الشخصية العربية فيتلخّص في تاريخ العدوان القريب على أفغانستان والعراق بالأخص، وكل ذلك تحت مسمى الحضارة. وكل تلك الممارسات المناقضة للمبادئ التي تأسست عليها الحضارة، قد ألقت بظلالها داخل وجدان الشعوب العربية، وكل أشكال الهيمنة وفرض الإرادة أصبحت جلية عن السابق، وهذا الشكل يعبر عن حالة من الحرمان والإحباط من الحضارة، بالإضافة إلى إحباط فشل مشاريع التنمية الداخلية والتفاوت الواسع سياسيًا واجتماعيًا.

ومن بعد علوّ الطموح والآمال في الربيع العربي وتغيّر مجرى الأحداث وتحولها إلى خريف ذابل الحصاد، رَسّخت تلك الفترة حالة من الهزيمة والإحباط نتجت عنها حالة شعورية جمعية بالفشل وعدم الجدوى من التغيير، ومن هنا يكون أقصر طرق العجز هو خيار العنف، ولذلك وجدنا تلك الفترة هي الأكثر قابلية للترويج والانضمام للتنظيمات العنيفة، وهنا، لا أتحدث عن سبب نشأة تلك الجماعات “القاعدة/ داعش .. أو غيرها” (لذلك بحث آخر)، ولكن لأبيّن مدى تزايد التفاعل الملحوظ خلال فترات سقوط الربيع العربي، فبالطبع أعضاء المجتمع الأكثر رفضًا للواقع والأشد عجزًا عن تغييره، تُمثّل لهم تلك التنظيمات طوق نجاة يستوعبهم من حالة الهزيمة ويعيد تجديد الأمل داخل نفوسهم، ولكن ذلك يتطلب وجود بديل فكريّ يجذب الثقة ويُشكل المثال الأفضل من الوضع وتعويض ضياع الهوية، ومن هنا ننتقل إلى
المحور الثقافي والاعتقاد الديني:

ومما سبق من تكوين صورة عن صيرورة وجدلية الواقع وعن طبيعة العنف وتبدياته في شكل الرفض السياسي والاجتماعي، يأتي دور البنية المعرفية والموروثات الثقافية، كامتداد لعوامل نشأة ظاهرة التطرف الديني، ويتمثل المحور الثقافي هنا في جانبين:

  • القالب المُشكِل لسمات شكل فعل العنف (التطرف) -ويترتب ذلك بناءً على أبعاد الظاهرة الدينية الخاصة- حيث أن الفهم الديني السائد يعبر عن طبيعة شمولية، مما يُحبِّب الحسّ الطائفي والتعصب الناتج عن الاعتقاد بامتلاك المعرفة والصواب المطلق.
  •  العامل المحفّز والمحدد لقابلية تبديات العنف من الجانب القيمي، وهذا الملمح يربط الحاجة للعنف كضرورة في السياق السياسي والاجتماعي والنسق الفكري، ولذلك يحتاج لقيمة ثقافية تُضفي المشروعية على الأفعال العدوانية والمتطرفة، بالإضافة إلى تحديد عنصر الجدوى من ذلك (هدف/بديل) .

ولأن المعتقد الديني هو المصدر الأساسي للتكوين الثقافي للمجتمع، ومع التقدم والتنمية من حولنا، يُطمس الوجدان المجتمعي في حالة من فقدان الهوية الثقافية التي يؤمن بفاعليتها وصلاحيتها اللامنتاهية، وتكون هذه الحاله النفسية الكامنة والمستشرية -في الشعور بالحنين للماضي “نوستاليجيا”- وتحقيق فترة المثال المنشود -صدر الإسلام- (حقبة الجيل الأول في عهد النبوة والخلافة الراشدة” ومفهوم السلف الصالح) ولذلك كان الحنين لنقل مظاهر الماضي للحاضر هدفًا أسمى لاسترجاع الذات المفقودة- وهذا الفكر الارتكاسي قابع برجعيته في الوعي الجمعي للمجتمع، فالتاريخ المعروف عن الخلافة الإسلامية وفترات الهيمنة والتوسع، يجعل الموروث الثقافي والمعرفي-الاعتقاد الديني- ذا مكانة تاريخية فاعلة.

ومن هنا، يكون مدى العنف وملامحه مستمدًا من النصوص المرتبطة بسياقها التاريخي -مفهوم الجهاد[٧]، ومع نسبية مدلولات النصوص وتأويلاتها وخضوعها لعلاقة جدلية مع الفهم البشري -باعتبار الظرف المكاني والزماني- ويكون شكل العنف المشرعن المستمد من النصوص الدينية- مخالفًا لقيم العصر الحالي ولشرعية الدولة النظامية، وذلك كما بينّا لاعتماد نفس قيم العصور المنقضية، وتلك الرجعية الارتكاسية هي سمات الفهم الديني الأصولي والشمولي السائد الذي يمثل احتكارًا مطلقًا للمعرفة والصواب، ويتجلى ذلك في كلّ مظاهر حركات التطرف، سواء ضد الأقليات والطوائف المختلفة أو ضد الإبداع والتقدم الساري، ويسطر التاريخ الإسلامي كمًا حافلًا باستخدام العنف المفرط ضد الحكم السياسي(الخلافة) -الخوارج أول جماعة سياسية معارضة انتهجت أسلوب العنف لتحقيق أرائها “العدل والشورى” فيما يتعلق بأسلوب الحكم- أو استخدام العنف من جراء الاحتجاج على النمط الاجتماعي “اللاعدل” مثلما فعلت فرقة القرامطة.

-أقصى مراحل التطرف في استخدام العنف و”أسلمة الإرهاب[٨] “:-

يرتبط مفهوم الإرهاب بأفظع مظاهر الدموية وأقصى حالات العنف إفراطًا وتطرفًا، ولكن نجد أن استخدام كلمة “الإرهاب” مُقتصر على الدلالة الخاصة للعنف الإسلاموي، وذلك مما يعبر بوضوح عن وضع اصطلاحي يفرضه التوجه السياسي للكيانات النظامية، التي تقوم بإضفاء عملية تصنيف وحصر للعنف والتطرف -الغير شرعي- لخلق ذرائع ومبررات لاستخدام العنف المؤسسي والدولتي -الشرعي- ومن ورائه غرض المصالح الاقتصادية والسياسية، والحفاظ على السطو والهيمنة لقوى الإمبريالية، ولا يجيء بالاستخدام الدلالي من الجانب المعرفي والمعياري، بل إنما لأغراض كامنة تظهر أثارها في الممارسات السياسية للعنف الدولتي. وهذا السياق الخطابي الغربي، الذي يُعلن ويعلي من قيم الحقوق والحريات، ويضفي أشكال العقلانية على النمط الحداثي الغربي في الإدارة والفلسفة السياسية، له صيغة خطابية تحمل ظاهرًا وكامنًا، الشكل الظاهر يُستفاد من خلاله في إيهام الشعوب الغربية بإعلاء إرادة الحرب على الإرهاب بادعاء نصرة الإنسانية وحماية الحضارة، أما الكامن من وراء الخطاب، تأتي وراؤه السياسات الإمبريالية.

بيد أن الخطاب الغربي يتجاهل عن عمد، عامل الأزمة في سياق الوضع العربي والذي يقف بدوره عائقًا أمام التحرر من التبعية وفرض الإرادة، سياسات تغزو وتعتدي وتتحكم، وتتملص وتخفي العنف الظاهر وراء محاربة الإرهاب.

واصطلاح الإرهاب يقع في “اختزالية مفرطة”؛ اختُزلت مشاهد العنف والتطرف في مظاهر العنف الإسلامي، والذي بطبيعة الحال يُصدّر صورة إدراكية نمطية عن الإسلام كَدِين بأنه مصدر ومنبع التطرف في الخطاب اليميني الغربي، وهذا ما أنتج حالة الذعر والخوف من كل عربي أو مسلم -إسلاموفوبيا- في الخيال والانفعال الشعوري الجمعي في الغرب، ونجد ذلك في صورة التعامل مع المهاجرين في الذهن الغربي والاوروبي [٩]. وهذا التأطير للعنف، يُبعد الأنظار عن الإرهاب الرئيسي وأصل الفعل ويهتم بناتج الفعل، فالقياس المقارن بين أحداث العنف المتطرف -عنف الدول المبرر ضدّ عنف الأفراد والجماعات المحلل- لن يصل بالطبع، لحد جرائم مثل استخدم النابلم في فيتنام، وقذف الشعب الأفغاني والعراقي، واستباحة دماء ملايين الأبرياء أو إلى أحداث الإبادة في رواندا! ماذا يسمى هذا؟! إرهاباً أم أحداثًا عرضية! وهل يتّسق دعم وتمويل الانقلابات والديكتاتوريات القمعية، ومساعدة حكوماتٍ ترتكب جرائم بشعة وواسعة النطاق ضد الإنسانية، هل يتسق كلّ هذا مع دعوات حماية الإنسانية!
وبهذا يُستعمل الاصطلاح لسلب الإرهاب الإمبريالي إجرامه، وقصره في نطاق الردة الإسلامية!

.. ” والعنف الارهابي-النظامي- الحديث يرفس الشكل الهمجي والغوغائي من العدوانية-البدائية والبربرية – ويجعل إستعماله في شكل بيروقراطي منظم ومرتبط بوسائل الكفاءة والدقة وفصل المشاعر وتحييدها لأغراض عملية .. ”

والمصالح الغربية وثيقة الصلة مع الاأنظمة العربية ، وتتحدد طبيعة السياسات بارتباطها بالمصالح الإقتصادية-كالنفط – [١٠]

-إرهاب الهوية

-والتاريخ الحديث للعنف الإسلاموي يكشف بوضوح الإرتباط الوثيق بالسياق السياسي في الحاضنة لطبيعة الهوية ، فإرهاب الهوية رد فعل جدلي على الارهاب الإمبريالي العالمي والإرهاب النظامي الدولتي ، وذلك بالإتفاق على طبيعة الموروث والفهم الديني
السائد-ارتكاسي/تقليد أعمى-والذي يحتفظ بمفاهيم عفى عنها الزمن وتطور العصر والمعرفة -الحاكمية لله/صالح لكل زمان ومكان- والذي يتضمن نزعة تبشيرية شمولية-الخلافة/جهاد الطلب- وسمه البنية الثقافية قائمة على التوحد حول مفهوم واحد-حقيقة مطلقة-وذلك يعبر عن رفض التنوع والازدهار ، وتقبع الهوية الثقافية بذلك في التخلف الحضاري .

.. “إنَّ الهويَّة الثّقافيَّة التي يمكن أن تكون ذات تأثير هائل ورئيس في سلوكياتنا وتفكيرنا لا تقف معزولة عن التَّأثيرات الأخرى، بل هناك أشياء أخرى تؤثّر فيها مثل الطّبقيَّة والعنصر والنَّوع والمهنة والسياسات.”[١١]

وكما أشرنا في النظر بين عوامل ظاهرة العنف الديني، والتأثير الجوهري للمناخ البيئي السياسي في تفعيل الهوية المتآكلة من جراء عوامل التعرية الزمنية، وذلك لأن الواقع الموضوعي يفرضها كمرجعية ثقافية متاحة.

.. “إذ قد ينتج عن بعض الهويّات فكر دموي وخطاب إقصائيّ وعنف رهيب، و”النزاعات الوحشية قد تتغذّى من وهم الهويّة”. [١٢]

فالقمع الملحق على الإسلاميين في حكم عبد الناصر، كان مناخًا مناسبًا لتكوين حالات الانفصال الشعوري والإحساس بالاغتراب عن المجتمع والدولة، والكفر بالوضع السياسي والاجتماعي وقدرته على تمثيلهم بطرق شرعية، فنجد مفكرًا كسيد قطب ينقلب به الحال داخل سجون ناصر -بكتابه: معالم في الطريق- الذي ألّفه في ظل وضع قاسٍ داخل السجون وتحت وطأة التعذيب، واستقى قطب تلك الرؤية من المفكر الهندي “المودودي” والذي كان يعاصر فترة ما قبل تقسيم الهند -باكستان- كأقلية في هذه البلاد -تحت الحكم الاستعمار البريطاني/ الحكم الهندي.
ويُعدّ كتاب قطب مرجعية للتطرف الإسلاموي المعاصر وأيقونة في التأصيل الجهادي الراديكالي -(التكفير والهجرة) و(الجهاد) و(الشّوقيين) و(القطبيين) و(طالبان) و(بوكو حرام) و(داعش)- وتأتي نشأة جماعات التكفير حينها من سوط الجلّاد والإقصاء -شكري مصطفي (مثالًا)/سجون سوريا والعراق- وهذا الأثر النفسي لواقع الظلم والاضطهاد، يؤدي بدوره إلى واقع اضطهاد لضحايا جدد.

وبذلك تتحدد مسألة إرهاب الهوية على بواعث ثقافية وسياسية، الأمر الذي ينتج فكرًا إقصائيًّا دمويًّا مرتبطَ الصّلة بالظاهرة ككلّ.

ومن المهمّ توضيح أنّ التحليل محلّ البحث، لا يقلّل من أثر إشكاليات الموروث وجمود الفقه وقصور آليات الاجتهاد القديم مع مقتضيات العصر، وإنما هو محاولة لوضع فاعليةِ كلّ أثر في سياق بنائه التركيبي محلّ الظاهرة بما يتناسب مع السياق الموضوعي والتاريخي. أما موضوع أزمة الخطاب الديني -كونه محور هامّ في الحفاظ على بيئة خالية من التعدد والاختلاف- والتي تعبّر بالفعل عن عقبات في قضايا التعايش وقبول الآخر، مما يجعل تقدم وتطور المجتمع موقوف، وبالرغم من أننا نرى بالفعل أن التراث يقف وراء عديد من الأحداث كعامل مباشر للتطرف (طائفية وتحريض) ولكنها تكون، على الأغلب، بشكل عرضي، إذ يرجع ذلك لقوة الأنظمة السياسية وترابط منظومة المال، مما لها القدرة على التلاعب بالعامل الديني.

أما تداول العامل الديني والثقافي، كعامل رئيسي وسبب مباشر لظهور حركات الجهاد الراديكالي (المتطرفة) في المنطقة، فينطوي على الكثير من عدم الاتساق مع نسق تحليل وترابط العوامل الآنف ذكرها، فادّعاء أنّ السبب الجوهري يكمن فقط في وجود نصوص تحضّ على العنف، تحليل قاصر وغير كافٍ لشرح مظاهر الأحداث وارتباطها -كما لو كان الافتراض على العكس أيضًا- فالتعامل الموضوعي يتناول دراسة المعتقدات الدينية كظاهرة إنسانية واجتماعية قابلة للتغير والتطور وحتى الاندثار؛ فإذا نظرنا إلى ديانات غير شمولية كالهندوسية (لا تبشيرية)/ والبوذية سنجد بعض مظاهر التطرف منذ عقود، وذلك بالرغم من خلوّ الديانتين من أي نصوص محرّضة على التطرف؛ ولكن، كما أشرنا، كلّ حدث مرتبط وناتج عن مسببات من جدلية الواقع مثل احتكاك الهندوسية بالديانات الشمولية مما أوجد بعض التناحرات والتطرف. ومن ناحية أخرى، فإن قياس دوافع نشأة الحركات المتطرفة بالتماثل مع نشأة حركات التوسع (ما يسمى الفتح العربي) يقع في نفس المغالطة، التي تتصورها تلك الجماعات من إقامة السابق على الحاضر.

ولذلك نأكد ختامًا:-

أنّ التطرف الديني كأحد مظاهر العنف حدث مركّب، وبعد عرض عدّة جوانب، ألقينا الضوء على العوامل المباشرة والتي ترتكز على غياب التمثيل السياسي وفقدان الهوية واللاعدل الاجتماعي، والتي أدت لخلق مساحات كبيرة من الرفض الجذري للمنظومة ككلّ، إقليميًا ودوليًا، فيرجع الجوهر ولبّ ظهور حركات العنف المتطرف إلى الردة على مظاهر فرض الثقافة والتبعية وسلب الهوية، والتطرف المشرعَن، من قِبل الدول العظمى، وكلّ ما شهدناه من جرائم جماعية.

وهذه البيئة تنسجم بشكل ملائم مع أحادية الثقافة المجتمعية الغارقة في التقليد، فتمثّل هوية تخلّف، وما كان لكل عاجز وغريق غير الاستنجاد بالماضي العريق والتاريخ المسطر، وهنا تكون دور البنية الثقافية الارتكاسية -الرجعية- المعيقة للتقدّم والنموّ، والتي تقوم بشرعنة عنفها بناء على الحسّ والديني والمقدّس.

——————————-

الهوامش:
 [*] مظاهر عنف متطرف ليست على صلة بالبواعث الدينية من:- حرب الريف في المغرب الأقصى: مشهد من مذابح الجنود النظاميين الإسبان بحق شعب الريف الأمازيغي 1922
 ‏Guerre du Rif, Le massacre du peuple rifain amazigh par les Regulares
 ‏espagnols en 1922 (Photowikipédia)

 [١] توماس هوبز "Thomas Hobbes" (١٥٨٨-١٦٧٩)، فيلسوف وسياسي إنجليزي .
 [٢] سيجموند فرويد "Sigmund Freud" (١٨٥٦-١٩٣٩)، طبيب نمساوي ومؤسس علم التحليل النفسي
 [٣] كارل ماركس "Karl Marx" (١٨١٨-١٨٨٣)، فيلسوف ألماني وعالم إجتماع وإقتصاد ومؤرخ ، مؤسس الشيوعية العلمية.
 [٤] ماكس ڤايبر "Max weber" (١٨٦٤-١٩٢٠)،فيلسوف وعالم اجتماع وسياسي ألماني.
 [٥] مفهوم حكم الشركات: الوارد في "الاغتيال الاقتصادي للأمم: اعترافات قرصان اقتصاد" (لجون بركنز)
 [٦] محمد محفوظ أسباب ظاهرة العنف في العالم العربي، شبكة النبأ
 [٧] ابن تيمية. "فقه الجهاد"، تحقيق: زهير شفيق
 [٨] ونجد أن الجابري يقرر تلك الحالة، فيقول: "والواقع أنَّ ربط "الإسلام" بالمهاجرين عمليَّة فيها كثير من التعسُّف: فمقولة "المهاجرين" في الخطاب الأوروبي لا تعني شيئاً واحداً محدَّداً، فهم تارة أولئك الذين يقيمون في أوروبا إقامة غير قانونيَّة، ويتمُّ التعامل مع المهاجرين في الخطاب العنصري الشوفيني، لا بوصفهم يقيمون بصورة غير قانونيَّة بل بوصفهم عرقاً آخر، وقد تمتدُّ العنصريَّة أحياناً إلى اعتبار كلّ من ليس أصله من العرق صاحب البلد مهاجراً غير مرغوب فيه"، (مسألة الهويَّة: العروبة والإسلام والغرب) محمد عابد الجابري.
 [٩] يتحدث إدوارد سعيد تحت عنوان <الإسلام والغرب>: "عندما أرادت شركة إديسون المتحدة الأمريكيَّة (شركة كون إيد) أن تقنع الأمريكيين بضرورة توفير مصادر بديلة للطاقة، أذاعت إعلاناً تلفزيونيَّاً مثيراً في صيف 1980، يتضمَّن لقطات متحرّكة قديمة لبعض الشخصيَّات المعروفة في منظّمة البلدان المصدرة للنفط التي تلبس الزيّ العربي،ولم يشر الإعلان إلى أيٍّ من هذه الشخصيات بأسمائها، ولكنَّ المذيع قال بصوت المنذر المحذر إنَّ هؤلاء يتحكَّمون في مصادر النفط الأمريكيَّة"، (تغطية الإسلام) ، إدوارد سعيد
 [١٠] "أسلمة الإرهاب/الراديكالية" عبارة استخدمها الباحث الأكاديمي الفرنسي -أوليفييه روا"Olivier Roy" في كتابه(الجهاد والموت)، ويرى روا أن أسباب الارهاب (بنيوية) لا تقتصر على جانب معين، وتتخصص دراسة روا حول الشباب الجهادي الغربي، ويرجع سلوكهم الراديكالي وتمردهم إلى البيئة والمجتمع الفرنسي ، لا تعبيراً عن المجتمع المسلم وهمومه.
 [١١] يرى محمود أمين أنَّ "الهويَّة ليست أحاديَّة البنية، أي لا تتشكّل من عنصر واحد، انظر: محمود أمين العالم: الهويَّة مفهوم في طور التّشكيل، مؤتمر "العولمة والهويَّة الثقافيَّة"
 [١٢] تتناول أمارتيا صن موضع إشكالية الهوية وعلاقتها بالتطرف في كتاب "الهوية والعنف" (سلسلة عالم المعرفة)، وترى أمارتيا أنّ التطرّف حركة تمرّد على "المنوال النموذجي" الذي يوجّه ثقافة الشعوب وجهة متوازنة ومطمئنة، ولئن كانت المجتمعات المتقدمة راسخة في مناويلها المرجعيّة، فإنّ المجتمعات الإسلامية تعيش مخاضاً ثقافياً وتحوّلات اجتماعية وسياسية عصيبة، وهذا الأمر يجعل من المنوال المرجعيّ هشّاً غامضاً قابلاً لعدّة تأويلات، ويجعل من الهويّة المنبثقة عنه هويّة مضطربة وعنيفة وربّما قاتلة في بعض الأحايين. وعلى هذا الأساس لا يمكن الفصل بين مسألة "التطرّف" وإشكالية الهويّة. وما التطرّف في حقيقته إلاّ تحوّل في طبيعة الهويّة ذاتها، إذ تحوّلت من هويّة مبدعة تبحث عن سبل الحياة إلى هويّة قاتلة تجلب الدمار والخراب، وآية ذلك "أنّ الهويّة يمكن أيضاً أن تقتل وبلا رحمة".

 

إعلان

اترك تعليقا