الصورة الوصفية لـ 2018

سمعت اليوم صفيرًا في أذناي، سمعته أكثر من أي يوم، ليس أكثر حدة إذ يمكن التعامل مع الحدة، إنه يصبح أكثر اتصالاً حتى إنك لتعجب لمدى الخفة التي يهمس بها، هو كالصوت الذي يخرق أذنك أحيانًا في الصباح التالي لاحتسائك قدرًا كبيرًا من الخمر، أو في الليلة التالية لاحتسائها، بعدما تتركك وحدك.

**

في العام 2032 طورت شركة تكنولوجيا جديدة تقنية ثورية تتيح لك الغوص في ماضيك والتلاعب به كما شئت، وهو ليس شيئًا كالعودة بالزمن طبعًا، ولكنه يعمل بالكامل داخل عقلك عن طريق استخلاص ما بقي من الذاكرة التي تمتلكها لحدثٍ ما والعمل على معالجتها وتلافي ما بها من عيوب، لتراها ليست تامة الصحة، لكنك ترى أنها تامة الوضوح.

**

حدث أنني رأيت نفسي محصورًا داخل مكعبٍ من الزجاج، إنه ليس كالزجاج لأنهم قالوا لنا أن هذا النوع من التجارب يمكنه العمل بالكامل بدون أن يوجد حتى، ليس افتراضيًا كله و ليس كله واقعًا ولم أكن مهتمًا بمعرفة الفرق، إننى حتى لم أفهم تمامًا علامَ تكون التجربة كلها. كنت في أشد الحاجة إلى المال بعدما رفضت شركة التأمين تغطية تكاليف عملية ابني ذو الخمس سنوات، أو حتى جزءًا منها، فقرأت عن تلك التجربة وفهمت أنهم ربما يكونون في حاجةٍ إلى اختبار ردات الفعل الإنسانية وقياسها إلى الردات التي ينتجها الروبوت إذا ما وُضع في نفس الموقف، لبيان ما إذا كان يزيف شعوره أو أنه ينبع من حقيقة ما هو عليه فعلاً، أو شيئًا كهذا!

إعلان

**

يحدث أنني إذ أرى نفسي محصورًا داخل مكعبٍ من الزجاج، وهو ليس سميكًا كالزجاج إذ يمكنك أن تخترقه بيدك أو بجزءٍ من جسدك، كما أنه شفافٌ جدًا، كان السطح كله مشمولاً بتلك المادة وباردًا وهادئًا للغاية، فكرت أنه ربما إذا حاولت الخروج من هنا بسرعة مثلاً فستنتهي التجربة وأعود بالمال الذي حصلته منها إلى بيتي، ولكنني كنت فاقدًا للإحساس بالزمن، وكان ما ينتظرني في الخارج يشغل بالي أكثر مما يختبئ لي هنا. وبينما أنا أفكر في ذلك إذ أراها تجري من حولي بسرعةٍ مهولة، كأنها مهرٌ شبحيٌ يظهر فجأة ثم يضمحل. لم أستطع التأكد من ملامحها لكني أميز رائحتها على أى حال، هذه الرائحة التي علقت بجسمي ثلاثة أيامٍ بعدما كنت معها أول مرة، ثم سمعت أنها همست في أذني بصوتها الرائق: أنا… ثم لحق هذا الصوت صفيرًا خفيفًا، فرجعتُ مرتدًا هناك إلى حيز المكان وأنا غير مصدقٍ لما أرى، حتى شعرت أن رجلاي قد خارتا عن الوقوف، فرميت نفسي إلى سطح أرضية المكان لأجده يتفاعل مع وزني بطريقةٍ ما كأنه يروح علي ويجيء وهو لا يزال شفافًا وباردًا.

أتطلع لأجدها تتجسد بكامل هيئتها في حيز المكان المقابل لي، لكنها أيضًا محصورةٌ هناك مثلي بالضبط، وبرغم أنني لا ألمح حاجزًا ما بيننا لكنها ما برحت إلا أن تتلوى على ما بدا أنه حاجزٌ غير مرئي لي.

**

عندما رأيتكِ أول مرةٍ اعتقدت أنه يمكنني اقتسامك، قلت لنفسي يمكن أن أفصصها تمامًا كما اعتادت أمي أن تفصص لي حبات الرمان، اليوم أستطيع أن أبدأ بفمك، ثم أعرج على رقبتك ثم إلى كنزي هناك حيث وجدته على صدرك، أنا قد اكتشفت كل ذلك، حتى الرجل الذي كنتِ تعرفينه في السابق كان يجهلك تمامًا، أنا من أعدت اختراعك ومن قدمك إلى نفسك لأول مرة.

عندما رأيتكِ هناك، أكاد أجزم أنني عرفتك من طرف عينك وجانب ردائك، لم يكن علي سوى أن أغمض عيني حتى أتعرف عليكِ من بين ألف، كنتِ مألوفةٌ جدًا لي ولم يكن هناك من عرفته في حياتي مثلك.

ثم كان بيننا ذلك الحصار الرهيب، كانت المؤسسة التي عملنا بها كما البلد مأزومة جدًا، وكنت أتمنى أن أتعثر في أي أحد طبيعي لا يزال لديه بقيه نفس للضحك أو للحديث العادي، كان الكل منطفئٌ وكان انطفاء الجميع لا يزيدك إلا نورًا، كنتِ ذلك الشيء المنير جدًا في عيني، وكلما بعدتِ عن عيني كنت أزداد في الاستنارة.

حتى وقتها لم أكن قد عرفت اسمكِ حتى، ولم نتبادل ثلاث كلماتٍ على بعضها، وكنا تحت بؤس مطبق، كل ذلك لم يحل بيني و بينك، كنت ألمح تلك النظرات الراغبة التي ترمقينني بها أحيانًا، كل شيء بيننا كان مموجًا، بدون كلماتٍ كنا نتواصل، تارةً بأعيننا وربما بين أيادينا عندما أقبض على يدك وأنا أتحسس كفك الناعم في السلام.

كنت شابًا وقتها وكان لا يزال يلم بي ذلك النزق الذي يكلل الشباب في سعيه وراء النساء، وأنا وإن كنتُ ظاهريًا الأقل مسعى لكنني كنت أتحرق تمامًا من رؤياكِ، كانت تصيبني حمى لا تنطفئ إلا وأنا أنقلها إليك، ثم ما إن تهدأ حتى تنبثق من جديد كأنها تتغذى من تلقاء طيفك.

**

ثم يبدأ العرض في الانسكاب، عرض كامل بطلته هي، وأنا جمهوره الوحيد، أراها تأتي وأراها تعمل وأراها تحكي وتضحك وتُغير حمالة صدرها، كل هذه السنوات مرت وأنا لا يزال يستبد بي الحنين العارم كلما تذكرت تلك الحمالة بالذات، وأن ما تحمله سيؤتى يداي بعد قليل.

ثم أقول لنفسي هل سينقدونني مالاً على هذا؟ إنني مستعدٌ للبقاء في هذه التجربة ما تبقى من حياتي إلى جوارها، ثم ينقلب العرض الجيد إلى فوضى كاملة وأنا أقف هناك على الحد الفاصل بيني وبينها، لعلني اتلمس طرف يدها مرة أخرى! لكن الفوضى كانت شاملة. بدأت أشعر بالحرقة تسري بين أوردة دمي ثم سمعتها تبكي في الجوار ثم تصرخ وأنا أنادي عليها وهي كأنها لا تتبين وجودي. كان الجدار الفاصل بيننا قد بدأ يزداد سمكًا، ثم أجبرت على رؤيتها في أوضاع سيئة جدًا، رأيتها في المصعد وهو يهبط بها من فوق بسرعة فائقة، ثم رأيت سيارة تصدمها في حادثٍ ما، ثم رأيتها بعد ذلك تبكي بحرقة بلا سبب، لم أعد أحكم نفسي، كنت أصرخ عليهم بأن يوقفوا التجربة، كنت أصرخ وأبكي وألطم على وجهي حتى أستفيق وأضرب المكان الذي بات سائلاً جدًا الآن، حتى حسبتُ أنني سأغرق فيه. كنت أترجاهم أن يخرجوني لكنهم جعلوني أراها وهي يُعتدى عليها، كان منظرًا شنيعًا جدًا لا أعلم حتى إن كان قد حدث لها فعلاً أو تم اختلاقه هنا! لم يفلح شيء مع ذلك، حتى محاولات إغلاق عيني كانت غير مجدية، فكنت أراها تنتهك حتى وأنا عاصبٌ عيني. لم يعد أي شيء ناجعًا حتى لا أحس، تأملت مراحل تعذيبها، تأملتها وأنا أصرخ أكثر منها لأنه لم يعد بوسعي فعل شيء لإيقاف هذا المسلسل.

وهي تحت هذا النير كنت أسمعها تقول لي بصوتٍ عظيم: خلَّص آخرين وأمَّا نفسه فلم يستطع أن يُخلصها، وأنا نفسه!

حاولت إلهاء نفسي بأن الأمر كله لا يعدو كونه تجربة مهينة قاربت على الانتهاء وأنا على وشك الخروج لزوجتي التي لا أحبها و ابني الذي ينتظره الموت.

كل هذا غير حقيقي وسيصير إلى الانتهاء.

**

في ذلك اليوم الأخير؛ كنت عاكفًا على إنهاء عملي في المكتب، ألمحها تقف من بعيد في الصالة وهي تنظر إلي، أترك ما بيدي وأنسل وراءها تابعًا، تبدأ تسرع من خطاها، حتى تكاد العيون تلحظ أننا نسرع في الخطى وراء بعضنا البعض، ثم ندخل طرقات ونخرج من أخرى كأنها متاهة، إلى أن أدخل للاستراحة المخصصة لها، أشعر أنها تأسرني تمامًا، أفقد توازني معها، أنكس رأسي عند رقبتها أشتمها، آخذ نفسًا عميقًا من رائحة جلدها، أعتصرها تمامًا حتى تتلوى على جسدي. كنت أفتقدها بشدة فلقاءاتنا هذه قليلة في العادة، هي غريبة وقليلة الكلام وأنا لا أريد أن أطلب ذلك منها كل مرة، كان سمارها لامعًا بين يدي وطعم شفتيها كأنه محلىً بالسكر، حركت إصبعي على شفتها السفلية فصدر منها ذلك الصوت، ثم سمعت شيئًا كالصفير الذي يصيب أذنيك بعد السكر، كنت أتحرك عليها كثيرًا حتى أثقلت جسدها من الوطأة، أريد أن أضم كل شيء دفعة واحدة ثم أفكه كله وأعيد جمعه على أساسي أنا، رغبتُ فيكِ أكثر من العالم كله، هل تعرفينني الآن؟ أنا حبيبك الوحيد، حبيبك الذي سرى تحت جلدك تمامًا، حتى أوشك جسدانا على التماثل، لو علمتِ عن التحرق الذي أكون فيه وأنا معك! أنا محموم، وهذا ليس أنا في العادة، أنا شخص متزن جدًا ولا ألهث هكذا وراء النساء، أنتِ الوحيدة التي سعيت إليها، أنتِ من أطوف حولها ومن أتدثر بها من بؤس العالم، هل تعرفينني الآن؟

وأقول لها أيضًا: إنني أريد أن أقص عليكِ رؤياي؛ أشعر أن هذه آخر مرةٍ بيننا، وحدث أنني رأيتك… ثم لا أقوى على متابعة الكلام، فتلتفت لي وتقول: ماذا رأيت؟ فأعتصر جسدها أكثر، لاشيء، لا أحد يعلم المستقبل حتى ولو رآه، لن يحدث أي شيء، وإن كان سيحيق بك أي سوء فالسوء قد أحاط بكِ فعلاً عندما عرفتِني، فما أنا إلا وبالٌ على كل من عرفت.

ثم أتكور على نفسي وأغيب ناظرًا إلى الفراغ، بينما تبدأ هي في تقبيل باطن يدي قائلة: لكم أحببت يداك يا حبيبي، لا أطلقك إن لم تباركني يداك.

وفيمَ أنا على ذلك ينساب على خدي مجرى من الدموع وأنا أهز ظهري خفيفًا إلى جانبيه.

**

ناصر، هل عرفتني الآن؟

كانت تتمدد على الأرضية الزجاجية بجانبي باسطةً جسدها العاري كله وتقول: هل عرفتني الآن يا ناصر؟ أنا الدمية التي استخدمتها وقت حاجتك عندما كنت صغيرًا، ولما أمرتك أمك أن تتركها لتزوجك بأخرى فعلت ذلك بدون تردد، لطالما عرفت أنك تحب استخدام الدمى حتى إذا خربتها، رميتها عنك لتلتفت لأخرى.

ألم أكن جيدةً بما يكفي لك يا ناصر؟ هل تتذكر كلامك آخر مرة؟ أنا وبالُ على كل من عرفته، هل تقول ذلك لكل الدمى في المرات الأخيرة معهن؟

لكن يا ناصر وإن كنت أنا تحت هذا الحكم وجمعنا البعد الذي كنت تعتقد أنه لن يكون هناك أبدًا، فأرى أنه من واجبي أن أنبئك بما حدث معي بعد ذلك اليوم بيننا.

هل عرفت أنهم كانوا يعلمون عن اللقاءات التي بيننا؟ في اليوم التالي لهذا أطلعوني على صور حميمية لنا، ألم يقولوا لك أنهم كانوا يعلمون طوال هذا الوقت؟ فقط أنا فضلت أن أسوي الأمر بيني وبينهم بعيدًا عن إقحامك فيه، توقعت بالطبع أنهم سيطردونني من عملي، لكن حتى هذا الطرد لم يأتِ هكذا مجانًا، طلب منى أن أؤدي لهم الخدمة التي كنت أؤديها لك، أسمي هذا خدمة الآن، وما أنا إلا خادمة لرغبات الكلاب.

أين كنتَ يا ناصر وأنا أدفع من جسدي عوضًا عنك؟ عوضًا عن الفضيحة والطرد والعقوبة لكلينا؟

فلما خرجت من هناك إلى غير رجعة فضلت مع ذلك أن أتطلع في وجهك الكريم لآخر مرة، لأنني كنت أحبك جدًا في ذلك الوقت، ماذا فعلت عندما رأيت دموعي تنسكب مني؟ لم تعطني حتى شربة ماء أبلل بها ريقي! ألم يظهر لك انتهاكي؟ إلى هذا الحد يا ناصر كنت معميًا؟ أم أنك فضلت التعامي عن رؤيتي؟

إن أشد شر أحاط بي في كل ذلك هو أنك لم تسأل عني بعدها ولو لمرة، هل تعلم كم مرة انتظرتك لكي تعود لتنتشلني مما أنا فيه؟ كم مرة وددت أن يتذكر ناصر أنني هنا وحدي أحمل العار عنه.

بعد ذلك بثلاث سنوات تم استخدامي مرة أخرى للتحسر، هذه مرة أخيرة طبعًا، عندما حاول البعض أن أصعد معهم سيارة لكني رفضت، فما كان جزائي إلا صدمة من الخلف، صدمة واحدة ثقيلة قسمت ظهري و أردتني غارقة في دمائي على الأسفلت في انتظار أن يتحنن أي مارٍ لكي يغطي جسمي الهامد.

أوه يا ناصر! ألم تعلم أنني ميتة الآن منذ زمن بعيد.

أنت الآن ستخرج من هنا لتجد أن هذه التجربة قد انتهت، لكن تذكر أنها لن تنتهي معي أبدًا، أنا التي كانت تستحق حياة أكثر احتمالاً، وكنت أتمنى أن يقابل حبي الكبير للعالم بقدرٍ ولو ضئيل من العطف.

وفيما تقول لي ذلك إذ أرى أن دماءها قد بدأت تخر من كل جزء في جسدها الملقى إلى جواري، حتى شعرتُ أنها ستغرقني تمامًا وأنا لا أزال أصرخ وأبكي لهم لكي يرفعوا عني هذا الألم.

**

كانت الاحتفالات بقرب بدء العام الجديد قد بدأت تنتشر، أتقدم في الشوارع بعينين تائهتين وروح ممزقة، أصل إلى بيتي وأدلف من الباب، أشعر أننى غريب، كما أن الجو بالداخل بارد جدًا كأننا في عراء، لا أسمع صوت ابني ولا يمكنني أن أرى آثار لعبه، فقط زوجتي مكومة هناك على كرسي وثير، تقول لي بصوت مبحوح وعيون مدماه: أين كنت يا ناصر عندما احتجناك؟ عندما صرخ عليك ولدك لتأتيه بالمعونة؟ لقد صمد حبيبي أحد عشر شهرًا في انتظارك، ومنيت نفسي أن تأتي في أي ساعة فيهم، ولم تأتِ!

غبت سنة يا ناصر، اذهب إلى حيث كنت فأنا لا أطيق مجرد ذكر اسمك.

فرمى عند قدميها المال وجلس في المقعد المقابل بدون كلمة.

**

يحدث أنني إذ أرى نفسي محصورًا داخل مكعبٍ من الزجاج، وفي الجهة التي أمامي أرى أنني أحاول أن ألتقط صورة لحلا وهي تضحك، لكنها وعوضًا عن ذلك ترفع حاجبيها لأعلى باسمةً في حركة ساخرة ومشيرةً بيدها بعلامة السلام.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: مينا هاني

تدقيق لغوي: سلمى الحبشي

الصورة: flickr

اترك تعليقا