هل الفلسفة مشكلات، أم مجرد أحاجٍ؟.. بوبر يتحدي فتجنشتاين

أكتوبر 1946 م تلقى كارل بوبر – وقتها كان شابا يصغر فتجنشتاين بـ 13 عاما وراسل بـ 30 عاما، ومترشحا حديثا كباحث فى أكاديمية لندن للاقتصاد- دعوة ليلقي محاضرة فى جامعة كمبردج –معقل الفلسفة التحليلية آنذاك– بعنوان “الأحاجي الفلسفية“. أثار العنوان النفور فى نفس بوبر لأنه بدا من صياغته أنه من إملاء لودفيج فتجنشتاين المُتَرَبِّع على عرش الفلسفة التحليلية فى العالم الأنجلوسكسونى وقتها بلا منافس تقريبا، والذي يري أنه ليس فى الفلسفة أيّ مشاكل حقيقة، وأنها لا تعدو أن تكون لغوا فارغا بلا معني.

بدأ كارل بوبر محاضرته باستنكار وَجَّهَهُ لسكرتير النادي على تلك التسمية، ما دفع فتجنشتاين للاعتراف بكون العنوان جاء من اقتراحه. أكمل بوبر محاضرتَه مُصِرًّا علي رأيه في كون مشاكل الفلسفة مشاكل حقيقية، وليست مجرد أحاجٍ، ساردا قائمة من تلك المشاكل، مثل: هل نحصل على معارفنا من حواسنا؟ هل المتناهيات احتمالية أم أنها موجودة بالفعل؟ وعن المشكلة الأخلاقية. كان فتجنشتاين جالسا بالقرب من المدفأة مُمْسِكًا بعصا البوكر يُلَوِّحُ بها أحيانا فى حديثه ليَهُبَّ واقفًا؛ مُتَحَدِّيًا بوبر قائلا: “أعطنى مثالا لقاعدة أخلاقية. فيرد بوبر: لا تُهَدِّد المُحَاضِرِينَ الزَّائِرينَ بالبوكر، وهُنَا خرج فتجنشتاين غاضبًا من القاعة، وأكمل بوبر محاضرتَه مع الحاضرين، وكان أبرزهم برتراند راسل وقتها.

كثرتِ الشائعاتُ حول هذا الحوار القصير والوحيد الذي جمع بين فيلسوفَىْ فيينا الأشهر، ووَرَدَتْ التكذيباتُ والتصديقاتُ حول تلك الرواية التى يرويها كارل بوبر فى مذكراته: “karl popper, Unended question , chapter 26″، وبغض النظر عن صدقها من عدمه إلا أنها أشارتْ إلى هذا البونِ الشاسع بين وجهتى نظر فيلسوفَيْنا تُجاهَ الفلسفة والميتافيزيقا؛ هل هي مجرد أحاجٍ وألغاز يكفي تحليلها منطقيا للكشف عن لغوها وفراغها من المعنى كما يفضل فتجنشتاين، أم أنها مشكلات حقيقة نسعي لحلها مثلما ينادي بوبر؟

كان فتجنشتاين (1889-1951) الأقوى تأثيرًا في التيار التحليلي حتى اعتُبر الأب الروحي لسائر فلاسفةِ ذلك التيار الذي دُشِّنَ بأعمال جوتلوب فريجه مؤسس المنطق الرمزي، ومن بعده جورج مور وبرتراند راسل. واعتُبِرَتِ الوضعيةُ المنطقيةُ و معها تيار اللغة العادية أبرزَ ممثِّلى هذا المنعطفِ اللغوي، وورثة فتجنشتاين. وقد كان لتيار اللغة العادية النَّفَس الأطول لفتجنشتاين ظهر ذلك فى كتابات عدد من روادها، مثل: جلبرت رايل (1900 -1976)، وجون أوستن (1911 -1960)، وستراوسن (1919-2006) إلا أنَّ تأثير فتجنشتاين فى الفلسفة التحليلية قد تضاءل بعض الشئ فى الربع الأخير من القرن العشرين وذلك لسيطرة التصور الطبيعي أو العلمي الذي قدمه كواين على خلاف اتجاه فتجنشتاين المقاوم للنزعة العلمية فى الفلسفة، بالاضافة إلى ظهور نظريات مادية فى فلسفة العلم المعرفي والعقل لا تنسجم مع رؤية فتجنشتاين أيضا. (راجع اللغة والعقل والعلم فى الفلسفة المعاصرة، صلاح اسماعيل) .

إعلان

لا شكَّ أن فتجنشتاين تَطَرَّفَ في حُكمه بأنَّ كلَّ المشاكلِ الفلسفية لغوٌ ينبغي استئصالُه؛ لأنها لا تطابق الواقع التجريبي حتى قيل: إنَّ نَصْلَ أوكام هدف إلى استئصال الشَّطَحَات الفلسفية الزائدة، بينما هدف فتجنشتاين إلى استئصال شجرة الفلسفة من جذورها، درجة أنْ جعل اهتمامه بالتحليل اللغوي يذهب به فى رسالته المنطقية الفلسفية الى أنَّ “الفلسفة كلها عبارة عن تحليل للغة”. هكذا يُؤَكِّدُ فتجنشتاين أن مهمةَ الفيلسوف فقط هي توضيح المعنى، وتحليل العبارة منطقيًّا، وردها إلى عناصرها الأبسط؛ فتزداد  وضوحا، ونتأكد من مطابقتها للواقع التجريبي؛ لتصير ذات معنى، وإلا اعتبرناها لغوا بلا معنى. ومِن ثَمَّ فإنَّ الفلسفة ماهي الا معركة ضد البَلْبَالِ الذي يحدث فى عقولنا نتيجة سوء استخدامِ منطق لغتنا؛ فيقول عن الفلسفات قبله:

إنَّ معظمَ القضايا والأسئلة التى كُتِبَتْ عن أمور فلسفية ليستْ كاذبةً، بل هي خالية من المعنى؛ فلسنا نستطيع إذن أنْ نجيبَ عن أسئلة من هذا القبيل، وكل ما يسعنا فقط أن نقرر خلوَّها من المعنى؛ لذا فمعظم ما قاله الفلاسفة إنما نشأ عن سوء فهم منطق لغتنا، وعليه؛ فلا عجب أن نقول أنَّ أعمق مشاكل الفلاسفة ليست فى حقيقتها مشكلاتٍ على الإطلاق.

وعلى ذلك يكون كلٌّ من اللغة والتفكير وجْهَيْنِ لعُمْلَة واحدة. وهو بكتابه هذا إنما يستهدف: “إقامةَ حَدٍّ للتفكير، أو على الأصح التعبير عن الأفكار؛ لذا فإن ما يكون على الجانب الاخر من ذلك الحد هو ببساطة شئ لا معنى له”. ولما كانت كل قضية -كما يراها- ماهي إلا صورة للواقع؛ لأن دور اللغة هو التصوير أو رسم العالَم كانت الفلسفةُ -كما أوضحنا قبل- ماهي إلا نشاط توضيحي ليس أكثر.

سَلَّم فلاسفة الوضعية المنطقية تسليمًا برسالة فتجنشتاين حتى عُدَّتْ إنجيل حلقةِ فيينا. كانوا يُرَتِّلُونَها ويتدارسونها حتى فى الوقت الذي انشغل فيه مؤلفُها بمراجعتها وتطويرها. علي سبيل المثال يقول كارناب:

“التحليل المنطقي إذن يقودنا إلى الحُكم النهائي القائلِ بأنَّ أيَّ مَعْرِفَةٍ مَزْعُومة تتظاهر بالدراية بما يكمن وراء الخبرة مجردُ هراء، ويسري هذا الحكم على أيِّ ميتافيزيقا تَخَيُّلِيَّة، وأيِّ مَعْرِفَة عن طريق التفكير أو الحدس المَحْض تَدَّعِي القُدْرَةَ على الاستغناء عن الخبرة … وكل ما يكمن وراء نِطَاقِ الخِبرة المُحْتَمَلة غيرُ قابل لأنْ يُقَالَ أو يُفَكَّرَ فيه أو يُسْأَلَ عنه”.

أما مبدأ التَّحَقُّق؛ تَمِيمَةُ مذهبِهم الذي إذا قيل فى تعريف الوضعية المنطقية أنَّها الفلسفة التى تنادي به لن يجانبَنَا الصوابُ. إنه المبدأ الذي  تَلَقَّتْ في سبيله أكثرَ انتقاداتها، وكَلَّفَها أكثرَ انشقاقاتِها. يصوغه كارناب كالتالى: “إنَّ معنى العبارة يكمن فى طريقة تحقُّقِها … ومِنْ ثَمَّ إذا كانتِ العبارةُ تُسْتَخَدَمُ لإثباتِ شَئ ما؛ فإنه لا يمكن استخدامُها إلا لإثباتِ قضيةٍ تجريبية فحسب”.

ويضرب كارناب مثال علي ذلك: “افرض أنْ زعم لك أحدهم أنَّ الأجسام لا تتأثر فقط فى مجال الجاذبية تبعا لقوانين الجاذبية المعروفة، بل أضاف لك زعما آخر: أنها تتأثر بمجال اللاذبية ؛ فاذا سألتَه: ماذا عساي أن أشاهد من ظواهر الأجسام مما ينتج عن هذا المجال اللاذبي تبعا لتلك النظرية المزعومة؟ فأجابك أنه ليس هناك أثر لما يمكن مشاهدته بالحواس؛ فماذا سيكون موقفك منه؟ لاشكَّ أنْ سيكون موقفُك منه موقفَكَ من الكلام الذي يتَّخِذُ صورة الكلام وليس منه! إنَّه كلام فارغ لايتحدث به عن شئ قط”.

وعلى نفس المنوال ادَّعَى فلاسفةُ حلقة فيينا أنَّ كلَّ بحثٍ فلسفيٍّ مهما كان اذا أرادَ أن يكون بحثًا جادًّا؛ فإنه ينبغي أن يكون لسانيا أو لغويا، وأنَّ الأبحاثَ الأخلاقية والسياسية والدينية يجب أنْ تتبع طريقةَ البحث اللسانى أو وبتعبير آخر: يجب العمل بجانب اللغة العلمية بتحليل اللغة الأخلاقية والسياسية والدينية، وذلك بهدف تحديد التَّمَثُّلات والتصوُّراتِ والاختلافات فيما بينها، وإعادة تشكيل مشاكل كلِّ فرع في شكل لُغوي، وبهذا نفتح الباب أمام حلِّ جميع مشاكلها.

أَمَّا كارل ريموند بوبر أحدُ أهمِّ فلاسفةِ العِلم فى القرن العشرين إن لم يكن أهمَّهم على الإطلاق، فهو آخر التنويريين كما يلقب نفسه، وأبرز دعاة المجتمع المفتوح ومناهضة الشمولية بكافة أشكالها وتجلياتها، فقد بدأ صراعه مع الاتجاه التحليلي في الفلسفة مُبَكِّرًا جدا؛ فيحكي فى مذكراته أنه لم يعتقد أبدا حتى وهو صبي يافع لم يتجاوز الخامسة عشرة بجدوى البحوثِ الفلسفية اللغوية. وقد هاله مدي ذيوعها وكثرة أتباعها، ولم يرَ فى التحليل اللغوي أيَّ ثورة تُذْكَر؛ فلم تزل النقاشاتُ فى أحقيةِ الفلسفة في وجودها أو عدمه قديمةً قدمَ الفلسفةِ نفسِها، أما اهتمامهم بالكلمات ومعانيها؛ فهو واحد من مشاكل الفلسفة القديمة نفسها كما يذكر أفلاطون على لسان السفسطائيِّ بريديقوس. ولعلَّ هذا المبدأ وقتها كان جديدا وهاما؛ فهل نعتبره بنفس الأهمية فى القرن العشرين، فضلا عن أن يكون ثورة فلسفية؟!

حدد بوبر منشأَ خلافه مع التحليليين في اهتمامهم بالتعريفات أكثر من اللازم؛ فهذا إمامُهم فتجنشتاين مازال ساقطا بكل أسف تحت نزعةِ أرسطو اللفظية الخاوية، ومذهبه الماهوي تجاه مشكلة الكليات التى يبدو أننا لم نقهرها منذ عصورنا الوسطى، فرغم كونهم  اسميين إلا أنهم  يتفقون مع أرسطو فى أنَّ كلا منهم يأخذ الألفاظ ومعانيها مأخذَ الجد أكثر من اللازم. ذلك أنَّ بوبر لم يرَ فى مشكلة الكليات مجردَ مشكلة لغوية، بل مشكلة تتعلق بمناهج البحث، فكلاهما يقوم مذهبه على التعريف، لكنَّ الأمر ليس كذلك بالنسبة إلى لمنهج العلمي؛ فالتعريف لا يلعب أيَّ دورهام فيه، فالرموز تقوم بدل التعبيرات المطوَّلة، بل إن المعرفه العلمية لن تتأثر البتة لو حذفنا منها كافَّةَ التعريفات، ولا يقع التاثير إلا على الايجاز وليس الدقة. والحقّ أنّ أيَّ تحرُّك فى اتجاه الوضوح الأكثر والدقة الأكثر يجب أن يكون موجها لغرض عَيْنِىٍّ مُحَدَّد بما يمكن أن نسميه Dialysis  وليس Analysis. ولا شك أنَّ العمل على إقامة مفاهيم واضحة مَطْلَب أخلاقي ليس أكثر.

ميز بوبر فى فلسفته بين ثلاثة عوالم:

العالَمI العالم الفيزيائي المادي.

العالمII عالم الوعي والعقل والإدراكات والمعتقدات.

العالمIII عالم المُحتوي العقلي الموضوعي؛ العلم والفلسفة واللغة والنقد.

تنشأ موضوعات العالمIII بواسطة عقول العالم I I استجابة لمشاكل العالمI ؛ لذا كانت التصورات والمفاهيم مجردَ وسيلة تقنية برجماتيكية لبناء النظرية أو العبارة الموضوعية، وليستْ غايةً فى حدِّ ذاتها، وليس لها هذا الدور المُحَاصِر للفكر؛ ذلك لأنَّ المشكلات لا تُحَلُّ بكلمات جديدة، وإنما بأفكار جديدة. وهو بذلك متأثر بنظرية بوهلر الوظيفية في اللغة التى تقول أن الانسان يشارك الحيوان في وظيفتي اللغة التعبيرية والتواصلية، ويزيد عليها في وظيفتي اللغة الوصفية والحجاجية أو النقدية.

أما قولهم أنَّ قيمة النظرية المنطقية والمعرفية تعتمد على معناها الذي هو دالة معانى الكلمات التى صِيغَتْ فيها، فهو ادعاء خاطئ؛ ذلك أنَّ العلاقةَ بين النظرية والكلمات التى استُعْمَلَتْ فيها يماثلُ من وُجوه عديدة العلاقةَ بين الكلمات المكتوبة والحروف التى استُعْمِلَتْ في كتابتها، فكما أن تغيير حرف واحد قد يُغَيِّرُ معنى الكلمة، فإنَّ نفس الأمر في تغيير كلمة واحدة قد يغير معنى العبارة أو النظرية كما يظهرهذا جليا فى سوء الترجمة الحرفية وإمكانية وجود صياغتين لنفس النظرية الواحدة.

أما الميتافيزيقا، فخلافا للاتجاه الأنجلوسكسونى السائد نراه يدافع عن أهميتها؛ فيقول:

“أكدتُ على أنَّ التقريرات الميتافيزيقية ذاتُ معنى، وعلى واقعة أننى نفسي ميتافيزيقي واقعي، بل قمتُ أيضا بتحليل الدور التاريخي الذي لعبته الميتافيزيقا فى تشكيل النظريات العلمية، ومثال ذلك: المذهب الذري عند ديمقريطس فى الفيزياء الحديثة، وطفو الأرض على الماء عند طاليس، ونظرية الجرف القاري، كل تلك الأفكار الميتافيزيقية التى ألهمتْ العلوم الحديثة لا يعوزها المعنى ولا تفتقر للتحليل، فقط تعوزها قابليتها للتكذيب، هذا هو معيار تمييزها كميتافيزيقا عن العلم، خلافا لمبدأ الوضعيين في التحقق الذي لا يتوافق مع الطريقة العلمية كبدئِهم بالمُلاحظة قبل الفرض، فمثله كمثل الذي كرَّس حياته للعلم الطبيعي؛ فراح يُسَجِّل كلَّ ما يلحظه وتقع عليه عينُه، ثم أوصي أن تورث تلك الملاحظات التى لا تساوي شيئا للجمعية الملكية للعلوم؛ كي تستعملها فى استقراءاتها! تلك ترهة أخري تمسكوا بها؛ أعنى خرافة الاستقراء الذي يتضمن حلُّهم الاحتمالىُّ لها بُعْدًا ميتافيزيقيا –كان الأولى بهم أن يلتفتوا إليه- متمثلا فى افتراضهم اطراد الطبيعة بحوادث متشابهة خاضعة لأنماط عددية منتظمة بما يُسمى حدَّ التردد، والذي يحتاج لاستقراء جديد ودواليك، كما ينقدها برتراند راسل.

لم يستطع مبدأهم هذا الصمودَ طويلا فاضطروا إلى تعديله، بل تخلى بعضهم عنه. هذا المبدأ الذي ما أرادوا به إلا تحقيق مهمة محددة سلفا –كما يقول بوبر-  ألا وهي تحطيم الميتافيزيقا، مُغترين بإنجازات العلم وقتها، وقد ساقهم غرورهم هذا إلى تحطيم العلم نفسه بفروضه ونظرياته وقوانين الطبيعة العامة كما صرح فتجنشتاين نفسه فى سنواته الأخيرة أنَّ النظريات العلمية ليست قضايا بالفعل، بل حتى كتابه “الرسالة” كما يقول بنفسه: خالٍ من المعنى؛ فلا هو تحليلي، ولا مما يقابلُ ما يمكن اختبارُه بالحِسِّ، إلا أنَّه يجعلُه كوسيلة لبلوغ ما يتجاوزه، أو بعبارة أخري: ألقِ بسُّلَّمِك بعد وصولك كما يقول، حتى بدا أن فتجنشتاين الذي شبه الميتافيزيقيين بذبابة دخلتْ زجاجةً؛ فأخذت تذهب هنا وهناك، وتزن، وأنَّ التحليل اللغوي سيوضح لها طريقَ الخروج لينتهىَ الزنُّ الميتافيزيقيُّ الى الأبد، يبدو فى رأي بوبر أنه هو من دخل الزجاجةَ وأخذ يزن بالتحليل اللغوي، وأخطأ طريق الخروج. ولأن اللغة إنما تُسْتَعْمَلُ فى وصف العالم نسي فتجنشتاين الإفادة من نظارته التى ما انفك يُلَمِّعُ فيها، ولم يستفد بما أنجز، لا فى توضيح رؤيتنا للعالم، ولا فى تَقَدُّمِ المعرفة.

قَسَّم بوبر فلاسفةَ عصره إلى قسمين؛ أحدهما: يأتمُّ بفتجنشتاين، وعلى رأس هؤلاء الوضعيون، وآخر: يَأْتَمُّ بكانط، جعل نفسَه على رأسهم. كانط الذي وضع بذرة الموقف النقدي التجريبي فى العصر الحديث، وفَضَّ النزاع الإبستمولوجي بين العقليين والتجريبين؛ ليأتى بوبر ويُجَدِّد فلسفتَه، ويُضفى عليها بريقَها السابق بمذهبه النقدي الذي نادي فيه بفكِّ الارتباطِ بين مسائلِ أصل المعرفة، ومسائل صدقِها؛ ذلك أنَّ مصدر المعرفة لا يعنى صدقَها بالضرورة مهما كانت درجةُ وثوقيتِه؛ فلا سلطان عنده لعقل ولا لحس، ولا يعنى خطأها أيا كان مصدرُها أيضا. إن جميع المصادر حسية أو عقلية أو خبرية مُرَحَّبٌ بها شريطةَ قابليتِها للنَّقد؛ فيقوم المرء بتفسير ملاحظاته بفرضٍ، إنْ نَجَحَ بعدها فَرَضَ نفسَه مؤقتا، وإلا استبدل بفرض آخر أصلح للبقاء كما يقول داروين؛ ذلك أنَّ الأكلَ من ثمرةِ المَعْرِفَة ليس ذنبًا كما فهم الفلاسفةُ قبلَه.

اختلف الباحثون فى فلسفة فتجنشتاين بين فتجنشتاين الأول صاحب الرسالة وفتجنشتاين المُتَأَخِّر صاحب التحقيقات، بين من يقول بالقطيعة، ومن يقول بالتواصُل والاستمرارية. على أنه مما لاشك فيه انتقالُه من اهتمامه بالجانب التركيبي والدلالى للقضايا في نظرية الصُّورة إلى جانب الوظيفةِ والاستعمال، وتعويله في التحليل علي قواعدِ الاستعمالِ بَدَلَ الحِسِّ فى ألعاب اللغة، إلا أنه لم يزل علي رأيه في أنَّ مهمة الفلسفة الإيضاحُ، وأن اللغةَ والفكرَ شئ واحد، إلا أن بوبر كان أقلَّ تقديرا لعمل فتجنشتاين المتأخر في التحقيقات؛ فيصفه بأنه كتاب غَثّ وتافه ومضجر. ومثلما قرأه راسل ولم يخرج منه بفكرة مُضيئة، نفس الأمر حدث معه رغم حديثِ البعض عن كون فتجنشتاين في التحقيقاتِ يقترب أكثرَ من رأي بوبر من أي وقت مضي.

ومما يلفت الانتباهَ أن بوبر اكتفي بالتلميحات فقط بخصوص التحليل المَنْطِقِيِّ عند راسل؛ حاملا كل آيات الإعجاب والتقدير له على غير عادته مع فتجنشتاين الذي يري فى اللغة المشكلة الوحيدة فى الفلسفة والكفيلة بحلِّ جميع ألغازها وأحاجيها، أما المشكلات الفلسفية كما يراها بوبر فهي نفسها المشكلة العلمية أعني المشكلة الكوزمولوجية مشكلة فهمنا للعالَم ؛ العلم والفلسفة معا يحاولان حَلَّ تلك المشكلة ؛ وبالطبع فان فَهْمَ وَظِيفَة اللغة يُمَثِّل جزء من الحَل، لكن لا ليس كله، وفى سبيل حلِّها؛ فإن كل المناهج والموارد متاحة دون قيود أو سجون موصدة طالما ستفضي إلى نتائج يمكن مناقشتها ونقدها.

نرشح لك: كيف يمكن لألعاب فتجنشتاين اللغوية أن تحررنا؟

المصادر:
1- فلسفة كارل بوبر، د. يمنى طريف الخولى.
2- لدفيغ فتجنشتاين، د. عزمى اسلام.
3- كيف يري الوضعيون الفلسفة؟ومقال حذف الميتافيزيقا عن طريق التحليل اللغوي لكارناب، ترجمة: نجيب الحصادي.
4- الفلسفة واللغة أو نقد المنعطف اللغوي فى الفلسفة المعاصرة، د. الزواوي بغوره.
5- المجتمع المفتوح وأعداؤه، الجزء التانى، كارل بوبر.
6- كارل بوبر - نظرية المعرفة فى ضوء المنهج العلمي، د. محمد محمد قاسم.
7-فلسفة العلم فى القرن العشرين، دونالد جيليز، ترجمة: د.حسين على.
8- بحثا عن عالم أفضل، كارل بوبر.
9- موقف من الميتافيزيقا، زكي نجيب محمود.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: حسن أسعد حمدان

تدقيق لغوي: عبدالعاطي طُلْبَة

تدقيق علمي: راجي يوسف

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

الصورة: أسامة ابراهيم

اترك تعليقا