تكديس المحتوى الرقمي وتأثيره على الصحة النفسية

قد يبدو لك الفضاء الرقمي ممتداً إلى المالانهاية، إلا أنّ حجم المحتوى الذي تحتفظ به في هذا الفضاء قد يكون ذو تأثيرٍ سلبيٍّ على سلامتك النفسية في الحياة الواقعية. 

قد تبدو الخزائن التي تحتفظ فيها بأغراضك الشخصية أكثر ترتيباً بفضل اتباعك أسلوبَ ماري كوندو في الترتيب والتنظيف، ولكن ماذا عن صندوق الرسائل الواردة لبريدك الإلكتروني والإشارات المرجعية ومعرض الصور؟ مِن المُحتمَلِ أنّ الفضاء السيبيري الذي يحتوي على مقتنياتك الرقمية ممتلئ بما هبَّ ودب -وذلك بِغضِّ النظر عن الترتيب الفعلي لمُقتنياتك الفيزيائية. فأول ما يخطر على بال الواحد منا عندما يفكر بظاهرة التكديس هو قبو تصل محتوياته إلى السقف -بما في ذلك مجموعة من الصحف والملابس البالية وأشرطة مسجلة لمسلسلٍ ما. إلا أن التكديس الرقمي ظاهرةٌ يعاني منها البعض.

حيث خلص تحليلٌ لاستبيانٍ أجرته شركة Summit Hosting التي تزود المستخدمين بمساحات تخزين رقمية إلى أنّ الفرد الأمريكي يحتفظ ب 582 صورة على هاتفه وتحتوي قائمة الإشارات المرجعية لديه على ما يقارب 83 موقعاً إلكترونياً، كما تحتوي الشاشة الرئيسية لِهاتفه على 21 أيقونة و 13 تطبيقاً غيرَ مستخدمٍ. وعلاوةً على ما سبق، يخزن الفرد الأمريكي ذو الاستخدام العادي محتوىً رقمياً إضافيّاً يبلغ حجمه 645 جيجابايت على وحدة تخزين خارجية. ورغم أنّ المحتوى الرقمي لا يشغلُ مساحةّ فعلية على أرض الواقع، إلا أنّه ينتزع منك مساحةً قيمةً في بالِك -وهو مساحة التخزين الأصلية. 

سلبيات التكديس الرقمي

يتمُّ إنشاء 150000 تيرابايت من البيانات كل ساعةٍ ونصف؛ وتعادل التيرابايت الواحدة منها 310000 صورة أو ما يقارِب 86 مليون صفحةٍ مخزنة على برنامج Word لتخزين المستندات. إذن فالسؤال الأهم هنا هو كالتالي: أين يُخزن هذا المحتوى الهائل من البيانات؟ نحنُ من نتمسك بهذا المحتوى ونرفُض التخلي عنه. حيث جاء في تحليل الاستبيان السابق أنّ ما نسبته 6.6% من الأمريكيين يحتفظون بما يتراوح بين 1,001 و 3,000 رسالةٍ إلكترونيةٍ غير مقروءة، بينما يحتفظ ما نسبته 1.9% منهم بما يزيد عن 20,000 رسالةٍ إلكترونيةٍ غير مقروءة. 

وصرح Robby Macdonell -المدير التنفيذي لشركة RescueTime التي تُعنى بمساعدة الأفراد على إدارة بياناتهم الرقمية المُكدسة والتخلص منها- بما يلي: ” يتمثل جمال حياتنا الرقمية بأننا نستطيع الاحتفاظ بكل ما نريده فيها؛ فالمساحة التخزينة الرقمية غير محدودة نسبياً، مما يعني أننا لن نضطر إلى التفكير بما نحتفظ به وما نُبقيه فيها”. وأضاف قائلاً: ” إلا أنّ المعضلة هي أنّ العلاقة بين ما تحتفظ به وما ستحتاج لأن تستخدمه في المستقبل هي علاقة عكسية؛ فكلما احتفظت بمزيد من البيانات، كلما انخفضت احتمالية استخدامك لها في المستقبل. فليس لتنظيمك أي فائدةٍ إن كنت غارقاً في بحرٍ من المعلومات”. 

ففكر مثلاً بمعرض الصور في هاتفك الذي قد يحتوي على مئات أو حتى آلافٍ من الصور. حيث أشارت Jo Ann Oravec -بروفيسورة متخصصة بتكنولوجيا المعلومات وتدريس كيفية القيام بالأعمال التجارية في جامعة ويسكونسن الواقعة في ولاية وايت ووتر- إلى ما يلي: ” إنّ عدم انتقاءك للصور التي تهمك يعني أنّك تحتفظ بمجموعة غير متجانسة من الصور العشوائية التي التقطتها من زوايا مختلفة”. كما وذكرت أن عمتها أنشأت _بكلِّ تمعّن وحرص- ست ألبوماتٍ من الصور التي احتوت على أهم لحظات حياتها التي استمرت لمئة عامٍ؛ حيث احتفظت بالصور التي رأت أنها تستحق أن تبقى في ذاكرتها. وأشارت Oravec قائلةً: “تمكنت عمتي من خلق ألبوماتٍ تحتوي على ما تشعر بأنه واقعيٌّ بالنسبة لها، فما هي الجوانب من حياتك التي تعتبرها واقعاً يستحق الاحتفاظ به؟”. 

إعلان

لماذا نقوم بتخزين بياناتنا في الفضاء السيبيري؟ 

ازداد اهتمام Oravec بالتكديسِ الرقمي بعد إجراء العديد من المحادثات مع طلابها عن هذا الموضوع. حيث أعرب طلابها -الجامعيين منهم والخريجين- عن شعورهم بأنهم لا يستطيعون السيطرة على الضغط النفسي الناجم عن الحجم الهائل للمخلفات الرقمية؛ بما في ذلك الملاحظات التي دوّنوها خلال المحاضرات والعروض التقديمية على برنامج بوربوينت وملفات PDF التي تحتوي على أبحاث علمية والصور التي التقطوها للشرح الذي كتبه الأستاذ على السبورة، فضلاً عن الملفات متزايدة الحجم التي تحتوي على عناصر شخصية وعائلية (بما في ذلك أصدقاء الفيسبوك الذين لا يعرفونهم على المستوى الشخصي ولكنهم لا يجرؤون على إلغاء صداقتهم). 

وأشارت Oravec قائلةً: “قام المتخصصون بتصميم التقنيات التكنولوجية التعليمية والاجتماعية ليكون من السهل على الطلاب أن ينغمسوا في التفكير والتحليل الناقد وليكونوا قادرين على التواصل المباشر مع غيرهم. إلا أنها في ذات الوقت أثارت شعوراً لدى المستخدم بأنّ زيادة كمية أي شيء تؤدي إلى حياةٍ أفضل”.

حيث تلاحظ اقتناع طلابها بهذا المبدأ -مبدأ “زيادة الكمية تؤدي إلى حياة أفضل”- عندما يستصعبون حل الواجبات الكتابية. فصرَّحت معلِّقة على الموضوع: “لا يسألني الطلاب عن الكيفية التي يمكنهم من خلالها إيجاد محتوىً يستعينون به في حل الواجبات. بل على العكس تماماً، يلجأون إليَّ وقد قاموا بطباعةِ الكثير من البيانات المتعلقة بالواجب ليسألوني السؤال التالي: كيف يمكنني العثور على المزيد من المعلومات لأستعين بها في حل الواجب؟”

كما وبدأ الباحثون توّاً بالبحث في العلاقة التي تربط التكديس المادي بِالتكديس الرقمي. حيث ينطوي كلا النوعين على إحجامٍ عن التخلص من الممتلكات المادية أو البيانات الرقمية بسبب الاعتقاد بأنها قد تشبِع حاجةً مستقبليّة أو تمثِّل رابطاً عاطفياً. كما ويتعارض كلا النوعين مع الكيفية التي تُمضِي فيها يومك ويؤديان إلى تصاعد شعورك بالقلق. 

فالأشخاص الذين يحرزون نتائج عالية في مقياس سلوكيات التكديس المادي يُرجح أنّ يحرزوا نتائج أعلى من غيرهم في مقياس سلوكيات التكديس الرقمي. حيث صرح البروفيسور Nick Neave -أستاذ مساعد في قسم علم النفس ورئيس فريق أبحاث التكديس في جامعة نورثمبريا البريطانية- قائلاً: “هذا ما يدفعنا إلى الاعتقاد بأنّ التكديس الرقمي والتكديس المادي يتشابهان في الخواص وينطوِيان على نفس الآليات النفسية. حيث يرغب الفرد بالاحتفاظ بِملفاته الرقمية ويُجابِه ممانعة نفسية شديدة تمنعه من حذف هذه الملفات وذلك بحجة أنه قد يحتاج لاستخدامها مستقبلاً”. وأضاف: “إنّ الجميع معرض للوقوع في فخ التكديس الرقمي، خصوصاً فيما يتعلق بالعمل الذي يشغله الفرد. فتزوِّد المؤسسات موظفيها بوابل من المعلومات التي يجهلون كيفية استخدامها خلال عملهم، وبذلك يحتفظون بها في أجهزتهم في حال احتاجوا استخدامها لاحقاً”. 

كما وقد تختلف الدوافع التي تضطر الفرد للتكديس الرقمي تبعاً للجيل الذي ينتمي إليه. فتؤمن Oravec أنّ بعضاً من طلابها اليافعين قد لا يكونون واعين بالخيارات المُتاحة أمامهم لتصنيف المعلومات التي يكدِّسونها. أما الأفراد الأكبر سناً فقد يكدسون البيانات الرقمية بحكم القلق الذي يعتريهم. فاضطِرارهم في الماضي للذهاب خصيصاً للمكتبة والبحث في سجل البطاقات والتنقيب عن الكتاب المطلوب من بين العديد من الكتب ثم تصوير الأجزاء المتعلقة بموضوع بحثِهم جعلهم يدركون أنّ المعلومات كانت سلعةً أشد ندرةً وأكثر قيمة في زمنٍ من الأزمان. 

ويبحث البروفيسور الفخريّ  Larry D. Rosen -وهو بروفيسور  حاصل على أعلى درجة أكاديمية في علم النفس في جامعة جامعة دومينغيز هيلز بولاية كاليفورنيا ومؤلف مشارك لكتاب “The Distracted Mind: Ancient Brains in a High-Tech World”- في أساليب عديدة  تساعد الأفراد على تجنب الهوس التكنولوجي. ولكنه لا يعتقد أنّ الأبحاث قد توصلت إلى نقطة التحول التي تمنعنا من اعتبار مساحة التخزين السيبيرية جاروراّ افتراضياً نحتفظ فيه بالخردة الرقمية. حيث توافقه Oravec الرأي في تصريحه التالي: “بحكمِ أنّ التكديس سلوكٌ يشبه في جوهره بعض السلوكيات المجتمعية كالتدخين وتعاطي المخدرات، أعتقد أنه سيتوجب علينا تتبع بعض التبعات الواقعية والحادة التي تنجم عن التكديس الرقمي قبل أن يكون بمقدورنا التشكيك بسلوكيات التكديس التي نمارسها”. فحتى إن لم تشرع باتخاذ خطوات لترتيب خرداواتِك الرقمية، فأنت لا تزال على بعد أنملة من أن يختفي محتواك الرقمي من أجهزتك جميعها إثر تسلل فيروس ما أو وقوع اختراق أمني أو تعرض أجهزتك لتلفٍ ماديّ. 

كيفية تنظيم مساحة التخزين الرقمية الخاصة بك

وحسبما يرى Macdonell: “لا يتمثل الحل بحذف كل ممتلكاتك الرقمية والعودة إلى جهل العصور المُظلِمة، بل يجب على الواحد منا أن يوازن بين حياته الواقعية وتلك الرقمية وأن يستخدم التكنولوجيا بحيث تثرِي حياته وتساعده على عيشها”. 

وإليك الآن بعض النصائح التي قد تساعدك على التخلص من آفة التكديس الرقمي:

  • ابتعد عن التكنولوجيا لبعض الوقت

حيث أشار Macdonell أنّه لمِن المُرهق أن تشعر بأنه يتوجب عليك المساهمة في بناء محتوى التخزين الرقمي الخاص بك لتواكب آخر التطورات التكنولوجية؛ لذلك ننصحك بالابتعاد عن مواقع التواصل الاجتماعي من فترةٍ لأُخرى. كما وصرح قائلاً: “يشعر العديد من الأفراد أنه يستحيل عليهم الابتعاد عن التحديثات التي تصدر بشكل مستمر، إلا أنهم يشعرون بأنه من المحتمل بالنسبة إليهم أن يشعروا ببعض السكينة عندما يتمكنون من القيام بذلك”. 

  • اعتبر شاشة العرض الرئيسية لأجهزتك مكاناً مقدساً

نظراً لأن شاشة العرض الرئيسية هي أول ما تلمحه عندما تفتح أجهزتك، يرى Macdonell “أنّ كل ما تضيفه إليها سوف يلفت انتباهك”. وبناءً على ذلك، ينصحنا أن نقوم بفرز الملفات المتناثرة على شاشة العرض الرئيسية في عدد محدود من الملفات المُبسطة -كفرزِها في ثلاث ملفات تحت المسميات التالية: “ملفات مخصصة للتخطيط” و”ملفات جاري العمل عليها” و”ملفات جاهزة”. 

  • قم بتنظيف محتوى مجلد التنزيلات

فأشار Macdonell قائلاً: “إنّ مجلد التنزيلات يمتلأ بسرعةٍ وقد يحتوي على عدد كبير من الملفات التي لا تحتاجها والتي تشغل مساحةً في قرص التخزين الخاص بجهازك”. لذلك ألقِ نظرةّ عليه بشكلٍ أسبوعي واحذف أكبر عدد ممكن من الملفات أو قم بِضمِها إلى الأرشيف الخاص بك. 

  • حافظ على ترتيب صندوق الرسائل الواردة

قم بتفعيل الفلاتر التي تؤدي إلى توزيع الرسائل الواردة بشكل تلقائي فور وصولها إلى مجلدات معيّنة. ويشارك Macdonell معنا إحدى الخدع التي تنال إعجابه: نقل أي رسالة بريد إلكتروني تحتوي على كلمة “unsubscribe” -والتي تعني إلغاء الاشتراك- إلى مجلد بعنوان الرسائل الإعلانية. حيث أشار Macdonell قائلاً: “يجب أن يكون صندوق الرسائل الواردة لبريدك الإلكتروني مخصصاً للرسائل الشخصية فحسب”. 

  • تفحص ملفاتك

خصص وقتاً شهرياً للمرور على صورك وملفاتك وغيرها من ممتلكاتك الرقمية التي تحتفظ بها منذ زمن طويل. واسأل نفسك السؤال التالي: “هل سيأتي اليوم الذي سوف أستخدم فيه هذا الملف؟”. وإن كانت إجابتك لا، ينصحك Macdonell بحذف الملف أو إضافته إلى الأرشيف الخاص بك. 

  • توقع أن تشعر ببعض المشاعر الغريبة 

نوّه Macdonell حول هذا الموضوع قائلاً: “يؤدي تخلصك من بعض الأشياء التي كانت جزءاً من حياتك إلى خلق فجوةٍ غريبةٍ من نوعها؛ الأمر الذي قد يُقلِق راحتك. وهنا ننصحك بأن تفكر بالجديد الذي سيشغل هذه المساحة الفارغة”. وأضاف: “تشغل الفوضى الرقمية مساحةً ذهنية عوضاً عن مساحة مادية -كرفوف الكتب أو الخزائن- وبذلك يؤدي التخلص من هذه الفوضى إلى إفساح المجال أمام الفرد ليبتكر أفكاراً ويمارس نشاطات جديدة”. 

نرشح لك: لا تقاوم: ظهور التكنولوجيا المسببة للإدمان

إعلان

مصدر مصدر الترجمة
فريق الإعداد

ترجمة: راما ياسين المقوسي

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا