السؤال الحرام!

كلنا قابلنا هذا الرجل الذي يقول: سألت نفسي كثيرًا: ما الدليل على وجود الله؟ من خلق الله؟ هل هذا الدين صحيح؟ ثم استغفرت الله وأخمدتُ هذه الوساوس!

هذه العقلية تجبن أن تستخدم العقل، ولا تثق في العقل، وتساوي بين العقل والهوى، بل تعتبر اتباع النص وتقديمه على العقل هو طاعة لله وعبادة للدين، وتظن أنّ كل تفكير حر سيؤدي بالضرورة إلى الانسلاخ عن الدين، وتظن أنّ دور العبد محصورٌ في الطاعة والتسليم!

ومن هنا ظهرت أصوات تنادي بعدم الخوض في العلوم الفلسفية، وتحريم علم الكلام، والاكتفاء بظواهر النصوص!

وفي المقابل يرى كثيرون من غير المؤمنين أن الإيمان لا يمكنه أن يعيش في عقل ناقد متسائل، بل قوام الإيمان وعموده الفقري هو التسليم للغيب، والاتباع، والطاعة. والله يريد عبدًا مسلِّمًا وليس عالِمًا مشككًا ومتعمقًا، ويظهر ذلك في عدة أدلة من الدين نفسه:

الملائكة تسأل والله لا يجيب!

حين سألت الملائكة الله: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ)؟ فما كان الجواب الإلهي سوى: (قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ)! كأن مفاد الإجابة: لا تسألوا وأطيعوا فقط!

إعلان

تهمة إبليس الفكر!

إن معصية إبليس أنه سأل، تهمته أنه فكَّر وجادل ربَّ العزة، فارتطم بعقابٍ أزلي، لأن الله لا يريد جدالًا، بل يريد طاعة فقط؛ فبمجرد أن قال إبليس: (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)، جاءته الإجابة: (فَاهْبِطْ مِنْهَا)!

يقول (بودمان): “لم يفنِّد الله ولم يدحض حجة إبليس. الله يرفض الكون الذي تخضع فيه الأحكام الإلهية للمناقشة العقلانية”(1).

الخضر يعلِّم موسى: اتبعني ولا تسأل!

قصة موسى والخضر محورها التسليم؛ فالقصة هي صراع بين تساؤلات موسى وغموض وصمت الخضر. والدرس المستفاد: لا تسأل، ولا تعترض، وأطع الخضر/ القَدَر في صمت!

ومِحور القصة في: (قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ)!

لا يُسأل عما يفعل:

حرَّم الله سؤاله عن أي فعل أو تشريع، وبالتالي فهو يسد كل التساؤلات الدينية من بابها؛ ويحرِّم علم العقيد/ علم الكلام، فلا سؤال، ولا بحث، ولا تفكير، وما دورنا إلا الامتثال والطاعة!

يقول (ريتشارد دوكنز): “الإيمان الديني هو مبيد فعّال لكل أنواع المنطق العقلاني”، “الإيمان بطبيعته لا يتقبل أي شك أو تساؤل”، “المسيحية، كالإسلام، تُعلِّم الطفل بأن الإيمان دون سؤال هو فضيلة”(2).

***

الملائكة تسأل والله لا يجيب!

يعتقد البعض أن الملائكة حين سألت: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ)، جاءتهم الإجابة: (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) وانتهى الأمر، وبذلك نستخلص: السؤال ممنوع، والإجابة مجهولة!

لكن نتوقف عند عدة نقاط:

– قال تعالى للملائكة: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)، وهو بذلك يُعلِمهم ويخبرهم ويخطرهم بحقيقة لم يسألوا عنها ولم يحتاجوا إليها، وكانت هذه المقدمة كلّها هي تقديم للأمر الإلهي: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ)، فكان من الممكن الاكتفاء بأمر السجود وتنتهي القضية، لكن نتلمس من طريقة السرد أنّ الله أراد إعلام الملائكة أولًا بحقيقة آدم ومهمته وعلّة الأمر وحكمته. فهو أمر مسبوق بتوضيح وشرح.

– الله تعالى لا يُحاسب أو يُراجع عما يفعل، ولا يُقدَّم بين يديه اقتراحٌ أو تعقيب؛ إذ لا يخفى على علمه شيء، ورغم ذلك سمح الملك القهار للملائكة أن تسأل، بل أكثر من ذلك؛ إذ يحمل السؤال لهجة تعجّب واستهجان، ويلمّح إلى أن الملائكة رأت نفسها أجدر بالاستخلاف من البشر، لذلك قارنت نفسها بالبشر، وقد سمح الله بكل هذا!

– سجَّل الله تعالى سؤال الملائكة، وخلَّده في قرآن يُتلى ويُحفظ ويُتعبد بقراءته، كأن الدرس المستفاد: حتى الملائكة تسأل، فما بالنا بالإنسان؟! وهو بذلك يفتح سدًا من الأسئلة، ويزيح الحجب عن هواجسنا لنطرحها بلا خجل ولا خوف، ومن عاب عليك السؤال، يكفيك إجابة أن تقول: حتى الملائكة سألت.

نرشح لك:الإعجاز العلمي يفتن الذين آمنوا في إيمانهم

يقول القاسمي: “دلّت الآية على أن الله تعالى -في عظمته وجلاله- يرضى لعبيده أن يسألوه عن حكمته في صنعه، وما يخفى عليهم من أسراره في خلقه، لا سيّما عند الحيرة”(3).

وليست هذه المرة هي الأخيرة التي يسمح الله فيها بالسؤال والتعجب من فعله، فقد سمح للكافر بسؤاله: (قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا)؟

قد يعجبك أيضًا

وأشد من ذلك؛ إذ يسمح القهّار المهيمن لعبيده العُصاة المُذنبين أن يجادلوه، (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)!

هل يسمح ربُّ العزّة بكل هذه البحبوحة من السؤال والتعجّب والاستهجان والجدال، ثم نقول في النهاية: لقد منع السؤال؟!

– أجاب الله على سؤال الملائكة إجمالًا فقال: (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ)، وهي إجابة لا تمنع السؤال ولا تحظره، بل تشرح أنه صحيح يملك الإنسان صفات شهوانية وحيوانية تجعله يُفسِد في الأرض ويُسفِك الدماء، كما قالت الملائكة، لكن في البشر أيضًا صفات روحانية وأخلاقية وعلمية، تجعله يتخلّق بأخلاق الله، ويعمِّر الكون، ويترك لذَّاته ليعبد ربه طواعيةً، وغير هذا كثير من طبائع البشر التي تؤهله للخلافة يعلمها الله ولا تعلمها الملائكة.

– رغم أنّ الإجابة السابقة كافية، لكن مثَّل الله إجابته، وفصَّل حكمته، وجسَّد تميّز الجنس البشري، وهو الغني عن كل هذا البيان، فقال تعالى: (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ).

وهذا التمثيل الطويل هو برهان عملي يثبت أن قدرات آدم تؤهله أن يكون خليفة الله في الأرض، وتثبت تفوّقه على جنس الملائكة.

يقول القاسمي: “لما بيَّن سبحانه وتعالى لهم أولًا على وجه الإجمال والإبهام أن في الخليفة فضائل غائبة عنهم، ليستشرفوا إليها، أبرز لهم طرفًا منها، ليعاينوه جهرة، ويظهر لهم بديع صنعه وحكمته، وتنزاح شبهتهم بالكلية”(4).

إذن فالدرس المستفاد من سؤال الملائكة وإجابة الرحمن: السؤال مشروع، وحكمة الله ظاهرة، ودورنا البحث والتحرّي.

***

تُهمة الشيطان الفكر!

يعتقد البعض إن معصية إبليس أنه سأل، مشكلته أنه فكَّر وجادل رب العزة، فارتطم بعقاب أزلي، لأن الله لا يريد جدالًا، بل يريد طاعةً فقط؛ فبمجرد أن قال إبليس: (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)، جاءته الإجابة: (فَاهْبِطْ مِنْهَا)!

يقول (بودمان): “لم يفنِّد الله ولم يدحض حجة إبليس. الله يرفض الكون الذي تخضع فيه الأحكام الإلهية للمناقشة العقلانية”(5).

أولًا: ما معنى الأمر الإلهي بالسجود لآدم؟

يقول الرازي: “أجمع المسلمون على أنّ ذلك السجود ليس سجود عبادة؛ لأن سجود العبادة لغير الله كفر، والأمر لا يُرَد بالكُفر.

والسجدة كانت لآدم تعظيمًا له وتحيةً له، كالسلام منهم عليه، وقد كانت الأُمم السالفة تفعل ذلك كما يحيِّي المسلمون بعضهم بعضًا بالسلام، وقال قتادة في السجود ليوسف في قوله: (وخرّوا له سجدًا) كانت تحية الناس يومئذٍ سجود بعضهم لبعض”(6).

ويقول العقاد: “السجود كلمة عُرفت في اللغة العربية قبل أن يعرف العرب صلاة الإسلام، ولم يفهموا منها أنّها كلمة تنصرف إلى العبادة دون غيرها، لأنهم يقولون: “سجدت عينه” أي أغضت، و”سجدت النخلة” أي مالت، و”سجد” أي غضّ رأسه بالتحية، و”سجد لعظيم” أي وقَّرَهُ وخشع بين يديه. ولا تناقض على معنى من هذه المعاني بين السجود لآدم وتوحيد الله، وإنما السجود هنا التعظيم المستفاد من القصة كلها”(7).

ثانيًا: هل كان للشيطان شبهة عقلية يُعذر بسببها؟

قد يُقال: لعلّ إبليس اعتبر الأمر للندب لا للوجوب، أو لعلّه اعتبر الأمر للملائكة وليس له.

إن كل هذه الاحتمالات باطلة؛ إذ أعقب الله الأمر بتوضيحٍ لا لبس فيه، فقال: (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ)، وقال: (يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ)، فلو كان له عذرٌ لقاله هنا، لكن هو نفسه لم يذكر أنّه أخطأ الفهم!

وقد يقال: لعلّ إبليس اعتبر أنه أفضل من آدم، فمن العبث أن يعظِّم الأعلى الأدنى.

ويمكن صياغة حجة إبليس في الصورة التالية:

مقدمة أولى: خلقتني من نارٍ وخلقته من طين.

مقدمة ثانية: النار خيرٌ من الطين.

مقدمة ثالثة: ما كان أصله خير فهو خير.

النتيجة: أنا خيرٌ منه.

نرشح لك: أسئلة الإسلام والعلم المزعجة: الله والقرآن والعلم

المقدّمة الأولى صحيحة.

أما الثانية (النار خيرّ من الطين) فباطلة؛ لأنه لا دليل أن النار خيرٌ من الطين، وقيمة المواد الخام نسبية واعتبارية، نابع من ندرتها أو كثرتها فقط.

أمّا الثالثة (ما كان أصله خير فهو خير) فباطلة؛ لأن من كان أصله خير لا يلزم أن يكون هو خير، فقد يكون المرء نَسَبَه خير لكن خُلُقُه وضيع، والرماد أصله نار، والحدائق أصلها طين، والحدائق أفضل من الرماد.

وكون إبليس من نار وآدم من طين لا يعني أنهما عبارة عن نار وطين فقط، بل يعني فقط أن بداية التكوين كانت من نار وطين، ولا مانع من التحاق موادًا إضافية للنار والطين ليتكوّن آدم وإبليس، وبالتالي حتى لو كان الطين أسوأ من النار، فالجسم بعد التكوين، وبعد التحاق مواد إضافية به، قد يكون أفضل.

كما أنّ التفضيل قد يكون لوجوهٍَ أخرى غير مادة الصنع، كالعلم والخُلُق والعمل.

إذن فحجة إبليس العقلية غير صحيحة.

وقد يقال: لعل آدم خيرٌ من إبليس فعلًا، لكن إبليس لم يكن يعلم ذلك.

قبلَ الأمر بالسجود سجَّلت الآيات الحوار الدائر بين الله والملائكة الذي أثبت الله وبرهن ومثَّل من خلاله أفضلية آدم، ثم أمر بالسجود، فسياق الآيات يشير إلى اطلاع إبليس والملائكة على أفضلية آدم.

كما أن إبليس لم يعترض ويقل: أنا لم أعلم أن آدم أفضل.

كما أن إبليس لو جهل أفضلية آدم، فهذا لا يمنعه من السجود؛ إذ الجهل بالشيء لا ينفي وجوده.

ثالثًا: مشكلة إبليس أخلاقية لا عقلية

إن إبليس جاءه أمرًا إلٰهي من الله نفسه بذاته وجلاله مباشرةً، بدون وسيط ولا رسول، يأمره بأمرٍ واضحٍ وصريح، لا ريب فيه ولا غموض، ثم أعقب الأمر استفهام غرضه التقريع، فما كان جواب إبليس إلّا عصيان الخالق، بل الإصرار على الذنب والقَسَم بالتماهي فيه، وإغواء البشر!

فحين توعَّده الله بالعذاب، كان جواب إبليس: (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)، وقال: (أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا)، فهل هذا رد مفكّر غاب عنه استنتاجًا عقليًّا، أم كافر متكبر، عاصٍ لرب العزة؟!

إن مشكلة إبليس ما كان لها أن تُدرج تحت باب الشبهات العقلية، كأنّه غاب عنه استنتاج منطقي أو تأويل نص! بل هي مشكلة أخلاقية بحتة، وقضية إبليس كلها تُدرج تحت رذيلة (الكِبر)، وهو ما كرَّره القرآن في أكثر من موضع، فقال:

(فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ).

(فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا).

(فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ).

يقول الرازي: “اعلم أن المقصود من ذكر هذه القصة المنع من الحسد والكبر، وذلك لأنّ إبليس إنّما وقع فيما وقع فيه بسبب الحسد والكِبَر، والكفّار إنما نازعوا محمدًا بسبب الحسد والكبَر”(8).

وإن عرَّفنا الكفر بأنه الصد عن اتباع الحق جحودًا واستكبارًا، لعرفنا أن الكبر هو أصل الكفر ومصدره ومنبعه. والكفّار في كل زمن يتشرّبون الكبر حتى النُخاع، فقال فرعون لموسى: (أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ)، وقالوا لمحمد: (أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ)، وقالوا: (لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ).

رابعًا: هل خطأ الشيطان أصغر من العقاب بالطرد؟

لا يُمكن تقييم قدر خطأ إبليس إلّا بتحديد مقياس لقدر الذنوب والأخطاء، فعلى أيّ أساس نُميّز الكبائر عن الصغائر؟

كل فعل ينقسم إلى قسمين: دوافع نفسيّة ونتائج ماديّة. ولما كانت نتائج الأفعال ليست في يد المكلّفين، بل كل ما يملكون هو دوافعهم القلبية، لذلك كان الحساب الإلهي ومحل التكليف هو الدوافع القلبية. فالله تعالى لا يسألنا إلا عن دوافعنا، ولو ارتكب المكلَّف خطأً، وهو يجهل نتائجه، أو مكره، فهو معذور.

قال تعالى: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ).

ويقول النبي: “إنما الأعمال بالنيات”(9).

وانطلاقًا من هذا التأسيس تمتاز الكبائر عن الصغائر بدوافع المكلفين؛ فمن ارتكب شرًا وهو جاهل بنتائجه، أو أسير غضب، أو تحت اضطرار قاهر، أو إكراه، كان ذنبه صغيرًا، وربما يغفر له الله الغفور.

أمّا من ارتكب شرًا عالمًا بضرره، مستخفًا بالدين، مستهينًا بالله، متكبرًا على مولاه، جاحدًا بنعمه وفضله، فقد ارتكب ذنبًا مقيتًا، ويستحق عليه جزاءً عظيمًا.

يقول محمد عبده: “كل ذنبٍ يُرتكب لعارض يعرض على النفس من استشاطة غضب، أو غلبة جبن، أو ثورة شهوة، وصاحبه متمكّن من الدين يخاف الله ولا يستحل محارمه، فهو من السيئات التي يكفِّرها الله تعالى، إذا كان لولا ذلك العارض القاهر للنفس لم يكن ليجترحه تهاونًا بالدين، وكان بعد اجتراحه إياه -حال كونه مغلوبا على أمره – يندم ويتألم ويتوب ويرجع إلى الله عز وجل، ويعزم على عدم العودة إلى اقتراف مثله، فهو بعدم إصراره وباستقرار هيبة الله وخوفه في نفسه يكون أهلًا لأن يتوب الله عليه ويكفِّر عنه.

وكل ذنب يرتكبه الإنسان مع التهاون بالأمر وعدم المبالاة بنظر الله إليه ورؤيته إيّاه حيث نهاه، فهو مهما كان صغيرًا – أي: في صورته أو ضرره – يُعد كبيرة – أي: من حيث هو استهانة بالدين وداعٍ إلى الإصرار والانهماك والاستهتار”(10).

ويعلِّق محمد رشيد رضا على ذلك بقوله: “إن هذا الذي ذهب إليه محمد عبده هو ترجيح للقول بأن الكبائر بحسب قصد فاعلها وشعوره عند اقترافها وعقبه، لا في ذاتها وحسب ضررها”(11).

بتطبيق ذلك على إبليس، الذي تكبر على الخالق، وأنكر أمره، وجحد فضله، وتمرد على حُكمه، بل أقسم أمام الله أن يغوي عباده للشر والقبح، واستعلن عداء القهار!

فهل هذه النفس أصابت نُتفة من الشر أم أحاطتها خطاياها وانغمست فيها؟!

***

إذن من الكذب أن نستخلص من قصة إبليس أن نوقف عقولنا، ونلغي فكرنا، ونقتل أسئلتنا! ونقول: إن معصية إبليس الفكر! بل مدار القصة وغايتها: إن الكبر يولِّد الكفر.

***

الخضر يعلِّم موسى: اتبعني ولا تسأل!

يعتبر كثيرون أنّ قصّة موسى والخضر غرضها والحكمة منها أن الإنسان مهما فعل، فهو جاهل، ولن يعلم حقيقة الأشياء، وعليه أن يتقبل القدر ويرضى دون سؤال أو نقد أو اعتراض! وعلى التلميذ أن يكون مع شيخه كالميت مع مُغسِّله!

لكن قصة الخضر هي حلقة من حلقات العلم، وهو ما يتضح في عدة نقاط:

ما مصدر رِفعة الخضر؟

يجيب قوله تعالى: (فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا)؛ إذن فمصدر قيمة وقدر الخضر: العلم.

لماذا اتبع موسى الخضر؟

يجيب قوله تعالى: (قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا)؛ فغرض موسى وسبب سفره: التعلم. ويتضح مدى جلال العلم وقدره الشريف في قول موسى لفتاه: (لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا).

هل رفض الخضر تعليم موسى وطلب الطاعة العمياء؟

يجيب قوله تعالى: (قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا)، أي اتبعني ولا تسأل، لكن وَعَدَ الخضر موسى بأنه سيخبره بتأويل وسبب كلّ أفعاله بعدها، وهو السبب الرئيس لاتباعه في الأصل، ولم يمتنع الخضر عن تعليم موسى، كل ما في الأمر أنه أجَّله.

ما الدرس المستفاد من قصة الخضر؟

المعرفة النظرية للخير والشر وحدها ليس لها أيّ قيمة عند اصطدامها بالواقع المُركَّب والمعقد، إذ الموقف الواحد تتجاذبه حيثيات عدّة ونظريات شتى ورؤىً متعددة، والوعي بالأولويات هو ما تميَّز العقل الواعي عن غيره، لذلك قالوا: ليس العاقل الذي يعلم الخير والشر، ولكن العاقل من يعلم خير الخيرين وشر الشرين. وقد يرتكب المرأ شرًا لمنع شر أكبر.

الذي جعل موسى لا يصبر هو حبس بصره في المشهد القائم دون توسيع دائرة النظر لتشمل سبب الفعل ونتائجه، فقد يكون العمل ظاهريًا مضر، لكن بالنظر للمشهد من منظور أعم، وبترتيب الأولويات، وبالإحاطة بنتائجه تظهر حكمته.

إذن فدرس الخضر الذي علَّمه لموسى، وحكمة القصة كلها: ترتيب الأولويات، وأن الأمور بمآلاتها. وهو ما أفرغ له الفقهاء علومًا مستقلة: فقه الأولويات، وفقه المآلات، واستنتجوا قاعدة عامة: جواز ارتكاب أخف الضررين.

يقول محمد محمود الحجازي: “قد جرى الخضر على أنّ المسائل الثلاث فيها تعارض بين ضررين: ضرر بسيط، وضرر جسيم، ففعل الأول دفعًا للثاني، والذي علَّمه ذلك هو رب العالمين العليم”(12).

وقال النووي: “استدل العلماء بقصة الخضر على النظر في المصالح عند تعارض الأمور، وأنّه إذا تعارضت مفسدتان، دُفِع أعظمهما بارتكاب أخفهما، كما خرق السفينة لدفع غصبها وذهاب جملتها”(13).

***

(لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ):

السؤال في الأصل هو الاستفهام عن شيء يجهله السائل، لكن اختلفت استخداماته المجازيّة؛ فقد يأتي بمعنى الطلب: (قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى)، وقد يأتي بمعنى المسائلة للوم والحساب، وهو ما استخدمه القرآن كثيرًا:

(فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ).

(تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ).

(فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ).

(وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ).

(وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

(وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ).

ونقف عند قوله تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)، فسياق الآيات تنزيهٌ لله تعالى، وقوله: (هم يُسألون) لا يُمكن حملها إلى معنى: البشر يُسألون سؤال استفهام، والله لا يُسأل سؤال استفهام! لأنه ليس في ذلك أي تنزيه ولا تكريم، بل على العكس تمامًا، إذ لا يُسأل إلا العالم الحكيم.

لكن السؤال هنا هو سؤال الحساب واللوم، لذا كان عدم سؤال الله تنزيهًا له سبحانه؛ إذ هو الملك القهّار الذي لا تعلوه سلطة ولا قدرة، أما البشر فهم جميعًا مسئولون ومحاسبون وموقوفون.

يقول الزمخشري: “إذا كانت عادة الملوك والجبابرة ألا يسألهم من في مملكتهم عن أفعالهم وعمّا يوردون ويصدرون من تدبير ملكهم؛ تهيُّبا وإجلالًا، مع جواز الخطأ والزلل وأنواع الفساد عليهم، كان ملك الملوك ورب الأرباب خالقهم ورازقهم أولى بألا يُسأل عن أفعاله”(14).

ويقول ابن عاشور: “السؤال هنا بمعنى المحاسبة، وهو مثل السؤال في الحديث: “كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته”. وليس المقصود هنا نفي سؤال الاستشارة، أو طلب العلم، ولا سؤال الدعاء، ولا سؤال الاستفادة والاستنباط مثل أسئلة المتفقهين أو المتكلمين عن الحكم المبثوثة في الأحكام الشرعية أو في النظم الكونية؛ لأن ذلك استنباط وتتبع وليس مباشرة بسؤال الله تعالى، ولا لتطلب مخلِّص من ملام”(15).

وقد سمح الله بسؤاله في مواضع كثيرة، وهي أسئلة استفهام عن الحكمة:

(أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ)؟

(قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا)؟

(قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا)؟

(وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى)؟

وهو ما شجع علماء الكلام/ العقيدة بفتح سيل من الأسئلة دون أن يخطر على بالهم فكرة: السؤال الحرام، أو السؤال الممنوع، فسألوا:

من خلق الله؟

هل يقدر الله أن يخلق إلهًا مثله؟

هل الله حيّ، عدل؟

لماذا خُلقنا؟

هل يوجد إلهٌ مع الله؟

ما أهمية إرسال الرسل؟

هل يقدر الله على فعل الشر؟

هل واجب على الله أن يفعل الخير؟

هل يمكن أن يكذب النبي؟

هل يمكن أن ينقل النبي القرآن بالمعنى؟

ما علة كل حكم شرعي؟

يُتبَع..

المصادر:
(شعريَّة إبليس) ص50
(وهم الإله) ص311
(تفسير القاسمي) ج2 ص97
(تفسير القاسمي) ج2 ص98، (التحرير والتنوير) ج1 ص407
(شعريَّة إبليس) ص50
(التفسير الكبير) ج2 ص427
(حقائق الإسلام وأباطيل خصومه) ص287
(التفسير الكبير) ج26 ص409
(صحيح البخاري) ج1 ص6 رقم (1)
(تفسير المنار) ج5 ص42
(تفسير المنار) ج5 ص42
(التفسير الواضح) ج2 ص432
(شرح النووي على مسلم) ج15 ص144
(تفسير الكشاف) ج3 ص110
(تفسير التحرير والتنوير) ج18 ص45

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: خالد باظة

تدقيق لغوي: نَدى ناصِر

الصورة: pixabay

اترك تعليقا