السيف والسحر وكونان البربري.. فانتازيا روبرت إي. هوارد.

الفانتازيا هي لون أدبي فريد يعتمد على خلق العوالم الخيالية، عالم آخر غير أرضنا المألوفة، بما فيها من سحر وأبطال وآلهة وأنصاف آلهة ومخلوقات أسطورية، وهذا اللون الأدبي تعود جذوره إلى الحكايات الشعبية والملاحم والأساطير القديمة التي لا تخلو منها حضارة من الحضارات البشرية.

وقد تأثَّر العديد من الكتاب بتلك الملامح والأساطير وبرعوا في خلق عوالمهم الخاصة، مثل الكاتب البريطاني تولكين وعالمه “الأرض الوسطى” الذي رسمه في رواياته مثل ثلاثية سيد الخواتم الشهيرة. ولكن هناك كاتبًا آخر سبق تولكين في خلق عالمه الخاص وهو الكاتب الأمريكي روبرت إرڨين هوارد، الذي ابتكر شخصية “كونان البربري” بجانب شخصيات أخرى عديدة، في عالم سحري خلاب، ولكنه مظلم ومخيف، عالم تسوده البربرية والوحشية، حيث لا يتردَّد السحرة في استخدام سحرهم لجلب مخلوقات مرعبة من العوالم المظلمة، وحيث لا تتردد جيوش الممالك المختلفة المتصارعة في سفك دماء بعضها، في هذا العالم يسير كونان، العملاق مفتول العضلات، سيفه في جانبه، ليواجه أهوال هذا العالم وأخطاره التي لا تنتهي، بحثًا عن الكنوز الخفية والمدن الضائعة، مصارعًا البشر والآلهة والوحوش المخيفة.

خطوات هوارد الأولى في عالم الكتابة

ولد روبرت إي. هوارد في يناير 1906 في ولاية تكساس الأمريكية، وقد كتب في مجالات متنوعة مثل الفانتازيا والرعب والكتابات التاريخية وأدب الجريمة. حلم هوارد بأن يصير كاتبًا لقصص المغامرات وهو في سنة التاسعة ولكنه لم يلق نجاحًا كبيرًا إلَّا في سن الثالثة والعشرين. نشرت أعماله في عدد كبير من المجلات والصحف، وبلغ ما كتبه أكثر من ثلاثمائة قصة وسبعمائة قصيدة.

الكاتب روبرت إي. هوارد
الكاتب روبرت إي. هوارد

كان هوارد مولعًا بالتاريخ والميثولوجيا والأنثروبولوجيا، وقد بدأ الكتابة في سن التاسعة، وحملت قصصه عناصر عديدة من الحكايات التاريخية والأسطورية والشعبية، مثل حكايات الفايكنج والعرب. في سن الثالثة عشر قرأ كتابًا يحكي عن الحقائق القليلة والأساطير الوفيرة المتعلقة بشعب قديم في إسكتلندا القديمة يعرفون باسم البكتيون Picts، والذين ظهروا لاحقًا في عالمه الخيالي الذي ابتكره. في سن الخامسة عشر تعرف على مجلات القصص الخيالية Pulp magazines، وفي السنوات اللاحقة بدأ يراسل المجلات في محاولة لنشر قصصه، ورغم تراكم خطابات رفض النشر إلا أنه لم يفقد الأمل وظل يكتب بشكل متواصل، وظل يبتكر شخصيات وعوالم من وحي خياله، بشرًا بربريين يعيشون بمعزل عن بقية المجتمع، ويتقاتلون من أجل الأرض والفخر.

في عام 1925 بعد خطابات رفض متتالية، جاء خطاب من مجلة حكايات غريبة “Weird Tales” بالموافقة على نشر قصته التي تحمل عنوان رمح وناب “Spear and Fang” وهي قصة قصيرة تدور أحداثها عن رجل كهف ينقذ حبيبته من براثن رجل من جنس النياندرتال، أحد الأجناس البشرية المنقرضة. تلقَّى هوارد 16 دولارًا مقابل القصة وكانت هذه هي بدايته مع عالم الكتابة الاحترافية، ومع مجلة حكايات غريبة التي كانت حديثة العهد في ذلك الوقت وتكافح لإثبات نفسها، قبل أن تصير واحدة من أهم المجلات الخيالية في أمريكا وتنشر لعديد من الكتاب البارعين أهمهم لافكرافت الذي نشر حكايته “نداء كثولو” في المجلة سنة 1928، وجذب بعدها العديد من الكتاب ليكتبوا تحت مظلته، بل وشارك بعضهم في كتابة قصص تدور في العالم الذي اختلقه.

إعلان

سولومون كين والملك كول

قبل أن يكون كونان البربري كان هناك سولومون كين Solomon Kane الذي ظهر أول مرة في قصة الظلال الحمراء Red Shadows سنة 1928، رجل كئيب المظهر شاحب الوجه حاد النظرات يرتدي قبعة، مسلح بعدة أسلحة منها سيف وخنجر ومسدس بارودي، يجوب سولومون كين العالم بلا هدف واضح سوى القضاء على الشر بكل صوره، قال عنه هوارد في قصة الظلال الحمراء: “كان يعتبر نفسه منفذًا لمشيئة الرب، وعاء من الغضب يفرغه على أرواح الآثمين”.

سولومون كين من رسم Guillem H. Pongiluppi
سولومون كين من رسم Guillem H. Pongiluppi

 

تقع أحداث قصص سولومون في أواخر القرن السادس عشر وبدايات القرن السابع عشر، في عالمٍ أقرب لعالمنا المألوف، ولكنه يحمل لمحات كثير من الميثولوجيا والسحر والخيال، وخصيصًا في الأجزاء الواقعة في أفريقيا القارة السوداء، حيث يرى لمحاتٍ من أزمانٍ غابرة، السحر القديم، والآلهة العتيقة، والقوى البدائية. يقول في قصة الظلال الحمراء:

“أحس مجددًا في مكانٍ ما بروحه بأعماقٍ بدائية مبهمة تنشط من جديد، ذكرياتٍ قديمة، مغلفة بضباب الدهور الضائعة. قال كين لنفسه إنه كان هنا من قبل، لقد عرف كل هذا من قبل، ألسنة اللهب التي تقارع الليل البهيم، الوجوه الوحشية التي تطل في ترقب، والإله، الإله الأسود، هنالك في الظلال! لطالما كان الإله الأسود كامنًا في الظلال. لقد عرف هذه الصيحات، الهتافات المحمومة للعابدين، قديمًا في فجر العالم الرمادي، صدى قرع الطبول، غناء الرهبان، والرائحة المنفرة الحادة النفاذة للدم المسفوك حديثًا. قال كين لنفسه، كل هذا قد عرفته، في مكانٍ ما، في زمانٍ ما”.

هذه العصور الغابرة من قبل التاريخ هي ما سيتحدث عنه لاحقًا في قصص الملك كول King Kull وكونان البربري، ظهر كول أول مرة في قصة مملكة الظلال The Shadow Kingdom التي نشرت سنة 1929، أي بعد ظهور سولومون كين بعامٍ واحد، ولكنه كان قد بدأ في كتابة القصة قبل أن يكتب قصة سولومون كين، وتقع أحداث قصص كول قبل غرق أطلانتس في نسخة خيالية من الأرض، حيث كان العالم يتشكل من القارة الرئيسية ثوريا، وقارة في الشرق غير معروف اسمها، وبعض القارات الصغيرة مثل أطلانتس، وسلاسل عديدة من الجزر. كان الجزء الشمالي من ثوريا يحتوي على العديد من الممالك المتحضرة أشهرها وأكثرها قوة ڨالوشيا، أما بقية العالم فمعظمه عبارة عن برارٍ غير مستكشفة تسكنها “قبائل وعشائر متفرقة من الوحشيين البدائيين”.

 

الملك كول من رسم Rei Zernan
الملك كول من رسم Rei Zernan

 

كول هو محارب من أطلانتس التي كانت تقطنها حينها قبائل بربرية، ولكن تقع أحداث قصة “مملكة الظلال” في ڨالوشيا، والتي وصفها بأنها في زمن كول كانت آخذة في التدهور والاضمحلال، “تعيش في الأغلب على أحلام المجد الضائع، ولكنها لا تزال أرضًا قوية، والأعظم بين الامبراطوريات السبعة”. كانت المملكة قديمة بالفعل بمعاييره، أو كما قال: “كانت تلال أطلانتس ومو مجرد جزر في البحر عندما كانت ڨالوشيا في شبابها”. وفي هذه القصة ظهر البكتيون Picts الذين قرأ عنهم هوارد في طفولته، وصاروا لاحقًا جزءً هامًّا من عالم كونان البربري.

العصر الهيبوري وكونان البربري

كان عالم كول هو الركيزة الأساسية التي بنى عليها لاحقًا عالمه الأساسي الذي تدور فيه أحداث قصص كونان البربري والذي يحمل اسم العصر الهيبوري Hyborian Age، والذي يمثِّل فترة خيالية من تاريخ الأرض تلت غرق أطلانتس ونهاية العصر الثوري Thurian Age الذي ينتمي إليه الملك كول نسبة إلى قارة ثوريا. يتحدَّد الفاصل بين نهاية العصر الثوري وبداية العصر الهيبوري بكارثة عظمى أدت إلى غرق أراضٍ عديدة في البحار الهائجة، وصعود أراضٍ أخرى منها، والبقية دمَّرتها الزلازل والبراكين.

إنَّ ولع هوارد بالتاريخ والميثولوجيا جعله يبني تاريخًا للأرض من مخيلته يمزج بين الواقع والخيال، ودوَّن هذا التاريخ بالكامل دون أن ينشره وقبل أن يكتب أيَّ قصة من قصص كونان، وكان الهدف منه هو أن يحافظ على اتساق هذا العالم الخيالي الذي بناه أثناء كتابة قصصه. وقد خطرت فكرة العصر الهيبوري لهوارد سنة 1932 في إحدى رحلاته إلى الأجزاء الجنوبية من تكساس، حين كان ينظر إلى التلال الكئيبة من خلال الأمطار الضبابية، فراودته فكرة أرض سيميريا الخيالية، منطقة جنوبية قاسية جافة موطن لبرابرة مخيفين. وفي فبراير أثناء وجوده في مدينة ميشن كتب قصيدة “سيميريا” كجزء من العصر الهيبوري وفي هذه القصيدة يصف سيميريا بأنها “أرض الظلام والليل البهيم” وأنها مكان كئيب بغاباتٍ مظلمة وأنهار صامتة غسقية، وسماء داكنة ملبدة بالغيوم. أما شخصية كونان البربري فقد تشكلت بعد كتابة القصيدة بتسعة أشهر.

 

خريطة العصور الهيبوري بواسطة Sapiento
خريطة العصور الهيبوري بواسطة Sapiento

 

بعد هذا بدأ هوارد يحيك عالمه، ويضفي عليه الكثير من التفاصيل، واصفًا الممالك والأجناس وتاريخها بدءً من أحداث ما قبل التاريخ حيث تحدث عن الكارثة التي أدت إلى نهاية العصر الثوري، وبداية العصر الهيبوري، واصفًا بداية كل عرق في قصصه وتطوره، مستعيرًا أسماءً حقيقية من التاريخ والميثولوجيا، حتى وصل إلى العصر الحديث وربط هذه الأعراق الخيالية بالأمم الحديثة، على سبيل المثال جعل هوارد السيميريين ـ الذين ينتمي إليهم كونان ـ أسلاف عرق الغايل.

لقد قدَّم هوارد مزيجًا مراوغًا من الخيال والتاريخ، قد يخدع القارئ في البداية ليظن أنه تاريخ الأرض حقًا وليس خيال الكاتب. وهذا ما يجعل عالم هوارد مميزًا، هذه اللمحة من المألوف المختلطة بهذا الكم من الغرابة والسحر والخيال. إنَّ العالم الذي رسمه هوارد متشعب ومعقد، مليء بالتفاصيل والممالك والأجناس والآلهة والسحرة والوحوش، ولكنه عالم مثير ومبهر، من سيميريا إلى أكويلونيا إلى ستيجيا وتوران وأوفير وغيرها من البلدان والممالك، وسكانها المفعمين بالحياة والتفاصيل، ولكنه عالم وحشي بربري، وربما لا يمكنك النجاة فيه إلَّا إذا كنت بربريًّا ضخمًا مفتول العضلات مثل كونان.

 

كونان من رسم Pablo Olivera
كونان من رسم Pablo Olivera

 

الطريف أنه كما نشأ العصر الهيبوري على أطلال العصر الثوري، فإن قصة كونان الأولى هي إعادة كتابة لإحدى قصص كول التي فشل هوارد في نشرها والتي تحمل اسم “بهذا الفأس أنا أحكم!” لتصير قصة كونان الأولى بعنوان “العنقاء والسيف” وكلتا القصتان تتحدَّثان عن ملك يواجه مؤامرة، سواء كان الملك كول أو الملك كونان. وفي هذه القصة نرى كونان متوسِّط العمر وهو يحكم مملكة أكويلونيا المضطربة.

وصفه هوارد في قصة السيف والعنقاء قائلًا: “هنا جاء كونان، السيميري، ذو الشعر الأسود والعينين المتجهمتين، السيف في يده، لص، غازٍ، قاتل، بأحزانٍ عظيمة وأفراحٍ عظيمة، ليطأ عروش الأرض المرصعة بالجواهر أسفل قدميه ذاتا الصندلين”.

في قصص لاحقة نرى كونان في مراحل مختلفة من عمره؛ وهو لص باحث عن الكنوز، وقرصان، ومرتزق، وقائد جيوش، قبل أن يصير ملكًا.

السيف والسحر

كانت القصص التي يكتبها هوارد فريدة، ولا تشبه أيَّ شيء يكتبه معاصروه، فقدم نوعًا جديدًا من الفانتازيا، يمزج بين الفانتازيا والرعب والميثولوجيا والتاريخ والمبارزة بالسيوف بطريقة لم يستخدمها كاتبٌ من قبله. كما أنَّ أبطال هوارد ليسوا مثاليين، مثل كونان بطبيعته التي تمزج بين النبل والبربرية، والذي تحرِّكه غالبًا دوافعه الشخصية، ولكنه لن يتوانى عن الدفاع عن الضعفاء، يحب الطعام والشراب والنساء، إنه ضخم الجثة قوي البدن، ولكنه حاد الذكاء خفيف الحركة، يتحرك بخفة ورشاقة النمر الأسود، بارع في استعمال السيف، ولكنه يجيد العديد من اللغات ويقدر على حل العديد من الرموز القديمة.

في قصص كونان نراه يستكشف الجزر والصحاري والمدن الضائعة بحثًا عن الكنوز الخفية، يقاتل الوحوش المخيفة والسحرة الأشرار، وينقذ النساء الجميلات من براثن الخطر، كما نراه يتدخل في السياسة والصراعات بين الممالك والأسر الحاكمة المختلفة، وقد يقود الجيوش مبديًا عبقرية عسكرية وسياسة لا تضاهى، ورغم وصفه باللص والقرصان في قصص عديدة إلَّا أننا لا نراه حقًّا يعتدي على الأبرياء، بل دائمًا ما يأخذ جانب الضعفاء والمظلومين، حتى لو أدى هذا إلى تعريض حياته هو ذاته للخطر.

 

كونان من رسم Aleksandr Nikonov
كونان من رسم Aleksandr Nikonov

 

لاحقًا حمل هذا النوع من الأدب الذي ابتكره هوارد اسم السيف والسحر Sword and Sorcery وقد ظهرت هذه التسمية على يد الكاتب الأمريكي فريتز ليبر بعدما قرأ رسالة من الكاتب البريطاني مايكل موركوك يطلب فيها تسمية هذا النوع من القصص التي كتبها روبرت إي. هوارد.

تختلف فانتازيا السيف والسحر عن الفانتازيا العليا High Fantasy التي قدمها على سبيل المثال تولكن في سيد الخواتم وباول أندرسون في السيف المكسور. حيث تكون الصراعات في السيف والسحر شخصية ولا تركِّز على أخطار تهدِّد العالم بأكمله، ويفتقر أبطالها إلى المثالية ومواصفات البطولة التقليدية بل يكونون أقرب لفكرة نقيض البطل Anti-Hero.

الكثير من الكتاب قلدوا وتأثروا بهوارد لاحقًا ليكتبوا بدورهم قصصًا تنتمي إلى أدب السيف والسحر، مثل فريتز ليبر الذي صك هذا المصطلح، ومايكل موركوك في العديد من رواياته مثل سلسلة إيرلك من ميلنيبوني Elric of Melniboné.

صداقته مع لافكرافت

سنة 1930 أرسل هوارد رسالة إلى مجلة حكايات غريبة يمتدح فيها قصة لافكرافت الفئران في الجدران “The Rats in the Walls” ويناقش بعض التيمات في القصة، بعث المحرر فارنزورث رايت بالرسالة إلى لافكرافت، الذي أجاب رسالة هوارد بحرارة، وسرعان ما صارا صديقين مقربين، وانضم هوارد إلى دائرة لافكرافت “Lovecraft Circle” التي ضمت العديد من الكتاب الآخرين منهم كلارك آشتون سميث الذي كان يكتب بدوره في مجلة حكايات غريبة، وبرع في كتابة الرعب الغامض الكامن في عالمنا المعروف، كما برع في خلق عالمه الأسطوري الخاص بممالكه ومدنه وسحرته ومخلوقاته الغريبة. وكان يطلق عليهم هم الثلاثة (لافكرافت وهوارد وسميث) اسم الثلاثة الكبار أو الفرسان الثلاثة للحكايات الغريبة.

 

لافكرافت
لافكرافت
كلارك آشتون سميث
كلارك آشتون سميث

 

في هذه الدائرة كان لافكرافت يشجِّع أصدقاءه على مشاركته عالمه، وكتب العديد منهم قصصًا تنتمي إلى العالم الأسطوري الذي ابتكره لافكرافت والذي يدعى كثولو ميثوس Cthulhu Mythos نسبة إلى كثولو أهم الكيانات القديمة في عالم لافكرافت، وقد شارك هوارد بعدة قصص تنتمي إلى هذا العالم مثل الحجر الأسود “The Black Stone” وأبناء الليل The Children of the Night وغيرهما.

ورغم أنَّ هوارد ولافكرافت لم يلتقيا وجهًا لوجه طيلة حياتهما، إلا أنهما تبادلا الكثير من الخطابات التي تحوي مناقشاتهما حول الأدب، وقد تأثَّر هوارد كثيرًا بلافكرافت، كما تأثر به لافكرافت أيضًا، واستخدم كلاهما عناصر من عالم الآخر، ففي قصص كونان تحدث هوارد عن “الرعب الكوني” وهو المصطلح الذي صكَّه لافكرافت في عالمه الأسطوري، والكثير من الوحوش المرعبة في قصصه كانت تشبه الطريقة المريعة التي يصف بها لافكرافت مخلوقاته. أما لافكرافت فقد أدرج بدوره عدة أسماء من عالم هوارد في قصصه مثل اسم الإله كروم الذي يعبده السيميريون قوم كونان ومملكة ڨالوشيا من حكايات كول، كما أضفى لافكرافت لاحقًا بعض “الأكشن” على قصصه تأثرًا بهوارد مثل الظل فوق إنزماوث “The Shadow Over Innsmouth”.

 

كثولو أهم الكيانات القديمة في عالم لافكرافت من رسم Disse86

 

لعلَّ هذه العلاقة هي ما جعلت عالم هوارد الفانتازي يكتسي بالرعب والقتامة، ولكن الفارق بين أبطال هوارد وأبطال لافكرافت هو أنهم لا يصابون بالجنون أمام الرعب غير المعقول الذي يواجهونه، بل يحملون سيفهم ويقاتلون هذا الرعب وينتصرون عليه. الفارق الآخر بين لافكرافت وهوارد هو الحضارة والبربرية، حيث كان لافكرافت يرى أن الحضارة هي ذروة الإنجاز البشري وأنها الطريق الوحيد للتقدم، أما هوارد فكان يرى أن الحضارة بطبعها فاسدة وهشة، كما قال في إحدى قصص كونان التي تحمل اسم ما وراء النهر الأسود Beyond the Black River: “البربرية هي الحالة الطبيعية للجنس البشري، الحضارة غير طبيعية. إنها مجرد ظرف عابر، والبربرية ستنتصر في نهاية المطاف”.

تعرَّض هوارد للكثير من الانتقادات بسبب الطابع البربري الذي تكتسي به قصصه، ولكن لافكرافت دافع عنه قائلًا إنه: “محب للعالم البربري القديم والأكثر بساطة، الأيام البدائية، عندما كانت الشجاعة والقوة تحلُّ محل الحيلة والدهاء، عندما كان الشجعان الذين لا يعرفون الخوف يتقاتلون وينزفون… السر الحقيقي [لقصص هوارد] أنه نفسه واحدٌ منهم …”.

رحيل هوارد المبكِّر عن عالمنا

في سن الثلاثين كان هوارد يعاني من نوبات اكتئاب متزايدة، كان وحيدًا وقد تزوَّج كل أصدقائه وانغمسوا في وظائفهم مما جعله يختلي باكتئابه، كما كانت أمه تعاني من السلِّ لعقود وقد شارفت على الوفاة، وكان يلمِّح بالانتحار لوالده كلما ساءت حالتها الصحية، وقبل انتحاره بأسابيع أرسل لوكيل أعماله يخبره ماذا يفعل في حالة موته، وكتب وصتيه الأخيرة ثم استعار مسدسًا من صديقه. في غيبوبة أمه الأخيرة أخبرته الممرضة أنها قد لا تفيق مجددًا، فتوجَّه إلى سيارته وأخرج مسدسه وأطلق النار على رأسه. ماتت أمه في صباح اليوم التالي ودُفِنا معًا.

عُثِر في آلته الكاتبة بعد موته على ورقة كتب فيها:

“All fled, all done, so lift me on the pyre; The feast is over and the lamps expire.”

“الكل هرب، كل شيء انتهى، لذا احملوني على المحرقة؛ فقد انتهت الوليمة وانطفأت ذُبَالات المصابيح.”

مات روبرت إرڨين هوارد سنة 1936، وبعدها بعامٍ واحد مات لافكرافت بمرض السرطان، ثم توقَّف كلارك آشتون سميث عن الكتابة تأثرًا بموتهما، مما جعل مجلة الحكايات الغريبة تفقد فرسانها الثلاثة بشكل حزينٍ للغاية.

هوارد على آلته الكاتبة

ورغم موت هوارد في سن صغيرة، إلَّا أنه قد ترك وراءه إرثًا ضخمًا، وأعمالًا حفرت لنفسها مكانًا في تاريخ الأدب، وصار كونان البربري واحدًا من شخصيات الأدب الأيقونية مثل طرزان ودراكولا وشارلوك هولمز وجيمس بوند، كما تحولت أعماله إلى أفلامٍ ومسلسلات وقصص كوميكس وألعاب فيديو، كما تحوَّل بيته في تكساس إلى متحف روبرت إي. هوارد وأُضِيف إلى السجل الوطني للأماكن التاريخية.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: أحمد صلاح المهدي

تدقيق لغوي: محمود المهدي

اترك تعليقا