“أهمية النص” قراءة في نقد الحقيقه ج2

عرضنا الأسبوع الماضي أهمية النص كأداة للحقيقة وعرجنا إلى تقسيم القراءات إلى ثلاثو أنواع:

  • ظاهرية
  • باطنية
  • قراءة صحيحة، وهي التي تجمع بين التأويل والتصريح حسب ما يقتضيه النّص.

ثم شرعنا في إيضاح علة لماذا قد يحتاج النـص إلى التأويل، وسنعرض فيما يأتي تفصيلًا لمعنى النص وغاية النص.

النـص ليس مساحة مسطحة تظهر معناها ولا عمقًا يختبئ فيه المعنى وإنما هو حيّز تتعدد أوجهه، وعمق تختلف درجاته، والنّـص وإن كان له نظامه واتساقه فهو يبقي مجالًا مفتوحًا ويمكن التسلل إليه عبر فجوات الكلام، لذلك فالنص يخرج من كونه مجرد فعل لساني أو فعل يحدد معنى من المعاني، فهو دائمًا ما يحمل فائضًا في المعنى وفيه دومًا مجاز وصدى، لذلك يمكننا القول بأن اللغة تستعمل على قدر من يستعملها، فاللغة تستعمل بحسب الفلاسفة بطريقة مغايرة لما وضعت له، إذ يضعون مصطلحات غير مباشرة للتعبير عن مقاصدهم ومفهومها، فتجدهم يستعملون إرثًا لغويًا مشحونًا بالأصداء الدلالية والرمزية ويحمل من التصور والمجاز ما يجعل النص الفلسفي قابلًا لأكثر من معنى وتأويل بل ويتطلب لفهمه فئة خاصة، لذلك تبقى حقيقة اللغة واستعمالها متعلقين بكيفية استعمالها، ونرجع تفسير النص لأكثر من معنى وعدم حمله على ظاهره إلى تلك الغاية، إذ لا فكاك من المجاز والتشبيه والإبهام في النص مهما اختلف نوعه.

يرى جاك دريدا أن النـص يستعصي على الوضوح لأنه يحمل الأثر في داخل كاتبه، فالمعنى في النص يفيض على القارئ بقدر ما يستعصي منه.

فالمبدأ في فهم النـص ليس الوجود وإنما الغياب، فكما يقول جاك لاكان:

إعلان

“أنا أفكر حيث لا أوجد وأوجد حيث لا أفكر.”

ومرد القول إلى أن الفجوة الموجودة بين الذي نفكر به والذي لا نفكر به هي ما تجعل الأخير سلطانًا على الفكر فيسوقه إلى الخلاص؛ إلى ما يقوله النـص أو بالأحرى يسوقه إلى ما لا يقوله النص.

لهذا فان القراءة بهذا المعنى تتيح تجدد القول وقراءة ما أراده المؤلف وما لم يرد، بل وقد يمنح النص لقارئه ما لم يرِد المؤلف قوله، فهكذا هو النص كما وصفه ابن عربي يبني على الغياب والنسيان لا على الحضور والتذكر.

قد يتساءل البعض: لم قد يريد المؤلف حجب النص ؟

علمًا بانتفاء الأسباب الآنف ذكرها في الجزء السابق، يمكننا القول أن المؤلف قد يلجأ إلى حجب النـص لكن ليس دون إرادة الحجب، إنما يحدث ذلك ضمن ايدلوجية وروح ما تتسرب إلى المؤلف أثناء كتابته، ويقتصر تأثير هذه الحالة على تغليف الحقيقة بقشرة خارجية، فالمؤلف يجد نفسه تتسرب إلى النص فتخرج الكلمات مختلطة بمعانٍ قد حجبت دون دراية منه.

وتعتبر تلك الظاهره من سحر اللغة حيث الترسبات الايدلوجيه تؤثر في نسيج النص وتشكل بنيته الداخلية، ولهذا دائمًا ما نطلق لفظ “روح النص” في النصوص الأدبية أو الفلسفية بشكل خاص، ففي خداع النص يكمن ستر الحقيقة وراء الحجب.

(إذَن، فالنص ينبغي أن يدل على المعنى الجوهري لكشف الحقيقة من خلاله)

إذَن، لماذا يتناسى النص حقيقته في مسؤليته عن الإيضاح والدلالة؟

يقول الدكتور حرب أن النص لا يتوقف فقط على أنماط الكلام وتشكيلات الخطاب وإنما يؤول معنى النّـصّ إلى القارئ فينصّب الإنسان نفسه مصدرًا للمعرفة ومولدًا للدلالة، وهذه الذات تتحمل نتيجة تأويلها للنص، لذلك على القراءة أن تكشف عن شروطها لإنتاج الحقيقة والمعنى بمعنى آخر. لا بدّ من إيجاد قواعد بموجبها يتم تشكيل الخطاب واستخلاص المعنى، وكذلك لإبعاد أنماط الوهم التي لا تنفك تصطدم مع التأويل، فالنص إذَن محكوم بقارئه، وباعتبار النص فضاء ومساحة مفتوحة فإنه يحتمل أكثر من قراءة، ولكل قارئ ايدلوجيته المتبعة لاستخلاص المعنى.

إذَن، فيما تكون وحدة النص ؟!

لا يعني تعدد التأويل للنص انتفاء وحدته، بل إن النـص واحد؛ واحد من حيث انتسابه للمؤلف وواحد من حيث صورته الكتابية أو المنطوقة، لكن لو نظرنا لعلاقة النـص بقارئه فلن نجد سوى الاختلاف والتعددية، إذ ليس هناك تطابق بين فهم شخص وشخص آخر، فلا ينبغي القول بوحدة النـص من حيث المعنى، كل نص يختلف عن نفسه، فالنصوص لا تعرف إلا باختلافها في الأذهان متماثلة في الأعيان.

لنأخذ على سبيل المثال نص الجمهورية لأفلاطون: يمكننا القول بأن النـص واحد من حيث هذا التعاقب للكلمات والتسلسل للجمل والفقرات والفصول، وهذه الكتلة تشكل كتابا منسوب لمؤلفه… أما من حيث مضمونه المعرفي فهوية النص ليست واحدة، فهي محصلة القراءات التي نشأت حوله.

وإذا أخذنا القرآن كمثال فإن التعددية في التأويل إنما تنطبق على النـص القرآني بامتياز؛ فهو نص واحد على مستوى الحرف والمنطوق به، ولكن على المستوى الدلاليّ، تؤول مجموع تفاسيره في نهاية المطاف إلى القيام مقامه، فنسبة التفاسير إلى القرآن كنسبة الكلام إلى اللغة.

كما اللغة واحدة والكلام متعدد فإن القرآن واحد والتفاسير كثيرة ومختلفة… فهو كانتساب الفرع إلى الأصل إلا أنه لا يجوز أن نقيم الفرع مقام الأصل إذا تعددت الأفرع، فتأويل النـص القرآني مع تعدده، لكنه لا يقف عن حدّ، فمعانيه لا تدرك في معظمه إلا بالتأويل، وتأويله ترجيح ومفاضلة فليس الكلام مسوقًا فيه على وجه واحد أو اعتبار أوحد، إنما هو نص يتسع اتساعًا يجعل الشخص الواحد يقرؤه قراءة مختلفة عند كل تلاوة.

خطر أحادية المعنى: 

إن الركون إلى أحادية النـص والمعنى إنما تعدّ نوعًا من الخداع المعرفي والاستبداد الفكري والإرهاب العقائدي كما يشهد التاريخ على ذلك من تاريخ الأديان والايدلوجيات قديمًا وحديثًا، فقراءة النـص الإنجيلي والقرآني أو حتى النص الماركسي تعامل معها الباحثون قديمًا بوصفها مساحة مقفلة ونظامًا مغلقًا على ذاته، لذلك تجد الباحث يسعى إلى معنى وحيد تطمئن إليه ايدلوجيته ويتماهى مع ذاك المعنى ويطغى الفرد على الجميع وتصير للنص امبريالية تسعى إلى إزالة كافة أشكال التعارض والاختلاف وتجرّم أي تأويل قد يحمل أوجهًا تتعارض مع المعنى الواحد ويصف أي محاولات للتأويل بالهرطقة والخرافة.

وأخيرًا فإن النـص الأصلي ليس وحدة تامة، ولا هو هوية صافية وإنما هو كجسد تتنوع تضاريسه وتختلف مواقعه، وإذا كان كل قارئ يختار موقعًا على خريطة النص فالأصوليون تجدهم دائمًا وراء النـص، يتخذون ظاهرَه متراسًا لشحن الحرب على الآخر ثم يتخذ وحدته النصية تلك مقام الأصل فينصرف عن الأصل إلى الفرع، فهو لا يريد تأصيل النص إنما يذهب إلى تأصيل مرده هو، لذا فالقراءة الأصولية تُبنى على وهم مزدوج: الأول هو أنه ثمة أصل والثاني هو تطابق الفرع مع الأصل وإحلالٌ محلّه.

 

إعلان

اترك تعليقا