سيدة الزمالك.. بانوراما مصرية

الفهرس
مرة أخرى، بعد روايته “تذكرة وحيدة للقاهرة“، يعود الكاتب أشرف العشماوي للتاريخ في روايته “سيدة الزمالك”، حيث يستغلّ جريمة قتل وسرقة وقعت في نهاية عشرينات القرن العشرين ليُقدّم عملًا روائيًا “بانوراميًا” (إن صحّ التعبير) يمتد لستة عقود من الزمن، يرصد فيه التحولات الجذرية والعنيفة التي حلّت بمصر ونخبتها منذ عصر الملكية وحتى نهايات عصر حسني مبارك.
ولا شكّ أنّ العشماوي تفوّق على نفسه واستطاع -بعقلية القاضي وخبرة الروائي ورؤية الباحث المُتعمق- أن يكتب بهذا الوعي، والقدرة على التحليل لقضيته، فلم يسمح لها أو لأبطاله أن يشردوا منه أثناء الكتابة، وظنّي -بعد قراءة الرواية أكثر من مرة- أن روايته السابقة “تذكرة وحيدة للقاهرة” لم تكن سوى “بروڤة” لرواية “سيدة الزمالك”، من حيث البناء الفني واللغة واختيار الأحداث والأبطال، وكذلك القضية التي تُناقشها.
أحداث وشخصيات الرواية
تنطلق أحداث رواية “سيدة الزمالك” من حادثة مقتل المليونير اليهودي الإيطالي سولومون شيكوريل، صاحب المحلات الشهيرة، على يد أربعة أشخاص من بينهم سائقه الخاص، ويستغلّها الكاتب ليُضيف شخصية خامسة هو عباس المحلاوي، القادم من إحدى قرى الدلتا، برغبته القاتلة في امتلاك النفوذ ومصادر القوة، سواء عن طريق المال أو المناصب السياسية، مهما اختلفت أنظمة الحكم أو تعارضت أيدلوچياتها السياسية والاقتصادية، وهو نموذج معروف ومشهور من الناس الذين تأقلموا مع كل المُتغيّرات في البلد، فكانوا مَلَكيين أكثر من الملك، واشتراكيين أكثر من أصحاب النظرية نفسها، ثم حملوا رايات السلام والصلح مع العدو، وهم في كل ذلك لا يهدفون إلاّ لخِدمة مصالحهم الخاصة، وبناء امبراطورياتهم المالية.
البطل الثاني في الرواية هو زينب المحلاوي
شقيقة عباس وشريكته، التي صممّت أن تكون “سيدة الزمالك” بأي شكل وبأية طريقة، ومهما كلّفها تصميمها، وذلك بسبب “عقدة نفسية” من “هوانم الزمن الجميل” اللاتي لم يقبلنها أبدًا، حتى بعد الغِنى والثروة في زمن ما بعد ثورة يوليو، وكان هدفها الأساسي هو إذلالهن، وهكذا ظلت تفعل، بالإضافة طبعًا -مثلها مثل شقيقها- للطابع الإجرامي في شخصيتها!
هاتان الشخصيتان لابُدّ وأن تُذكّرانا بـ”البارونات اللصوص”، وهو مصطلح أطلقه الرئيس الأمريكي الأسبق “ثيودور روزفلت” على غالبية رجال الأعمال الأمريكيين الذين بدأوا حياتهم كلصوص وقاطعي طرق، لا تهمهم طريقة جمع المال سواء كانت مشروعة أو غير مشروعة، وفي نهاية عمرهم يحاولون التكفير عن أخطائهم سواء بالتدين أو المشاريع الخيرية، وهم في ذلك -سواء رضينا أو أبينا- يتحوّلون إلى “أرستقراطية” رسّخت أقدامها في المجتمع، وهنا هو الفارق بينها وبين “بارونات مصر” الذين جمعوا المال بكل الطرق واغتنوا على حساب كل القيم والمبادئ، ومع ذلك ظلوا “طبقة طفيلية” بلا جذور أو هوية محددة، وكان ضررهم أكثر من نفعهم على المجتمع، حيث حوّلوا كل شيء لـ”سلعة” لها ثمن، يمكن شراؤها إذا كانت تلك رغبتهم.
إعلان
ومع أن الكاتب يُدين تلك الطبقة على طول صفحات روايته إلا أن جُلّ تركيزه كان على فترة ما بعد ثورة يوليو وحتى عصر حسني مبارك. ومع أنّ قصة “الأرستقراطية المصرية” تكاد تكون واحدة ومتكررة منذ بداياتها في عصر محمد علي باشا، وحتى حفيده الخديوي إسماعيل.. إلا أنّ هناك استثناءات قليلة تُعد على أصابع اليد.
ثالث شخصيات الرواية هى “ناديا”
التجسيد الحي والضحية الكبرى لأخطاء وخطايا كل من حولها، بدءًا من والدها الحقيقي الذي “رهنها” لإتمام صفقة كبرى، مرورًا بعباس وزينب الذين “لعبوا” بمصيرها باعتبارها “كارت” على مائدة القمار، ثم حبيبها طارق الضعيف المتردد، وبعده زوجها الأول مراد الكاشف مدير مكتب وزير الحربية، وكذلك زوجها الثاني الهوائي المغامر، الذي تركها مع ابنتها وهرب من المشاكل، ثم كان خلاصُها عندما قررت أن تواجه كل “حقائق” حياتها المزيفة ولا تستسلم للابتزاز فكتبت كل شيء في كتاب ونشرته، وذلك هو الطريق الأسلم والأصح في حالة ناديا، وفي حالات الآخرين، فكشْف الحقيقة ومواجهتها (في حياة الفرد والمجتمع) وإن كان مؤلمًا بعض الشيء إلا أنه يُبدد كل المشاكل ويضمن السلامة العقلية والنفسية للفرد والمجتمع، ثم هو طريق لتصحيح المسار، أو على الأقل عدم تكرار الأخطاء.
مأساة الطبقة المتوسطة
الملاحظ – وعلى الرغم من أن الرواية تتناول فترة زمنية طويلة وعصورا مختلفة- أن الكاتب وجه جُل نقده للحقبة الناصرية، تماما كما فعل سابقا في رواية “تذكرة وحيدة للقاهرة”، وهذا لا نناقشه أو ننقده، فالكاتب، وأي كاتب، حر تماما في اختيار الشكل والأسلوب الروائي لروايته، ولكن من زاوية فنية، فإن الفصل الطويل الذي جاء على لسان مراد الكاشف عن تفاصيل ما حدث داخل مكتب قيادة الجيش ليلة الخامس من يونيو 67 لم يكن له أي مبرر درامي أو روائي، إلا أن ذلك ربما يكون تعبيرا عن قناعة سياسية شخصية للكاتب نفسه، وما يؤكد ذلك أنه لم يفعلها مع باقي العصور السابقة واللاحقة، مع أن نهايات تلك العصور شهدت مآسي إنسانية أكثر درامية منها مثلا تنكُر أنطون بوللي للملك فاروق الذي طلب اصطحابه معه للمنفى ولكن بوللي رفض، ما دعا فاروق للبكاء(!)
“النخبة المزيفة”
نأتي للقضية التي تقدمها رواية “سيدة الزمالك” وهى قضية “النخبة” المزيفة التي اعتلت قمة الهرم الإجتماعي في مصر، وأزاحت الطبقة المتوسطة المتعلمة التي هى الأجدر والأحق بقيادة البلد، وهذه قضية لا تخص عصرا محددا بحد ذاته، وإن كانت نشأتها -كما سبق القول- جاءت مع عصر محمد علي الكبير الذي كان -رغم اهتمامه بالتعليم- لا يثق في قدرات المصريين على مساعدته في مشاريعه وخططه الطموحة، وكان يراهم مجرد أدوات ووسائل وليس شركاء، وهو الفكر الذي ساد طويلا من بعده، حتى في عصور ما بعد الملكية، والتي تصدّر فيها المشهد أفرادا من الطبقة الوسطى، لكنهم سُرعان ما قاموا ب”تأميم” السياسة لحسابهم الخاص، وحاولوا بناء طبقة اجتماعية جديدة تعاملت مع باقي الطبقات بمنطق الوصاية.
وفي كل ذلك كانت الطبقة المتوسطة تنسحق وتنزوي وتفقد قدراتها تباعا، حتى لم تعد قادرة على أي حركة، مع أن حركتها -في أي مجتمع وفي أي عصر- هى دليل حيوية ذلك المجتمع وذلك العصر ومصدر قوته واندفاعه نحو المستقبل.. وهكذا أصبحت مصر مُحاصرة بين أرستقراطية قديمة متحجرة، و”عسكرتاريا” نهمة لا تشبع أبدا، وبينهما مجموعة من المنتفعين والإنتهازيين لا تتوانى عن ارتكاب الجرائم!
إعلان