مراجعة كتاب الثقافات الثلاث

“كل مجتمع بحاجة إلى جماعة من المفكِّرين تحول دون هيمنة إتجاه أيديولوجي واحد على حساب بقية الاتجاهات. لقد تحمَّل الرعيل الأول من أصحاب العلوم الطبيعية، خصوصًا كبلر وجاليليو وبيكون ونيوتن هذه المسؤولية عندما بسطت الفلسفة المسيحية سلطانها على الفكر الأوروبي بالكامل. بيد أنه وبعد مرور ثلاثة قرون من تضخم وهيمنة السلطة العلمانية أضحى أصحاب العلوم الطبيعية ضمن حزب السلطة الحاكمة والمؤسَّسة المهيمنة على المجتمع. وترتَّب على ذلك أن بات الكتاب والشعراء والفلاسفة والمؤرخون وأصحاب العلوم الإجتماعية في خندق المعارضة القوية لمبادئ الحتمية المادية التي تتمثَّل في المبالغة في تأثير الجينات وهيمنة الكيمياء العصبية على السلوك والعواطف الإنسانية، فيما أخذت تلك العلوم في الحط من شأن تأثير الثقافة والقيم واللحظة التاريخية على معاني الكلمات وإماطة اللثام عن دواعي الإبهام والغموض في فهم وتفسير الظواهر والمواقف”.
جيروم كيغان في كتاب الثقافات الثلاث.

إنَّ العنوان الفرعي لكتاب الثقافات الثلاث هو “العلوم الطبيعية والإجتماعية والإنسانيات”. أما مؤلِّفه فهو «جيروم كيغان- Jerome Kagan» وهو متخصِّص في علم النفس التطوري، غير أنَّه يملك ثقافة وخبرات واسعة أهَّلته لتأليف هذا الكتاب بما يحويه من أفكار. والكتاب ترجمة صديق محمد جوهر أستاذ الأدب الإنجليزي.

وقد قسَّم المؤلِّف الكتاب في ست فصول، بالفصل الأول قام بتأصيل الثقافات الثلاث، وفي الفصل الثاني تحدَّث عن العلوم الطبيعية، كما ترك الفصلين الثالث والرابع للعلوم الاجتماعية 1 والعلوم الاجتماعية 2 على التوالي، الأولى هي العلوم التي يتطرَّق فيها الباحثون للفرد والجماعات الإنسانية الصغيرة، والثانية للمشتغلين بالعلوم السياسية والاقتصاد وهم يدرسون العلاقات بين المؤسَّسات والمجتمعات والأمم، ولقد خصَّص الفصل الخامس للإنسانيات، أما الفصل السادس والأخير فيعرض فيه بعض المشاكل الحديثة المتعلِّقة بالعلوم الثلاث.

الفصل الأول: تأصيل الثقافات الثلاث

يفتتح بمحاضرة في سنة 1959 م لتشارلز بيرس سنو باسم “الثقافتان”، والذي يدعو فيها للتخلَّص من أعداد المؤرخين والفلاسفة ونقاد الأدب ويقابل ذلك ارتفاع في أعداد العلماء والمهندسين.

وبعد ثلاثة سنوات عمد ف.ر.ليفيز (وهو أحد نقاد الأدب المرموقين في جامعة كمبريدج) إلى الدفاع عن العلوم الإنسانية، وردَّ له الصاع صاعين في لغةٍ خشنة وساخرة من إمكاناته العلمية والأدبية على حد سواء.

قام الكاتب بعقد مقارنة في جدول بين الثقافات الثلاث من خلال تسعةِ أوجه للمقارنة ترتبط بالاهتمامات الرئيسية وطرق إثبات النظريات والمصطلحات الخاصة به، وتأثير الظروف التاريخية والتأثير الأخلاقي والإعتماد على الدعم الخارجي وظروف العمل والإسهام في الاقتصاد القومي ومعيار الجمال. ثم بدأ بعد ذلك بتوضيح اختلاف لغةَ كلّ علمٍ من الثلاثة وحتى لو تشابهت المفردات عن طريق تحليل بعض المفردات مثل الخوف والقدرة والاستثارة وغيرها، وطريقة تعامل كل علمٍ معها.

إعلان

ويفرد عنوان فرعي ليناقش فيه موضوع المجاز باعتباره سبب من أسباب الالتباس الذي يكتنف معاني الألفاظ فيقوم بتحليل عدة مجازات مختلفة. وشرع تحت عناوين فرعية بعد ذلك يحاول التعريف أكثر بـ الثقافات الثلاث والتباين بين كل ثقافة وغيرها فدرس التأثير التاريخي والأدوات العقلية التي يستخدمها كل منهم وحدَّدها بثلاثِ أنماط (المفاهيم والمعادلات الرياضية – شبكات التعبير اللغوي – الوصف القائم على تنظيم المدركات الحسية). كما يحاول الإجابة على سؤال ماذا ينبغي علينا أن ندرس وفي آخر الفصل يحدد أنماط العلماء.

الفصل الثاني: العلوم الطبيعية

في هذا الفصل يقدِّم بعض النظريات العلمية، ويطرح ثقة الناس في العلوم الطبيعية ثم يأتي بأسباب بداية نفور الناس من العلوم الطبيعية، وإليكم الأسباب التي طرحها:

1 – أصبحت لغة العلوم الطبيعية غير مفهومة للشخص العادي فبعد أن كان الحديث عن أشياء في خبرتنا اليوميَّة أصبح الحديث عن كواركات وجولونات وغيرها.

2 – أصبح الناس مهتمين بعلماء الفيزياء والكيمياء، ومواضيع مثل تلوث الهواء والماء والاحتباس الحراري وأسلحة الدمار الشامل.

3 – شعور الناس أنَّ العلماء صارو مجرَّدين من الأحاسيس ولا يعنيهم شئ خارج نطاق المختبرات.

4 – تصادم بعض الافتراضات العلمية مع الثوابت الأخلاقية والفطرة الإنسانية.

ويضرب جيروم بالكثير من الأمثلة التي تبيِّن آراء العلماء الطبيعيين ونقدها، وقد شرح جوانب التفرُّد الإنساني عن غيره من الكائنات ليرد على الدارونيين، وأيضّا هاجم ريتشارد دوكنز بقوله “وهاهو ريتشارد دوكنز يكتب وقد تلبَّسته روح الغطرسة والتوكيد التي كان أساقفة العصور الوسطى يكتبون بها، فيصر على أنَّ المبادئ الوحيدة الجديرة بالوثوق هي تلك التي تؤمن إيمانًا لا يتزعزع بالحقائق العلمية التجريبية”.

ويشير بعد ذلك بوجودِ علماءٍ بارزين في العلوم الطبيعية ولكنهم مؤمنين مثل تشارلز تاونز وأنتوني فلو الذي ألحد أربعون سنة ثم عاد للإيمان، وكان عوده للإيمان على أسس عقلانيَّة لأنه لم يتمكَّن من الإجابة على ثلاثِ أسئلة وهي: لماذا تنتظم قوانين وسنن الطبيعة ولا تختلف ولا تتناقض؟ كيف يتأتى للحياة أن تنبعث من المادة بمحض المصادفة؟ كيف نشأ الكون أوَّل مرة؟.

وافترض فلو أنَّ وجود الله ضرورة للإجابة عن هذه الأسئلة. ويقول الكاتب عن نفسه في هذا الجانب “على الرغم من أنَّني لا أؤمن بأيِّ قوى ميتافيزيقية فإنَّ إلحادي ليس إلحادّا عقلانيّا، وهو يفتقر إلى الأدلة والبراهين اليقينية، ولا يفضل بحال موقف من العالمين تاونز و فلو من حيث الإيمان بقوَّةٍ روحية كبرى قدَّمت ومازالت تقدِّم يد العون لكلِّ أشكال الحياة على الأرض”.

تناول جيروم فوائد الإيمان الديني في مقابل الإلحاد العلمي وذكر أمثلة على ذلك. وعرض أمور كزيادة نسبة المنضمين للمسيحية والإسلام في القرن الماضي. وجاء بتجربةِ عالم مسلم اسمه عبد الله حمودي باحث أنثربوبوجي بجامعة برينستون، يجمع بين الجنسيتين الأمريكية والمغربية، ويصرِّح أنَّه بالرغم من عدم كونه مسلمًا متدينًا فإنه بعد أداء فريضة الحج تحوَّل لشخص آخر. وهاجم كثيرًا من آراء ريتشارد دوكنز خلال عرض أربعة فلسفات حياتية يستطيع المرء الإختيار منها ليسترشد بها في إدارة شؤون حياته اليومية:

1- المنظومة العقلانية المنطقية 2- المبادئ والوصايا الدينية 3- منظومة متسقة من المبادئ والأخلاق 4- العدمية وعرَّفها بأنَّها رفضٌ للتصوُّرات الثلاثة السابقة. ويهاجم بعد ذلك علماء الطبيعة في محاولة الاختزال في بعض الأمور مثل المتعلِّقة بالشخصية التي حدًَدها علماء الأحياء بالتغيُّر الجيني فقط مع أنَّها تخضع لثلاثة عوامل متساوية القوة وهي: 1- التغير الجيني 2- التغيِّر البيئي 3- التفاعل بين التغيًُر الجيني والتغيُّر البيئي (هذه الفكرة معروضة بشكل وافٍ في كتاب تفسيرات وراثية).

الفصل الثالث: العلوم الإجتماعية 1

يحدِّد جيروم أن الباحثين في العلوم الإجتماعية ينقسمان لقسمين 1- نصير المفاهيم النظرية والعلوم الطبيعية 2- يقصر اهتمامه على الوقائع والظواهر التي تولّٓدها الظروف الإجتماعية.

ويشرح بعد ذلك الرموز في المجتمعات وأسباب التماسك بين أفرادها وعلاقة ذلك بالثقافة. ويهاجم نظرة علماء الأحياء بأنًَ المجتمعات مبنية على أفرادها فقط دون الاعتبار للتفاعلات والروابط الإجتماعية التي تنشأ فيما بينهم. ويعطي أمثلةٍ على ذلك من خلالِ عرضِ أحداثٍ توضِّح تباين طريقة انخراط الأطفال والمهاجرين وسط المجتمعات المختلفة.

وليؤكِّد على أهمية العوامل الإجتماعية على الفرد يتحدث عن المراتب الإجتماعية وتأثيرها على سلوك الفرد . ويتحدَّث بعد ذلك عن مصادر الأدلة والبراهين في العلوم الإجتماعية حسب إستخدامها كالتالي 1- التفوهات اللفظية 2- السلوكيات القابلة للملاحظة (عفوية أو داخل المختبرات) 3- القياسات البيولوجية.

وتطرَّق بعد ذلك إلى الاستبيانات كوسيلة للعلوم الإجتماعية لدراسة المجتمعات وأسباب عدم دقتها، ثم في نهاية الفصل تناول مآثر وإسهامات العلوم الإجتماعية.

قد يعجبك أيضًا

الفصل الرابع: العلوم الإجتماعية 2

يذكر جيروم الباحثين في السياسة والاقتصاد ويضعهم في ثلاثِ طوائف كالآتي:

1- طائفة تمارس السياسة بوصفه علم تجريبي بعيد عن المعتقدات والأحكام القيمية

2- طائفة ثانية تحاول هي الأخرى الابتعاد عن المواقف الأخلاقية ولكن تدرسها من منظور براجماتي (نفعي).

3- طائفة ظلَّت على إيمانها بالاهتمامات الأخلاقية للفلاسفة القدامى والتنويرين.

وفي الفصل الرابع من كتب الثقافات الثلاث، يهاجم الطائفتين الأولى والثانية، ويعطي أمثلة على ذلك ويدعي أنَّ رغبتهم في أن يحظوا على المكانة الرفيعة التي بلغها أصحاب العلوم الطبيعية جعلتهم ينكرون خصوصية جوهرية في الإنسان الذي هو موضع دراستهم. ويهاجم هؤلاء العلماء كذلك لعدم اهتمامهم بالتاريخ ويكتب مثالًا على ذلك فيقول “ليس في مقدور أحدٍ أن يفهم ذلك التصاعد المفاجئ في نشاط الجماعات الإسلامية في أوروبا ما لم يضع يده على الأحداث التاريخية التي أدَّت لتكدُّس المدن الأوروبية الكبرى بمهاجرين محرومين من أقل الحقوق والامتيازات، وفي ظل أوضاع اجتماعية وبيئية مزرية مما أدى لإذكاء نار الفتنة على القيم العلمانية السائدة في المجتمعات الرأسمالية”.

ويشرح بعد ذلك نماذج علماء الاقتصاد وكيف يقومون بها، وينقد هذه النماذج في التعامل مع المجتمعات. ومن أحد النظريات التي يتحدَّث عنها التي انتشرت أخيرًا نظرية الألعاب (GAME THEORY) ويذكر بعد ذلك بعض بشائر التغيير في الباحثين الاقتصاديين وتغير نظرتهم المادية مثل ظهور “علم الاقتصاد السلوكي”.

الفصل الخامس: الإنسانيات

يحدِّدهم بالفلاسفة وجهابذة الأدب والفنون والمؤرخون، ويصنِّفهم بعيدًا عن علماء الطبيعة والدراسات الإجتماعية، فَهُم يعملون في استقلال تام، ولا يتلقون إلًَا النذر القليل من المنح والدعم، ويعتمدون في الأساس على النصوص ذات المعاني الدلالية مصدرا للحقيقة. ويخرج منهم بطائفةِ الروائيِّين والشعراء وكتاب المسرح والرسامسن ومؤلفي الموسيقى لأنَّهم يندرجون ضمن إطارٍ خاص بهم. إنَّ أغلبهم يمارسون إبداعاتهم خارج المؤسَّسات الأكاديمية، كما أنَّ نتائج قرائحهم الإبداعية يستهدف إشباع النوازع الجمالية عوضًا عن تلبية متطلِّبات العلماء.

ويشير جيروم إلى أنَّ علماء الإنسانيات خسروا الكثير من سلطانهم ونفوذهم بعد تطوُّر العلوم الطبيعية ويشرح أسباب ذلك. كما يشرح تأثير علماء الإنسانيات تاريخيًا. ويبيِّن أنَّ العلوم الإنسانية تفرَّقت الآن إلى فروعٍ كثيرة مثل الدراسات النسوية، والبحوث المتعلِّقة بالمسلمين وبشعوب أمريكا اللاتينية، ودراسات المثلية الجنسية، والأفكار المابعد حداثية مثل الفلسفة التفكيكسة الذي يعتبر نيتشة وهايدجر أجدادها ودريدا وفوكو الآباء الفاعلين لها.

وفي عنوانٍ فرعي “فقدان الثقة” يعيَّن العوامل التي أدت لفقدان الثقة في العلوم الإنسانية ومنها تطفُّل علماء العلوم الطبيعية على خصوصية المجالات البحثيَّة الفلسفية مثل الوضعيون المناطقة وغيرهم.

ويسرد بعد ذلك إسهامات علماء الإنسانيات وهو موضوع مهم تحدَّث فيه عن الأدب والسينما والشعر والرسم، ويشرح فيه عددًا من الروايات واللوحات الفنية وعلاقة ذلك بالأمزجة العاطفية المعقَّدة من جهةٍ وبالعلوم الطبيعية من جهة أخرى.

الفصل السادس والأخير: توترات راهنة

يشرح جيروم التقاطعات الحديثة بين العلوم والفنون في المعمل وفي السينما والمسرح والرواية، ويعود ليهاجم أيضا غرور علماء العلوم الطبيعية عن طريق عرض هجوم بأولي على هايزنبرج عندما ادعَّى أنَّه وضع يده على نظرية موحدة جامعة مانعة. ويهاجم كذلك الصراع الأكاديمي بين العلماء وتحزُّب العلماء ضد بعضهم وتأثير ذلك على البحث العلمي.

ويحاول أخيرًا الاجابة على سؤال الذي يتساءل عن إذا ما كان وضع الإنسان أفضل قديمًا أم حديثًا. ويقوانه ليستطيع أن يجيب عليه مع ذكر أمثلةٍ لتأثير الإنسان على الطبيعة.

إعلان

اترك تعليقا