فرويد ويونج: بين أبويّة المعلّم وتمرّد التّلميذ

بدأت العلاقة بين البروفيسور فرويد ويونج منذ عام 1906 ومن خلال تبادل بعض المعلومات عن الحالات التي يُعالجها كلّ منهم نشأت علاقة شخصية حميمة، كانت تتسم بالودّ حينًا وبالشدّ والجذب حينًا، والتراخي بل واللامبالاة في أحيانٍ كثيرةٍ.

وسط مشاعر وحدة المعلّم، وخوفه من عدم انتشار أفكاره بالشكل الذي كان يطمح له، وجد في مراسلات يونج البسيطة معه، أنّ عمرًا كاملًا لن يضيعَ هباءً.

بين شخصية فرويد الأصيلة والذكيّة المليئة بالأمل والثقة والإنتاج والقدرة على التلاعب، وشخصية يونج الفريدة، المليئة بالفضول والدّهشة من أقلِّ التفاصيل، المُتشككة اتجاه ما تطمح إليه، حدث ذلك التناغم في عدّة رسائلٍ ولقاءاتٍ قليلةٍ استمرت على مدار أربعة أعوام كاملة.

أبويّة المُعلّم:

“كنت أخبرتك عن إيماني الّذي أخذ يتزايد ببطء، حتى ربط نفسه بتفسير الأحلام كما لو أنه ربط نفسه بصخرةٍ في بحرٍ مُتلاطم، وعن اليقين الصّافي الّذي استحوذ عليّ أخيرًا وأمرني بالانتظار حتى يأتي صدى صوتٍ من الجمهور الأوّل ليكونَ صدى لصوتي، لقد كان ذلك الصّوت هو صوتك

بدأ التواصل يأخذُ حيّزه المعرفيّ، حين أرسل يونج نسخةً من كتابه الخاص ليبادله فرويد بنسخةٍ من مجموعةِ مقالاتٍ في التحليل النفسيّ، مع تبادلٍ للآراء في حالات إكلينيكية معينة، ثم بدأ الجانب العاطفي والشخصي يتبلور، حتّى بدأ لدى يونج نوعًا من الانجذاب العاطفي والروحي له، يخاطبه بـ “أبتي” ويعتبره فرويد في المقابل ابنًا من أبنائه، يطلبُ منه صورًا شخصيةً له ويعرضها يونج في المكتبات العامة، يُبشّر بهذا العلم الجديد كرسولٍ يُبشّرُ بدينه ويُدافع عنه باستماته دون ذرّة شكّ، حتّى أنّه كان دائمًا ما يُرجِع شكوكه الخاصة حول تركيز فرويد على الخبرات الجنسية إلى ضعف خبراته الإكلينيكية مقابل خبرات فرويد ومدى تعمّقه في الاضطرابات.

تماهٍ وسط الأصالة:

أي شخصٍ يتذوّق ثمار علمك يكون قد أكل بالفعل من شجرة الجنة وأصبح مُستبصرًا.

من خلال مراسلاتهما معًا يتضّح لنا من البداية إلحاح فرويد في سرعة الردّ، كأنّه يريد من يونج أن ينتشلَه من وحدته وضياعه وسط الأفكارالغريبة التي لم يؤمن بها في ذلك الوقت سواه، كأنّه يريد أن يزيحَ هذا الحمل الثقيل لتتشاركه كتفٌ أخرى، أو ربما مرٱة له، فوجد في يونج الشّخص المناسب للدفاع عن أفكاره والعمل عليها.

إعلان

ومن جانب يونج نرى انبهارهُ الشّديد بأصالة فرويد، ومحاولة التّماهي معه ونسيان ذاته وأفكاره وما يشغله من تساؤلاتٍ عديدةٍ عن عالم النفس، فنجد يونج يسير على خُطا المعلّم ويحلّل الأحلام جنسيًا كما كان يفعل فرويد، فحين سرد له “بلولر” حلمه الخاص فسره يونج على أنه ميل جنسي له، وسنرى بعد ذلك تخلّي يونج عن الجنس كركيزة أساسية في تفسيره للمكنونات النفسية منذ بدءِ اهتمامه بالعوالم الغامضة الغريبة كالسّحر والتّنجيم، ومن ثم الأساطير اليونانية القديمة.

قطيعة معرفيّة:

تشغلني فكرة أن يأتيَ يومٌ أكتبُ فيه تقريرًا شاملًا عن الميثولوجيا، قد استحوذ علمُ الأنماط أو بالأحرى الأساطير على تفكيري، فهو مَنجمٌ مليءٌ بالمواد الرّائعة

مع اهتمام يونج بالأساطير والظواهر الغريبة كالتنجيم والسّحر، نشأت بعض الخلافات؛ لأنّ فرويد كان يعتبرُ كلّ ذلك غير علمي ولا يوجد فائدة حقيقية ستعود على التحليل النفسي من تلك الخرافات، فكان يفسّرها بأنها نزعة اتجاه الأم، واتجاه كلّ ما هو مستحيل.

ومن جانب يونج ومع فضوله الشّديد،ظلّ متشككًا بسبب أراء فرويد وتأثيره عليه، حتّى أنّه كان يخاف الكتابة عن أفكاره بسبب نقد فرويد اللاذع له في رأيه من ناحية، وشعوره بالذنب والقلق من ناحيةٍ أخرى وذلك يرجع إلى خوفه من أن ما يكتبه سيجعله يفقد علاقته بفرويد.

لذلك بدأت أوّل فجوة في الظهور بينهما، فالمعلّم يعرف جيداً الفرق بين العلم والخرافات، ولا يودّ المخاطرة بالتحليل النفسي في جبهات الظلام، والتّلميذ الحالم الّذي يبحث عن طيات وجذور العلم داخل الخرافات (في رأي فرويد).

بالإضافة إلى شعور يونج بمقارعة فرويد والتنافس معه؛ وذلك عائدٌ إلى رغبة فرويد في الكتابة عن الدين -الذي سيظهر بعد ذلك في كتاب “الطوطم والتابو”- لأنه يزداد عنه خبرةً ومعرفةً، وشعر أن ما سيكتبه لن يكون ذا قيمةٍ أمام هذا العملاق التحليلي!

قطيعة عاطفيّة:

على الجانب الأخر، بدأ كل منهما يستخدم التحليل النفسي لتحليل أفعال الأخر، فنرى على سبيل المثال حين ناقش يونج أزمة القدماء المصريين بين آبائهم وأبنائهم وعلاقته بالموت، ليراها فرويد عبر خيالاته وتحليله الخاص أنه يتمنى له الموت، وحين حلم يونج أن فرويد أصبح في منزلة الشخص الذي أعتدى عليه في طفولته، فسّر ذلك بأن وجود فرويد في حياته يحمل له الكثير من المخاطر.

مع غضب يونج من عدم زيارة فرويد له كما كان يفعل، واستخدام التحليل النفسي للتلاعب به تارة كوسيلة ابتزاز عاطفي بأن لا داعي للخجل من العُصاب الخاص بنا، وتارة أخرى لاستحواذ فرويد على موقع الأب والحفاظ بالاستماتة على سلطته كأب يحمي أبناءَه وبالتّالي يحصل على تبعية مُطلَقة، دون الاعتراف بالأخطاء البشريّة الخالصة وذلك بكون البشر إمّا أتباعًا خاضعين أو أعداءً مُحتملة.

تمرّد التّلميذ:

بدأت التوقعات تزداد من جانب فرويد اتجاه يونج، ممّا أثقله كثيرًا؛ كونه يحاولُ التماس طريقه الخاص، مع الوقت أحسّ يونج بأنّه سيضيعُ خلف عباءة هذا العملاق فرويد، كلّما عارضه أو عبّر عن اهتماماتٍ أخرى بعيدًة عن طريق فرويد، نجد المعلّم يزداد غضبًا وتجاهلًا لتلك الأفكار، فهو يرى التحليل النفسي -بمرٱته وعيونه- هو القضية الوحيدة التي تستحق الجهد والعناء، وسط حيرة يونج وقلقه الدائم خوفًا من الّذي سيقوله فرويد عن عمله، وكم ستكون الانتقادات لاذعة حتّى أنّه قال علنًا إن علاقته الحميمة مع رجل تُفقدُه حريتَه العلميّة، وإنّه يحتاج حريته حتى يُعطي أفضل ما لديه، فأرسل له نصًا من كتاب “هكذا تكلَّم زرادشت” محاولًا فيه التعبير عن ذاته:

“والآن أطالبكم بأن تضيّعوني وأن تجدوا أنفسكم

وإنّي لن أعودَ إليكم إلّا عندما تكونون قد أنكرتموني جميعًا.”

ما بعد القطيعة المعرفيّة والعاطفية:

انقطعت العلاقة وترك كلّ منهما إسهاماتٍ شديدة الثراء، ولم يبقَ لنا سوى مراسلاتهما وكُتبهما الخاصّة، وبعد تلك القطيعة بعامين، أكمل فرويد كتاب “الطوطم والتابو” وكذلك عمل على تأريخ حركة التحليل النفسي في كتابه “حياتي والتحليل النفسي”.

وبدأ يونج يدشّن طريقَه الخاص، لنرى الذات لديه لا تحوي فقط الغرائز والضمير المتمثل في الأنا الأعلى عند فرويد، بل أدخل مكوّن الوعي الجمعي، الّذي يضمّ الغرائز والأنماط البدائيّة وعادات وتقاليد القبائل والشعوب، من تحليله للميثولوجيا الإغريقية والرّومانية، ليصبحَ لدينا تحليل نفسي فرويدي، وعلم النفس التحليلي.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: نور حمزة

تدقيق لغوي: علا ايوب

اترك تعليقا