القتل باسم الحضارة …كيف كان يفكر المستعمر؟

في عقود ماضية حينما كانت بريطانيا الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، قد أرست قاعدة لها من شرق الأرض إلى مغربها، أمست المعاناة أرضاً مشتركة للمحتلين من كل حدب وصوب، ومثلت الهند بقصتها كصفحة تجاور عديدين، حيث فاضت فيها أنهار من الدماء لا تجف في ذاكرة التاريخ، في ذلك الحين كانت فرنسا بإمبراطوريتها العريقة لا تقل إجراماً عن بريطانيا لما مارسته أيضا من انتهاكات وحشية للدول التي استعمرتها، وبالأخص الجزائر، على وتيرة واحدة خطت الإمبراطوريتين إلى جانب أمريكا التي مارست تباعاً فواجع كإبادتها للسكان الأصليين، وإن العروة الوثقى في تلك الأمثلة جمعاء، هي تأكيد شعوب الاستعمار على أفضالهم على من اغتصبوا أراضيهم لسنوات طويلة، والتمنع عن تقديم أي اعتذار للخراب الذي خلفوه، فما هي نظرتهم للأحداث ولطرفي القصة بما فيها أنفسهم؟ وما الذي يجعلهم يظنون بالأفضلية والاستحقاق للظفر بالعالم دوناً عنا؟

جاءت البداية ببزوغ فكرة: «نحن والآخرون» إلى العلن؛نحن:الأوربيون؛ بكل تميزنا وتفوقنا، أما الآخرون: فهم غير الأوربيين، الذين يجب أن يخضعوا لنا وأن يسلموا لنا مقاليد الهيمنة على ما يملكون، كانت هذه الاتجاهات التي خلص إليها الاستشراق نتيجة لعلاقات القوة، أو أوضاع السلطة التي دأب الغرب على الإمساك بها ومن ثم ممارستها على مقاليد الشرق، والتي نقدها مفكرون أبرزهم: إدوارد سعيد في كتابه: الاستشراق.

فيما يلي نحاول الخوض في نظرة الغربيين الفوقية التي لا تضمر للشرقيين، والمرور على بعض من خليفة معتقداتهم المترسخة وما سببته.

بريطانيا والهند

الاستعمار

وطّن الاستعمار على ترسيخ دعائمه ومد جذوره  في الأراضي المستعمرة، يضنيها اقتصادياً وثقافياً واجتماعياً، ليعمد على فرض لغته وثقافته ليصبح نسيجاً متداخلاً وأبدياً في حيوات تلكم الشعوب.

إعلان

فباحتلال بريطانيا لخمس العالم الذي بدأته في القرن السادس عشرة ودام لثلاثة قرون ، سخرت دول شرق المتوسط والهند ودول الكاريبي لصناعة السلع المتنوعة والاستحواذ عليها على جميع الأصعدة وفي مختلف المجالات، وقد قدر حجم الاستنزاف الاقتصادي فقط للهند وحدها على مدار 173 عامًا من الاستعمار بأكثر من تسعة تريليون جنيه استرليني بحسب ما ذكر الخبير الاقتصادي أوتسا باتنايك، واصفاً السياسية التي انتهجتها بريطانيا في ذلك الوقت بالكارثية والتي تسببت في حدوث مجاعات، كمجاعة أوريسا، حيث قضى مليون هندي نحبهم من شدة الجوع. لم تكن هذه المأساة الأولى أو الأخيرة التي لحقت بالهند من الاستعمار البريطاني كما سنتطرق بعد، لكن المبررات التي صاغتها الحكومة البريطانية وانعدام الشعور بفداحة أفعالها استند إلى حجر أساس تبنته جميع الأنظمة الاستبدادية عامة.

مجاعة أوريسا

لا ينتابني أدنى شك في أن الزنوج وكافة أنواع البشر الآخرين، هم بالفطرة طبيعياً في منزلة أدنى من مستوى الإنسان الأبيض.

-ديفيد هيوم 

كان ديفيد هيوم في طليعة الفلاسفة، جنباً إلى جنب مع كانط الذين دعموا معتقد”التفوق الأبيض” الذي ساد، بالغاً ذروة شعبويته  في فترة التوسّع الاستعماري الأوروبي إلى نصف الكرة الغربي وإفريقيا وآسيا، التي امتدت من أواخر القرن التاسع عشر إلى النصف الأول من القرن العشرين، وبحسب معجم ميريام ويبستر يشير مصطلح «التفوق الأبيض» إلى الأيديولوجية العنصرية الشاملة التي ترى أن العرق الأبيض متفوق في الأصل على باقي الأعراق، وينبغي أن يسود عليه. غالباً ما يستند هذا الاعتقاد إلى أفكار مبنية على العنصرية العلمية، أي الاعتقاد العلمي الزائف بأن الأجناس مهيأة وراثيًّا لصفات وسلوكيات مختلفة. وبالإضافة إلى اعتقاد الفرد بصحة فكرة التفوق الأبيض، فهذا المصطلح يمكن أن يحيل أيضًا إلى تسلسل هرمي عرقي أوسع (كالنظرية متعددة الأجناس للأعراق لصموئيل ج.مورتون الذي خلص فيها أيضا أن حجم جمجمة الإنسان هو معيار الحكم على ذكائه)، ونظام قمعي يكون فيه البيض المستفيدين الرئيسيين من مختلف السياسات الاقتصادية والاجتماعية وهو ما حدث منذ أمد التاريخ وما يزال سارياً إلى اليوم.

وقد قسَّم كانط الأجناس البشرية حسب اللون، وجعل أكثر الأجناس تطوراً وذكاءً ومساهمة في بناء الحضارات هي الأجناس البيضاء، تليها الأجناس الصفراء، ثم الأجناس السوداء، ثم تأتي الأجناس الحمراء – مثل الهنود الحمر وشعوب القارة الهندية – كأدنى الأجناس ذكاء وأقلها تطوراً.

كما تعد نظرية “العقد الاجتماعي“واحدة من أهم نظريات الفلسفة السياسية الحديثة، والتي طورها ثلاثة فلاسفة، البريطانيان “توماس هوبز” و “جون لوك” والفرنسي “جان جاك روسو“. وقد ارتأى “تشارلز ويد ميلز” أستاذ الفلسفة في جامعة نيويورك، والمختص بعلم الأعراق والأجناس عن الفيلسوفان أنه على الرغم من سمتها العالمية، إلا أن النظرية قد صيغت بشكل ومحتوى عنصري. لأن العقد الاجتماعي كان اتفاقاً بين الرجال البيض، وأن مضمون العقد يتمحور بصورة رئيسية حول كيفية تهميش وإقصاء الآخرين غير البيض، وكيفية استغلالهم، لأنهم غير مؤهلين للمشاركة في هذا التعاقد، وهي قمة العنصرية.

معركة الملايين ضد المئات

الاستعمار

جندت بريطانيا أثناء احتلالها الهند إجبارياً آلافاً من الهنود تحت لوائها، كانت حمأة الغضب الصامت في أعينهم لما عانوه تحت وطأة النظرة الدونية لهم، والعمل في ظروف قاسية والأجور الزهيدة والضرائب المتزايدة، وفي العاشر من مايو 1857 وقعت أول انتفاضة وأهمها للهنود، ودامت لأكثرمن عام، ورغم انهزامهم ومآل الحال إلى تراجيديا فإنها خلفت أثراَ لا يُنسى،  لكن البريطانيين رفضوا إطلاق مسمى “الثورة” على ما حدث ملقبينها “بالتمرد” كمدلول على الازدراء، مهما يكن، فقد التفّت أعين العالم إليهم باهتمام، وقد كانت الشرارة وقتما سرت شائعات مفادها أن الشركة الهندية الشرقية البريطانية التي كانت بمثابة سلطة ذات سيادة نيابة عن التاج البريطاني والتي أمدتهم بذخيرة بندقية إنفيلد؛ وهي ذخيرة أكثر فعالية من البنادق السابقة، وتُغَطى بلفائف ورقية مطلية بالشحم. ولتلقيم البندقية كان على الجنود أن يعضوا الخرطوش الذي كان مغطا بالشحم. وقد اشتقت تلك الشحوم إما من لحم البقر؛ وهو محرم على الهندوس أو من لحم الخنزير المحرم على المسلمين، لذا فقد انفجر أكثر من ثلثي الجنود الهنود الذي ناهز عددهم المئتا ألف محتدين لإدراك محاولات الحكومة البريطانية تنصيرهم وسلبهم حتى إيمانهم، وقد كانت البداية في شكل انتفاضة لجنود جيش الشركة في حامية بلدة ميروت، ثم مالبثت أن اندلعت في حاميات أخرى ومعها انتفاضات مدنية، وحمل الفلاحون المثقلون بالضرائب إلى جانب كثيرين لواء الثورة.

كانت تكلفة الثورة من حيث المعاناة والخسائر الإنسانية هائلة، فدُمرت دلهي. ولكن و بسبب نهب البريطانيين المنتصرين وحرقهم تلك المدن، أُبيدت قرى ريفية بسبب المقاومة، كما في أجزاء من أوده. وغالباً ما قُتل المتمردون وأنصارهم. وكذلك قُتِل الضباط البريطانيون آمري أفواج المتمردين، بالإضافة إلى المدنيين البريطانيين من نساء وأطفال. وكما ثار الهنود ضد البريطانيين فقد كان منهم من والاهم وقاتلوا في صفوف الإنجليز ضد إخوانهم حتى الرمق الأخير.

إعدام الجنود المسلمين الهنود بوضع رؤوسهم داخل فوهات المدافع البريطانية، لمشاركتهم في تمرد 1857، بريشة Vasily Vereshchagin في 1884..

ما حدث فعليا وما لم يحدث!

منذ الأبدية عرفت قدرة الإعلام على التضليل، لذا توجب دوما النظر إلى الصورة الكاملة، ففي انتفاضة 1857 وقع حادث تم تداوله على خلاف ما كان عليه، ولم تصلحه سوى شهادات وُثقت في صحيفة التايمز.

ما عاد هناك أمل في العالم

نظر سكين إلى زوجته الشابة الشاحبة

هل حان الوقت؟ نعم حان الوقت.

في ذروة أحداث الانتفاضة (ثورة استقلال الهند الأولى)، نشرت صحيفة “جريدة لندن المصورة” صورة يظهر فيها الكابتن سكين وهو ضابط في الجيش الريطاني، أقرب لبطل أسطوري، وعلى يديه سقطت امرأته صريعة بعد أن أرداها قتيلة  ليحميها من مصير ينتظرها على أيدي وحشية الجنود الهنود الذين تكاتفوا عليهم، وقد لحق بزوجته تباعاً لينتحر وقد عضدت من تلك الرواية صورة ملفقة نشرتها جريدة “بول هيستوري” لهما بذات الوصف، وبجانبهما سكن طفل رضيع ناله الموت (الصورة ملفقة لأنه لم يكن هناك أي رضيع والمقصد كان إهاجة الناس).

أحدثت تلك الصور موجة تعاطف عالية، تأثر بها العديد من الكتاب والشعراء، أبرزهم كريستينا روسيتي؛ وهي شاعرة رومانسية  كتبت قصيدة سيريالية متخيلة لساحة المعركة، تصور فيها سكين وزوجته كنبيلين عالقين في عالم لا ينتميان إليه، يتبادلان النظرات ويدركان حجم المذلة التي ستلحق بهما إن أدركهما الهنود، تسأله إن كان الأمر سيؤلمهما فيجيب نافياً، يتعانقان ويتمنى لو أمكن أن يجنبها الألم ويتحمله وحده، يستجديان الشجاعة لعمل ما أزعم عليه ويلتمس الغفران من الرب، يقبلها قبلات وداع سريعة حارة ليودعا بعدها الحياة.

ما حدث فعلياً

وثقت صحيفة “التايمز” شهادات من داخل معترك الأحداث، إحداهما جاءت في الثاني من سبتمبر والأخرى في الحادي عشرة من سبتمبر لعام 1857، ويحكي المصدر الأول عن الإضرابات في مدينة جانسي ورؤيته لكابتن سكين وزوجته يقبضان بزمام بندقيتهما مطلقين النار في كل صوب وقد قتلا وحدهما 37 هندياً وجرحا كثيرين، ليستأنف المصدر الثاني الأحداث مدلياً بدلوه عن مدى العنف والدموية التي شهدتها المدينة، بعد تواتر الأحداث وتصاعد الاضطرابات، فر الكابتن سكين وزوجته وأمر جميع المسيحيين ممن كانوا معه بالركون إلى القلعة. فقبعوا هناك تحت الحصار زمناً، يترقبون أعداءهم الذين بدأوا الهجوم في السادس من سبتمبر، وقيل في الثامن، وانتهت الأقاويل عند اليوم الحادي عشر، كان زعيم الهنود يدعى بورغيس، الذي عمد إلى قتل كل من أزمع على الفرار، بدءاً ممن حاولوا فتح بوابة القلعة أو مدوا حبالاً من النوافذ وتعلقوا بها أوممن تنكروا في ثياب أعدائهم، ولم يبقى سوى الكابتن سكين مع آخرين الذي أخذ يرسل استنجادات إلى المدن كمحاولات يائسة، حتى عرض المتمردون أن يبقوا على حياتهم إذا استسلموا وشرعوا أبواب القلعة. وافق سكين في النهاية لظنه أنه قد ضمن سلامتهم ، لكن الثوار كانوا ينتظرونهم بالسيوف، قيد الرجال واقتيد الجميع إلى حتفهم وقد قتلوا جميعهم بالسيف بلا تمييز.

لا يمكن الحفاظ على حكم استبدادي إلا من خلال الرعب والخوف.

أجهضت الثورة في الثامن من يوليو عام 1858 لتحكم الحكومة البريطانية الخناق على الهنود، وتقرر الملكة فيكتوريا أن تدار الهند مباشرة من الحكومة البريطانية، وقد قسمت المناطق في المدن الهندية وتوسعت نفوذ الأحكام العرفية، مما منح البريطانيين سلطة الحكم على حياة الهنود وأخذ حيواتهم دون اللجوء إلى الإجراءات القانونية الواجبة؛ فانحلت جميع القيود المفروضة على استخدام السلطة، ولم يبقى سوى الخوف من ضمور السلطة، فاستشرى العنف، وأصدرت المراسيم، وتقرر إعدام كل من شارك في الثورة  أو أيدها، ودمرت الأحياء وأبيد السكان، وتم شنق جميع القادة المتمردين، خاصة في فوتيهبو، وروى ويليام راسل؛ وهو مراسل صحيفة لندن تايمز، الذي كان في الهند في عام 1858 برفقة ضابط ذكر أنه “خلال يومين ، تم شنق اثنين وأربعين رجلاً على جانب الطريق ، وتم إعدام مجموعة مكونة من اثني عشر رجلاً بالخطأ للاشتباه أنهم كانوا من الثوار، وثلة من الأطفال الذين اعتزوا بكونهم ثوريين لم يسلموا،كل هندي ظهر في الأفق أصيب بالرصاص أو علق على الأشجار التي تصطف على الطريق. وأحرقت الأراضي الزراعية بغرض رؤية الانكسار في أعين الفلاحين، لما تمثله لهم أراضيهم، ففجعوا بالمجاعات ومن ثم أحرق كل من في القرى من أبرياء، ولم يتردد الإنجليز في التفاخر بأنهم” لم يستثنوا أو يرحموا أحد”وأن” قتل الزنوج “كان هواية ممتعة!!

في النهاية، اعتقد البريطانيون أنهم كانوا الضحايا وأقاموا نصباً تاريخياً متخذين ملاكاً علماً، قوبل بالغضب ليتم ردمه وبناء كنيسة، وقد كتبت سلسلة من الأوراق البحثية أحدها دعمت من هوفر؛ (وهو مركز أبحاث أمريكي في السياسة العامة مركزه جامعة ستانفورد) شارك في تأليفها أعضاء فرقة العمل المعنية بحقوق الملكية في هوفر، وهما دارون أسيم أوغلو وجيمس روبنسون ، كتبا فيها أن هناك مزايا من الاستعمار مثل القانون العام، وأمن حقوق الملكية وإنفاذ العقود، والممارسات المصرفية والتجارية أساسًا إيجابيًا للنمو الاقتصادي في المستعمرات آنذاك بتحليل إقتصادي مطول.

أمريكا والسكان الأصليين الذين خاضوا درباً من الدموع

باسم قانون الغزو، والحضارة المدنية، للبيض الحق بأن يكونوا سادة القارة الأمريكية، ولن يتحقق الأمان التام للمستعمرات إلا بإبادة الأقلية الهندية المتبقية.

-الكاتب فرانك بوم في مؤلفه عن سكان أمريكا الأصليين.

في يوم بارد من شهر مايو من عام 1758 ، كانت فتاة بشعر أحمر ونمش تبلغ من العمر عشرة أعوام فقط ترعى أطفال جيرانهم  في الريف الغربي من ولاية بنسلفانيا. في لحظات قليلة ، تغيرت حياة ماري كامبل إلى الأبد عندما اختطفها الهنود الحمر وضموها إلى مجتمعهم، وخلال السنوات الست المقبلة. عدت واحدة من حوالي مئتي حالة معروفة من الأسرى البيض ، أصبح الكثير منهم بيادقًا في صراع مستمر على السلطة، شمل القوى الأوروبية والمستعمرين الأمريكيين والشعوب الأصلية الذين يجهدون للحفاظ على سكانهم وأرضهم وأسلوب حياتهم.

عادت ماري في نهاية المطاف إلى أسرتها البيضاء – وتشير بعض الأدلة إلى أنها عاشت بسعادة مع قبيلتها الهندية التي تبنتها – لكن روايتها لم تؤخذ بذلك المأخذ قط، فقصتها قد أضحت أمثولة تحذيرية يتداولها المستوطنون البيض، مما أذكى الخوف من الهنود “المتوحشين” وخلق جنون العظمة في الكراهية الهندية بشكل شامل.

كانت بشرتهم داكنة. ولغاتهم أجنبية. كما أن نظرتهم للعالم والمعتقدات الروحية كانت تتجاوز قدرة البيض على الفهم.

الاستعمار والقتل باسم “الحضارة”

كانت البداية في عام 1848، حينما لاحظ جيمس مارشال صخرة متلألئة في التراب أثناء بناء مطحنة جديدة لمالك الأراضي المحلي جون سوتر، لم يكن ذلك الوهج سوى ذهب؛ والذي تبع اكتشافه صيحة جيمس التي كانت إيذاناً بعصر جديد في كاليفورنيا – عصر هرع فيه ملايين المستوطنين إلى هذه الحدود في سباق محموم للثروة.

بحلول عام كان المستوطنون البيضقد دلفوا إلى كاليفورنيا وبسطوا نفوذهم وأمدوه مستمدين قوتهم من الذهب الذي نهبوه، كان ذلك إيذاناً بكارثة ستحل على السكان الأصليين المسالمين في الولاية.

لم تنقضي من السنون سوى عشرين، إلا وكان قد هلك 80 في المائة من الأمريكيين الأصليين في كاليفورنيا. ورغم أن البعض ماتوا من الحزن على أراضيهم المنتهكة بعد أن أفنوا حيواتهم فيها، أو من المرض، إلا أن ما بين 9000 و 16000 قُتلوا بدم بارد إذ كانوا ضحايا سياسة الإبادة الجماعية التي رعتها ولاية كاليفورنيا بتحريض من مواطنيها الجدد وعلى رأسهم جيمس مارشال، الذي مهد الطريق ولم يكن يرى في الأمريكيين الأصليين سوى التوحش وعدم استحقاقية أراضيهم، فاستعبد مئات منهم بالكامل، وقد وصفت إدوين براينت، وهي رئيسة تحرير صحيفة من كنتاكي استضافتها له، كيف تم تغذية العمال من فضلات وبقايا نخالة القمح من أحواض خشبية، وتناولهم وجبات الطعام من دون أدوات أو أوعية، وفي الوقت نفسه كان العبيد ينامون في غرف مغلقة بدون أسرة أو أثاث، وقد تعرضوا للجلد والقتل في بعض الأحيان عندما رفضوا الامتثال لرغباته.

وكتبت صحيفة ” ديلي ألتا كاليفورنيا” في عام 1849، “إن البيض راق لهم الاعتقاد بأنه سيكون من الضروري للغاية القضاء على الهمجيين قبل أن يتمكنوا من العمل لفترة أطول في المناجم وهم آمنين” ، مما يعكس كبرياء وصلف جُبلوا عليه.

وعليه؛فقد ساعدتهم الحكومة التي اعتبرت ما يسمى “المشكلة الهندية” أحد أكبر التهديدات لسيادتها، فكان الأساس القانوني لاستعباد سكان كاليفورنيا الأصليين قد تم تكريسه فعليًا ليصبح قانونًا في الجلسة الأولى للمجلس التشريعي للولاية ، حيث منح المسؤولون للمستوطنين البيض الحق في رعاية الأطفال الأمريكيين الأصليين، كما أعطى القانون الأشخاص البيض الحق في القبض على السكان الأصليين لارتكابهم جرائم بسيطة مثل التسكع أو حيازة الكحول، وجعل من الممكن للبيض أن يضع الأمريكيين الأصليين المدانون بجرائم في العمل لسداد الغرامات التي تكبدوها. تعرض القانون للإساءة على نطاق واسع وأدى في النهاية إلى استعباد عشرات الآلاف من الأمريكيين الأصليين باسم “حمايتهم وفصل الأطفال عن عائلاتهم ، وتجريد الناس من ثقافاتهم ولغاتهم ، وإنشاء نظام من العبودية، مبررين ذلك بأن السكان الأصليين خطرين”.

أفضت سلسلة من المذابح التي لعبت فيها ميليشيات الدولة بمداهمتها البؤر الاستيطانية القبلية وإردائها للسكان الأصليين، وإظهار أن الدولة لن تعاقب القتلة، ولكن بدلاً من ذلك ستكافئهم، إلى استشراء العنف، وقتل الآلاف.

على سبيل المثال فإن مجازر كثيرة قضت على سكان قبائل بأكملها. ففي عام 1850 تم ذبح حوالي 400 شخص من قبيلة بومو، من بينهم نساء وأطفال، من قبل سلاح الفرسان الأمريكي والمتطوعين المحليين في شمال سان فرانسيسكو. أحد الناجين القلائل  كانت فتاة في السادسة من عمرها تدعى نيكا ، بقيت على قيد الحياة عن طريق الاختباء في البحيرة والتنفس عبر قصبة.

في النهاية أجبر الآلاف على النزوح عند نهر المسيسبي، خائضين درباً تملؤه المشاقّ والآلام، تساقط فيه الآلاف على طول الطريق الذي أصبح يُعرف باسم “درب الدموع”

الجزائر وفرنسا

في متحف الإنسان بباريس جماجم تعود إلى مناضلين بارزين  قدموا حياتهم  في سبيل المقاومةالشعبية الجزائرية، من بينهم “الشريف بوبغلة “، كان ذلك في سياق ارتكاب الجنرالات الفرنسيين أعمال عنف دموية لقمع الجزائريين. حيث اقتيد آلاف من المدنييين إلى كهوف ثم أضرمت فيهم النيران ليموت أكثرهم من الدخان الخانق، وبعد إعدام قادة المقاومة الجزائرية عام 1880، جمع الجنود الفرنسيون جماجمهم المقطوعة وأرسلوها إلى منازلهم كتذكار نصر أو عينات للدراسة العلمية، كان ذلك سطراً مما مارسه الاستعمار الفرنسي  ضد الجزائريين من أبشع أنواع التنكيل والتعذيب، وعمليات طمس للهوية والنهب والقتل، خلال 132 عاما من الاستعمار.

وقد اعترف الجنرال ماسو، أحد كبار جنرالات الحرب في فرنسا سابقاً، بأن التعذيب في الجزائر “كان أمرا مُشاعاً، وكان يُمارس على نطاق واسع“، هذا الأمر أكّده الجنرال بول أوساريس من خلال اعترافاته في كتاب “أجهزة خاصة”، وهو الذي أشرف على تعذيب وقتل القائد الثوري الكبير العربي بن مهيدي.

ويروي ضابط مراسل يدعى تارنو: هذه البلاد رائعة، لقد أحرقنا كل شيء، ودمرنا كل شيء، كم من نساء وأطفال لاذوا إلى الثلوج فماتوا من البرد والجوع (17 أفريل 1842)، إننا ندمر، ونحرق، وننهب، ونخرب البيوت، ونحرق الشجر المثمر (5 يونيو 1841)، أنا على رأس جيشي أحرق الدواوير والأكواخ ونفرغ المطامير من الحبوب، ونرسل لمراكزنا في مليانة القمح والشعير (5 أكتوبر 1842).

و يقول الضابط مونتانياك: النساء والأطفال اللاجئون إلى أعشاب كثيفة يسلمون أنفسهم لنا، نقتل، نذبح، صراخ الضحايا والقابضين لأنفاسهم الأخيرة يختلط بأصوات الحيوانات التي ترغي وتخور، كل هذا آت من سائر الاتجاهات، إنه الجحيم بعينه وسط أكداس من الثلج (31 مارس 1842). إن كل ذلك في هذه العمليات التي قمنا بها خلال أربعة أشهر تثير الشفقة حتى في الصخور إذا كان عندنا وقت للشفقة، وكنا نتعامل معها بلا مبالاة جافة تثير الرجفة في الأبدان. (معسكر 31 مارس )1842.

كانت جرائم فرنسا في الجزائر فقط ومذابحها لا تحصى أمام تصدي الجزائريين ومقاومتهم، من بين هذه المجازر؛ كانتجمبري بيجار وقعت خلال “معركة الجزائر سنة 1957، حيث اختفى أكثر من 8000 رجل من سكان العاصمة، بعدما اختُطفوا من منازلهم وتعرّضوا لتعذيب رهيب وقتل بطرق بشعة، أبرزها طريقة “جمبري بيجار”.وتتمثّل هذه الطريقة في “غرس الرجال مِن أقدامهم داخل قوالب إسمنتية من أرجلهم وتركهم على هذه الحال حتى يجف الإسمنت، وبعدها يُحملون في طائرات عسكرية ويُرمون في عرض البحر، حيث يموتون غرقاً، وفيما بعد أعلن بحارة جزائريون العثور على هذه القوالب الإسمنتية وبداخلها آثار أقدام.

فماذا كانت مسوغات فرنسا للاحتلال؟

هناك عدة نظريات تعكس أيدولوجية الفرنسيين آنذاك:

في عام 1827م وقتما كانت الجزائر تحت الاحتلال العثماني، التقى القنصل الفرنسي بالداي العثماني في الجزائر، ودار حديث بينهما عن ضرورة تسديد فرنسا لثمن شحنة القمح المرسلة لهم منذ ثلاثين عاماً مضى ولم يتم تسديدها حتى الآن، وهدده بسحب بعض التنازلات الفرنسية من الجزائر، فانفعل القنصل الفرنسي على الداي فإذا بالداي يفاجئه بصفعه على وجهه بواسطة مروحية الذباب التي في يده، فاعتبر الملك الفرنسي تشارلز العاشر هذا التصرف بمثابة إهانة كبيرة لفرنسا، تعهد على خلافها بتطهير الشرف الفرنسي بعد أن رفض الداي تقديم اعتذارات رسمية، فأمر بحصار بحري للساحل الجزائري، وعندما لم يجدِ ذلك نفعًا، تم إعداد حملة عسكرية، وبعد صراع تمكنت فرنسا من إحكام قبضتها على الجزائر.

حينما هاجم الصليب الهلال

لاحظ مؤرخو الاستعمار أن الاستيلاء على الجزائر لم يكن مدعومًا بالإجماع من قبل الطبقة السياسية في فرنسا؛ لتقديم ذريعة، تم إطلاق حملة للتأثير على الرأي العام وإظهار ضرورة العمل العسكري، لكن سرعان ما بدأت فرنسا في فقد الكثير من مصداقيتها، ليتغذى الخطاب الاستعماري على الصور الدينية الموروثة من الحروب الصليبية. في هذه الرؤية ، كان يُنظر إلى الإسلام على أنه مناف للعقل والإنسانية، وخطر دائم على المسيحية وأوروبا بالترويج لصورة غير دقيقة عن الثورات الجزائرية وما شهدته من حرق وقتل الرجال وخطف النساء، (من جانب الجزائريين) من أجل التأكيد على أن غزو الجزائر كان عاملاً في أمن أوروبا والمسيحية، فاتُّهم الجزائويون بالتعصب الديني، وشُنت حرب مقدسة بدعوة من رجال الدين لتحريم أي حق في التمرد أو المقاومة. معارضتها من قبل أي مواطن ترجع إلى علة تعصبه ومعارضته للإنسانية والعقلانية الأوروبية.

هكذا تمعن الخطاب الاستعماري بحاجته إلى تبرير القمع والعنف في الحطّ من قيمة المسلمين والعرب، الذين قُدموا كمخادعين وسارقين وكسالى وقتلة. احترامهم مولى للقوة فقط، وخشية الرب مدعاتها فقط رؤيته كقوة مهيمنة وخارقة تختزل دورها في العقاب.

مثلت تلك الأفكار عن المسيحية الحضارية كنقيض للإسلام هاجسًا دعمته أفكار من قبيل أن المسلمين البدو الرحل لم يهتموا بالسلع والعقارات المستقرة. كانوا يعيشون كالحيوانات المفترسة، طريقة حياتهم البدوية لم تعطهم أي دافع للاستثمار في العمل ، بعكس المسيحيين الذين انشأوا القرى المتركزة حول الكنيسة، استثمروا الأراضي وأنشأوا شبكات للري، يبقى الفرق بين طريقتي الحياة ، في الخطاب الاستعماري محوره هوالدين.

هكذا أخذ فلاسفة التنوير وعلى رأسهم فولتير ترسيخ تلك الأفكار، المدعمة بصور أسطورة المهمة الحضارية الفرنسية للجزائر ما قبل الاستعمار كبلد لا يسكنها سوى الكثير من المتوحشين من البرابرة المتعصبين، وما أخذته فرنسا على عاتقها من تمدينهم إحدى أقوى النظريات وآخراها لفرنسا كانت التنوع العرقي للشعب الجزائري، كان الغرض منها إظهار أنه لم يكن هناك مجتمع متجانس، أو مجال للوحدة، وقد نجحت هذه الفكره التي اعتبرت الانقسامات الاجتماعية بين العناصر الحضرية والريفية وبين الشعوب المهددة والبدو انقسامات عرقية هيكلية موروثة من الماضي البعيد.

وعليه، تتقاطع كل تلك الحكايات مع مآس مازالت تمارس إلى اليوم في كل صوب لأن الإنسان دوماً سيظل ضحية معتقداته، ولأنه بحسب فوكو فإن الفكر الغربي يختزل الشعوب الأخرى ضمن تحديدات وفئات وأحكام محددة، تقوم على التفسير العرقي والجنسي والثقافي، ولا سبيل أمام الشعوب الأخرى إلا أن تقاوم.

قد يُعجبك: قصة تحول العالم من الاستعمار المباشر إلى الاستعمار غير المباشر

المصادر:
https://halshs.archives-ouvertes.fr/file/index/docid/397835/filename/index.html
لَيْ الأعناق في صراع الأعراق.. عنصرية الفلسفة بقلم: حسن عاصي
https://genius.com/Christina-rossetti-in-the-round-tower-at-jhansi-june-8-1857-annotated
الاستعمار الإنجليزي للهند
https://www.history.com/news/native-americans-genocide-united-stateshttps://www.theguardian.com/us-news/2019/jun/20/california-native-americans-governor-apology-reparationshttps://www.huffpost.com/entry/america-hates-native-americans_b_57d3501fe4b0eb9a57b7a8d8https://www.history.com/news/the-enslaved-native-americans-who-made-the-gold-rush-possiblehttps://www.history.com/topics/native-american-history/trail-of-tears
https://www.theguardian.com/world/2013/jan/27/algeria-france
https://www.history.com/topics/native-american-history/trail-of-tears-colonial-past-islam
https://pages.vassar.edu/realarchaeology/2017/03/05/phrenology-and-scientific-racism-in-the-19th-century/
https://www.maghrebvoices.com/a/Algeria-France-revolution/461468.html
https://www.independent.co.uk/news/uk/home-news/worst-atrocities-british-empire-amritsar-boer-war-concentration-camp-mau-mau-a6821756.html

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: سلمى نبيل

تدقيق لغوي: مصعب محيسن

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا