رونالدو وزيدان وآخرون: لأن الآيس كريم لا يسبب الغرق.

قبل فترة وفي الخامس عشر من أغسطس/آب تحديدًا، كان ريال مدريد يواجه أتلتيكو مدريد في بطولة السوبر الأوروبي؛ وهي البطولة التي تُوِّج بها مقاتلوا الروخيبلانكوس على حساب بطل أوروبا كاسرين بذلك أسطورة عدم خسارته للنهائيات، وأيضًا عقدتهم الشخصية في الخسارة أمامه في البطولات الأوروبية دائمًا.

انتهى اللقاء ونتيجته تشير إلى فوز الأتليتي بأربعة أهداف في مقابل هدفين، وهي النتيجة التي تبدو ثقيلةً نوعًا ما على فريقٍ بحجم الريال، لكن على الرغم من ذلك فهي لم تعكس ما جرى على أرض الملعب بدقة، ولم تكن تلك النتيجة بأي حال من الأحوال دليلًا على مستوى الفريقين أو بيانًا لأحوالهم، لكنها فقط نتجت عن بعض التفاصيل الدقيقة والأخطاء الفردية القاتلة من جانب الفريقين.

على مستوى الريال؛ فإن لوبتيجي لم يقدم لقاءً كارثيًا على أية حال، ورغم إمكانية لومه على بعض التغييرات إلا أن فريقه أبدى الكثير من التجانس والثقة وظهر بمظهر مبشر رغم أنها مباراته الرسمية الأولى مع الفريق، وظهر معه الفريق بمستوى مقبول للغاية. على مستوى الهجوم، صنع الكثير من الفرص وبدا قادرًا في أغلب أوقات المباراة على اختراق دفاعات أتلتيكو بل والتسجيل كذلك.

لكن مشكلة الريال الأبرز كانت في ابتعاد أغلب مدافعيه -بل كلهم تقريبًا- عن مستواهم المعهود؛ فلم يكن أيًا من راموس أو فاران في أحسن أحوالهم، لم يقدم الأول ما تعود عليه في المباريات الكبرى، وظهر الثاني بأداءٍ باهتٍ للغاية وبدا وكأنه ناشئ يتحسس خطاه من جديد رغم تقديمه لبطولة رائعة في كأس العالم الشهر الماضي، وكذلك لم يكن ظهيرَي الجنب كذلك بأفضل حالًا من رفيقَيْهما، وفيما قدم كارفاخال أداءً متواضعًا، كان مارسيلو يهدي هدف التعادل لأتلتيكو بغرابةٍ شديدةٍ، وزاد الأمر تعقيدًا خروج كاسيميرو للإصابة ومستوى نافاس المتواضع!

لكن ولسببٍ غامضٍ قرر الكثيرون أنه لا علاقة لذلك بالأمر، وأجزموا في ثقةٍ وتأكيدٍ كاملَيْن بأن رحيل كريستيانو رونالدو هو السبب؛ رونالدو لاعب كبير بلا شك وكان من الممكن أن يشكل حلًا مهمًا للفريق، لكن دعنا نناقش الأمر قليلًا: هل أزمة الريال كانت هجومية بالأصل؟ وهل كانت مشكلته هي الإنهاء تحديدًا؟ وهل لا يعتبر تسجيل هدفين في مرمى أتلتيكو رقمًا كافيًا؟ وهل كان رونالدو ليحل أزمة الفريق الدفاعية؟ هل كان ليمنع مارسيلو من تصرفه الطفولي حين أعاد الكرة للملعب؟ أم كان سيخبر راموس أنه لا يمكن أن تمرر الكرة لزميلك ووجهه للمرمى؟ أم أنه كان بإمكانه الحفاظ على كاسيميرو من الإصابة؟

إعلان

يلزمك الإجابة على كل هذه الأسئلة أولًا قبل أن تجزم بأن رونالدو هو السبب، وحينها قد لا يكون من السهل ادّعاء ذلك أيضًا، ولكن افعل، وحينها ستلزمك إجابة أخرى مهمة للغاية هي “متى كانت المرة الأخيرة التي فاز فيها الريال رغم تلقيه أربعة أهداف؟”

الحقيقة أن كل تلك الإجابات تخبرك بأن رحيل رونالدو لم يكن السبب، وحتى من ادعى بأن رحيل زيدان هو السبب ليس محقًا أيضًا. تغافل الأول أن رونالدو كان حاضرًا لخسارات عديدة أمام الأتليتي لم يحرك حينها ساكنًا، -واحدة منها كانت للمفارقة برباعية نظيفة-، وتغافل الثاني عن حقيقة أن زيدان لم يَهزم أتلتيكو سوى في مناسبتين فقط من أصل ثمانية.

“بعده إذن بسببه”

ومع ذلك فإن المشكلة ليست في كرستيانو والريال أو مشجعيهم فحسب، بل إن تلك المغالطة يرتكبها الكثيرون دائمًا في تحليلاتهم ونقاشاتهم، بل ويمكن أن تُبنى عليها الكثير من القرارات الخاطئة، والمغالطة تكمن في ميل الإنسان لافتراض أن حدث ما كان سببًا لحدثٍ آخر لمجرد تعاقبهما أو حتى وجود علاقة مطّردة في معدلات حدوثهما زيادةً ونقصانًا.

ويدفع الإنسان لهذا رغبته الدائمة في الإحساس بالسيطرة على الأشياء والتحكم فيها، وإمكانية التنبؤ بمصيرها كذلك، وهو ما يجعله يسعى دائمًا إلى البحث عن العلاقات بين الأشياء وتكوين الأنماط والأشكال وإيجاد المعادلات، ويؤرقه كثيرًا العجز عن إيجاد إجابة شافية واضحة لتفسير حدوث شيء ما.

ومع تكرار الأشياء دائمًا في أنماط معينة من التصاحب والتعاقب، فإنه غالبًا ما يخلط الإنسان بين “الارتباط” وبين “السببية”، بل ويعتبر أن كل حدثين مرتبطين كان أحدهما سببًا للآخر حتى لو لم تكن هناك بينة أو قرينة أخرى غير ارتباطهما الزماني أو المكاني.

على الرغم من أن ارتباطهما الدائم أو حتى علاقتهما المطّردة لا تعني السببية إطلاقًا، وقد يكون ذلك من قبيل الصدفة البحتة ليس أكثر، أو حتى قد يكون سببًا ثالثًا قد تسبب في الحدثين من الأصل، فلا يعني تعاقب الليل والنهار المستمر أن أحدهما تسبب في الآخر، بل إن دوران الأرض حول نفسها هو ما سبب الاثنين معًا.

ولو اعتبرنا أن كل علاقة بين أمرين تعني سببية أحدهما للآخر فإننا من الممكن أن نحصل بذلك على علاقات لطيفة للغاية؛ هناك موقع شهير يسمى “spurious correlation” يقدم لك الكثير من تلك العلاقات التي يرتبط فيها حدثين ارتباطًا تامًا دون أن يكون أحدهما سببًا للآخر؛ هناك سوف تجد علاقةً بين استهلاك الفرد في الولايات المتحدة الأمريكية من الجبنة الموزاريلا وبين عدد شهادات الدكتوراه في الهندسة المدنية، وبينها وبين عدد المحاميين في كاليفورنيا كذلك، بين معدلات الغرق بعد السقوط من مركب صيد ومعدلات الزواج في ولاية كنتاكي، أو بين الأفلام التي يظهر فيها الفنان نيكولاس كيدج وبين الموت من الغرق في حمامات السباحة، وهناك علاقة متطابقة تقريبًا بين استهلاك الفرد من الفراخ وبين استيراد الولايات المتحدة لليورانيوم.

وهكذا، يمكنك إيجاد آلاف العلاقات على هذا النمط مع أنه لا توجد ثمة علاقة حقيقية بين أي من الطرفين، وذلك ما يجعل ادعاء سببية حدث لآخر عملية في غاية الصعوبة، لذلك لا يمكن إثبات تلك العلاقة على المستوى العلمي وفي داخل المعامل إلا عبر إجراء ما يعرف بال”control experiment” وهي ما تقتضي أن تُكرر التجربة مع تثبيت كل العوامل عدا العامل المراد اختباره والتأكد من النتائج في كل مرة وتحسس أثر ذلك العامل، وحينها يمكن التأكد إن كان هو السبب أم لا.

اليقين الزائف

وفي مجال كمجال كرة القدم لا يمكنك بأي حالٍ من الأحوال أن تقوم بمثل هذه التجربة، لا يمكن إعادة المباريات أو العودة بالزمن وإعادة اختبار العوامل، لذلك يبدو من الصعوبة بمكان الحديث بثقة عن سببية أحد الأحداث للآخر، ذلك أن تحليل كرة القدم يقوم بشكل أساسي على التوقع والتخمين وملاحظة التكرار، ولا يمكن أن يصل أحد إلى درجة اليقين الكاملة في تحليله مهما حدث.

بإمكانك أن تنتقد مدربًا ما حين يتلقى فريقه هدفًا، وأن تفند خطأه وتشرح الأماكن الصحيحة التي كان ينبغي أن يقف فيها اللاعبون في لقطة الهدف، وتُبين كيف أنه لا يفقه في الدفاع شيئًا، وتنتقد مدرسته التدريبية الحالمة التي لا تجيد سوى الهجوم، يمكنك فعل ذلك بسهولة ويمكن للكثيرين الاقتناع بسهولة أيضًا، لكن في النهاية قد يكون الرجل قد أخبر لاعبيه عن الطريقة الصحيحة بالفعل، لكنهم لم ينفذوا أوامره.

وبالمثل؛ لو تلقى فريقك أهدافًا عديدة من أحد الجبهتين، يمكنك بسهولة أن تتهم ظهير هذه الجبهة أنه ضعيف دفاعيًا أو أنه متخاذل لا يستطيع إغلاق جبهته، وقد يترسخ ذلك الأمر طويلًا بأنه أحمقٌ لا يجيد الدفاع، من الممكن أن يكون أحمق لا يجيد الدفاع فعلًا، لكن من الوارد كذلك أن يكون مدربه هو من يأمره بالتقدم وفتح الخط أثناء الهجوم والتقدم كجناح وبالتالي يترك مكانه شاغرًا، وقد يستقبل الفريق هدفًا من جبهته بالفعل لكنه ليس السبب إطلاقًا، من الممكن أن يكون المدرب السبب في حال أنه لم يكلف أحدًا بتغطيته، وقد لا يكون لو أنه كان قد كلف لاعب الارتكاز مثلًا بالتغطية وهو من تخاذل. وأنت لا تعلم أي من ذلك حدث، ولا تعلم السبب الحقيقي فعلًا، لكنك ستبني أحكامك على الظاهر فقط، وسيظل جزءٌ كبيرٌ من اللعبة غامضًا مبهمًا مهما بلغ مستوى المحللين والخبراء.

بنزيما هو السبب؟

كذلك لا يقف الأمر عند جمهور كرة القدم عند هذا الحد، بل يتعداه إلى رفض الأغلبية للأسباب المركبة أو محاولة تحليل أي مشكلة وإعادتها لأسبابها الأولية، هم يريدون كلمةً واحدةً فقط للإجابة على أسئلتهم. عندما يخسر فريقهم في مباراةٍ ما فهم لا يرغبون إطلاقًا في قراءة تحليل من ١٠٠٠ كلمة ليشرح الأمر ويفند حالة اللاعبين واختيارات المدرب والمشاكل التكتيكية وحالة المنافس وغيرها، هم يرغبون في كلمة أو كلمتين على الأكثر لتلخيص الخسارة، المدرب الأحمق أو الحكم الظالم أو الحارس الفاشل أو حتى العشب الطويل، أي شيء.. المهم أن يتحمل واحد فقط المسؤولية.

على الرغم أنه من النادر فعلاً أن يتسبب شخص واحد في الهزيمة أو حتى الفوز، ولا يخسر فريق أو يفوز إلا عبر تجمع عدد من الأسباب في آنٍ واحد، إلا أن تلك عادة مفضلة لديهم دائمًا، لابد أن يكون شيءٌ واحد هو السبب؛ هم لا يقدرون على توزيع شحناتهم الغاضبة على عدد كبير من الأسباب، لأن حينها سينال كل منها قدرًا قليلًا من الغضب ولن يشفِ ذلك غليلهم بالطبع، لذلك يختارون أحدهم لينال تلك الجرعة كاملة ويستأثر بالشتائم كاملةً له دون غيره.

هذه هي القاعدة دائمًا وهي تبقى واحدة في حال الفوز أو الهزيمة، عند الفوز أيضًا، لابد وأن يكون أحدهم هو من جلبه لهم، ويكون غالبًا هو من أحرز الهدف حتى لو كان لم يلمس الكرة إلا في تلك المرة التي سجل فيها، مع أن الفريق لم يكن ليفوز لولا حفاظ حارس المرمى والدفاع على نظافة شباكهم، وهو لم يكن ليسجل لولا صناعة خط الوسط للفرص، وهكذا، لكن أولئك لا يصلحون لتوزيع المديح بينهم كما أخبرتك، إنّما هو رجل واحد.

يلزم ذلك أيضًا لأجل المانشتات المثيرة والتي تلقى رواجًا دائمًا، والتي لا يبدو تناوُل الأسباب المنطقية فيها مناسبًا بقدر ما يبدو اسم أحدهم؛ أنت تحب أن تسمع أن مارادونا جلب كأس العالم للأرجنتين، أن رونالدو جلب بطولة أوروبية لمنتخبه، أن زيدان يفوز لأنه درويش. إخبارك بقائمة الأرجنتين في كأس العالم، وعن امتلاكهم للكثير من اللاعبين المميزين، وعن طرق اللعب والمدرب وغير ذلك لن يعجبك، وإقناعك بمستوى رونالدو المتواضع أغلب أوقات البطولة، ومشاركة ناني بنفس القدر من الأهداف، وأسلوب سانتوس الدفاعي المحكم لن يعجبك أيضًا، ومحاولة شرح ما فعله زيدان طيلة ثلاثة أعوام حيلة لا تفيد أبدًا في صد تلك الجمل الجاهزة المعلبة.

ولا يرضى الناس بالحلول البديلة الوسطية كذلك، أو حتى الاقتناع بأنه ليس شرطًا أن يكون هناك سببًا ونتيجة من الأصل؛ فنحن إمّا أن نقول بأن ميسي هو من صنع جوارديولا وقاد جيل برشلونة الذهبي للمجد، أو نخبرك بأن ميسي نفسه هو صنيعة ذلك الجيل الذهبي، لا وسطية إطلاقًا. لا يصلح القول بأن كل منهما استفاد من الآخر بطريقة ما ونجح الجميع في النهاية، لا يبدو هذا مناسبًا لإفحام أحد لذلك لا نستخدمه.

في النهاية؛ نحن لم نأتِ هنا لنقد السببية أو نفيها مطلقًا، بل فقط من أجل أن تبني حكمك بوجودها على دعائم وقرائن واضحة، ولا تكتفي بتعاقب الأحداث الزمني الظاهر أو حتى وجود علاقة مطّردة لحدوثهما. ذلك حتى لا يأتي أحدهم يومًا ليخبرك بأن الآيس كريم يسبب الغرق لمجرد أنه كلّما زاد استهلاك الأول زاد حدوث الثاني، أخبره ببساطة أن الصيف هو ما يتسبب في زيادة الاثنين معًا.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: إسلام رشاد

تدقيق لغوي: آلاء الطيراوي

اترك تعليقا