الخوارج من منظور ناجية الوريمي: التَّشَكُّل السياسيُّ للإسلامِ الخارجيِّ

قراءة في كتاب: (الإسلام الخارجي) (2/3)

تناولنا في المقال السابق إشكالية المصطلح (الخوارج)، والآن نتناول في هذا المقال كيفية تشكُّل الفكر الخارجي عبر التَّاريخ كما ترى ناجية الوريمي

المسلمون الأوائل واختلاف الطموحات

إنَّ الشَّائعَ في المصادرِ القديمة أنَّ ظهور الخوارج جاء مقترنًا بحادثة التحكيم، ولكنَّ الوريمي تحاولُ أن ترُدَّ الوجود الخارجي إلى أيام الدعوة الإسلامية نفسها أيام النبي، ولكنها تختلف جذريًّا مع منطلقات الفكر الأرثوذوكسي الذي يعتمد على توظيف الماضي المُقَدَّسِ في عملية ذات وجهين؛ الوجه الأول: تسويغ أصوله ووجوده هو، والوجه الثاني: تهجينٌ وبترٌ لأصول الآخر.

قلنا أنَّ الشائعَ أن ظهور الخوارج جاء مُقْتَرِنًا بحادثة التحكيم التي جَدَّتْ في مرحلة من مراحل الخلاف بين علي ومعاوية، فقد قبِل المتخاصمون من المُعَسكَرَيْنِ الجنوحَ إلى الطرق السلمية لإيقاف القتال، وذلك بتعيين حَكَمَيْنِ ينظران في الأمر. وفي هذه الأثناء، رفض قسم من معسكر عليّ هذا التحكيم، وأَصَرَّ على مواصلة القتال، ثم انسحب من بين صفوف عليّ؛ لأنه لم يعد على الحقِّ. فكان الخروج، وكان الخوارج!

ترفض ناجية الوريمي هذا التسخيف لظهور هذا التَّوجُّه في فهم الإسلام، وترى أنه وليد منهج التاريخ الحَدَثيِّ، الذي يركز على الأحداث من حيث توثيقها وضبط ترتيبها بدقةٍ باعتبار أنها تمثل نقاط الارتكاز في تَكَوُّن التاريخ ومنطق تطوُّرِه. ترى الباحثة أنَّ التَّصَدُّع الكائن بين مُعَسْكَرَي عليّ ومعاوية، ثم بين عليّ وَمَنْ رفض التحكيم من مُعَسْكَرِه، ليس إلا وجهًا من وجوه التَّصَدُّع في الدولة الناشئة نفسها، وهو مؤشِّر على معطيات اجتماعية وثقافية متنافرة كانت تعمل عملها منذ التجربة السياسيَّة الأولى التي قادها الرسول، ثم تبلورتْ أكثر فأكثر مع تجارب الخلفاء من بعده؛ فالتحكيم- في رأي الكاتبة- ليس سببًا في ظهور الخوارج كفَهم للإسلام، ولكنه المناسبة التي تبلور فيها هذا التوجُّه.

تُجادِلُ ناجية الوريمي عن فكرة أنَّ الذين قبلوا دعوة النبي محمد لم يكونوا طائفةً واحدة من جهة الخلفيات الاجتماعية والطموحات التي كانوا يطمحونها من وراء قبولهم هذه الدعوة. إن الدعوة الإسلامية- بقيادة الرسول- قد نجحتْ في تنظيم المسلمين في أُطُر سياسيَّة واجتماعية جديدة، ولكنها لم توحِّد بين طموحاتِهم وأفكارهم التي كانوا يحملونها قبل قبول الدعوة؛ فالذين اعتنقوا الإسلام لم يحملوا آمالًا مُتَجانِسَةً في مستوى ما يُنْتَظَرُ من الدعوة الثَّائرة. فمثلًا، الفئات صاحبة السلطة المعنوية والمادية، دخلت الإسلام حاملةً معها طموحاتِها في ألا يقع المساس بامتيازاتها، بل في تدعيمها إن أمكن ذلك؛ أما الفئات التي كانت ضحيةً لهذه السلطة، دخلت الإسلامَ وهي تحمل طموحاتٍ في أن تزحزح المعاييرُ الجديدةُ المعاييرَ السلطويةَ السَّائدةَ. من أجل ذلك لم يكن تمثُّلُ النص في حدِّ ذاته واحدًا. تضرب الوريمي مثلًا على ذلك بكيفيَّة فهمِ الصحابة لآية: “وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ“، هذه الآية فهمها عثمانُ ومعاويةُ على أنها مُتَعَلِّقة بأهل الكتاب، وإياهم تَتَوَعَّدُ ولا تعني المسلمين، بينما فهمها أبو ذر على أنها فينا وفيهم (المسليمن وأهل الكتاب).

إعلان

إنَّ الفئاتِ الدُنيا- من وجهة نظر الوريمي- كانتْ ترى أنَّ الطموحاتِ الفئوية، التي كانتِ الفئاتُ الأعلى تَطْمَحُها، تُمَثِّلُ خطرًا على المبادئ الاجتماعيَّة السَّامية التي أعلنتها الدعوة الإسلامية. هذه الفئات الاجتماعية الدنيا كانت ترى أنَّ العدل البشري ينبغي أن يكون صورةً من العدل الإلهي! من أجل ذلك تَصَدَّتْ للطموحات الفئوية غير العادلة معتبرةً إياها مساسًا بحقوقها المشروعة ومخالَفةً للعدل الإلهي. إنَّ الفكر الخارجي نبتَ ضمن ما نبت في هذه البيئة الاجتماعية الدنيا، وسنرى أنَّ التحكيم ما هو إلا تعبير عن خيبة أمل أُصيبَتْ بها هذه الفئات بعد سلسلة ضخمة من التضحيات التي قدَّمَتْها من أجل إرساء قيم بعينها رأتها تتهاوى فجأةً أمام عينيها[1].

الهيكل السياسي الجديد، وتبلور التناقضات

ترى ناجية الوريمي أنَّ أبرز التَّجارب السياسية في العهد الراشدي كانت تجربتيْ عمر وعثمان؛ لأنهما تعبران عن اختياراتٍ اجتماعيَّة تتنافر حدَّ التَّناقُض. فمن ناحية، هناك تركيبة اجتماعية مُحَدَّدَة لا تتساوى فيها الحظوظ بين مختلف الفئات، ومقترنة برأس مال رمزي، ومن ناحيةٍ أخرى، هناك الدعوة الدينية الجديدة الواعدة بالثورة على السَّائد وتغييره في اتِّجاهٍ أكثر عدالة. ترى الكاتبة أنَّ هذه الدعوة الجديدة لم تتحالف مع قوةٍ اجتماعية بعينها من القوى المتصارعة، بل انضمَّتْ إليها كلُّ القوى؛ فاعتنقها الأشراف وعامَّةُ الناس، الأغنياء والفقراء، الأحرار والعبيد. تجادل الكاتبة أنَّ كل هذه الفئات كانت تفهم النّص فهمًا مقترنًا بوضعها التاريخي والاجتماعي الذي تنتمي إليه.

كانت التجربة العُمَريَّة مع ما فيها من حرص على العدل، ونكران الذات، وابتعادٍ عن المحاباة، تعبيرًا عمليًّا عمَّا يمكن أن يؤدِّي إليه فهمُ فئات اجتماعية واسعة للنصِّ كانت تأمل من وراء إسلامها في تأسيس نظامٍ اجتماعيٍّ عادل. إن تجربة عمر إذن هي تعبير سياسي عما نجحت في اكتسابه قوى كانت بالأمس مُهَمَّشّةً، وهي ترجمة لطموحات الفئات المهمشة التي ناصرت الدعوة وضَحَّتْ من أجل إنجاحها في الواقع؛ لذلك لم تُرْضِ سياستُه هذه أصحابَ النفوذ الماديِّ والمعنويِّ التَّقْلِيدِيَّيْنِ. لذا لم يكن غريبًا أن تكون التجربة العمرية هي النموذج في التراث الخارجي.

ترى الوريمي أنَّ استمرار التجربة العمرية لم يكن مُمْكِنًا في ظلِّ المعطيات التي كانت سائدةً آنذاك، وأنَّ تجربة عثمان قد جاءت لتعيد التوازن القديم، مُتَجَاهِلَةً الآمال المشروعة التي تشد إليها شرائح عريضة من المسلمين. إن سياسة عثمان كانت استجابة منتظرة لضغط القوى التقليدية التي أرادتْ استعادة مكانتها السابقة للإسلام، وما كانت تمتاز به من امتيازات، ولكن هذه المرة عن طريق استمداد حُجّيَّتِه من النصِّ ذاته، أي من مرجعية مفارقة هذه المرة، لا من مرجعية بشرية قد تقبل المجادلة. إنَّ عمومَ المسلمين رأوا في سياسات عثمان المُناقضة لسياسات عمر خرقًا واضحًا للمبادئ الإسلامية الثابتة، ومن الدَّالِّ أن يكون الثائرون الذين هاجموا الخليفة عثمان- كما جاء في الخطاب السني– “حثالة الناس“، “الغوغاء“، أو “المؤمنون“، “المسلمون” كما جاء في الخطاب الخارجي. ترى الوريمي أنَّ الذين وقفوا بالأمس ضد عثمان بسبب سياسته هم خوارج اليوم الذي يرفضون كلَّ أشكال التعامل مع مُتَعلَّقات سياسته هذه ومُخلَّفَاتِها ورمزها معاوية. جاء في رسالة لعبد الله بن إباض أنَّ الخوارج هم مَن ناهضَ عثمان، ورفض مُهَادَنَة معاوية في التَّحكيم[2].

التشكل السياسي للإسلام الخارجي

“التحكيم” و”النهروان” والنشأة السياسية العسكرية

ترى الوريمي أنَّ التجربة العمرية والعثمانية قد خلَّفَتْ بنيةً اجتماعية تتكوَّن من ثلاثة أطراف مُتَصَارِعَة يتعذَّرُ الجمع بينها من جديد في ظل هيكل سياسي واحد. الطَّرف الأول: هو من يحتكر السلطة في الحاضر، والطرف الثاني: هو المنافسون الذين يسعون بدورهم إلى احتكار السلطة، والطرف الثالث: هو من يطالب بتطبيق المبادئ العادلة للدعوة من الفئات المُهَمَّشَة.

إنَّ التحكيم- من وجهة نظر الوريمي- يُعْتَبَرُ اللحظة الزمنيَّة التي تصادمَ عندها هذه الأطراف الثلاثة، وكانت الجبهة الأولى متجانسة، وانضمَّتِ الجبهة الثانية والثالثة معا في مواجهة الجبهة الأولى في وَحْدَةٍ غير متجانسة؛ لأنَّ الخصم واحد. إنَّ الأهداف المُحَرِّكة لمعسكر عليّ لم تكن واحدة؛ فهناك طرف يبحث عن صيغة لحضوره بشكل ما في السلطة الجديدة، ولا يهتم كثيرًا بهُويَّة من سيتحالف معه لبلوغ هذا الهدف، وآخر يبحث عن توفير الشروط اللازمة لترجمة السلطة لمبادئ الدعوة كما تمثِّلها. لم يكن عجيبًا إذن أن يقبل طرفٌ الحوارَ والتحكيم أملًا في إيجاد صيغة تآلفية، وأن يرفض آخرون بشكل قاطع التحاور؛ لأنه لا يستند إلى أية مشروعية.

إن دلالة التحكيم هي الاعتراف بوجه ما من المشروعية للفريق الآخر، وذلك برفعِه من درجة الإقصاء التَّامِّ إلى درجة إمكان التحاور معه، وربما الحكم له! إن من سيُسَمَّوْنَ بالخوارج بعد ذلك رأوا أنَّ التحكيم في حد ذاته اعتراف بمشروعية الدفاع عن تجربة سياسية سبق الحسم فيها بالمصادرة والرفض؛ لذلك كان من غير المتوقَّع أن ينساق هؤلاء الذين حسموا موقفهم عمليًّا ونظريًّا وراء فكرة التحكيم.

ترى ناجية الوريمي أنَّ شعار “لا حكم إلا لله” الذي رفعه الخوارج رفضًا للتحكيم تعبيرٌ عن وضوح الثوابت التي تُغَذِّي وعيَهم بالواقع وتمثلهم للنص. فمعنى شعار “لا حكم إلا لله” أنَّ الأمر ليس محلَّ نظر، ولا إعادة نظر. إن موقف الفئة الرافضة يجسِّد نصًّا؛ إرادةً إلهية، يجسِّد قول الله: “فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ“. فلا معنى إذن أن تُوقِف هذه الفئة حركتَها، وقد بلغت شوطًا مُتَقَدِّمًا، بتعلَّة النظر في مشروعيتها عبر الاحتكام للنص كما طلب الخصم. ترى الوريمي أنَّ الذي رفضه الخوارج في التحكيم ليس إعمال البشر النظر في كتاب الله، بل هو توظيف بعض البشر لكتاب الله؛ من أجل إضفاء المشروعية الدينية على أعمالهم ومواقفهم المخالفة لما نصَّ عليه النصُّ من الاستقامة والعدل! لذا تتعجب الباحثة كثيرًا فيمن يحصرون هذا الشعار كرمز من رموز التشدد الديني والدوغمائية ورفض تدخل البشر في ما يتضمنه النص عمومًا!

عَزَمَ الخوراج على الانفصال عن علي نهائيا؛ لأنه أصر على إنفاذ التحكيم في الموعد المتفق عليه مع معاوية. وكان أن اختاروا لهم أميرًا منهم. وبهذا الإجراء، ترى الوريمي أنَّ الهوية السياسية للمجموعة الخارجية قد وجدتْ هيكلًا ينتظم فيه كافَّةُ أفرادها، ويُوَحِّدُ بينهم في مسألة العلاقة مع المخالف وكيفية التَّعامل معه. ثم كانت موقعة النهروان التي تركتْ أصداءً عميقة في وَعْيِ المجموعة ووجدانها؛ نشأ معها شعور بالانتماء إلى هوية سياسية اجتماعية بدأت معالمُها في التَّبلوُر. واعتُبِر من قُتِلَ في هذه الواقعة- بالنسبة إلى الخوارج- لاحقًا الجيل المُؤسِّس الذي دفع أرواحه ثمنًا في سبيل الحقيقة كما جاءتْ في كتاب الله. ترى الوريمي أنَّه من هنا تشَكل لديهم معنى “السلف الصالح” أو “السلف المرجع” في المنظومة الفكرية لهذه المجموعة، على غرار سائر المجموعات المناظرة لها داخل الثقافة الإسلامية[3].

الخلاف المستمر مع السلطة القائمة

كان الخوارج على خلافٍ مستمر مع السلطة القائمة، خلافٌ لم يهدأ أبدًا إلا في لحظاتٍ يسيرة من التاريخ الإسلامي. ترى الوريمي أنَّ الإسلام الخارجي تميَّز بخاصِّيَّتينِ لا تكاد تجدهما عند غيرهم؛ الأولى: الارتباط المشروط بين التَّنظير (الموقف من الواقع)، والتَّطبيق (الفعل الواقع)، والثانية: ارتباطه بالعنف كما شاع عنهم. تناقش الوريمي الخاصِّيَّةَ الثانية، وترى أنَّ الباعث الأساسي في الاعتقاد بارتباط اسم الخوارج بالعنف غير المبرَّر والتطرف ورفض الآخر، هو تاريخ الحركة الخارجية العسكري الحافل بالوقائع والحروب. ترى الوريمي أنَّ هذا النظر أحاديّ الزاوية يحجب الدور الأساس الذي لعبته السلطة السنية القائمة في دفع مخالفيها إلى الاستقرار في هذا الموقع العدائي تجاهها؛ وذلك بأن حرمتها حقَّ الاختلاف، وتعسَّفتْ ضدها تعسُّفًا حملها على مغادرة الحواضر والتجمُّعات السكنية القابلة للمراقبة، والتحصُّن في البوادي والمناطق البعيدة. إنَّ السلطة القائمة كانتْ تحارب الرأيَ وقوة المنطق عند المخالف بمنطق القوة. وهذه الطريقة جعلت المخالف يتشبّث برأيه ويلجأ بدوره إلى منطق القوة، رادًّا الفعل، مُدَافِعًا عن وجوده. ترى الباحثةُ أنَّ المُسَلَّمةَ المتداولَة حول ارتباط الفكر الخارجي بالعنف ينبغي أن تُرَاجَعَ على ضوء الحقائق التاريخية التي تقول الكثير حول المعاملة العدائية المتطرفة التي اعتمدتْها السلطة في التعامل مع الخوارج خاصة وأي فكر مخالف آخر.

تقول ناجية الوريمي: “تمثَّلتْ هذه المعاملة في عدم التَّحَقُّق في الاتِّهام الذي يُرْمَى به البعضُ لأسباب مختلفة، والتعذيب، والتمثيل بالجثث (خاصةً تعرية النساء الخارجيات اللائي يُقْتَلْنَ في المعارك للضغط عليهن أخلاقيًّا حتى لا يخرجن بعد)، وسبي النساء الخارجيات، ومحاولات الإبادة الجماعية للخوارج بقتل أطفالهم ونسائهم”!

ترى الوريمي أنَّ التحركات العسكرية للخوارج قد انطلقتْ مدفوعة بحوافز كثيرة، منها: “الولاة ظلمة، وسنة الهدى متروكة“، “قتلة إخوانهم في المجالس آمنون“، “الجهاد واجب“، “إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبة“. وتختزل الكاتبةُ هذه الحوافز في مُعْطَيَيْنِ اثنين؛ المُعْطى الأول: ثابت، يتمثل في جنوح السلطة القائمة إلى خدمة مصالح فئوية؛ مُخَيِّبَةً بذلك آمالَ الفئات الضعيفة أو المهمشة، أما المعطى الثاني: فهو متغيِّر، يمثله ردود الفعل التي تقتضيها مراحل الصراع مع  الأطراف السلطوية المُتَسَبِّبة في خيبة الأمل تلك.

تحاول الوريمي فكَّ الارتباط بين الخوارج والعنف غير المبرر عن طريق عرضٍ للعلاقة المنسجمة التي كانت بين الخليفة عمر بن عبد العزيز والخوارج آنذاك. ولئن استقرت علاقة الخوارج بالخلفاء الأمويين في الرفض المتبادل؛ فإنها شهدتْ استثناءً في عهد عمر بن عبد العزيز الذي حَوَّل العلاقة من منطق الإقصاء إلى منطق التحاور والبحث عن أرضية مشتركة للالتقاء والتعايش السلمي. وكان الخوارج يسمون عمر بالرجل الصالح، بعد أن كانوا لا يطلقون على الخلفاء من قبله إلا الأسماء الدالَّة على الجور والكفر والجهل.

وباغتيال عمر بن عبد العزيز استأنفت الحركة الخارجية تمردها على السلطة الأموية ثم العباسية فيما بعد، ولما لم يكن التحرك في المناطق القريبة من مركز الخلافة مضمون النتائج، حَوَّل الخوارج مركز رهانهم على نشر الدعوة وكسب الأنصار إلى الأماكن البعيدة عن مركز الخلافة؛ فنجحوا في هذه المناطق، بل استطاعوا أن يُكَوِّنُوا دُوَلًا فيها.

تحاول ناجية الوريمي أنْ تكشف عن بعض مظاهر العمل الثقافي/التبشيري الذي قام به الخوارج من أجل إقامة دول خاصَّة بهم، والتي عمدت المجموعة الخارجية المعتدلة (الإباضية، الصفرية) على نشر مذهبها في مناطق مختلفة في شمال إفريقيا وساحلها الشرقي، ثم في الجنوب الشرقي من الجزيرة العربية؛ فهي ترى التقية والقعود، ولا تحرم الاختلاط الاجتماعي بالمسلم المخالف، بل تُقَسِّم مراحل الدعوة تبعًا للظروف الحافة إلى مراحل “الكتمان“، ومراحل “الظهور“. إن وصول الحركات الخارجية إلى تكوين دول في شرق العالَم الإسلامي أو غربه- في رأي الوريمي- ذو دلالات مهمة على قدرة الأيدولوجيا التي تحملها على الانتشار في الأوساط الاجتماعية الملائمة، وعلى القيمة التاريخية لهذه التجربة، وعلى أنَّه ينبغي تغيير زاوية النظر إليها من مجرد “خروجٍ” عن الإسلام الرسمي إلى إمكان اجتماعي ثقافي أدَّى إليه تفاعلُ النصِّ مع التاريخ [4].

ينتهي مقالنا هنا، وفي المقال الثالث والأخير نتناول المميزات الثقافية للإسلام الخارجي كما عرضتْها الوريمي.

[1]  الإسلام الخارجي، ناجية الوريمي بوعجيلة، دار الطليعة- بيروت، الطبعة الأولى، سبتمبر 2006، ص 50: 66.
[2] المصدر السابق، ص 66: 78.
[3]  المصدر السابق، ص 79: 108.
[4] المصدر السابق، ص 108: 143.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: عبدالعاطي طُلْبَة

تدقيق لغوي: تسنيم محمد

اترك تعليقا