البيئة وإستدعاء الماضي في “أربعاء أيوب”

“أربعاء أيوب” ربما تأخرت قليلاً في الاطلاع على هذه التجربة لكنني نادم على ذلك. تجربة لا تبدأ من القصيدة الأولى، بل تبدأ من الصفحة الخامسة؛ حينما يصيغ لنا الشاعر في مُستهلّ ديوانه بشاعرية قصيدة، لا مقدمة أو مدخل؛ ليبين لنا -ربما من دون قصد- أن الشعر يتنفس في مطلع رئته، ولا يسيل من مهبط قلمه، وكأنه يؤكد الجملة الأخيرة التي دونتها مقدمته بنرجسية ما: “أحطّ إيدي في جيبي تطلع قصيدة”.

ثم يحمل مخلته وهو العارف بأمور الشعر، وبشؤون أصحابه، فيقبض على الحقل الدلالي، الذي يذوب سكينه الجليد، ليكتب ما يشبهه، وهو الغريب الذي يحمل في جعبته الحبيبة الطاعنة، والصديق الخائن، والبلد الريف، والقاهرة المدينة، والشعر الحجر العصفور.

هذا الذي يُنكر أنه استوى على نار الغربة، ينظر نظرته الأخيرة، كشاهد إثبات على ظلّ القرية الفائت، وعلى قلبه الذي يشبه بيتاً مركوناً على كتف الرصيف.

ينادي بإنسانية هذا الكون ولو بمثقال ذرة، ورغم هذا الملح الذي يملأ قلبه قبل عيونه، لم يكن ضريراً؛ بل يرى العالم برؤية مختلفة -رغم أنني كنت أفضل ألا يُصرّح بذلك- فيتأمل وحده حسن المرايا.

يُذوِّب التراث في النص، لا النص في التراث، فيسقط التراث في نصّه بخفة وسهولة كما يسقط الرماد من السيجارة.

إعلان

أربعاء أيوب تجربة لشاعر يملك حكمة النبي، وطيبة المسيح، ولا جديد عنده فهو يؤمن أنّ الشاعر الحق نبي “مين اكتشف ختم النبوة فى ضهر شاعر”.

البيئة واستدعاء الماضي في أربعاء أيوب

دائماً وأبداً، يسعى الإنسان إلى استخدام أو استغلال موارد بيئته بطريقة أو بأخرى؛ لإشباع حاجاته الأساسية والثانوية، ويترجم هذا الاستغلال في صورة العلاقة المتبادلة، وإن كانت الاستفادة الأكثر للإنسان الذي لا يتأثر أحياناً بما يُحدثه في البيئة، لكنّ هناك نوعًا آخرَ يتأثر بالبيئة تأثراً كبيراً قد يصل إلى درجة التماهي كما فعل شاعرنا.

لذا وفي ظني أنّ غزارة الإنتاج الشعري المكتوب باللغة العامية المصرية أو اللغة الدراجة، هو أحد أهم الخصائص المميزة للحركة الشعرية الشبابية المعاصرة، لكن لو تساءلنا عن أسباب نجاح هذه القصيدة الشعبية، وجماهيريّتها، لتعدّدت الإجابات.. لكنني أظن أنه من أهمها: استخدام هذه القصيدة العامية لمتطلبات التعبير الذي يحقق التفاعل الجمالي، ما بين مفردات وصور البيئة الشعبية، وما بين أساليب كتابة الشعر الحديث.

والحقيقة، أنّ شاعرنا يحتل مكانه في الصدارة وسط كتاب جيله، في إبراز هذه البيئة والحياة الشعبية والريفية خصوصاً، فنجده يقول”إتبل كتفك يا شايل القربة\زي حبة غلة فوق عود الدرة\لساه رغيف.. لم تخبزه الغربة”ص11.

هكذا يستحضر الشاعر البيئة القديمة، متمثلةً في قريته في صعيد مصر “بلدكم اللى شايلها في الشنطة ” ص10. برغبةٍ منه في الكشف عمّا يفتقده في البيئة الحديثة متمثلة في القاهرة “المزوعة بالإعلانات بدل الشجر”ص10. فتتحرك صورته الشعرية ما بين ثلاثة أزمنة: الماضي والحاضر والمستقبل، حتى وإن بدا أنه يتحدث عن زمنين فقط، وهما الماضي في استدعائه للقرية، والحاضر في اندهاشه من القاهرة، التي انتزعَتْ من عينيه علامات التعجب، لكنه لم ينسَ أبداً المستقبل، خصوصاً في تساؤله الدائم، فالشاعر هنا يملؤه التساؤل “ياللي أنت أغرب من خطوط الكهربا في الغيطان.. مين اللي هيدلك”ص10. لكنه في ظني كان أكثر توفيقاً في استخدام الماضي وتطويعه، وكأنه يستمد منه شرعيته الجمالية.

استخدم الشاعر الصور الماضوية كثيراً، وأقصد هنا بالصورة الماضوية؛ تلك الصورة التي تعتمد على الماضي بأبعاده الثلاثة: التاريخي والنفسي والبيئي وكأن كلًّا منهم يمثل نواة لوجود الشاعر الإنساني، على مستويين هما: الهوية والوعي، ويظهر استخدام هذه الصور الماضوية جلياً في نص “نظرة أخيرة على ضل فات” وكأنها نظرة الشاعر الأخيرة على ماضيه في مدينته الصعيدية، التي ترك ظلها إلى حرارة القاهرة وشعلة تحدياتها.

وترتبط الصورة الماضوية في ديوان “أربعاء أيوب” بالواقع المحيط، وبالصورة الآنية التي يراها الشاعر في مدينته الجديدة القاهرة، فيحاول الشاعر من خلال استخدام هذه الصور الآنية، كشف الواقع وفضحه. والحقيقة أن كلا الصورتين تندمجان في محور واحد؛ لأن كلًّا منهما يتماهى مع الآخر كما في قول الشاعر “كان روج في شفايف بنت الليل\ أسخن من شمس الظهر\ فوق المسنود قلبه على عشه صفيح”ص20. هذا التماهي بين الصور الماضوية والآنية، يخلق صوراً إيقاعية فريدة من نوعها، تتحرك بين الماضي والحاضر؛ لتنتج رغبة تصويرية، وكأننا نشاهد صورة خاصة من صنع الشاعر وحده، في صورة فيها القديم والواقعي، في محاولة لكشف الواقع من خلال استحضار الماضي البعيد، ولإجراء مقارنة بينهما.

والمتتبع لقصائد الشاعر يجد أنها تشي باتجاهاته النفسية والاجتماعية، التي أَسهمتْ البيئة بمعناها الواسع في تكوينها، فهو لم يعشق القرية لطبيعتها الرائعة المهيبة فحسب؛ ولكنه عشقها وطنًا شاءت المقادير أن تحمله بعيدًا عنه، ليقضي شبابه في بلاد غريبة باهرة الأضواء زاخرة بالتقدم، وبالإعلانات التي حلّت محل شجرة الشاعر الطيبة الأصيلة، ذات الظلّ والروح والطيبة الإنسانية، ولكن الشاعر يدفع ثمن هذا التقدم من صفاء روحه، غير أنّ القرية ظلت مَعينًا نهل منه الشاعر صورته المُستمدة من الحياة الاجتماعية، فتلوّنت القرية بحزنه الفاجع، مُلقيًا عليها شيئًا من يأسه وأساه، فيقول الشاعر مثلاً “كنتم كما الأشجار\ بيوزعوا الظل ع الماشيين\ لكن عرايا\ كل البشر بيراقبوا في عيون المرايا حسنهم\ عكس البشر.. تتأملوا في حسن المرايا\ شابكين إيديكم زي أغصان العنب\ خايفيين قلوبكم تنفرط عناقيد”ص38.

هذه البيئة التي كادت تختفي بسبب عمران المدينة المصطنع، وبما أنّ أية قصيدة شعرية تمثل وتعبر عن روح الشاعر، وتُبيّن الهدف الذي تتوجه إليه، فإن أرقّ المشاعر وأعنفها عند خلف جابر؛ هي مشاعر الحنين الطفولي للقرية الوطن، ولتلك المرحلة المبكرة من حياته، مرحلة بواكير الصبا “أنا شفت في بلدنا البشر\تشبه لشجرة موز\أنا شفت في عيونهم \ثبات الميتين في اتجاه واحد”ص59.

إنّ هذا الحنين المتدفق يجد نفسه في إنعاش الذاكرة الطفولية، ومعايشة تلك اللحظات، واستذكارها، وكأنها تمر الآن أمام ناظريه، وتشاركه الصبا ومغامراته الطفولية البريئة.

ورغم احتدام الصراع الداخلي الذي يظهر جلياً في صور الشاعر حيث يسكن المدينة وتسكنه القرية، إلا أنه انتصر إلى القرية لا إلى المدينة التي يسكن فيها، وتسكن فيها أحلامه، وكأنه ينتصر إلى الحنين الذي يملؤه، حيث يتحدث عن القرية باعتبارها بلده، التي لا يرى سواها، وكيف ترى الحب الذي ينبت في القلب. أما المدينة فهي في نظره بلد الآخر، وليست بلده التي لا ترى الحب إلا كاللوحة الفنية، التي لابد ألا تخرج عن الإطار فيقول على لسان حال القرية “الحب في بلدنا\يشبه نجيلة نبتت في القلب\ما لناش دخل فيها\ لا اخترنا ليها الأرض ولا الزمان\ولا حتى فاكر يوم بنسقيها\ بتمص عصب الأرض\وتشب يم السما”ص84. هكذا عبّر الشاعر، وكأنه كان يأخذ بأيدي القرية؛ لتنتصرعلى المدينة، التي يعبر عنها في الأبيات التالية “الحب في بلدكم\يشبه نجيلكوا الصناعي\بتفصلوه ع القد\وتفرقوا في الجنس والألوان\بتفرشوه سجاد في عز الليل\ بارد مالهش حمو لو حل النهار\بتعلموه يظهر كما اللوحة\ وتقطعوا كفوفه.. لو طل بره الإطار”ص85.

لذا؛ إنْ ذَكَر الشاعر أنه ابن الشمس فلا تصدقوه! لأنني أرى أنه ما زال ابن خطوط الكهرباء في غيطان القرية. في الحقيقة؛ هذا الديوان يُمثّل نخلة جديدة، تتوسط دار العامية المصرية، طارحةً رطب الإنسانية، التي لن تطيب إلا إذا دخلنا إلى هذا الديوان الأرض كقارئ فلاح.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: بشري محمد

اترك تعليقا