الشغل. أو العقاب اليومي! (مترجم)

ملخّص النص:

يتناول الفيلسوف الفرنسي «بيير فورمي» (Thierry Formet) في هذا المقال موضوع الشغل (Notion du travail) من زاوية فلسفية، مقاربًا إيّاه بخلفية منهجية فينومينولوجية تروم وصف تمظهراته في الحياة اليومية للإنسان. حيث يحاول هذا الفيلسوف أن يبرز في هذه المقالة كيف أنّ الشغل لدى الإنسان أصبح يرتبط باليومي؛ ليؤثّر على الكثير من جوانبه، وبالتالي يعدّ من أشدّ الخصائص المؤثّرة في الوضع البشري المعاصر، رغم انعكاساته السلبية.

نص الترجمة:

كلّما حرصنا على حضور الموعد المحدّد دون تأخير، كلّما ساورنا القلق بشكل فعلي بشأن احتمال التأخر. بصدد هذا الأمر، تستولي علينا وتيرة العمل وتستحوذ علينا، حتى قبل أن يحين وقت عملنا الفعلي؛ وذلك رغبة منّا في الالتحاق بمهماتنا الخاصّة والمتكرر. وهذا ينطبق علينا جميعًا (سواء بالنسبة للممرضة، أو للمدرس، أو السباك، أو الخبّاز، أو العامل، أو الموظّف في مصلحة المداومة). ما يمكننا ملاحظته أنّ العمل فعلًا يتجاوز إطاره الخاص ليستغرقنا باستمرار. فما الذي يغدقه علينا إن لم يكن مجرّد الألم؟ إنّ ضيق الوقت والمكان الذي يفرضه علينا عادةً لهو أمرٌ قليل مقارنةً بالمجهود الذي يطلب منّا بدله باستمرار.

ولأن العمل شاقٌّ، يشتّت الانتباه؛ فإنّه من خلال ضمان استمرارية المسار الميكانيكي لتطوره، نكون قد قطعنا هذا المسار، حتّى نشعر بكون تجربته ضرورية. إذ «من الضروري حقًا أن أذهب إلى العمل» مثلما قد يقول الشخص الذي يقاطع محادثة هادئة أثناء جلسة مشمسة مع صديقه، أو الأب الذي يخرج للعمل تاركًا أطفاله متأسفًا في صباح يوم عطلتهم. لن يجد أيًّا كان شيئًا ليشتكي منه، ونادرًا ما يجرؤ على أن يرى في هذا العمل ذريعة للهروب لصعوبات أخرى، وهكذا يجب الذهاب للعمل؛ فليس هناك خَيَار آخر. في الحياة ما يمكن ضياعه في وقت أسرع هو أكثر أو يساوي ما يمكن كسبه والحصول عليه باستمرار. تظهر الضرورة إذًا في شكلٍ مزدوج من القيد (من حيث الكفاف)، والالتزام (من حيث الجانب المعنوي للمهمة المراد إنجازها)، بالضرورة التي تؤدي إلى عدم العيش مع العمل باعتباره متعةً. يوجد في كل عامل شيء من العبد القديم المقيد بالسلاسل، أو الفلاح المستعبد في العصور الوسطى، أو البروليتاري المستغَلّ في مصانع ومناجم العالم الحديث؛ حيث نتعجّل الذهاب للعمل ونركض نحو ألَمنا.

لا شيء جديد تحت الشمس: ليس هناك سوى ألم العُمّال الخاضعين والقذرين الذين يُعانون الاضطرار جراء تحمّل عبء العيش.

بالتأكيد سيقول العديد من الناس «أنهم يستمتعون في عملهم»؛ إلاّ أنّنا سوف نتساءل بعد ذلك عمّا إذا كان ينبغي لنا ألا نرى في مثل هذا التمجيد للعمل وسيلة لدعم إمبراطورية الإنسان التي لا تُطاق، والتي هي في سخافتها وسيلة لصنع الحتمية في النهاية. كم من هؤلاء الرجال المتحمسين سيقبلون الآن العمل بدون أجر؟ القليل جدًّا، وهذا أمرٌ مفهوم. وبالرغم من ذلك فإنهم يتوقعون دائمًا شيئًا آخر من عملهم وأنهم لا يكرّسون أنفسهم له في حدّ ذاته كنشاط ينتهي، أو كنزهة -على سبيل المثال- أو محادثة أو قصيدة؛ إذ أنّ هذه الأشياء عادة ما يكرّسون لها وقت فراغهم عندما تكون لديهم القوة والرغبة.

إعلان

إذا فكرنا في الأمر مليًّا فمن الصعب ألاّ نرى العمل كعقوبة يومية، فهل العمل جيّد إذًا؟ وهل هو عقاب لأولئك المدانين المحكوم عليهم أحيانًا بالعمل القسري، وأحيانًا أخرى بالعمل الذي يكتسي صفة المصلحة العامة؟ وإذا كان العمل ذا قيمة، فلماذا يحظى الأرستقراطيون والمستأجرون وكل أولئك الذين لديهم وسائل تُعفيهم من العمل بحياة ترفيهية مكرّسة للمزاح العاطفي والتسلية والمرح والتكرار اللاّمبالي للرسائل والفنون والعلوم؟ أيضًا، لماذا تبدو لنا الطفولة مرحلة عمرية سعيدة في الحياة؟ هل لكوننا نبدو خلالها أنّنا خارج وطأة وثقل العمل؟ ولماذا نرى أخيرًا في منح الإجازة مدفوعة الأجر في القرن العشرين غزوة اجتماعية كبرى؟ لماذا نرى العمل شيئًا جيدًا إذاً؟ تُظهر التجربة التاريخية دائمًا نفس الشيء، ثم تتفق مع هذا الخطاب الديني الذي يرى في العمل عقوبة يتحملها الرجال بسبب عصيانهم الأصلي والدائم في التقاليد المسيحيّة، ويشي الواقع الآن بأنّ الإنسان لم يعد يتمتع بجنّة عدن ما دام يكسب خبزه بعرق جبينه.

في هذا الإطار تم تسمية العمل على نحو مناسب: tripalium* بمعنى أداة تعذيب، والذي يشير في أصله اللاتيني إلى أداة التعذيب ثلاثيّة القضبان. العمل عبارة عن تعذيب يومي، يخترق الحيوية ويقطعها، ويجهد حيوية الأرواح البشرية التي يسكنها الفقير كما الوحشي. الحياة التي قضاها الإنسان في العمل دون الاستمتاع بالحياة ليست جديرة بأن تكون بشريّة. إنها حياة خسيسة تلك التي تخصّ الحيوانات، حياة كلب كذلك. إنّ ما نهرول لفعله في الصباح هو الذهاب والمعاناة في أسرع وقت ممكن. هل هذا دليل آخر على جنون الناس؟ من ناحية معيّنة ربما، خاصّة إذا كنّا نعتقد أنّ الإنسان -مثلما اعتقد ذلك روسو- كسول بشكل طبيعي؛ حيث لا يجد السعادة إلا في الهدوء الذي يكمن في طبيعته. لكن إذا رأينا هنا جزءًا فقط من الظاهرة، فهذا يعني أنه لا يزال هناك شيء ما لابد من فهمه: أولًا  ما يحدد المشقّة الناجمة عن العمل، ثم بعدها ما يستحق بالضبط العناء الذي يطالنا. وبالتالي سيكون من الضروري تجاوز البرنامج الصارم للتجربة المعيشة، والتفكير في المنحى الذي يمكن أن يتخذه نشاطٌ ما. سيكون التساؤل كله إذًا موجهًا نحو معرفة ما هو مقدس في العمل ويستحق التعب الذي نقوم به، بل وشمعة الحياة التي ما فتئ يستهلكها.

الجهد الذكي لتحويل الواقع

من الصعب فهم كيف يمكن للكائنات التي تحس بالتعب أن تعمل كثيرًا؛ وذلك لأن حجم الظاهرة كبير إذا لم يكن هنالك شك حول أيّ شيء آخر غير المعاناة. كل من يذهب للعمل يشعر أنه ينضم إلى الإنسانية قليلًا  من خلال القيام بما كان يفعله مليارات الناس منذ آلاف السنين. الذهاب إلى العمل هو الانضمام إلى الإنسان، إنسانية الإنسان. حيث يشعر كل فردٍ إذن أنه يشارك في شيء يفوقه بكثير، مثلًا: في نظام يسحقه ولا يعرف كيف يحاربه، وبالتأكيد أيضًا في نظام اجتماعي يأمره ويرفعه ويمنحه مكانةً في تنظيم حياة أكبر، وحياة تنمّيه وتجعله يُشارك في حركتها. الأمر يتعلق -من خلال العمل- بأن يكون للشخص جزء في ديناميكية الحضارة وعملية الثقافة.

سيكون الفيلسوف حينئذٍ قادرًا على أن يرى في الضرورة المذكورة أعلاه، بعدًا يجعل من الممكن التفكير في حقيقةٍ، مظهرًا أساسيًا، وبالتالي غير قابل للاختزال للحالة الإنسانية. لذلك من الضروري تصحيح البصريات الجزئية والمتحيزة للتجربة السطحية المباشرة السريعة في تشويه معنى الأشياء العميقة. فللحديث عن التعذيب نفكر كثيرًا في الضحية، ونادرًا ما نفكر في الجلّاد الذي يعاقب الرجل الخاضع للسؤال، وقد يصرخ الضحية دون أن يفشي ما يعرفه. إنّ الإنسان وهو على نفس المنوال يدمر الطبيعة (أي الشكل المباشر للواقع، وطرق أن تكون منتظمة وعفوية للأشياء)؛ لتحقيق غاياته. أصبح العامل جلادًا في هذا العالم، ورغم ذلك، فإنّ الإنسان كان على مرّ التاريخ مدمن عمل: يطوي، ويطحن، ويحرق، ويذوب، ويقطّع، ويخلط، ويكسر، ويدق، ويهاجم، وينشر، ويستخدم الأشياء، ويلمّع…إلخ. باختصار، إنّه كائن ينكر الطبيعة ويعمل على نفي الشكل الفوري للأشياء التي لا ترضيه.

ومن المفارقات التي كرّسها هذا الوضع أن أصبح العمل تعذيبًا حتى للذي يعمل أقل. ولئن كان المرء يعاني في العمل، فقد أصبح محتملًا أن يتعلّق بواقع معذّب عنيد يعمل فيه للحصول على شيء. غير أنّه لمّا كان من الضروري العمل؛ فقد غدا المأمول في رؤيته يتحسّن ما دام لا يمكن الاستغناء عنه. إذ عبر نشاطنا والأشياء التي نمارسها، أصبح القيام بالعمل يقتضي بشكل دائم هذا التحوّل جيئة وذهابًا. يبقى الذهاب إلى العمل مؤلمًا بالنسبة إلينا؛ لأنّ قوانا تواجَه باستمرار عبر تجربة مقاومة عالم الشغل (ذلك العالم الذي لا يسمح من تلقاء ذاته بما نحتاجه منه، عالم الصمت الذي لا يقدم شيئًا من ثرواته الكامنة فيه مجانًا).

بالفعل، فصناديق الكرتون لا تُحْمَل من تلقاء ذاتها، والأوراق لا تفرَز وحدها، والنفط لا يبقى دومًا خامًا. إن تحويل حالة الأشياء لتتوافق مع ذكائنا البشري يتوقع منا المطالبة بالتغلب على العديد من العقبات (على مستوى براغماتي)، وحلّ العديد من المشكلات (على المستوى النظري) -أي باختصار، أن يستمر كل ذلك في إثارة الكثير من الانزعاج-. إنّ العمل مرهق كمجهود، وربما لا يوجد في هذا الأمر شيء غريب؛ وهذا هو السبب في كونه شاقًا بالنسبة للإنسان، والذي يكشف لنا عن جزءٍ من معناه. إننا نستعجل المعاناة السخيفة بالإسراع في الذهاب إلى العمل، أكثر مما نستعد له مهما كان الثمن، لضبط جزء من الواقع الذي نحاول تحويله بالطرق الأكثر ذكاء.

ولذلك سيكون العمل دائمًا هو بذل مجهود ذكي لتحويل الواقع. هذا هو ما نستعجله عندما نسارع للذهاب إلى العمل:

الجهد والذكاء والتحول المتحكم في الأشياء هو أقل من ذاك المعنى الذي يحمله الـ«tripalium» الذي كان اللاّتين يتحدثون عنه. العمل شاق لأنّه يفترض في المحراث قَلْب الأرض كي يجعلها خصبة ومغذية، وبالتالي يتطلب من الإنسان دراية كاملة. حيث إن كل عمل عبارة عن مختبر يمكن للأشياء الممتازة أن يتصورها فيه الإنسان باستعمال تصوره العقلي وتصاميم يديه. لذلك، فالمهارة مطلوبة دومًا؛ لأنّ مكان العمل هو بمثابة فضاء اجتماع للمتعاونين الذين يعملون معًا لتجميع قدراتهم. رغم شرور العمل المتمثلة في آلامه، فإنّه يظلّ منقذنا من شرور ما هو أسوأ منه (المجاعة، والمرض، والموت العنيف تحت أنياب المفترس)، وبالتالي رواج نقل الخيرات الوفرة، واللقاحات، وجمال الموسيقى، والتي بدون العمل ستنقرض من العالم إلى الأبد.

اعتبار غرفة العمليات المكان الذي سيتم فيه فحص آلام المرأة التي ستلد هو أمر مناسب جدًّا، وألم ما قبل الولادة سرعان ما يُنسى بمجرّد ما تَسمع الأم صرخة مولودها الجديد، (طفل جاء لتوّه إلى هذا العالم كوجهٍ جديد لإنسانية لا تفتأ تتطلع نحو المستقبل). إنّ العمل حتى لو كان شاقًا يظلّ هو الخلاص، فما أشبه التعجّل إلى العمل بـ”الإسراع في الولادة”. هكذا هو العمل! لذلك بفضله سيفتخر الطاهي وصانع الآلات الموسيقية والبناء بعملهم النهائي الذي سينجزونه. بفضل العمل يحصل هنالك جديد تحت الشمس.

العيش على الموروث

بواسطة العمل، يوفر الإنسان الموارد التي تتطلب نشاطًا بشريًا مضنيًا بالرغم من توفّرها في الطبيعة. فأعمال الاستخراج (في مناجم الحجر الجيري)، أو في مصانع المعالجة (في مصنع الطباشير)، أو في مكاتب وورشات التشغيل (التجاري أو الإداري، في المتجر أو الاحتياطي)، يميل دائمًا العمل إلى تلبية مختلف الاحتياجات (الأولية والثانوية) للناس الذين يتكيفون بالتالي مع بيئتهم المعيشية (معاطف الأنويت  Inuitsالدافئة) مع تعديلها لجعلها أماكن إقامة (أكواخ الأنويت). فحتى عندما تشارك الآلاتُ الإنسانَ، يستغرق الأمر من العمال وقتًا طويلًا في ابتكار هذه الأجهزة، وفي وضبطها، وصيانتها، وإصلاحها. والإنسان بما أنّه كائنٌ محتاج وذو رغبة؛ فهو يدرك أنّه يتوجّب عليه العمل باستمرار. إنّه مثل “سيزيف” يدفع دائمًا الصخرة التي من شأنها أن تسحقه، أو مثل “أطلس” يحمل هذا العالم على كتفيه دائمًا، وإلاّ فمن دونه سوف نغرق. هكذا أصبح لزامًا على الإنسان العمل باستمرار لإنقاذ هذا العالم من الانهيار. هذا هو الإلحاح الذي يشعر به الإنسان الذي يذهب إلى العمل، وإنّه لمن الجيّد أن يكون الرجال العظماء أساطير سواء في المعرفة أو في الفن.

بداية، العمل بهذا المعنى هو عملية تغيير الطبيعة الخارجية عن الإنسان، إنّه يتمُّ في نطاق ما يوجد عليه هذا العالم، وسيكون لزامًا علينا المحافظة عليه أحيانًا على حالته الأصلية تلك، (قصّ العشب في بستان، أو الشعر لدى الحلاق) وبالتالي التدخل لتعديل وقص ما ينمو باستمرار، وفي بعض الأحيان الأخرى لتعديل مسكن الإقامة (وإدارة موقع). غير أنّه وفي الوقت ذاته، تعتبر هذه المسألة عملية تحويل وتخصيب للواقع الإنساني ما دامت ثروات الطبيعة وحدها لا تكفي، بل أيضًا تلك الثروات الثقافية اللاماديّة التي نستعملها بدورها للقيام بالأشغال (الوسائل والأدوات والآلات والعمليات والوصفات والطرق…إلخ.) ونطورها في خضمّه بعد الحركة الديناميكية الذاتية للتحكّم.

أمّا وكوننا نعمل بفضل كثير من الابتكارات والاختراعات والإبداعات على كوكبنا، فذلك لأنّنا ندين بالفضل لعمل أسلافنا الذين أورثونا كلّ ما من شأنه أن يجعلنا نعمّر هذا العالم. لذا، فرغم جهلنا الطفولي، نتعلّم كيف نعيش في خضم أعمال كثيرة ومختلفة، ومن ثمّ نتعلم كلّ ما يسمح بإنتاجها واستخدامها، وبالتالي كل ما يتطلبه وجودنا في هذا العالم. إنّه على هذا الإبداع الإنساني يعتمد جزء كبير من الاختلاف في طرق التفكير والقيم وأنماط العيش بين شعوب الأرض، لذا سوف يتعلم المرء كيف يصنع لورين كيشي[1]، وآخرُ لفّة الربيع[2]. يتعلّم كلّ واحد من ثقافته الأصيلة. هذا يتعلّم فنّ التنويم بالوخز بالإبر باستخدامها الدقيق، والآخر يتعلّم في ظلّ ثقافة الطب الحديث ويستعمل علم التخدير للعلاج. لقد تم ملء الجداول (في المطبخ أو في مكاتب التشغيل) بتنوعات مختلفة، فاستثمرنا عمل أسلافنا في حياتنا بعد مختلف التطويرات والتعديلات، متجاوزين التقاليد التي تعتمد فكرة الأثر الملاحظ دون معرفة الأسباب.

هكذا، يُعيد الجميع استثمار العمل في مجال الإنجازات المختلفة: الأخلاقية واللغوية والفكرية والفنية والتقنية لشعوبهم (وكذلك للبشرية جمعاء في حالات كثيرة). فالجميع يسعى للاحتفاظ بهذا الموروث ونقله للخلف (مخبز الخباز إلى المتدربين، والمستشفيات لديها طلابها للتدريب)  وأيضًا لتطويره في كثير من الأحيان (للمصانع مكاتب تصميمها). ولذلك، فإن للحضارة توجّهًا للحفاظ على إرثها (في ديناميتها توجد مسألة المحافظة والميل المعتاد للخلق)، وهي التي نسارع للانضمام إليها عندما نُقبل على العمل، معتقدين أنّ الأمر يستحق ذلك، لأننا بادئ ذي بدء، نحن مدينون لما أصبحنا عليه من تقدّم. حتى الناس الذين لا زالوا يعيشون نوعًا من الحياة البرية، تجد لديهم استعدادا للتوجيه من طرف من هم أكثر تقدّمًا عنهم. لذلك تظلّ الحياة من دون عمل غير جديرة بنعتها “إنسانية”.

مكان التشوّه والتكوين

لكن الحس السليم قد يتردد هنا مع التشديد المستمر، وفي نفس الوقت، على صحّة العامل الذي يتعرّض لخطر التشوّه في مكان عمله. «العمل هو الصحة» كما يقال عادة كعلامة تأكيد أنّ الشخص الذي يعمل عادة ما يظهر على أنّه غير مريض وغير مصاب ولا معاق. العمل مصدر تمرّن، إنّه يحفظ وينمّي الملكات، كما يقوّي التمرين العضلي الجسم الذي يُمارس الرياضة بانتظام. إلاّ أنّه مع ذلك، بدلًا من إبقائنا في حالة جيّدة كما نعلم، فإنّ العمل يشوّهنا كذلك؛ إذ لا يكتفي بتغييرنا كما لو كنّا الحديد المطاوع المرن، وإنّما يذوّبنا بما لا يقل عن ذوبان الزجاج المنفوخ. لذلك فالطب المهني سيكون عليه إظهار تأثير العمل السيء، بمراقبة ومنع الضرر الذي قد يلحق بالعامل.

في الكثير من الأحيان يكون عالمنا مثل عالم إنسان يعمل بمشقة -أي مشوهًا-؛ ولهذا يبدو أنّه من الأنسب للتكوين المهني أن يصقل ملكاتنا بوضعها على محك الاختبار. الظاهر أنّه في العمل صنعت الإنسانية، لذلك عادة ما نستعد حين الذهاب إلى العمل لوضع قدراتنا على محكّ معايير النشاط الشاق، وخاصّةً من حيث النتائج. إنّنا نسرع أيضًا للعثور على أنفسنا في خضمّ نشاط خطير، فنكتشف بمفردنا نقاط قوتنا وضعفنا سواء على المستوى البدني أو النفسي أو الذهني.

تشاركنا أجسادنُا الفيزيولوجية والعضلية والحيوية التي نعرفها العملَ الذي يتعبنا ويخيفنا دائمًا. صحيح أن الطبيعة المتكررة والمتخصصة للمهام هي ما تسبّب التشنج في يد الكاتب أو في كتف النجار، وهي كذلك تعرّض جسم العامل باستمرار لالتهاب الأوتار والكسور ومشاكل المفاصل والغضاريف ومشاكل الجهاز التنفسي والنسيج والتجاعيد، بل ومجموعة كاملة من التشوهات والاختلالات؛ لكننا نجد أيضًا في ذلك ما يزيد ويضاعف مهاراتنا، ثم نرى أن قوتنا العضلية لا يمكن أن تتقوّى وتنمو إلاّ من خلال التحمل والمقاومة والمرونة والبراعة والمهارة والدقة والتوازن ونوعية ردود الأفعال والوعي وإزالة الحساسية لمناطق معينة من الجسم. يتكشّف هذا الأمر في إطار ذلك الجهد الذي تسمح به مواجهة استعصاء الأشياء. إنّه تكرار الإيماءات المنظمة التي تعمل في كل مكان على تطوير مهارة كاملة ودراية تسمح لنا فيها المواهب، وفي نفس الوقت تتيح لنا أن نتلاءم مع العالم الذي تسمح به كليات أجسامنا.

لكن ما يهمّنا أكثر هو السؤال النفسي عندما نفكر في العمل، لذلك فهو الجانب “المرهق” الذي يجعلنا متوتّرين بمجرّد الاستماع لعبارته الطنانة. لم يعد الشغل ماديًا فقط، وذلك من وجهة نظر مخصّصة على الأقل، وإنّما يتم فيه إخضاع كلّ كياننا للاختبار “خاصّةً اختبار قدرتنا على ممارسته”. فالذهاب إلى مقر العمل يثير قدرًا كبيرًا من التحمل العصبي، وينشأ عن ذلك إحباط مكلف بالنسبة لنا. صبر كبير ذلك ما سيكون ضروريًا في مثل هذه الحالة لممارسة هذا النشاط غير الممتع والقمعي، واستبعاد للرضا السريع ذاك الذي نبحث عنه طوال يوم عملنا. ليس العمل في الواقع سوى تأجيل للاستمتاع إلى وقت لاحق، فلا أحد يأكل كعكه إلاّ بعد أن ينهي عمله، كما لا نستمتع بدفء نار إلاّ بعد جمع الحطب وقطعه.

هكذا يتم تطوير الملكات المكتسبة من الاندفاع المضطرب، وذلك في خضم هذا الإحباط الذي ينجم بالضرورة عن طبيعتنا. فالتخلي عن النرجسية في الواقع هو تكريس الذات لشيء آخر غيرنا. والاهتمام المستمر الذي يجعلنا قادرين على البقاء مركزين، هو ما يدفعنا للخروج إلى أيّ مكان آخر، والتشتّت والاستعداد للبقاء بشكل فعال وفي أقصى درجات الإلحاح. فالإحساس بالدقة والاحترام المنهجي أثناء إجراءات تنفيذ العمل والمثابرة التطوعية والتحلّي باليقظة في الأعمال التي سيتم إنتاجها، هي كلّها أحكام وطرق للوجود والشعور والتفكير، هكذا ننضبط عندما نعمل بجدية.

لكن من بين كلّ الملكات البشرية، يعدّ الذكاء هو ما يجب إخضاعه للاختبار بالنهاية؛ فعندما يُطْلَب من المرء العمل دائمًا بالكثير أو القليل جدًا، فهذا يعتبر أمرًا مؤلمًا في كلتا الحالتين. فحتى لو لم يتعلّق الأمر دائمًا بعمل المثقف (الخطابي، والتجريدي، والمنعزل عن المنفعة المباشرة)، فإن العمل الإنساني يبدو دائمًا ذكيًا. لذا، يجب أن ينغمس فيه الناس حتى وإن لم يكونوا دائمًا مدركين لذلك -أي لعلاقته بتنمية قدراتهم ذكائهم حين ترتيب أشيائه-. الواقع أنّه لا يوجد عمل بشري، كما يذكر ذلك ماركس، إلاّ عبر تلك اللحظة التي يتم فيها توفير وسائل الإنتاج، فيتجلى العمل في فائض الإنتاج. بعبارة أخرى، إنّه ما يتم حصوله عندما يكون من الضروري جعل الفكرة نموذجًا لنشاط الإنسان وليس اتباع الغريزة. في العمل علينا دائمًا أن نفهم قليلًا  لماذا وكيف نفعل ما نفعله حتى نكون قادرين على تحقيق الغايات التي نمنحها لأنفسنا بشكل منهجي، ولكي تتكيف معرفتنا العامة باستمرار مع المواقف المحدّدة التي نواجهها ونفعلها. إنّه غالبًا ما يكون دليلًا على الإبداع، خاصّةً عندما يدفعنا الواقع إلى إيجاد حلّ غير مسبوق لحالات المشكلات التي يفرضها علينا. الفائدة هنا مرغوبة بنفس القدر الذي تهددّ به لتشويهنا مثلما هو النقص الذي يتعين على قوانا مجاوزته دون أن يحصل أيّ شيء معقد حين فهمه واختراعه أو نفيه. إنّه حلّ معقد للاستمتاع بممارسة قدراتنا.

هذه هي الطريقة التي سيكون العمل عبرها مناسبة للحظة مؤلمة أحيانًا، ولما نحن قادرون حقًا على مواجهته من صعوبات الواقع. مقرّ عملنا هو مكان إقامتنا أيضًا، إنّه مطَمْئِن بالقدر الذي هو محزن، وإنّه الذي يعزّز ثقتنا في الملكات التي نكون قادرين على شحذها واستثمارها. وللأسف دون ذلك سنحافظ على عدم الثقة المخزية تجاه عجزنا. فكم سنكسب من خلال تحرير أنفسنا من هذا الاختبار للحقيقة؟

ليس هناك ما هو أصعب من التوقف عن إعطاء الأوامر عند ممارسة السلطة في نقل المعرفة المدرسية عندما تكون مدرسًا، أو لرؤية المشكلات من زاوية تقنية عندما تكون مهندسًا، أو عاطفيًا عندما تكون من علماء النفس. إنّ الانتظار حتى يتم إعطاء الأوامر هو ما تعوّدنا عليه أثناء تقديم الخدمة، وهذا يعني أنّ العمل يهيئ لنا الطريق لتنظيم علاقاتنا بالآخرين. نقوم في كل مكان بتغيير طرق التفكير الخاصة بمهنتنا، وأيضًا علاقات التسلسل الهرمي والاعتراف التي تؤخذ بها حياتنا بكثير أو قليل سعادة. هذا ما نصادفه كل يوم عندما نغادر العمل: علاقة حازمة مع الآخرين يتم تحديد طرائقها مسبقًا من خلال تعاون صعب في بعض الأحيان، حيث نكافح في العديد من الحالات لتحمل مسؤولياتنا العادلة، بحيث لا نعرف دائمًا ما هو الخير الذي نقدمه للآخرين وللمجتمع ككل. إنّ هذه الصعوبات هي التي تجعل من وقت العمل بلا شك استراحة ضرورية للغاية.

رابط المقال

*تريباليوم أو Tripalium مشتق من الجذور اللاتينية: "tri / tres" و "palis"  وتعني حرفيًا " قضبان الثلاثة") ويُشير إلى جهاز التعذيب الذي كان يتكون من ثلاثة قضبان خشبية بناءً على المعنى الحرفي. وtripaliumهذه تعني "عمل".
[1]- كيشي لورين هي وصفة نموذجية لتقليد تذوق الطعام الفرنسي، معروفة في جميع أنحاء العالم، وأعرب عن تقديرها لتحقيق ذلك، سهلة ونكهتها بسيطة ولكنها حاسمة. يتم تحضير الحشوة الأساسية من هذه الكعكة الكلاسيكية عن طريق خلط ثلاثة عناصر رئيسية: بيض، ولحم الخنزير المقدد، والجبن.
[2] وتسمى أيضًا ملفوف الربيع، وهي عبارة عن أكلة يتم إعدادها من ملفوفات حسب الذوق والشهية.

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: سلمى عصام الدين

ترجمة: الحسين أخدوش

اترك تعليقا