الأديان في الفكر العلمي من أنكساغوراس إلى مرسيا إلياد 3

علم اجتماع الأديان

تأسس علم الاجتماع في القرن التاسع عشر ميلاديًا كغيره من العلوم، على يد الفرنسي “أوغست كونت“، ومنذ البداية تمايز علم اجتماع الدين عن علم الاجتماع العام، وكان لمؤسسه نفسه في هذا الحقل إسهام شهير، ففي تأمله لتاريخ المعرفة الإنسانية قسّم كونت التاريخ إلى ثلاث مراحل، الأولى: هي “المرحلة الدينية/ الأسطورية”، تليها “المرحلة الفلسفية/ اللاهوتية”، ثم آخر مرحلة وهي “الوضعية/ العلمية”، حيث اعتقد كونت أن عهد الدين قد ولّى مع دخول البشرية في زمان الوضعية l’aire de positivisme، غير أنه وبفضل شعوره بأن المسيحية في طريقها إلى الزوال، دعا إلى تأسيس دين جديد وموحد للبشرية، يتأسس على “الحب كمبدأ – النظام قاعدة والتقدم هدف”، أما منهج دراسته فكان يتمثل في البحث عن التأثير الذي يفرضه المجتمع على الدين وكيف يعطي هذا الأخير أيضًا للمجتمع هويته ونظامه، حيث في نظره “كل قواعد تنظيم الحياة البشرية داخل المجتمع من اللازم تواجدها في محتوى الظواهر الدينية، فدراسة الديني متعذرة إذا انفصلت عن الاجتماعي، كون الواحد متواجدًا في حضن الآخر” (59).

سوف يتمدد هذا المنهج مع المؤسس المنهجي لعلم الاجتماع وهو “إميل دوركايهم” الذي أثّر ولا زال يؤثر على كل العلوم الإنسانية التي تدرس الأديان، ففي سنة 1912 م أصدر كتابه “الأشكال الأولية للحياة الدينية” بعد بحث إثنوغرافي قام به في قبيلة الأورنتا بأوستراليا، وينهض الكتاب على الأطروحة التي مفادها أن الظاهرة الدينية ظاهرة تاريخية كغيرها من الظواهر الاجتماعية، ما يعني بأن الدين صنع بشري خالص، يقوم على “نظام تصنيف” يفرق فيه المقدس عن المدنس، وذلك ما ينظم الحياة الاجتماعية (60)، حيث يُرمَّزُ المقدس في شارات طبيعية كالحيونات أو النباتات وهو ما يطلق عليه “الطوطم”.

كما وضح دوركايم أن لا مقدس في ذاته وإنما البشر هم الذين يضفون القداسة على الأشياء الطبيعية، هكذا فالتحليل الذي قام به أظهر “وجود علاقة دينية بين الفرد وعشيرته أو وسطه الاجتماعي، فتلك العلاقة ذات الطابع القداسي بيّنت لدوركايم أنها أصل كل دين، حيث أن الطوطم هو الوجه الآخر للمقدس فهو الانعكاس الرمزي على المستوى الديني للجماعة البشرية، وبالتالي فإن الوقائع الاجتماعية تفسر الوقائع الدينية” (61)، وبه يتبين أن المجتمع هو أصل الدين عند دوركايهم، يخلقه من أجل غاية تنظيمية، ما يعني أن أم الإله ليست سوى المجتمع.

يعد في هذا السياق “ماكس فيبر” كأعظم عالم اجتماع أديان، حيث دبج في هذا الحقل أكثر من كتاب منهجي ودراسة تنظيرية، حيث يعتبر كتابه “الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية” الصادر سنة 1905 م واحدًا من أهم كتب علم الأديان على الإطلاق، فعكس ما كان يعتقد ماركس بأن البنية الفوقية التي ينتمي لها الدين دائمًا موجهة من طرف البنية التحتية (الاقتصاد)، أكد فيبر العكس حيث اعتبر الرأسمالية -و هي أظهر وجوه الاقتصاد الحديث- ناتجة (بالإضافة إلى عوامل أخرى) عن تطور الأخلاق الزهدية البروتستانتية في أوربا، حيث تتبع هذا الألماني تاريخيًا كبريات العائلات البرجوازية فوجد أن معظمهم ينتمون إلى المذهب البروتستانتي.

ولتعميق البحث درس جماعة الكالفينيين الذين ينتمون لنفس المذهب، فوجد بأن البروتستانتية تعتبر أن نجاح العبد في الدنيا علامة على رضى الله وعلى نجاحه في الآخرة، وبالتالي يسعى البروتستانتي إلى عيش حياة مكرسة للعمل خصوصًا لنيل الجنة، وهو ما يتسبب في عائدات مادية باستمرار؛ ذلك ما يساعد على تراكم رأس المال، حيث إن “هذه الطهرية الكالفينية هي ما يولد عقلية الربح والفائدة الذين يعتبران أهم سمات الرأسمالية” (62)، وبالتالي تظهر هنا سمة أخرى للدين كشفتها الماركسية والوضعية، وهي اعتبارها الدين عاملًا يشد المجتمع إلى الخلف متسببًا في جموده، غير أن فيبر وضح بأن الدين في طليعة عوامل التغير الاجتماعي.

إعلان

علم نفس الأديان

أيضًا علم النفس خرج من جبة الفلسفة نهائيًا في النصف الثاني للقرن 19 م، ولعل أبرز أعلامه النمساوي “سيغموند فرويد“، الذي له مساهمة رهيبة في علم نفس الأديان، فبالاعتماد على نظريات الفرنسي “شاركو” حول الهستيرية، سوف يستنتج فرويد الأصل النفسي لمختلف أنواع العصاب، ومنه سيلاحظ بأن الظاهرة الدينية مشابهة للأعراض العصابية الفردية، فالظاهرة الدينية مماثلة للمسار العُصابي التالي: انجراح منسي أثناء فترة كمون يعاود الظهور تحت شكل عقدة أب مهيب، إذ عنده الدين حالة نفسية تغمر الإنسان، مرة تطفح وأخرى تفتر، أي خاضعة لقوانين الشخصية النفسية، ولاحت فرضية لفرويد من أحد مقترحات “تشارلز داروين“، مفادها أن في عشيرة بدائية حيث كان الأب يحتكر النساء، فأنشأ بذلك تدمرًا عند أبنائه باحتكاره للجنس، وبسبب التحجير على ممارسة الجنس، سوف يقوم الأبناء بقتل أبيهم لتفريغ غرائزهم الجنسية من الكبت الذي فرضه عليهم الأب، و بحسبه فالأبناء لم يقتلوا آباءهم فحسب بل التهموه أملًا في التماثل معه، ثم جسدوا صورة الأب في شكل طوطم.

يماثل فرويد بين الأب المقتول والإله المعبود، حيث كتب سنة 1910 م بعد وفاة ليوناردو دافنتشي، يقول:

“سمح لنا التحليل النفسي بإدراك العلاقات المتينة الموجودة بين عقدة أوديب والإيمان بالله، فقد علمنا أن الإله الشخصي من وجهة نظر نفسية ليس سوى صورة لأب مهيب، يتبين لنا كل يوم كيف يفقد الكثير من الشبان إيمانهم بمجرد انحدار السلطة الأبوية، إننا نكتشف في عقدة أوديب أصل كل حاجة دينية” (63)، و بذلك فإن عبادة الأب في العقيدة الدينية تبدو متماثلة مع عبادة إله شخصي، إذ عند فرويد “الإيمان ضعيف وخائف؛ لأنه تعرض إلى ضغط جبري متأتٍّ من الطفولة العقلية”.

بذلك يعقد فرويد مماثلة أخرى بين الدين والطفولة، حيث يرى أن الدين ينبع من عجز الإنسان في مواجهة قوى الطبيعة في الخارج، حيث ينشأ الدين في مرحلة مبكرة من التطور الإنساني عندما لم يكن الإنسان يستطيع أن يستخدم عقله بعد في التصدي لهذه القوى الخارجية والداخلية، ولا يجد مفرًا من كبتها، أو التحايل عليها مستعينًا بقوى عاطفية أخرى، وهكذا بدلًا من التعامل مع هذه القوى عن طريق العقل، يتعامل معها بـ”عواطف مضادة”، بقوى وجدانية أخرى، وظيفتها هي الكبت، أو التحكم فيما يعجز عن التعامل معه عقليًا. وفي هذه العملية ينمّي الإنسان ما يطلق عليه فرويد اسم “الوهم”، الذي تؤخذ مادته من التجربة الفردية في مرحلة الطفولة، حيث كلما تعرض الطفل إلى خطر عاد إلى أبيه، الذي يعتقد بأنه أوتي قوة خارقة (فهو على كل شيء قدير) وحكمة ثاقبة، وبالتالي كي يضمن الطفل حب ورعاية أبيه فإنه يواظب على رفع كل عناوين الاحترام والتبجيل له (64).

يلاحظ فرويد بأن الدين ليس إلا تكرارًا لهذه التجربة الطفولية البدائية، حيث يتعامل الإنسان مع القوى المهددة له بنفس الطريقة التي تعلمها منذ أن كان طفلًا كي يدرأ شعوره بعدم الاطمئنان، من خلال الاعتماد على أب قوي يعجب به ويخافه، بذلك يقارن فرويد بين الدين وعصاب الإحصار Obsessional Neuroses الذي يصيب الأطفال، بل يوسع دائرة المقارنة إلى أن يستنتج بأن الدين عصاب جماعي Collective Neurosis تسببه ظروف مماثلة للظروف التي تحدث عصاب الطفولة (65). من هذا كله فإن الدين عند فرويد ليس أكثر من وهم، إذ إن كل اعتقاد حسبه مجرد تخريف ما دام مدفوعًا بتحقيق اللذة أو درء الخطر.

وفي كتابه المهم “موسى والتوحيد” عمّق هذا التحليل الذي تتموقع فيه رمزية الأب في المركز، حيث أكد بأن: “يهوه لا يزيد عن كونه تصعيدًا لإحساس عام بالذنب البدائي الناشئ عن قتل الأب الذي هو منبع تمجيد فكرة الرب”، يوغل فرويد أكثر في الجذرية حينما يعلن بأن هذه العلاقة وهذا الوعي الوهمي يؤدي بـ”النوع الإنساني لأن يتعرض لتطورات ذات محتوى عدائي جنسي تخلف آثارًا دامية، وتكون مبعدة ومنسية في مجالها، آجلًا وبعد فترة طويلة من الكمون، تصبح نشيطة ومنتجة لظواهر مشابهة في بنيتها واتجاهاتها للأعراض العُصابية، ونتاج تلك السياقات هي الظاهرة الدينية، التي لا يمكن اعتبارها من وجهة نظر تحليل نفسية إلا على أنها عُصاب وسواسي كوني للإنسانية” (66)، وبذلك فإن الإيمان ليس أكثر من أعراض النفس المريضة التي تمس حتى الاعتقاد في الله وحبه، الذي حسب فرويد خاضع لرغبة جنسية مكبوتة أو إلى “علاقة اعتماد” على كائن متخيل يجنّب الإنسان الخطر (67)، إلى جانب هذه الأخيرة فإن التحليل النفسي وضح بأن الطابع الخيالي العميق لهو أهم خصيصة تجعل من التجربة الدينية أمرًا ممكنَ الوجود من وجهة نظر سيكولوجيا الإنسان المؤمن، وبه تكتمل أركان مساهمة فرويد في علم الأديان، فكما يؤكد ميسلال: “بأنه من اللازم الاعتراف بأن مزية فرويد مهمة، فهو الأول الذي وعى أن كل علاقة للإنسان مع الإلهي تمر حتمًا عبر وساطة الأب” (68).

ستطبع أعمال السويسري “كارل يونغ” أيضًا هذا المبحث، فرغم صداقته لفرويد منذ أولى سنوات نشاطه العلمي إلا أنه سوف يضع مسافة بينه وبين التحليل النفسي الفرويدي، كي يؤسس لخصوصية فكره السيكولوجي، بحيث سيخفف من راديكالية التحليل النفسي تجاه الدين، ويوسع دائرة فهمه ويعمق منهج تحليله، فهو الآخر اهتم بالرموز التي تُمَثَّلُ فيها المقدسات كما يفعل الفينومينولوجيون، كما أنه وسع من دائرة اللاوعي في التحليل النفسي، وأكد أنه لا يوجد فقط “لاوعي فردي” بل يوجد أيضًا “لاوعي جماعي” وهو الذي له سلطة تأثير أكبر على الأول منه لسلطة هذا الأخير على الثاني، إذ إن اللاوعي الجماعي عنده هو “الذي تتجلى بفضله وحدة النوع الإنساني، وهو المسكون بنماذج أصلية خفية لا تزيد على كونها تجليات للمحتويات النفسية والرسومات الرمزية، حيث ينعكس الواقع، والتي يسايرها غريزيًا كل كائن بشري بكل كيانه” (69).

فما دام الدين يتجلى في الرمزي، وما دام اللاوعي مخزنًا للرمزي، لاحظ يونغ وجود علاقة بين اللاوعي والدين حيث إن هذا الأخير: “موقف للشعور الذي تحوَّر بتجربة النومينو (خارق للطبيعة)، ولكن ذلك التغير تم عبر رموز متأتية لاشعوريًا ومحملة بشحنة عاطفية شخصية، بذلك فإن تحليل الأحلام أمر ضروري لأنه يرفع الستار عن ظواهر داخلية للنفسية بقيت مجهولة، ومن هنا سوف يهتم يونغ بتفسير الأحلام أكثر من مؤسس التحليل النفسي، فالحلم عند فرويد ليس سوى واجهة بسيطة يتخفى وراءها المقموع والمكبوت، أما مع يونغ فالحلم هو ظاهرة عادية ومألوفة، يجذر التعامل معها كحادثة طبيعية تعكس واقعيًا ما هو موجود، ومتى كان الدين موضوعًا للحلم فإنه جزء من حالة طبيعية مألوفة توجد في صميم الإنسان، هكذا فإن حسب يونغ الحياة الروحية تتجلى عبر رموز متأتيةً من اللاوعي ومُرَاءةً في الأحلام أحيانًا، ذلك ما يثبت بأن الوظيفة الدينية توجد في حضن ذلك اللاوعي (70).

بناءً على ذلك فإن الدين حسب يونغ يشير إلى شيء يتملكنا من الخارج دون إرادتنا، وهو هنا كما يشرح فروم مثل “الجنون”، فبما أن هذا الأخير والأحلام والاضطرابات النفسية يتأتيان من تأثير اللاشعور، وبما أن يونغ حصر مصدر الدين في اللاشعور واللاوعي، فهذا يعني أنه قارب الدين كجزء صميم من الإنسان لا يمثل حالة طبيعية وإنما عرضًا لاختلال ما في حياة الإنسان النفسية (71).

من جهة أخرى تتجلى براعة هذا السويسري في تأويلاته السيكولوجية للكتب المقدسة خصوصًا البايبل بعهديه القديم والجديد، فقد أسهب يونغ في تحليل سفر أيوب، إلى أن تبين له بأن الإنسان يجعل من وجود الإله ضرورة للتكفير عن شيء ما، ففي حالة أيوب كان وجود الله ضروري للتكفير عن الأخطاء في حق أيوب بسماحته، ذلك التكفير سيحمله ابن الإنسان على عاتقه، فعلى إثر خلافه مع أيوب قرر يهوه أن يتحول إلى بشر، فكانت حياة المسيح وموته تحققًا لذلك (72)، وبالتالي -حسبه- أيوب نموذج أصلي، قياسًا على أنه يبرز أن “أي إنسان ليس راشدًا حقًا إلا إذا ما وحد في تصوره لله بين القوة الكلية والحكمة والعلم الكلي والعدالة، بأشكال أخرى فالإنسان لا يتحقق فعلًا إلا حين يسمح لله أن يصبح ذا طبيعة إنسانية في ذاته”، ولعل هذا ما يعد أنسنة للإلهي، إن لم يعني بشكل خفي ما أعلنه فرويد وهو أن الإله إسقاط للخيال البشري.

ذلك ما يلاحظه ميشال ماسلان إذ يقول: “نستطيع أن ننعت فكر يونغ بأنه لاديني قياسًا على أنه يظهر مانعًا لمقولة الوحي الموضوعي، وغير قادر على ولوج فكرة تعالي الإلهي”(73)، فهذا الأخير عند يونغ دائمًا محايص للإنسان، وكأن وجوده يتحدد ليس في استقلاليته وإنما تبعًا لمن يؤمن به وهو الإنسان، نفس الشيء يقره إريك فروم إذ يصرح بأن: “رغم أن موقف يونغ يبدو على السطح مناصرًا للدين على النقيض من فرويد، إلا أنه في جوهره معارض للأديان” (74).

أنثروبولوجيا الأديان

تبقى مساهمة الأنثروبولوجيا في علم الأديان أكثر من غنية، فمنذ فيورباخ وماركس حتى فرويد كانت نظريات علم الأديان تتأسس على المادة الإثنوغرافية (الوصفية) التي يوفرها علماء الإناسة حول الظاهرة الدينية، فماركس و إنجلز اعتمدا بشكل كبير على أبحاث الأنثروبولوجي الأمريكي “لويس مورغان” لإنجاز تحليلاتهم حول التاريخ، حيث أدرك العلماء المهتمون بهذا الحقل أنه لا يكفي التنظير الفلسفي التأملي للمظاهر الدينية للمجتمع الذي يعيش فيه الباحث، وإنما -من جهة- يجب توسيع دائرة البحث لتشكل أكبر عدد من المجتمعات، من جهة أخرى هذه التوسعة لا يجب أن تشمل مجتمعات حديثة، وإنما “مجتمعات بدائية” لأن هذا الصنف من المجتمعات هو الذي يحافظ على الأشكال الأولية والبدئية للظواهر الاجتماعية وفي طليعتها الأديان، لذلك فالأنثروبولوجي لا يدرس الأديان وهو في مكتبته كما هو شأن الفيلسوف، بل يسافر إلى المجتمعات البدائية ويختلط مع الشعوب التي لها تاريخ لا يعرف مبتدأه ويتعلم لغاتهم كي يتمكن من فك شفرات حياتهم الاجتماعية والثقافية، إذ بدأ هذا الصنف من الأبحاث في العلوم الإنسانية بشكل مبدئي منذ القرن 17 م، وتحول إلى علم أكاديمي مكتمل في القرن 19 م (75).

يصعب جرد كل دراسات علم إناسة الأديان، حيث تقريبًا كل أنثروبولوجي إلا وله على الأقل كتاب في هذا المبحث، لكن نقتصر على الاستهلال من الفرنسي “لوسيان ليفي بروهل” الذي ساهم بكتابه “الوظائف العقلية للمجتمعات المتدينة” (1910 م) في إثراء الأنثروبولوجيا الفرنسية بأطروحة عجيبة، مفادها أن استعمالات العقل تتطور تاريخيًا، فلا يمكن أن تعدل درجة استعمال العقل من طرف ديكارت في القرن 17 م، نظيرتها عند شخص عاش في القرن 10 قبل الميلاد، فبالنسبة لبروهل العقل ينمو بنمو المعرفة، وفي وسط هذه النظرة التطورية يقحم المسألة الدينية، حيث يعتبر بما أن الدين نشأ تاريخيًا في مجتمعات لا تتوفر على حد أدنى للمعرفة المنطقية، فهذا له معنيان، الأول: أن الإنسان البدائي لم تكن له القدرة على استعمال ملكة العقل لذلك يصفه بروهل بصاحب “العقلية ما قبل المنطقية” (76)، ثانيًا: فإن الدين بما أنه نشأ في هذه الظروف فإنه لن يعكس سوى المستوى المعرفي لهذه العشائر البدائية.

وبه يكون الدين ناتجًا عن عقلية غير منطقية مفتقرة إلى القدرة على استعمال العقل، أي أنه انعكاس واقعي إلى سياق تاريخي بكل ما يتميز به من خصائص اجتماعية وثقافية، يقول بروهل: “في تلك المجتمعات الأكثر قربًا من حالة الطبيعة أي الأقل تقدمًا، نجد قانون المشاركة ينتهي إلى إرساء تماثلات مطلقة بين الإنسان والحيوان والنبات والمحيط الاجتماعي، هذه المماثلات للإنسان بالكون الأصغر تأكد الطابع الصوفي لهذه العشائر، ففي الحالة التي يتعذر فيها عيش تلك المشاركات تحضر نيابة عنها التمثلات المادية كالأنصاب والطواطم والممارسات الشعائرية، فهذه الطقوس ليست سوى ظاهرة متبقية لا يتم لها التجلي إلا عبر مخلفات العقلية البدائية” (77)، ويفسر بروهل ثقل حمولة الأديان بالأساطير إلى أن البدائيين لم يكن بإمكانهم التعبير بواسطة جهاز مفاهيمي محبوك بعقلانية، لذلك عبروا عن معتقداتهم بلغة أسطورية. رغم إسهام مقاربة بروهل في إضاءة بعض جوانب علاقة الإنسان البدائي بالدين، إلا أنه تم انتقاده بشكل راديكالي، كان في طليعة النَّقَدة “إميل دوركايهم” الذي تعد دراساته أكثر جودة، حيث أكد بأن الإنسان له نفس إمكانات استعمال العقل في مختلف مراحل التاريخ وليس كما كان يعتقد ليفي بروهل بأن البدائي عاجز عن استعمال العقل بطريقة منطقية لأنه متقدم من ناحية التاريخ (78).

كما يعد في هذا السياق “مارسيل موس” واحدًا ممن فتحوا آفاقًا جديدة للدراسة الأنثروبولوجية للأديان، وعلى النقيض من ليفي بوهل أكد موس الطابع العقلي الأصيل للفكر القديم، غير أنه يناصره في كون أن أصول المقولات العقلية تكمن في الحياة الاجتماعية، بالنسبة لموس فإن الدين يتضمن “نظام تصنيف” (79) يميز بين المقدس والمدنس، ويفصل بين العالم المُعاش والعالم السماوي حيث يسمح ذلك للإنسان بأن يتموقع في الكون، كما أن نظام التصنيف هذا يفرق بين مراتب الأشياء ومكانات عناصر العشيرة، وهو ما يتيح لهذه الأخيرة إمكانية التنظيم واكتشاف المعنى، وهنا تأتي الطقوس التي اهتم بها موس أيما اهتمام كي تجسر العلاقة بين العالم المعاش والعالم المتخيل.

فالصلاة بالنسبة إليه ليس لها من وظيفة سوى وصل عالم المتدين بعالم أجداده، حيث نتحدث هنا عن ما يسميه الأنثروبولوجيون بـ”المانا” وتعني: عبادة روح الأجداد، فهؤلاء هم قادة العشيرة وليس الأحياء، لذلك تعقد الصلاة كي يستقبل عالم الحياة التوجيه من عالم ما بعد الموت لدرء غضب الأجداد وخطر الطبيعة، من جهة أخرى درس مارسيل موس ظاهرة القرابين في الأديان، ولاحظ بأن القربان وسيلة تستخدمها العشيرة لإرضاء أرواح أجدادها، فليس معناها في إهراق الدم وإنما في الامتثال إلى إرادة عالم ما بعد الموت.

يقول ميسلان شارحًا رأي موس: “كل أضحية مسبوقة بطقوس، هي عبارة عن استهلال للدخول لعالم المقدس، تعزل مقدمها عن عالم الناس اليومي، وتكون ملحقة بطقوس تطهير تعيد إدخال هذا الأخير في حضيرة القوم الناطق باسمهم”، بذلك يظهر أن التدين (أكثر من الدين) وسيلة مختلقة من طرف العشيرة من أجل صياغة هوية جماعية، فلا يميز الفرد إذا كان منتميًا أو لا لعشيرة ما، إلا إذا كان منتميًا لدين العشيرة وممارسًا لطقوسها (تدينها)، وهو ما يمنح النظام والاستقرار للعشيرة، فإيفاءً لتبعيته للمدرسة الفرنسية بقيادة دوركايهم، فإن موس يؤكد بأن: “أسس أي دين أو أي شكل ثقافي آخر، تتجذر أصولها في الحياة الاجتماعية” (80).

ولعل أشهر تيار في أنثروبولوجيا الدين هو تيار الإحيائية Animism مع مؤسسها الإنجليزي “إدوارد تايلور” (1832-1917م)، إذ رسم معالم هذا التيار بدءًا من كتابه الشهير “Primitive Culture الثقافة البدائية”، ويقصد بالإحيائية: أن الشعوب البدائية تنظر إلى الطبيعة عبر قياس مستوحى من ذاتها، معتبرة كل الأشياء أمورًا حية، فلا شيء يموت عند البدائيين، وفي طليعة هذه الأشياء “الأجداد القدماء”، فالموت لا يعني النهاية بل الانتقال إلى حياة أكثر رحابة من الحياة المعاشة في الأرض، يعتقد تايلور بأن النظم الدينية استقت مصدرها من هذا الاعتقاد (81)، فـ”البدائي يملك وعيًا بروحه الفردية والجماعية التي هي بمثابة طيف يراوده عبر الأحلام والاستيهامات المختلفة، بإيجاز التفاعلات النفسية اللاواعية وما تحت الشعورية لذاته، والتي يجهل طبعًا آليتها خالصًا من ذلك لتواجد مبدأ حيوي لروح تسكنه وتشكل عناصر العالم والوجود، والتي هو سبب الحياة ومصدر نظامها.

فالموت حسب هذه النظرة هو تسريح لتلك الروح التي تواصل التواجد والظهور بعد موت الجسد، بالدخول في أجسام أناس آخرين أو حيوانات أو أشياء أخرى” (82)، وهنا نفهم موقف فراس السواح عندما يعتبر أن الإيمان بما يسميه “القوة السارية” في الكون هو مصدر الإيمان بالآلهة (83)، فهذه القوة السارية ليست سوى ما يعبر عنه تايلور بـ”الأرواحية”، هكذا فهذه الأخيرة حسب تايلور هي السبب القابع وراء كل إبداع ديني، والتعددية الناجمة بصورة منطقية تمثل شكل التعبير الأول عن المقدس.

ولا يجب أن يغيب عنا هنا أن تايلور كان متأثرًا بالداروينية، لذلك كان مذهبه “تطوريًا” أي يقول بأن أشكال الثقافة وعلى رأسها الدين لا تبقى مستمرة وإنما خاضعة لسنة الطبيعة وهي التطور (84)، لذلك اعتبر أحد أتباعه وهو “ج. فريزر” بأن مصير الإحيائية هو تطور الشعور الديني، إلى حد بلوغ فكرة التوحيد أي الإيمان بوجود إله واحد متعالٍ عن الأذهان والأرواح وعناصر الطبيعة، حيث تبين له أن السياق العقلي بين أن التوحيد هو المنتهى لكل التطور الديني للبشرية، حيث إن هذا التطور يعكس بشكل أساسي ثقافة ومعرفة الإنسان، وبالتالي زج تايلور وفريزر الدراسات الأنثروبولوجية في منعرج وعر تعلق بمن السابق عن الآخر هل التعدد أم التوحيد؟

للجواب عن هذا السؤال سوف يظهر تياران في الأنثروبولوجيا، الأول: يُكنّى بـ”أصالة التوحيد”، والثاني: يقر بأن التعدد هو الأصل وأنه سابق على التوحيد، أهم ممثلي التيار الأول هو تلميذ تايلور “أندرو لانغ” الذي فند مزاعم أستاذه بشأن الأرواحية كأصل للدين، حيث “لاحظ لدى بعض الشعوب البدائية وجود فكرة “كائن أعلى واحد” له مقام أزلي، خصوصًا في عشائر سمانغ ماليزيا الذي أكد لانغ أنهم لا يعرفون مبدأ الإحيائية” (85)، التي تعتبر عند فرايزر وتايلور مرحلة سابقة على الإيمان بإله واحد، فهذه الشعوب تكذب الرسم التطوري للإحيائية، حيث يوضح لانغ بأن الإنسان البدائي منذ وصوله إلى فكرة صنع الأشياء بنفسه، قد توصل إلى فكرة وجود إله صانع كبير أيضًا، ما يؤكد أن البدائي يستطيع أن يربط منطقيًا بين مقدمات واستنتاجات عكس ما اعتقد “لوسيان ليفي بروهل”، فصنع شيء من طرف إنسان (مقدمة) جعله يخلص إلى وجود إله صانع واحد (استنتاج)، رغم ذلك سوف يبقي لانغ على الحكم الفكري القديم على الدين الذي يعتبره إبداعًا بشريًا وتعليلًا ظرفيًا للجهل بقوى الطبيعة.

ويناصر لانغ في هذا الرأي “فلهايم شميدت” الذي كتب موسوعة تحت عنوان “أصل فكرة الإله” (1912 م) في 12 مجلدًا، يثبت فيها بأن التوحيد هو الأصل وأن الإنسان اعتقد بوجود إله واحد ثم انقلب إلى التعدد، منطلقًا بتأكيد قدرة البدائي على التفكير المنطقي، وبفضل استغلال معاينة الإثنوغرافيين أكد شميدت بأنه: “لدى الشعوب التي ما زالت في مرحلة الجني اعتقاد في وجود “إله واحد”، حيث يظهر من ذلك بأن التوحيد بدائي في الشعور الديني لدى الإنسان، فقط لاحقًا عند إرساء علاقات للإنسان مع الكون وبظهور معتقدات مختلفة، سوف يعرف التوحيد نوعًا من التراجع نحو التعدد” (86).

بالمقابل فإن التيار الذي ينفي أصالة التوحيد هو الغالب في الأنثروبولوجيا وسوسيولوجيا الأديان، بدءًا بتايلور وفرايزر، وأيضًا الإيطالي “روبرتو بيتازوني” الذي يعتبر بأنه لا سبيل للحديث عن التوحيد بالمعنى الصحيح إلا بـ”الانطلاق من التجربة المتاحة من طرف الأديان التوحيدية المتواجدة حاليًا، إذ من اليقيني وفي كل اللحظات أن تلك الديانات قد نشأت على إثر إصلاح ديني كان ضد التعدد، الذي ثارت ضده التوحيديات باسم مطلب روحي أرقى، لا يمكن أن يكون الشكل الأول للدين بذلك هو التوحيد” (87)، بل هذا الأخير إن هو إلا ظاهرة دينية حديثة نسبيًا ابتدأت مع زرادشت كما يؤكد السواح لا يمكن تتبعها تاريخيًا وراء الألف الأول قبل الميلاد (88)، فالتوحيد عند بيتازوني ليس نتاج تطور ديني وإنما نتاج ثورة دينية تتأسس على منظور آخر للعالم، بل إن حتى صاحب الكتاب الذي بين أيدينا من معارضي نظرية “أصالة التوحيد”، حيث أكد بأن هذه الأطروحة: “من المتعذر البرهنة عليها بشكل آخر مثل القول بوحي ما فوق طبيعي حول أصل الإنسان ومركزيته في الكون” (89)، إذ إن الكثير من الأبحاث الميدانية في مختلف المجتمعات البدائية كذبت أي وجود للاعتقاد بإله واحد، حيث كل ما هنالك سوى اعتقاد في تعدد الآلهة، بل في أشكالها وأصناف رفع العبادة إليها.

على سبيل الخاتم

إن القراءة في تاريخ وعلم الأديان قبل كل شيء “مُرَبِّية” للإنسان، أي أكثر من أنها تثقفه، فهذه الكتب ناجعة جدًا في تهذيب أي متعصب لدين واحد ومدعي بوهمية باقي الأديان، فكل الأديان من طينة واحدة وتعبر عن نفس الشعور الإنساني، وذلك ما يدفع إلى احترام كل ذي دين أو لادين كيفما كان، دون رفع دين والحط من باقي الأديان، فكما قال مرة “لودفيغ فتغنشتاين” عن الأديان بشكل عام: “إنها ميل يوجد في وجدان الإنسان، ميل لا يسعني أن أكنّ له سوى احترامًا عميقًا، وأن لا أحتقره ما حييت” (90).

المراجع
(59) ميشال مسلان، "علم الأديان مساهمة في التأسيس"، ص 73-74.
(60) Emile Durkheim , "Les formes élémentaires de la vie religieuse", Paris, Alcan, 1912, p 65
(61) ميشال مسلان، "علم الأديان"، ص 75.
(62) نفسه، ص 109.
(63) نفسه، ص 143.
(64) إريك فروم، "الدين و التحليل النفسي" ، ترجمة فؤاد كامل ، مكتبة الغريب ، القاهرة 2003 ، ط1 ، ص 15 .
(65) نفسه، ص 16.
(66) ميشال مسلان، "علم الأديان مساهمة في التأسيس" ، م.س ، ص 147.
(67) علاقة الاعتماد وضعف استقلالية الإنسان وعجزه وقلة حيلته، عند فرويد أحد أهم الدوافع التي تأدت بالإنسان البدائي إلى إختلاق إله متخيل .. انظر، خزعل الماجدي ، "علم الأديان" ، م.س.ذ، ص 183.
(68) ميشال مسلان، "علم الأديان مساهمة في التأسيس" ، ص 150.
(69) نفسه، ص 160.
(70) نفسه، ص 161.
(71) إريك فروم، "الدين و التحليل النفسي" ، م.س 22.
(72) ميشال مسلان، "علم الأديان"، ص 164-165.
(73) نفسه، ص 167-168.
(74) إريك فروم، "الدين والتحليل النفسي"، م.س.ذ، ص 20.
(75) انظر حسين فهيم، "قصة الأنثروبولوجيا- فصول في تاريخ علم الإنسان"، سلسلة عالم المعرفة، العدد 88، الكويت 1986 .
(76) خزعل الماجدي، "علم الأديان" ، م.س.ذ، ص 160.
(77) ميشال مسلان، "علم الأديان مساهمة في التأسيس"، ص 76.
(78) نفسه، ص 77.
(79) كلود رفيير، "الأنثروبولوجيا الاجتماعية للأديان"، ترجمة أسامة نبيل، المركز القومي للترجمة القاهرة 2015 ، ط 1 ، ص 59-60.
(80) ميشال مسلان، "علم الأديان"، ص79.
(81) كلود رفيير، "الأنثروبولوجيا الإجتماعية للأديان" ، م.س.ذ ، ص 55.
(82) ميشال مسلان، "علم الأديان مساهمة في التأسيس"، ص 63.
(83) فراس السواح، "الله الكون و الإنسان- نظرات في تاريخ الأفكار الدينية" ، دار تكوين ، دمشق 2016 ، ط1 ، ص 32.
(84) كليفورد غيرتز، "تأويل الثقافات" ، ترجمة محمد بدوي ، المنظمة العربية للترجمة ، بيروت 2009 ، ط 1 ، ص 17.
(85) ميشال مسلان، "علم الأديان مساهمة في التأسيس"، ص 65.
(86) نفسه، ص 67 .
(87) نفسه، ص 69.
(88) فراس السواح، "الله الكون و الإنسان" ، م.س.ذ ، ص 13.
(89) ميشال مسلان، "علم الأديان" ، ص 68 .
(90) لودفيغ فتغنشتاين، "في الأخلاق والدين والسحر"، ترجمة وتقديم حسن أحجيج، مصر العربية للنشر والتوزيع، القاهرة 2019 ، ط1 ص 48.

إعلان

اترك تعليقا