السؤال الحرام! (2)

نتابع ما بدأناه في المقال السابق عن: هل يبني الدين عقلية لا تناقش ولا تجادل ولا تنتقد وتكتفي بالطاعة والاستسلام؟ هل يحرِّم الدين السؤال، ويطالبنا بالطاعة دون فهم أو اقتناع؟

1. إبراهيم يقتل ابنه ويرتكب جريمة لمجرد رؤيا!

يقول هو: أمر الله إبراهيم بقتل ابنه، وهو اعتداء وقتل لنفس بريئة، وظلم وقبح بيِّن؛ فليس للابن أي ذنب، ولا يُقِر عاقل هذا التصرف، ورغم ذلك أطاع إبراهيم هذا الأمر، دون تفكير أو نقد، ويمتدح القرآن هذه الطاعة العمياء الخرساء!

يقول أحمد القبانجي: “هنالك إشكالية كبيرة ترد في قصة محاولة إبراهيم ذبح ابنه، أنّ إبراهيم قد سعى لارتكاب جريمة قتل نفس بريئة بحجة أن الله أمره بذلك، لرؤيا رآها في المنام، فكيف أَقدَم هذا النبي العظيم على قتل طفل بريء وكأنه لا يعلم بأن الله لا يأمر بالفحشاء والمنكر؟!”(1).

هذه الإشكالية دعت ابن عربي لتأويل القصة بأن إبراهيم أخطأ في تأويل الرؤيا! وأوَّل محمد شحرور القصة بأن الله لم يأمر إبراهيم بذبح ابنه، بل إبراهيم حين رأى قومه يضحُّون لآلهتهم، فأراد أن يضحي لإلهه بذبيح أثمن، فضحى بابنه(2)!

أولًا: هل أمر الله إبراهيم بقتل ابنه يقينًا؟

قال ابن إبراهيم لأبيه: (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ)، ثم استَعَدَّ إبراهيم لذبح ابنه، مما يدُل على أنّ إبراهيم بالفعل قد أُمر بالذبح.

إعلان

(فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ)، فِعْل إبراهيم دال على أنه قد فهم وتيقن من الأمر الإلهي بالذبح، ولا يُحتمل أن يكون أخطأ الفهم، لأن الأنبياء معصومون فيما يخص الرسالة، ولولا العصمة لاحتمل قول النبي الكذب والنسيان والسهو في تبليغ الرسالة، وهو يتنافى مع مدلول المعجزة، ومع مهمة الرُسل، وهو ضياع للدين، ومُنافٍ للحكمة الإلهية.

لم يعقِّب القرآن على فعل إبراهيم بأنه اجتهاد خاطئ أو تأويل فاسد.

قوله تعالى: (وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا) دال على أن محاولة إبراهيم ذبح ابنه هو تصديق للرؤيا.

قوله تعالى: (إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ) دال على أنّ الله جزاه نتاج إقدام إبراهيم على ذبح ابنه، وسمَّى الله هذا الأمر والتنفيذ بالبلاء المبين، ولو كان إبراهيم أخطأ في التأويل، لما جزاه الله، وما سمَّاه من المحسنين في هذا الموقف، وما كان هذا بلاءً أصلًا.

ثانيًا: هل كل ألم ظلم؟

من التسرّع اعتبار كل ألم قبيح؛ فشرب الدواء مؤلم، وعقاب المعتدي مؤلم، والعمل في سبيل النجاح مؤلم، وجهاد المعتدين مؤلم، وكل ذلك لا نعدُّه ظلمًا قبيحًا؛ لأنه قد يَنتج عنه نفع أكبر، أو رفع ضررٍ أكبر، أو عِوض.

وبذلك فالتعريف الأدق للظلم القبيح هو: إيلام البريء، دون رفع ضرر أكبر منه، أو جلب منفعة أكبر، أو عِوض.

ثالثًا: لماذا البلاء؟

التفضّل هو تعظيم لغير المستحق. أمّا الثواب: هو تعظيم ناتج عن استحقاق.

لذلك يجب أن يكون الثواب أكبر من التَفَضُّل؛ فلو أعطيتَ أحد المارة ألف جنيهًا تَفَضُّلًا، ثم أعطيتَ عاملًا – قد كلَّفته بعمل شاق – مئة جنيهًا، كان ذلك عبثًا لا يصدر من حكيم.

ومن أجل ذلك لم يتفضَّل الله على البشر بنعمٍ قليلة مباشرةً، بل خلقهم في الدنيا، وهي دار ابتلاء وامتحان وآلام وكبد وتعب وتكليف، وذلك ليعرِّضنا إلى درجة الاستحقاق لننال ثوابًا أعظم لا يُنال إلّا بالتكليف. مثلما تعرِض على أطفال امتحانًا يسيرًا، فإن نجحوا، ارتقوا من طبقة التفضّل إلى طبقة الاستحقاق، وأفضت عليهم بنعم زائدة أصبحوا يستحقونها.

رابعًا: هل قتل إبراهيم لابنه قبح؟

بتطبيق ما سبق على حالة أمر إبراهيم بقتل ابنه، نتبين التالي:

– الأمر بالذبح مؤلم للأب والابن بلا شك.

– هذا البلاء والألم من نفس جنس الابتلاءات الدنيوية، كالتكليفات الأخلاقية والشرعية والتعبدية المؤلمة، لكنّه أكبر وأعظم في الدرجة.

– لم يكن الأمر بالذبح غايته مجرّد الاعتداء والإيلام والإيذاء العبثي أو القبيح، بل هو اختبار لتعريضهما إلى درجة الثواب التي لا تُنال إلا بالبلاء.

– إبراهيم وابنه بعد هذا الاختبار نالا مكانة ودرجة من التهذيب الأخلاقي، والرقي الروحي، والتجرد إلى الله، والسمو عن مُغريات الدنيا، لم ينلها بشر قط، هذه الدرجة بلا شك سينالا بسببها جزاءً في درجات الفردوس خلدًا، ما كانوا ليصلوا لهذه الدرجة بدون هذا البلاء العظيم.

***

2. المعجزات خرافات!

يقول البعض: هل يمكن لعقل يحترم نفسه ويقدِّر منطقه أن يصدِّق خرافات كحديث هدهد لسليمان، ونقل عرش في طرفة عين، وسفر إنسان من مكة إلى المسجد الأقصى على بغلة؟! وأن النار لم تحرق إبراهيم؟!

أولًا: هل قوانين الكون حتمية من تلقاء نفسها؟

إذا وضعنا نظام إضاءة للمنزل، بحيث كلما فُتح الباب، أضاء المصباح. هذا النظام داخل المنزل أصبح ثابتًا ودائمًا، لكن قبل بناء المنزل، هل يوجد ضرورة حتمية تجعل المصباح لابد أن يضيء بعد فتح الباب؟ لا، فلا رابط ضروري وحتمي وعقلي بين فتح الباب وإضاءة المصباح . إذن يوجد مُصمِّم/ مُخَصِّص، هو الذي ربط فتح الباب بالإضاءة، وهذا المصمم يمكنه أن يفك الرابط بين فتح الباب وإضاءة اللمبة متى شاء.

كذلك القوانين الكونية، كلّما شربنا الماء ارتوينا، وكلّما لمسنا النار احترقنا، هي قوانين ثابتة ومتكررة في الكون، ولها أسبابها الدقيقة، لكن كلما تتبعنا هذه الأسباب، وتتبعنا سبب السبب، سنصل إلى مرحلة لا نرى فيها علاقة ضرورية، حتمية، لازمة، بين المسببات ونتائجها.

إذن القوانين الكونية ليست ضرورية، وإنما احتاجت لخالق يخصصها، ويربط هذه المسببات بتلك النتائج؛ فأعطى للزيت قدرة على الحرق، وجعل الماء يروي، وجعل الأجسام تتجاذب معًا.

وبالتالي سؤال البعض: كيف لم تحرق النار؟ ليس سؤالًا محل استهجان وتعجب، لأن السؤال المثير للتعجب أكثر: لماذا النار تحرق أصلًا؟ لماذا الماء سائل؟ وهو ما يستحيل إجابته إلا بأنه يوجد إله، هو الذي خلق قوانين الطبيعة، وهو القادر على إبطالها.

ثانيًا: الصفة الذاتية والعَرَضية

يوجد فرق بين الصفة الذاتية والصفة العَرَضية، فالتحيّز صفة ذاتية في الجسم، لذلك يستحيل وجود جسم بلا حيز، ولا يمكننا أصلًا تصوّر جسم بلا حيز.

أما الحرق فهو صفة عَرَضية في النار، ويمكن أن تنفك عنها، فيمكن أن تكون النار لا تحرق، والخمر لا يُسكِر، والماء لا يروي. ولا يعد ذلك مستحيلًا.

ثالثًا: المطلق والنسبي

كيف عرفنا قوانين الكون؟

إذا افترضنا أنّك لم ترَ النار من قبل، فهل تتصور أنها تحرق؟ بالتأكيد لا، وإنما تحتاج إلى تجربة عملية في الكون لتكتشف أن النار تحرق. وبالتالي عرفنا أن النار تحرق من هذا الكون، إذن تبقى هذه المعلومة (نسبية) خاصة بالكون فقط، ولا يمكننا تعميمها.

لكن كيف عرفنا المباديء العقلية؟

كل عقلٍ بشري يؤمن ويعتقد أنّ لكل حادثٍ سبب، وأن المتناقضات لا يمكن أن تجتمع، كيف عرفنا ذلك؟ هل نظرنا في الكون أولًا لنؤمن بهذه المباديء المنطقية؟ بالتأكيد لا؛ فهذه القوانين المنطقية نعرفها دون النظر في كوننا، بل هي قوانين عقلية منطقية محضة، يكفي العقل أنْ يتصور طرفي القضية ليحكم بصحة هذه المبادئ بالبداهة، وبالتالي فهي (مطلقة) ولا تخص كوننا فقط.

ولمّا كانت قوانين المنطق مطلقة فيستحيل خرقها، أما قوانين الكون لما كانت نسبية وخاصة بعالمنا فقه، فخرقها جائز عقلًا وممكن.

لذلك يقول أبو حامد الغزالي: “لو قال لي قائل أن الثلاثة أكبر من العشرة بدليل أني أقلب العصا ثعبانًا، وقلبها، وشاهدت ذلك منه، لم أشك بسببه في معرفتي، ولم يحصل لي منه إلّا التعجب من كيفية قدرته عليه”(3).

رابعًا: المعجزة دلالة صدق

حين يُرسل رئيس رسولًا إلى أحدٍ، فلابد أن يُرسل معه علامة أو دليل يُثبت أنّه رسول هذا الرئيس فعلًا.

وهذه العلامة يجب أن يختص بها المرسِل فقط (الرئيس)، ولا يملكها أحد سواه، مثل إمضاء الرئيس/ خاتم الرئيس، حتى لا يتمكن أحد من ادِّعاء أنه رسول للرئيس غُشًا وزورًا.

كذلك –ولله المثل الأعلى– حين يرسل الله رسولًا للبشر، يجب أن يملك الرسول علامة ودلالة أنّه رسولٌ من الله. ويجب أن تكون هذه العلامة ممّا يعجز عنها كل البشر، ولا يقدر عليها أحد سوا المرسِل (الله).

هذه الصفات لا تنتطبق إلّا على المعجزة الخارقة لقوانين الطبيعة أو الخارقة لقدرات البشر.

إذن المعجزة ممكنة عقلًا وليست مستحيلة، وهي ضرورية لإثبات صدق الرسول.

***

3. تقليد النبي!

يقول هو: تسليم المسلمين تتحسسه في أدق التفاصيل حين يُجهِد المسلم عقله ليصل إلى قناعة، ثم يصطدم بنصٍ نبوي، فيلغي عقله ويدفن منطقه ليتَّبع النص، وهو التعريف الحرفي للتقليد الأعمى والتسليم الأخرس. فرغم أن المسلمين يحرِّمون التقليد، لكنهم يقلِّدون محمدًا!

أولًا: هل نقلّد النبي؟

إن سألتَ أي مسلم: هل تقلِّد النبي؟ ستكون إجابته: نعم. لكن السؤال يحتاج إلى تدقيق.

التقليد هو قبول قول الغير بدون أن يطالبه بحجة وبيِّنة حتى يجعله كالقلادة في عنقه.

وبالتالي فالتقليد هو صورة من صور مغالطة الشخصنة؛ أي اتباع شخص بلا دليل، لمجرّد اتباع شخصه.

وهنا نسأل: لماذا نتَّبع النبي؟ هل لشخصه؟ هل لأنه محمد بن عبد الله تحديدًا؟

بالطبع لا، نحن نتَّبع النبي، لأنّه ظهرت على يديه معجزات، هي دلالة نبوته. والمعجزة هي أمارة من الله دالة على تصديق النبي، ولولا هذه المعجزة لحكمنا عليه بالكذب وما اتبعناه. ولو نزلت المعجزة على غيره، لتركناه واتبعنا صاحب المعجزة.

حتى أن علماء الكلام ناقشوا مسألة دقيقة: ماذا لو قال نبي: أنا رسول الله، وستظهر علامة نبوتي غدًا، هل نتبعه الآن أم لا؟

فأجاب العلماء: بعدم جواز اتباعه إلا بعد ظهور المعجزة بين يديه.

إذن فاتباعنا للنبي ليس من باب التقليد، وإنما هو اتباع للدليل؛ دليل المعجزة الذي أثبت صدق المخبِر.

يقول القاضي عبد الجبار: “فإن قيل: ألستم جوزتم تقيلد الرسول؟

قلنا: معاذ الله أن يكون ذلك تقليدًا، نحن إنما قبلنا قوله لظهور العِلم المعجَز عليه”(4).

ثانيًا: هل أحاديث النبي تلغي العقل؟

أما الأحاديث المنسوبة للنبي، فعلماء الفقه والعقيدة لا يتَّبِعوها إلا بعد النظر في صحة النقل وصحة المتن، وردّوا الحديث الذي يخالف العقل أو القرآن أو السنة المتواترة.

يقول الخطيب البغدادي: “لا يُقبل خبر الواحد في منافاة حكم العقل، وحكم القرآن الثابت المحكم، والسنة المعلومة، والفعل الجاري مجرى السنة، وكل دليل مقطوع به”(5).

ويقول ابن حزم: “كل حديث رأيته يخالف المعقول أو يناقض الأصول، فاعلم أنه موضوع، فلا تتكلف اعتباره، أي لا تعتبر رواته ولا تنظر في جرحهم”(6)

وهو ما نصّ عليه الزركشي، وابن حجر، والخطيب، والشيرازي(7)، والجصاص(8)، والكلوذاني(9)، والأسمندي(10)، ومحمد عبده(11)، وغيرهم.

4. العبادات غير معقولة المعنى!

يقول هو: اتفق المسلمون جميعًا على أن العبادات غير معقولة المعنى، وهو اعتراف صريح بأن العبادات هي المجال الذي لا يقتحمه العقل، كأنّها تصرفات بلهاء بالنسبة للعقل! وما معنى الطواف حول حجر أو رمي حجر أو غسل اليد قبل القدم في الوضوء، ولو غسل القدم أولًا، لأصبح الوضوء باطلًا!

أولًا: هل العبادات بلا مقاصد؟

ينص القرآن على وجود علل ومقاصد يستهدفها من وراء العبادات:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

(وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ).

وواقعيًا لا ينكر عاقل ما للعبادات من تأثيرات نفسية وروحية على سلوك العابد، فهي علاج نفسي تُهذِّب الخلق، وتتحكم في الشهوات، وتُجَدِّد التواصل مع الخالق.

يقول العقاد: “الغرض من عبادات الأديان ينطوي على أغراض متشعبة يضيق بها الحصر، ولكننا قد نجمعها في تنبيه المتدين إلى حقيقتين لا ينساهما الإنسان في حياته الخاصة أو العامة إلا هبط به النسيان إلى درك البهيمية واستغرق في همومٍ مبتذلة.

الحقيقة الأولى: هي وجوده الروحي الذي ينبغي أن يشغله على الدوام بمطالب غير مطالبه الجسدية وغير شهواته الحيوانية.

والحقيقة الأخرى: هي الوجود الخالد الباقي إلى جانب وجوده الزائل المحدود في حياته الفردية”(13).

ثانيًا: ماذا قصد الفقهاء بقولهم: “العبادات غير معقولة المعنى”؟

لم يترك الفقهاء حكمًا شرعيًا إلا وبحثوا وفتشوا عن علّة الحكم، ليستطيعوا أن يقيسوا عليه المستجدات، فمثلًا إن علمنا أن علة تحريم الخمر: السُكْر، وعلمنا أن المخدرات تُسْكِر، حكَمنا أن المخدرات محرّمة مثل الخمر، لتوفر علة التحريم فيهما.

لكن بعض الأحكام لا يجد الفقيه علةً لها، ولا يقف عند حكمتها، فعندئذ يقول: لعل حكمة هذا الحكم تعبدية؛ أي شرَّعه الله لاختبار امتثالنا لطاعة الله، وعندئذ يرفض الفقيه قياس أحكام على هذا الحكم، ويقول: هذا الحكم غير معقول المعنى، أي: غير مفهوم الحكمة من ورائه. ولا يعني ذلك أن الحكم بلا حكمة من ورائه، بل يعني فقط أننا –حتى الآن– لم نعرف علة الحكم، ولعله يأتي فقيهٌ آخر ويستنبط علة الحكم.

يقول القرافي: “ما تسميه الفقهاء بالتعبد معناه أنَّا لا نطَّلع على حكمته، وإن كنا نعتقد أنّ له حكمة، وليس معناه أنّه لا حكمة له”(14).

ويقول محمد الخضيري: “من العلل ما أمكن الوصول إليه، ومنها ما لم نصل إليه بعد، وسميّنا أحكامه تعبدية”(15).

ويقول الريسوني: “إنّ قول بعض العلماء لحُكم من الأحكام: هذا تعبدي غير مُعلل، إنما بالنسبة إليه حين قال ما قال، والبحث والنظر ينبغي ألا يتوقف”(16).

إذن ما يهمنا هنا أن قول الفقهاء: “غير معقول المعنى” لا يساوي: “مخالف للعقل”، بل يساوي: “الحكمة مجهولة”.

ثالثًا: لماذا توحيد العبادة؟

يقول هو: ربما يكون لكل عبادة مقصد يغيب عنا فعلًا، لكن تحديد هيئة ومقادير وأوقات العبادات بدقة، وتحريم التنوع فيها هو تحديد عبثي، مثلًا لماذا الظهر أربع ركعات تحديدًا؟! كذلك قد أتفهّم وجود حكمة من أركان الوضوء، لكن لماذا الترتيب، ماذا يضر لو غسلت الأذن قبل الرأس؟! لماذا نصلي في اتجاه الكعبة تحديدًا، هل لو انحرفت قليلًا سيختل المقصد الروحي للصلاة؟

الأصل في العبادات أنها تستهدف تقوى القلوب والارتقاء بالأرواح، ولا يهم كثيرًا هيئة وكيفية العبادة تفصيلًا، فالمقصود هو المعنى لا الهيئة، وكان من الممكن أن تُؤدّى العبادات بهيئات مختلفة ومتنوعة، ولكل مسلم طريقة يتعبد بها، فيصلّي كما شاء ويتوضأ كما شاء.

لكن شاء الله الحكيم أن يُجمِع الأمة كلها على صور واحدة من العبادات بحيث يصبح أحد مقاصد العبادات: التعبير عن وحدة الأمة، ومن هنا نصَّ الشرع على هيئات محددة وثابتة للعبادات تتوحد الأمة كلها في تأديتها، فحدَّد ترتيبًا للوضوء، وقِبلة للصلاة، وعدد ركعات كل صلاة، الخ.

والأمر يشبه تحديد ألوان إشارات المرور، فلا يهم كثيرًا أي الألوان يدل على الوقوف، المهم هو تحديد لون واحد يُجمِع عليه كل الناس، فكان هو اللون الأحمر مثلًا. كذلك الصلاة؛ فلا يهم كثيرًا إلى أي جهة نتجه، فلله المشرق والمغرب، وأينما تُولو فثم وجه الله، والمهم هو الحالة النفسية التي تتصل بالله، لكن شاء الله أن يحدّد مكانًا محددًا يتوجه إليه كل المسلمين في جميع أرجاء العالم، حتى بات هذا الرمز دليل وحدة وقوة وتماسك المسلمين جميعًا، وكثيرًا ما يُشار للمسلمين بأنهم: أصحاب القِبلة الواحدة.

يقول د. وصفي عاشور: “الأحكام المحددة بمقادير، ومقدرة بأوقات وأعداد، مثل عدد ركعات كل صلاة، وأوقات الصلوات والزكوات وأيام الصيام، وأيام العدة، وغير ذلك، ومقصد هذا التحديد هو الضبط والحسم”(17).

***

5. الإيمان بالغيب هو تسليم للمجهول!

يقول هو: في القرآن: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ).

امتدح القرآن المؤمنين بأنهم يؤمنون بالغيب، وهو إعلان للتسليم بغير عقل، وأنّ الدين يقدِّم المتَّبِع للغيب المُسلِّم للمجهول أكثر من الناقد المتَّبِع للحقائق!

أولًا: الغيب هو ما يغيب عن الحواس، لكنه لا يغيب عن العقل. فما حدث في الماضي غيب بالنسبة لنا، لكن يمكن التفتيش عن آثار لأحداث ماضية تكشف لنا عما حدث، وما خلف الحائط يغيب عن الحواس، لكن من آثاره يمكن استنتاج وجوده.

ثانيًا: نحن المسلمين نؤمن أن مصادر المعرفة ثلاثة: العقل، الحِس، الخبر الصادق. فلا نكتفي بالحس، ونعتبر الحس هو أكثر المصادر بداهة، لكن لأننا نتحرّى الحقيقة أيًا كان مصدرها، فنحن على استعداد لاتباع وقبول والإيمان بأي شيء، بشرط وجود دليل يقيني يثبته، سواء كان دليلًا عقليًا أو خبرًا صادقًا أو حِسًا.

وحين نقول أي شيء، فنحن نقصدها حرفيًا، فقد علَّمنا القرآن أنه (لو) ثبت عقلًا وجود ابن لله لعبدناه، (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ)!

ولو جاءنا اليهود والنصارى بالبرهان، لاتبعناهم، (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)!

إنّ ما نؤمن به ونكفر به ليس لأنها قائمة تُملى علينا، لكن نؤمن بهذا؛ لأنه ثبت لدينا صحته، ونكفر بذاك؛ لأنه ثبت لدينا خطأه.

ثالثًا: بتطبيق ما سبق، فنحن نؤمن بالله -وهو غيب- لأن الدليل العقلي أثبت وجوده عن طريق دليل الخلق، والنظم، والفطرة.

ونحن نؤمن بوجود جنة، ونار، وجِن، وملائكة، وبعث، وحساب -رغم أن كل ذلك غيب- لأنه ثبت لدينا وقوع معجزة على يدي الرسول، مما أثبت صدقه، وبالتالي قد أصبح مصدرًا للمعرفة، فصدَّقنا بكل ما قاله قرآنًا وسنةً.

رابعًا: إذن يتبين مما سبق أن مدح القرآن للمؤمنين بالغيب هو في حقيقته مدح لهؤلاء الذين لم يكتفوا بالحِس المباشر، بل اجتهدوا وفتشوا وبحثوا عن الحقيقة في كل مصدر وبكل آلة، هؤلاء الذين لم يقعدوا لتأتيهم الحقائق فيلمسوها فيُضطروا للإيمان بها، لكنهم سعوا هم للحقيقة. هؤلاء الذين لم يتركوا صادقًا يقول ما يقول وهم عنه معرضون، بل اختبروا صدقه، ولما ثبت صدقه اتبعوه. باختصار غير مُخل: إن المؤمنين بالغيب هم الباحثون عن الحق.

***

جوهر القضية:

جوهر القضية هو تحديد الحد الفاصل بين ما يناقض العقل، وما يغيب عن العقل، فنفرض حالتين:

– لو جاء الدين بما يخالف العقل:

بحسم ودقة ومواجهة نقول: إن العقل هو أول الأدلّة، وبالعقل نعرف وجود الله، وصحة كتابه، ونبوّة رسوله. فلو خالف الدين العقل، أي لو خالف الدين أحد المباديء المنطقية العقلية، أو القِيَم الأخلاقية الفطرية، لاحتكمنا للعقل، وحكمنا بفساد الدين. وهذا التعارض الصارخ لم يقع في نصٍ واحد من نصوص القرآن أو السنة المتواترة.

– لو جاء الدين بما يغيب عن العقل:

القاعدة هنا: “عدم العلم ليس علمًا بالعدم”؛ أي ما لا يعلمه العقل، ويغيب عنه، لا يمكن أن يوصف بأنه عدم، وغير موجود، ومستحيل، وخرافة.

فلو جاء الدين ليُقر بوجود ملائكة، وشياطين، وجن، ومعجزات، وبعث، وحساب، فهي أمور جائز وجودها عقلًا، وغير مستحيلة، وعدم اطِّلاع العقل عليها لا يعني أنها غير موجودة.

ولو جاء الدين ليُقِرُ أحكامًا تشريعية لا نعلم حكمتها، لا يمكن للعقل أن يعارضها ويحكم عليها بأنها بلا حكمة! فكما قلنا: عدم إدراك الحكمة لا يعني عدم وجود حكمة.

وفي الحقيقة جاءت الرسالة لتضيف هذا الجانب (الذي يغيب عن العقل)، فلو اكتفت الرسالة بما يعرفه العقل، فما دورها؟! ماذا أضافت؟!

لكن جاء الرسل ليضيفوا عقائد غابت عن العقل. ويضيفوا عبادات؛ التي ارتضى الله أن نشكره بها. ويضيفوا تشريعات معقدة، تفضَّل الله بإرشادنا إليها.

يقول محمد رشيد رضا: “ليس في عقائد الإسلام شيء يحكم العقل باستحالته، وإنما فيه أخبار عن عالم الغيب لا يستقل العقل بمعرفتها لعدم الاطلاع على ذلك العالم، ولكنها كلها من الممكنات، أخبر بها الوحي فصدَّقناه. فالإسلام لا يكلِّف أحدًا أن يأخذ بالمحال”(18).

المصادر:
1.  
2. http://bit.ly/2Q51jgH
3. (المنقذ من الضلال) ص8
4. (شرح الأصول الخمسة) ص56
5. (الكفاية في علم الرواية) ص472، نقلًا عن (رد الحديث من جهة المتن) ص101
6. (رد الحديث من جهة المتن) ص101 نقله عن (الموضوعات من الأحاديث المرفوعات) ج1 ص315
7. (اللمع في أصول الفقه) ص45، نقلًا عن (رد الحديث من جهة المتن) ص366
8. (الفصول في الأصول) ج3 ص122، نقلًا عن (رد الحديث من جهة المتن) ص367
9. (التمهيد في أصول الفقه) ج3 ص147
10. (بذل النظر في الأصول) ص460
11. (تفسير المنـــار) ج1 ص342
12. (سنن أبي داوود) ج1 ص42 رقم (162)، (سنن الدارقطني) ج1 ص378 رقم(783)
13. (حقائق الإسلام وأباطيل خصومه) ص116
14. (المقاصد الجزئية) ص240
15. (المقاصد الجزئية) ص240
16. (المقاصد الجزئية) ص244 نقله عن (الفكر المقاصدي) ص46
17. (المقاصد الجزئية) ص246
18. (المنـــار) ج6 ص27

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: خالد باظة

تدقيق لغوي: نَدى ناصِر

اترك تعليقا